أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسين كركوش - ( هروب الموناليزا): توثيق لخراب الماضي وهلع من إعادة استنساخه















المزيد.....

( هروب الموناليزا): توثيق لخراب الماضي وهلع من إعادة استنساخه


حسين كركوش

الحوار المتمدن-العدد: 4245 - 2013 / 10 / 14 - 18:37
المحور: المجتمع المدني
    


" إنني من بلد يغتصب يوميا وينهار وليس هناك مؤشر واحد على انه
سيعود كما كان... نعم وطني المقتول. "
بلقيس حميد حسن، هروب الموناليزا

بيان هجائي ينزع الأقنعة عن الوجوه
يتردد طويلا قارئ كتاب بلقيس حميد حسن، (هروب الموناليزا. بوح قيثارة ) دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع بغداد، 2013) قبل إيجاد الجنس الأدبي الذي يطلقه عليه. فمؤلفته تخبر القارئ منذ البداية بأن ما تكتبه ليس رواية: (أكرر، لست كاتبة رواية وقد لا أجيد فنها ص12). وهي على حق. فالكتاب ليس رواية، وهو ليس اعترافات، على غرار (اعترافات) روسو، مثلا، أو (الكلمات) لسارتر، ونذكر هذا للاستشهاد بالطبع، وليس للمقارنة. والكتاب ليس سيرة ذاتية خالصة رغم أن الناشر (المؤلفة ؟) يذكر في أسفل صفحة الغلاف الأول: (فصل من سيرة ذاتية للكاتبة ولنساء عرفتهن في طريق الحياة).
وقد ترد للذهن تسمية (رواية السيرة الذاتية Roman autobiographique) لتوصيف كتاب بلقيس حميد، لكن كتابها يختلف، مثلا، عن كتاب شمعون بولص (عراقي في باريس) و كتاب (كم بدت السماء قريبة) لبتول الخضيري، وكلاهما كما نرى من روايات السيرة الذاتية. كتاب بلقيس خلا من عناصر النسيج الروائي، إذ لا وجود لشخصيات روائية ما خلا أثنين (سومر) و(موناليزا)، وحتى هاتين الشخصيتين الرئيسيتين قيدت المؤلفة حركاتهما، وليس هناك تسلسل تاريخي للإحداث ولا لحوارات بين الشخصيات ما خلا منولوغات على شكل (بوح)، ولا ديناميكية داخلية فنية أو بشرية تتسم بها الشخصيات، وخلا من العفوية الفنية ومن عفوية الشخصيات. وكل ذلك لانشغال الكاتبة، على ألأرجح، بإيصال رسالة معدة مسبقا يراد لها أن تصل القارئ بسرعة، وبأي ثمن تقني. وإذا أتعبنا أنفسنا و أردنا أن نعثر على جنس روائي نصف به كتاب بلقيس حميد فالأقرب هي تسمية (القصة الذاتية l’autofiction) وهي التسمية التي ابتدعها الناقد الفرنسي سيرج دوبروفسكي*. وعلى أي حال، وكما ذكرنا توا فأن المؤلفة نفسها تؤكد( لست كاتبة رواية).
ولعل تسمية (بيان هجائي) Pamphlet هي الملائمة لوصف كتاب (هروب المونوليزا). وبما أن (البيان الهجائي) قد يكون بشكل كتيب أو مقالة نثرية أو شعر أو رواية، فبالإمكان تسمية (هروب الموناليزا) بيان هجائي أو احتجاجي صيغ بأسلوب روائي. ومفردة (هجائي) هي مفردة تخفيفية على أي حال. (هروب الموناليزا) هو منازلة بالكلمات والأفكار، والوقائع الحقيقية أيضا، تخوضها المؤلفة ضد مجتمع بأسره، وتدعو للمنازلة كل من يريد، علها تربح المنازلة و (تتغير ظروفنا ويرحل الخوف ص113) وحتى لا يظل (الخوف حاضر دائما وابدا ص117)، ولكي لا تظل امرأة عراقية واحدة تقول، أنا أعيش (في بلد يطاردني ويحاصرني ويحاول قتلي بدون ذنب ص225).
(ما قبل البوح) استهلال ناجح يمهد لما بعد البوح
الجملة الاستهلالية أو الاستهلال مهما كان عدد سطوره و جمله وصفحاته ( l’incipt) في أي رواية له وظائف متعددة. الأهمية الأولى للاستهلال تكمن في احتوائه على كل ما عند المؤلف من قوة وزخم فنيين وكل ما يملك من طاقة واندفاع وحيوية، وهو يتهيأ للإمساك بقلمه للانطلاق في كتابة عمله الروائي، تماما مثلما قوة الزخم التي نجدها عند العداء الرياضي في بداية انطلاقته الأولى. أي أن الحشو، إذا كان هناك حشو، يأتي بعد ذلك، عندما يتعب المؤلف.
الوظيفة الثانية للاستهلال هي أنه، في الغالب الأعم، يساعد القارئ منذ لحظة دخوله الصرح الروائي، أي منذ لحظة شروعه في قراءة السطور الأولى أو المقطع الأول أو الصفحة الأولى، على التعرف على أمور جوهرية كثيرة أو أقله التكهن بها: شخصية المؤلف الفنية، الموضوع الذي سيعالجه، الأسلوب الفني الذي سيتوسل به الكاتب لإكمال كتابه خصوصا في ما يتعلق بعمل روائي . ويصبح الاستهلال أكثرا جذبا لاهتمام القارئ وربما أكثر أهمية عندما يكون السرد على لسان الأنا فيتورط (السارد) حتى دون أن يدري بما يسرده. وهناك روايات كثيرة شاع صيتها بفضل جملها الاستهلالية إلى حد أن تلك الجمل الاستهلالية حفظها كثير من القراء عن ظهر قلب، كرواية (الغريب) لكامو، مثلا، التي تبدأ هكذا : ( اليوم توفيت أمي. وربما أمس، فأنا لا أعرف...) هذا الاستهلال (العبثي) يمهد ويهيأ القارئ لما سيلي في بقية الرواية والذي سنجده تعزيزا وتأكيدا لجملتها الاستهلالية: العبث أو فلسفة العبث.
في ما يخص كتاب (هروب الموناليزا) فأن الاستهلال الذي يبدأ به يجعلنا نستحضر الاستهلال الذي يبدأ به كتاب (عدن العربية Aden Arabie ) للكاتب الفرنسي بول نيزان Paul Nizan. **
تبدأ الجملة الاستهلالية في (عدن العربية) هكذا: (كنت في العشرين من عمري، ولن أسمح لكائن من كان أن يقول إن هذه المرحلة هي أجمل سنين العمر.) هذا التهديد أو التحدي الذي يطلقه نيزان سنجد تفاصيله في الصفحات التالية للكتاب. كل من نقرأه في بقية الصفحات هو (تنويع) لجملته الاستهلالية.
في استهلال (هروب الموناليزا) نجد ذات التحدي منذ السطر الأول: (سنبوح، أنا وهي. سنبوح نحن نسل حواء الخارجات إلى الدنيا من ثنايا أضلاعكم ... نحن ما زلنا نتعثر في وحل زيف خلقتموه لنا .. في عالمكم .. عالم الخوف والتوجس، عالم الخطوط الحمراء منذ أن نضع خطواتنا الأولى على عتبة المنزل تبدئ رحلة الألم. ص11). الاستهلال لا يتكون فقط من السطور التي ذكرناها توا إنما يتكون من صفحة ونصف هما الفصل الأول بأكمله والمعنون (ما قبل البوح) ويبدأ بكلمة (سنبوح) وينتهي عند جملة ( أردت أن تروا حياتكم وحياتنا من أعماقها لتعرفوا ماذا صنعتم بأيديكم. ص12)
وإذا كان الاستهلال، عموما، هو بمثابة (رسالة) ذات مضمون معين ترسلها جهة محددة (الكاتب) إلى جهة أخرى (القارئ) وتبعث في زمان معين ومكان معين وفي ظرف أو بيئة معينة، فأن هذه الجملة تصبح (ميثاق) أو (عقد) بين المؤلف وبين القارئ عندما تكتب بصيغة الأنا المتحدث، فردا كان أو جماعة، كما في كتاب بلقيس حميد (سنبوح، أنا وهي، وهن).
لكن مؤلفة (هروب الموناليزا) توقع (ميثاق) آخر أخلاقي هذه المرة، ومن طرف واحد هو طرفها، تعاهد فيه بنات جنسها أن تكون محاميتهن وتتبرع، عبر شخصية (موناليزا) في الرواية ان تصبح "عرضحالجي": ("سألتني سومر أن أكتب قصتها" ص16) يدون عذابات العراقيات (تنوب عنهم سومر، الشخصية المحورية في الكتاب، وليست خافية الدلالة الحضارية الرمزية لأسم سومر)، بالإضافة لعذابها، هي المؤلفة عبر شخصية (موناليزا). وعندما نتقدم قي قراءة الرواية تختلط الأصوات فلم نعد نميز أيهما تتحدث: المؤلفة ؟ موناليزا ؟ سومر ؟ الثلاث معا ؟ هذا التداخل الحكائي لدى الشخصيات لا يفاجئ القارئ لأن التنبيه إليه ورد في البداية: (إليكم أوتارنا .. أنا وهي أو هن. كلنا نمتزج ببعضنا في بوح قد يتعبكم حينما لا تعرفون من تتكلم عن ذاتها ومن تتكلم عن الأخرى. ص11) في الحقيقة هذه (حيلة) تقنية فنية ذكية تستخدمها المؤلفة لتحقق بفضلها غرضين، الأول هو إيصال رسالة للقارئ مفادها: إن معاناة النساء العراقيات واحدة بغض النظر عن أسمائهن. والغرض الثاني هو أن تتخلص المؤلفة من مسؤولية أي إحراج قد يسببه لها هذا التشوش الناتج من تداخل الأصوات في الرواية، تماما مثلما فعلت سابقا عندما كتبت :( اكرر لست كاتبة رواية وقد لا أجيد فنها.) فإذا احتج القارئ وقال إن ما أقرأه ليس رواية، فأن الرد سيكون جاهزا: ألم أحذرك أيها القارئ بأني لست كاتبة رواية وقد لا أجيد فنها، وإذا تذمر القارئ وقال لقد اختلطت الأمور ولم أعد أميز من التي تتحدث من الشخصيات فأن الكاتبة (الراوية) ستقول: ألم أنبهكم منذ البداية بأننا (سنمتزج ببعضنا في بوح يتعبكم حينما لا تعرفون من تتكلم.)
حياة عراقية موحشة
في الفصل الاستهلالي لكتاب (هروب الموناليزا) لا نجد جملة أو مفردة واحدة ولا حتى أي أشارة لعشق متبادل أو لحب متكافئ أو لعواطف جياشة أو لتواصل إنساني أو لمودة أو لرحمة أو لوفاء أو لعطف أو لشفقة أو لغفران أو لتسامح أو لشعور بندم يعلنه مذنب أو تراجع عن خطأ، أو مفردات تواصلية مثل (شكرا) ، (عفوا)، (إذا سمحت). إنه استهلال يؤشر لوجود قطيعة روحية إنسانية وغياب أي تواصل بين بشر متكافئين. ما نجده في هذا الفصل الاستهلالي تهديدا أعزلا سلميا وغير مسلح على الإطلاق، تطلقه ضحايا لا حول لهن ولا قوة، وهو تهديد (طالعا من سواد عتمة لا رؤية فيها إلا لبريق الدموع والعذاب ص12). سنجد ان هذا التهديد، وهو حيلة الذين لا حيلة لهم، يتكرر في الصفحات التالية : (أين يذهبون أنا لهم بالمرصاد ص161.) علينا أن نعرف أن التهديد المذكور (ص161) هو (تهديد) المحبطين والعاجزين، أو بالأحرى العاجزات لأن المتحدثة أنثي، اللواتي لا يجدن أمامهن غير الجسد الأنثوي ك(تابو) يكسرنه وك( خط أحمر) يعبرنه تشفيا وانتقاما من مجتمع ذكوري أذلهن وخرب حياتهن. ومع ذلك فأن هذا (التهديد) ليس سوى انكسار عاطفي وكبح لثورة الجسد (حتى أخمد) بعد (عرسي مع ذاتي) ص161. فالمرأة لا تضطر لأن تلجأ إلى جسدها وتلوذ به منفردة، والرجل لا يلجأ لجسده منفردا للحصول على متعة جسدية لو كان كل واحد منهما يعيش حياة عاطفية وجسدية طبيعية مشتركة بين أنثى وذكر. إنه نوع من أنواع الخراب العاطفي. لكن هذا الخراب ليس في العواطف فقط، إنما في جوانب الحياة كلها. الخراب سنجده يسود الصفحات التالية للكتاب حتى نهايته. كل ما نجده على الصفحات التالية هو (بوح) أشبه بالنحيب، لكن ليس بسبب خسارة شخصية فقط وإنما بسبب خسارات باهضة وطنية جماعية، سياسية واجتماعية وثقافية وعاطفية. الخسارة العاطفية الذاتية هي (واحدة) من هذه الخسارات وليست الوحيدة. صحيح ان ( سومر) هي التي (تبوح) أو بالأحرى تنحب طوال صفحات الكتاب ، لكن (سومر) رمز لشعب بأكمله يتوجع و ينحب ويئن تحت سياط نظام سياسي ممعن في دمويته، ونظام اجتماعي ممعن في قسوته، فهي تردد في بوحها: (ترى أيعلم هولاء الناس أنهم في سجن كبير ؟).
تحول العراق إلى سجن كبير له أسباب سياسية طارئة قد تتغير، كنوع النظام السياسي في العهد السابق، حيث تبدأ الأحداث الروائية عام 1979. تقول سومر: (الوضع السياسي يغتصبني ص103) بسبب (انتمائي اليساري ص 108). وهناك سبب طبقي: (لدينا خبز وكان هذا أعظم الأماني في بلاد النفط ص157)، وبسبب توحش السلطة السياسية القائمة وقتذاك وهيستريتها التي تدفعها لحفر مقابر جماعية لأجساد من يثور ضدها ويعارضها: (أنا أمام التلفزيون الآن. إنني أنظر إلى ما ينتشل من جثث المقابر الجماعية. رأيت ألاف النساء الباكيات المتشحات بالسواد وهن يبحثن في الحفر.. يوم قيامة .. فوق احتمال البشر حزن لا يوصف مهول وخارج عن اطار الفنان والإنسان السوي شيء مخرس للعقل ص173). بالإضافة للأسباب السياسية التي قد تتغير، بل قبلها وبعدها، هناك سبب يتعلق باختلالات بنيوية تتعلق بالمجتمع العراقي ذاته بغض النظر عن نوعية النظام السياسي القائم، أي طرائق التفكير و مجموعة العادات والتقاليد والأعراف القاسية خصوصا إزاء ألمرآة عندما تقتل، مثلا، (عدالة العمياء) و (نورية) غسلا للعار. انه مجتمع الخوف والعذاب والتعذيب وتقطع اواصر كل روابط.
لا وقت للكماليات الفنية
لا يجد قارئ (هروب الموناليزا) لغة شعرية رغم أن مؤلفته شاعرة ولها دواوين عديدة. ويبدو أن المؤلفة، وحتى تنقل صورة مجتمع مخرب كالذي نجده في (هروب الموناليزا) ، تبدو على عجل من أمرها، ولا وقت عندها للتوقف أمام أمور قد تراها كمالية، رغم ضروريتها روائيا. فهي لا تهتم كثيرا بشاعرية وبرشاقة اللغة التي تكتب بها فتعتمد أسلوب التقرير الصحفي، ولا تضمن لغتها صور شعرية، مثلا، ولا بلاغة ولا استعارات ولا تشابيه ولا أي حلية لغوية، ألا ما ندر. وشخصيات الكتاب تبدو كهياكل عظمية فقدت نظارتها وحيويتها، لكثرة ولشدة ما عانين وهن داخل بلدهن العراق. (موناليزا) مشغولة حد النخاع ب (موضوع) تشرحه، هو إدانة القمع السياسي أبان الحكم السابق، وهي تستعجل في تدوين ما تراه يوثق مستمسكاتها التي تدافع بها عن قضيتها (قصة هروبها من الوطن). و(سومر) أو (شهرزاد العراقية المعاصرة) تشغلها حد النخاع قضية علاقتها ب(شهريار)، أي حبيبها المتسلط الغادر الذي انجبت منه طفلتها الوحيدة وهي في غربتها ألأوربية، وتشغلها أكثر ويلات ومصائب الماضي التي كانت شاهدة عليها عندما كانت في بلدها، خصوصا بحق النساء، ولكن أيضا بحق شعب بأكمله. ورغم ان موضوع الرواية هو العراق، لكن المؤلفة بلقيس حميد تقوم أولا بنقل شخصيتي كتابها (موناليزا وسومر) خارج العراق (أوربا)، ومن هناك تجعلهن يتحدثن، وكأنها تخشى عليهن أن ابحن بما يردن داخل العراق. تواجدهن خارج العراق هو حماية لهن، يشعرهن بالأمان ويمنحهن حرية الكلام بدون خشية وخوف من أحد، لا رقيب سياسي ولا رقيب اخلاقي اجتماعي. والشخصيتان كلاهما بسيطتان وليستا من الشخصيات المركبة التي تملك تصورات متعددة وعميقة عن العالم حولها، رغم بعض الاقتباسات لبعض المفكرين التي تردن بعض المرات على ألسنتهن. وأحيانا (يتسلين)، خصوصا سومر، باستعراض أفكار مبسطة جدا وكاريكاتيرية لاستعراض ذكائهن، خاصة عند الحديث عن الجسد في أكثر من مناسبة.
لكن المشاهد الجسدية الفاضحة التي نجدها في (هروب الموناليزا) ليست مشاهد بونوغرافية (رغم أنها هكذا) بقدر ما هي تصرفات لشخصيات نسائية محبطة تعيسة، وهي محاولات فرار من واقع بائس إلى عالم متخيل أكثر بؤسا، أو لنقل اللجوء للجسد كعملية انتحار جنسي وانتحار عاطفي في غياب (شراكة) متكافئة، كما ذكرنا توا.
على أي حال، كتاب بلقيس حميد كشف أو تثبيت لعملية (أغتصاب) سياسي لشعب بأكمله. واحدة من الرسائل التي يتضمنها كتاب (هروب الموناليزا) هي: لماذا نسكت عن الاغتصاب السياسي لمجتمع كامل ولا نحتج ولا نخجل منه ولا نستحي، ونقيم الدنيا ولا نقعدها عندما تتحدث (المغتصبة) عن جسدها وعن التفاصيل الحميمية وتكتب وتعرض مفردات ومشاهد جنسية ؟ لماذا نقف صامتين إزاء اغتصاب شعب بأكمله من قبل سلطة جائرة ولا نحرك ساكنا، بينما نستعرض كل ما عندنا من عضلات بطولية لنقتل امرأة عمياء مسكينة وحيدة مهجورة وبائسة غسلا للعار ، رغم أننا نحن الذين اغتصبناها ( عدالة العمياء يقتلها بن عمها غسلا للعار بعد ان حبلت منه ص158). ***
هل كتاب (هروب الموناليزا) شجاعة تحسب للمؤلفة ؟ هل هو استفزاز ؟ هل هو تحدي ؟ هل هو دعوة صريحة لإعادة النظر في ثوابتنا الأخلاقية والاجتماعية ؟ قد يكون كل هذا، لكنه بالتأكيد تحذير من تكرار أخطاء وخطايا ونكبات الماضي. في أحدى الصفحات ما قبل الأخيرة نقرأ: ( يوم 9/11/2005 كانت سومر في الأردن بعد غياب ربع قرن لزيارة أهلها عبر ذاك البلد المجاور. أرادت أن تبكي على كتف من بقي لها من أهل مزقتهم نيران البطش والحروب والقهر مدة ربع قرن وأكثر. أرادت رؤية تراب الوطن الذي دمرها غيابه. دخلت فندقا .. لحظات يدوي انفجار همجي. تمزقت أشلاء الناس، تطايرت لقاء قطعا معجونة بدماء سومر ص260/261).
هوامش:
• سيرج دوبروفسكي Serge Doubrovsky (تولد عام 1928) أحد نقاد فرنسا البارزين وحائز على جوائز مهمة تقديرا لإنجازاته في مجال اختصاصه، وهو بالإضافة لذاك روائي له روايات عديدة، وأكاديمي يحاضر في جامعات مهمة. ومصطلح (القصة الذاتية L’autofiction) ابتدعه دوبروفسكي عام 1977 عندما نشر روايته (الأبن Fils). يقول دوبروفسكي بأن البعض عندما سأله في أي خانة يصنف كتابه ذاك، قلت إنه (رواية ذاتية) ، ولحظتها ما كنت أفكر، يقول دوبروفسكي، وأنا أطلق التسمية، بابتداع مصطلح نقدي جديد. لكن بعد ذلك تحولت التسمية إلى مصطلح نقدي أقيمت لدراسته حلقات دراسية في جامعات في أميركا وأوربا واليابان وبلدان أخري بما في ذلك جامعة طهران، كما يقول دوبروفسكي. ومصطلح (رواية ذاتية) يطلق على العمل الأدبي الذي يعتمد على أحداث ووقائع حقيقية حياتية حدثت للمؤلف. والرواية التي تصنف داخل هذه الخانة لا تعبأ كثيرا باللغة وجملها تبدو مهشمة وبعض صفحاتها تخلو من علامات التنقيط.
** بول نيزان Paul Nizan (1905-1940) فيلسوف وكاتب مقالات ومناضل سياسي. كان زميلا لسارتر وللفيلسوف ريمون آرون في المدرسة الثانوية. كانت حياته صاخبة ومثيرة على المستوى الشخصي والعام. في سنواته المبكرة انتمى لحركة فاشية نقابية كانت ناشطة وقتذاك لكنه سرعان ما غادرها. وفي عام 1926 ذهب إلى اليمن وأقام هناك سنة، وبعد عودته انتمى لصوف الحزب الشيوعي الفرنسي. وفي عام 1931 نشر كتابه (عدن العربية)، وفي عام 1932 نشر كتابه الأشهر ( كلاب حراسة Chiens de garde) الذي كرسه للرد على مواقف اساتذته من كبار الفلاسفة وهاجمهم بعنف. وفي عامي 1934-1935 زار الاتحاد السوفيتي وأقام هناك مع زوجته، وشارك في مؤتمر أتحاد الكتاب السوفيت، وكان مكلفا بإقامة أندريه مارلو وأراغون ورومان بارت خلال تواجدهم هناك للمشاركة مع آخرين. وفي عام 1939 ترك الحزب الشيوعي وبدأت بينه وبين الحزب معارك وسجالات عنيفة . وهكذا قضى نيزان حياة فوارة وصاخبة وتحمل مسؤوليات كبيرة وهو ما يزال في مقتبل العمر دون أن يعيش ما يفترض أن يعيشه شاب بعمره من متع وملذات ولهو وعبث. لقد دخل عالم الكبار وهو في مقتبل العمر، قبل أن يقضي نحبه عام 1940 خلال الهجوم النازي ضد فرنسا. وفي التفاتة وفاء مخلصة، كتب سارتر مقدمة طويلة لكتاب نيزان (عدن العربية) في طبعته التي صدرت عام 1960 واعتبرتها الأوساط الثقافية محاولة لرد الاعتبار لهذا المثقف المتميز.
*** يشير فؤاد التكرلي في رواية (الرجع البعيد ص62) إلى حادثة مماثلة لحادثة قتل (عدالة العمياء) تدين نفاق المجتمع العراقي وقسوته: ( صفية، تذكرين حجاية أبوية الله يرحمه وي حجي شاكر ؟ جا عليه يشوره بقضية خالته. مرية جبيرة وحيدة ومتروكة، تشتغل على باب الله خدامة وغسالة هدوم. على باب الله. ماكو أحد يصرف عليها ويعيشها. حجي شاكر سمع كاعدة تشتغل ابيت مشبوه، وجان يريد يقتلها. مرية عمرها فوك الستين سنة. أذكر حجاية أبوية. كال له أنتو ما عرفتوا حقوقها عليكم، ليش هسة كاعدين أدورون حقكم عليها ؟ الحجي ما أخذ حجاية أبوية. أشقياء جان. راح قتلها الملعون الوالدين. مرية جبيرة عمرها ستين سنة.)



#حسين_كركوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحزب الشيوعي في عراق ما بعد صدام حسين
- العنف ليس قدر العراقيين ولا مصيرهم الذي لا خلاص منه
- الخارجية الاميركية تعلم العراقيين اصول الكلام : هزلت ورب الك ...
- حتى لا يتكرر( كرسي الزيات) مرة اخرى


المزيد.....




- اعتقال رجل في القنصلية الإيرانية في باريس بعد بلاغ عن وجود ق ...
- ميقاتي يدعو ماكرون لتبني إعلان مناطق آمنة في سوريا لتسهيل إع ...
- شركات الشحن العالمية تحث الأمم المتحدة على حماية السفن
- اعتقال رجل هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإيرانية بباريس
- طهران تدين الفيتو الأمريکي ضد عضوية فلسطين بالأمم المتحدة
- عشية اتفاق جديد مع إيطاليا.. السلطات التونسية تفكك مخيما للم ...
- الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس في الشرق الأوسط
- سويسرا تمتنع في تصويت لمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم ا ...
- اعتقال أكثر من 100 متظاهر مؤيد للفلسطينيين من حرم جامعة كولو ...
- بمنتهى الوحشية.. فيديو يوثق استخدام كلب بوليسي لاعتقال شاب ب ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسين كركوش - ( هروب الموناليزا): توثيق لخراب الماضي وهلع من إعادة استنساخه