عصام مخول - عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الإسرائيلي ورئيس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: امتحان اليسار الشيوعي ومصداقية النهج الأممي في ظروف إسرائيل والمنطقة.


عصام مخول
الحوار المتمدن - العدد: 4244 - 2013 / 10 / 13 - 15:17
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -114 - سيكون مع الأستاذ عـصام مخول - عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الإسرائيلي ورئيس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية - حول: امتحان اليسار الشيوعي ومصداقية النهج الأممي في ظروف إسرائيل والمنطقة.



مناهضة الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية تشكل الصخرة التي يقوم عليها النضال الأممي العربي اليهودي المشترك في إسرائيل


في ظروف الحركة الشيوعية في فلسطين، كانت مقاومة المشاريع الامبريالية والصهيونية وتواطؤ الرجعية العربية معها ، هي الصخرة التي أمكن تاريخيا ان تبنى عليها وحدة النضال المشترك للشيوعيين اليهود والعرب ، وبرزت كضرورة حياتية ، في قلب الصراع القومي الدامي في ظروف فلسطين الانتدابية ، وفي ظروف اسرائيل اليوم، وهي الشرط المسبق لأي نضال أممي تقدمي جدير.
إن مضمون النضال الأممي اليهودي العربي المشترك لا يقوم في فراغ ، بل يحمل مفهوما متكاملا يكتسب أهميته على أساس السياق الفكري والسياسي الذي يتموضع فيه . ليس النضال اليهودي العربي مسألة تبشيرية تنطلق من منطلقات اخلاقية ومثالية ، ولكنه مسألة مضامين فكرية وسياسية كفاحية نابعة عن تحليل طبيعة الصراع الدائر في اسرائيل ومعها ، وطبيعة القوى المحلية والإقليمية والعالمية المتصارعة في المنطقة وعليها ، إنه الابن الشرعي للتحليل الطبقي ..

امتاز الدور الأممي للشيوعيين العرب واليهود في تاريخ هذه البلاد ، في فضح التآمر الثلاثي بين الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية ، على المنطقة وعلى حقوق الشعب الفلسطيني القومية ، وعلى رأسها حقه في تقرير المصير . وتميز دورهم في فضح ومواجهة مسؤولية هذا الثلاثي عن نكبة الشعب الفلسطيني ، جميع أطراف ثلاثي المؤامرة مجتمعين (في وحدة أممية رجعية ) ، وكل واحد منهم على حدة . مقابل هذه الوحدة "الأممية" لأكثر القوى رجعية وعداء للشعوب ، دعا الشيوعيون الى بناء أوسع وحدة كفاحية أممية ، تقوم على معاداة هذا الثلاثي الدنس .
إن النضال الواضح ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية كان في الماضي ولا يزال اليوم أيضا ، هو الامتحان الحقيقي أمام أية قوة يسارية ، والمقياس الحقيقي لمدى يساريتها ومصداقية مواقفها الاممية . فأنت لا تستطيع أن تطرح نفسك يسارا أمميا صادقا من دون أن تحمل موقفا مقاوما للمشاريع الامبريالية في المنطقة وخارج المنطقة ومن دون ان تكون منحازا الى القوى التي تقاوم الامبريالية في كل مواقعها . ولا تستطيع أن تطرح نفسك يساريا أمميا من دون فك الارتباط بالفكر والممارسة الصهيونية والمواجهة مع نهجها العنصري وسياساتها العدوانية ، ولا تستطيع أن تطرح نفسك يسارا أمميا في مكان معين ، وأن تكون في الوقت نفسه ربيب النظام العربي الرجعي قابعا في أحضانه في مكان آخر ، تعمل على تبرير تواطئه مع المؤامرات الامبريالية والصهيونية وتورطه فيها ، باسم ديمقراطية مشوهة وليبرالية مشكوك في دوافعها تفوح منها رائحة البترودولار .
وفي حالة الحزب الشيوعي، على خلاف أية قوة أخرى ترفع راية اليسار الأممي وشعار أخوة الشعوب ، فإن النضال ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية، شكل ولا يزال يشكل حجر الزاوية الذي تميز به نضال الشيوعيين العرب واليهود، في فلسطين، وفي داخل دولة اسرائيل على مدار اكثر من تسعة عقود ، وشكل واحدة من العلامات الفارقة التي انفرد بها نضالهم على الساحة الشرق أوسطية مهما تعددت الاشكال التي تنظموا من خلالها والظروف التي ناضلوا فيها . إن الشعار الأممي الذي رفعه الشيوعيون في إسرائيل تاريخيا ، ورددوه في شوارع تل أبيب وحيفا والناصرة : "مع الشعوب العربية ضد الامبريالية وعكاكيزها في المنطقة ، وليس مع الامبريالية وعكاكيزها ضد الشعوب العربية " يشكل خلاصة الموقف الاممي المتميز الذي تفرد به الشيوعيون في قلب الصراع الدموي الدامي .
إن الدورالأممي للشيوعيين اليهود والعرب في اسرائيل ، لم يقتصر على النضال من أجل تحرر الشعب الفلسطيني فقط من الهيمنة الصهيونية ، وإنما تجاوز ذلك الى النضال من أجل تحرر الشعب اليهودي من هيمنة الصهيونية ايضا , وعدم التسليم بمقولاتها التي تدعي وجوب التماثل بين كل من هو يهودي ، بغض النظر عن مواقفه وانتماءاته الفكرية والسياسية والاجتماعية ، وبين الصهيونية ومعها .
لقد استولت الحركة الصهيونية تاريخيا ، واستحوذت نهائيا على حق تقرير المصير للشعب اليهودي الذي يعيش في فلسطين، وعملت على فرض تماهٍ بين الصهيونية وبين هذا الحق. كما استحوذت عنوة على حق اليهود الذين يعيشون في دول العالم المختلفة وقاومت رغبتهم الطبيعية في الاندماج في مجتمعاتهم وفي التفاعل مع الحراك الطبقي والاجتماعي والسياسي الذي يدور في هذه المجتمعات ، ورفضت انخراط اليهود في العالم في الحراك الاجتماعي والسياسي في مجتمعاتهم بمعزل عن الصهيونية وخارج إطار مشاريعها وعمالتها للامبريالية العالمية .
وهي في الوقت نفسه احتجزت حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وتستميت في مصادرته نهائيا . وأصبح اليوم واضحا بما في ذلك لقطاعات لا يستهان بها من الاسرائيليين ، أن تحرير حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني من القبضة الصهيونية يشكل الأساس ويشكل المقدمة الاولى لتحرير مصير الشعب اليهودي في اسرائيل نفسه ، ومصير اليهود في العالم ، من القبضة الايديولوجية والسياسية الصهيونية الخانقة التي تشكل مصدرا لخطر وجودي حقيقي داهم على الجماهير اليهودية سياسيا واجتماعيا وحياتيا . إن الدوائر الصهيونية المتنفذة ، والدوائر الحاكمة في اسرائيل عندما تنتهج سياسة الرفض تجاه الشعب الفلسطيني وتعرقل الحل السياسي ، فإنها تعمل على إحكام قبضتها وإطباق هيمنتها على الجماهير اليهودية في كل مكان .

إن الحزب الشيوعي ، يقف بجدارة ضد الايديولوجية والممارسة الصهيونية، واستنادا إلى ذلك تحرض القيادة الصهيونية الجماهير اليهودية على الحزب، لأنها تريد ان توهم هذه الجماهير ، زورا وبهتانا بان الصهيونية تعني الوطنية، وتعني الاهتمام بالشعب اليهودي، والاهتمام بالعاملين اليهود. ومن ثم فإن عداء الحزب الشيوعي للصهيونية هو جوهريا كما تدعي ، عداء لليهود .
بينما يطرح الحزب الشيوعي منطقا معاكسا تماما: فالسياسة الصهيونية الحاكمة تهدد بالخطر الشعب اليهودي ، وليس فقط الشعب العربي الفلسطيني، وإن اختلفت أشكال ومضامين هذا الخطر ومداه . وفي توجهه الى الفئات الشعبية اليهودية يؤكد الحزب الشيوعي ، أن الصهيونية من شأنها ان تجلب الكارثة على اليهود وعلى العرب، لانها تمنع السلام والأمن وتتمسك بسياسة الرفض والاحتلال والتشريد والاستيطان والتوسع والحرب ، وتمس بالعاملين اليهود أيضا وليس فقط بالعاملين العرب، وأنها تؤجج الصراع الدموي ، وتنشر الفكر العنصري وتحرض على الحرب ، لإبعاد أنظار الجمهور اليهودي العامل ، عن حقيقة كون النخب التي تحكم باسمها ، هي العدو الحقيقي لهذا ا لجمهور والمسؤول عن بؤسه .

" فان الذي يقرر في نهاية الامر هو القاعدة الايديولوجية والنهج الطبقي، وهنا توجد اهمية كبرى لنقطة الانطلاق. فالشيوعيون هم اكثر المدافعين عن المصالح القومية للشعوب. لكن نقطة انطلاقنا هي اممية، طبقية. ولهذا فإننا نرى جميع ابناء الطبقة العاملة، وكل التقدميين ابناء كل الشعوب اخوة لنا، بينما نرى في المستغلين والمضطهدين (بكسر الغين والهاء) أعداءنا".( ماير فلنر- المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الاسرائيلي )
 


الوطن والمواطنة ، والمعركة على انتزاع الحقوق القومية والمدنية للجماهير العربية في إسرائيل !


يشكل العرب الفلسطينيون المواطنون في اسرائيل أقلية قومية . ان مليون وثلاثمائة ألف مواطن عربي في اسرائيل يشكلون نسبة عشرين بالمائة من سكانها، هم ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني الذي صمد في وطنه برغم نكبة شعبه الفلسطيني في العام 1948. جزء من الشعب الفلسطيني دون انتقاص، ولكننا نصر في الوقت نفسه على أن نكون جزءا غير منقوص الحقوق من مواطني إسرائيل. وفي كلتا الحالتين فإننا نطرح تحديا أمام الايديولوجية الصهيونية وأمام "اليسار الصهيوني" بشكل خاص . ان إصرارنا على حقنا في المواطنة غير المنقوصة، ليس نابعا من اننا ظهرنا فجأة في اسرائيل، وانما نابع من أن اسرائيل ظهرت في وطننا الذي لا وطن لنا سواه. إن مواطنتنا على خلاف الآخرين في الوطن ،متجذّرة بهذا المعنى، نابعة عن ارتباطنا بوطننا ، وليس عن هجرتنا اليه . مواطنتنا مشتقة من كلمة وطن وعن علاقتنا بوطننا ، لا من كلمة مواطن . ليست مواطنتنا نابعة عن "العقد الاجتماعي" المفروض عنوة على هذا الوطن ، وإنما سابقة له .

ان احدى الوسائل المركزية التي لجأت اليها المؤسسة الاسرائيلية بقيادة حركة العمل التي قادت تأسيس الدولة ، لاستدراك فشلها في تفريغ البلاد نهائيا من الشعب الفلسطيني ، تمثلت في محاولتها محو الهوية القومية للمواطنين العرب في اسرائيل، ومحو انتمائهم الى شعبهم الفلسطيني، وافتعال هوية قومية جديدة للتعامل معهم كـ"عرب اسرائيل". لقد خاض اليسار الشيوعي المناهض للصهيونية معركة قاسية منذ إقامة اسرائيل لإسقاط هذه الهوية الهجينة، وقاد معركة الاقلية القومية العربية في سبيل انتزاع الاعتراف بها أقلية قومية فلسطينية أصيلة في وطنها، مواطنة في اسرائيل .
ان الاوضاع المركبة، تتطلب إجابات مركبة. وقد حدد اليسار الشيوعي المناهض للصهيونية استراتيجيته في القضية القومية تاريخيا، على ركيزتين تناقضان وتتحديان الاستراتيجية التي دفعت بها حكومات اليسار الصهيوني بقيادة حركة العمل بشأن موقع المواطنين العرب في اسرائبل . الركيزة الاولى- أن المواطنين العرب في اسرائيل، هم جزء من الشعب الفلسطيني وجزء من النضال من أجل تحقيق حقوقه القومية المشروعة وتحرره ، وجزء من النضال المناهض للامبريالية والصهيونية والرجعية العربية في المنطقة ، ومن النضال من أجل التخلص من التبعية لمشاريع هيمنتها.
والركيزة الثانية ، أن هذه الاقلية القومية العربية الفلسطينية في اسرائيل ، هي قوة فاعلة داخل المجتمع الاسرائيلي، لها مصلحة عميقة في تغيير النظام الطبقي القائم ، وجزء حاسم من النضال من اجل السلام العادل، ومن أجل احداث التغيير الديمقراطي العميق داخل هذا المجتمع. وان المواطنين العرب لوحدهم ليس بمقدورهم انجاز هذا التغيير. ولكن ليست هناك قوة أخرى في اسرائيل قادرة على احداث التغيير الديمقراطي العميق، من دون مشاركة الجماهير العربية أو في المواجهة معها.
وفي اطار هذا المنظور الاستراتيجي فان دور الاقلية القومية العربية، في اسرائيل، جنبا الى جنب مع القوى الديمقراطية اليهودية، ومع قوى السلام الاكثر التزاما في اسرائيل، هو المساهمة في تحويل المجتمع، والعقلية السائدة ونظام الحكم في اسرائيل تحويلا ثوريا، نحو ديمقراطية حقيقية وسلام عادل ومجتمع تقدمي اشتراكي. ان الاقلية القومية العربية بقيامها بهذا الدور، وانخراطها في هذه النضالات، من موقعها المتميز في اسرائيل انما تقدم اكبر خدمة لقضية شعبها الفلسطيني وتوجه ضربة موجعة للفكر والممارسة الصهيونية .

لقد مرت أيام كانت المؤسسة الرسمية الاسرائيلية بقيادة اليسار الصهيوني تنشط فيها لمحاربة المركب الفلسطيني في هوية المواطنين العرب في اسرائيل، مستندة الى الارهاب الفكري والسياسي الذي مارسته اكثر أجهزة الدولة ظلامية، للحيلولة دون تجرؤ الناس على استنهاض الوعي بانتمائهم الى الشعب الفلسطيني من جهة، ومن أجل ضمان مأسسة مقولة "الهوية "العربية الاسرائيلية" الهجينة، بديلا عن الهوية القومية الفلسطينية من الجهة الاخرى.
لقد هزمت هذه السياسة وسقطت المراهنة عليها والتفت الجماهير الواسعة حول وثيقة 6 حزيران 1980 التي قادها القائد والمؤرخ البارز إميل توما وشكلت الاساس السياسي "لمؤتمر الجماهير العربية بمشاركة القوى الديمقراطية اليهودية" ، الذي حظره رئيس الحكومة في حينه مناحيم بيغن بأمر عسكري وأخرجه وأخرج الوثيقة خارج القانون، وفي صلب هذه الوثيقة : ""نحن أهل هذا الوطن ولا وطن لنا غير هذا الوطن ... حتى لو جوبهنا بالموت نفسه فلن ننسى أصلنا العريق .. نحن جزء حي وفاعل ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني.." (الكتاب الاسود الثاني- "المؤتمر المحظور" ) .
ومنذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين باتت مخاوف المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة وقلقها ، لا تنصبّ فقط على المركب الفلسطيني في هوية المواطنين العرب، بل أخذ المركب المدني "المواطني" في هويتهم كمواطنين في دولة اسرائيل يقلقها أكثر من أي مركب آخر توطئة لنشر مفاهيم الخطر الديمغرافي وطرح مشاريع الترانسفير والتبادل السكاني .
وينعكس المركب المدني في هوية العرب الفلسطينيين المواطنين في اسرائيل، في اصرارهم على النضال من أجل تحقيق المساواة التامة في الحقوق المدنية كمواطنين، والمساواة في الحقوق القومية كأقلية عربية فلسطينية داخل دولة اسرائيل. وينعكس أيضا، في اصرارهم على الالقاء بوزنهم السياسي المتميز من أجل التأثير على صورة المجتمع الاسرائيلي وسياساته ووجهة تطوره.
ويبدو انه كلما زاد وعي المواطنين العرب في اسرائيل لوزن مواطنتهم، وكلما زاد اصرارهم على توظيف ثقلها لطرح بديل للإجماع القومي الصهيوني، الى جانب القوى الديمقراطية اليهودية، والفئات المعنية منها بإحداث التغيير الجذري في اسرائيل، فان الوجه الاقصائي البشع "للمخاوف الديمغرافية" يتكشف بشكل سافر. ان أحزابا سياسية قوامها المطالبة بالترانسفير القسري للمواطنين العرب والتخلص من مواطنتهم، باتت جزءا شرعيا من الخطاب السياسي الرسمي السائد في اسرائيل والقابع في سدة الحكم.
لقد خاضت الاقلية القومية العربية في إسرائيل نضالا مريرا على مدى عقود من الزمن بقيادة الحزب الشيوعي الاسرائيلي ، من أجل البقاء في وطنها والدفاع عن أراضيها وحقوقها، بعد ان نفضت عنها نفسية النكبة وطورت بديلا لها نفسية النضال والتصدي .
على مدار أكثر من ستة عقود طالبت المؤسسة الاسرائيلية المواطنين العرب بإعلان ولائهم لدولة اسرائيل. وفي الغالب فان المواطنين العرب لم يخرجوا في ظروفهم المتميزة للنضال ضد وجود دولة اسرائيل . لكنهم ناضلوا دون هوادة في تلاحم مع اليسار المناهض للصهيونية وكل القوى الديمقراطية الحقيقية في المجتمع الاسرائيلي، من أجل اختراق ثوابت الاجماع القومي الصهيوني ، وفضح الطابع العنصري والرجعي السافر للصهيونية، ومن أجل إحقاق الحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني ، ومن أجل إنهاء الاحتلال وتفكيك جميع المستوطنات ، ومن أجل إقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967 عاصمتها القدس غير منقوصة السيادة. ومن أجل حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس قرارات الامم المتحدة . ومن أجل المساواة في الحقوق القومية والمدنية للمواطنين العرب في اسرائيل كعنصر مكمل للحل .


الدفاع عن الارض والدفاع عن المواطنة الشرعية


ان النضال الذي تخوضه الاقلية القومية العربية في اسرائيل، يدمج بشكل عضوي، المعركة على الدفاع عن الارض مع المعركة على الدفاع عن المواطنة وعن المساواة في الحقوق المدنية القومية. لقد دحض المواطنون العرب العقلية التي ترى ببقائهم في وطنهم وبمواطنتهم في دولة اسرائيل، عقب أخيل الخاص بهم ، ونقطة "ضعفهم" وحتى "خيانة القضية القومية" كما تمادت بعض الاصوات البائسة في الافتراء على تاريخهم النضالي وعلى معركة بقائهم في وطنهم
. لقد تبنت الجماهير العربية وجهة نظر الحزب الشيوعي، وتحليله الأممي ، مؤكدة ان دور الاقلية القومية العربية، ونضالها من اجل حقوقها القومية والمدنية، يشكل جزءا لا يتجزأ من النضال دفاعا عن الحريات الديمقراطية وتحقيق السلام العادل والدائم سواء بسواء. ورفضت أن يتم التعامل معها على أنها تشكل عبئا على الدمقراطية الاسرائيلية، وانما اعتبرت موقعها من هذه الديمقراطية ، احد الاعمدة الاساسية الذي لا تقوم أية ديمقراطية من دونه. وان موقع الجماهير العربية المدني والسياسي والاجتماعي في اسرائيل ، هو المقياس الحقيقي الذي يجب ان تقاس به مصداقية هذه الديمقراطية. باعتبار ان كل هجمة ضد حقوق الجماهير العربية، تشكل في نهاية المطاف، هجمة على الدمقراطية وفضيحة صارخة لمصداقية الديمقراطية الاسرائيلية، وكل انجاز تحققه الجماهير العربية بمشاركة القوى الديمقراطية الاسرائيلية ، في معركة المساواة الكاملة في الحقوق المدنية والقومية للجماهير العربية والعدالة الاجتماعية والقضاء على سياسة الاضطهاد القومي والتمييز العنصري ، يعزز من مكانة الدمقراطية ويبرر ادعاءها ، والعكس بالعكس .

ان الاستنتاج الذي يمكن استخلاصه من هذه الرؤية المبدئية ، يفترض ان القضايا الوجودية الاساس للجماهير العربية، يمكن ان تتقدم من خلال النجاح في المعركة على إحداث اختراق في الديمقراطية في اسرائيل وتعميقها، وتوسيع حقوق الانسان والمواطن ، ويفترض ان اسرائيل لا تستطيع ان تصبح ديمقراطية حقيقية من دون التخلي عن سياسة التمييز والاضطهاد القومي، ومن دون التخلي عن السياسات الجوهرية البنيوية المعادية للجماهير العربية ..

وعلى ذلك فان للجماهير العربية مصلحة بنيوية وعضوية عميقة في انتزاع الحيز الديمقراطي الخاص بها وتوسيعه ، من خلال النضال ضد التمييز تجاهها، وضد كل تمييز، وضد اضطهادها، وضد كل اضطهاد. ومن الجهة الاخرى فإن للقوى الديمقراطية اليهودية الحقيقية في إسرائيل ، والمعنية بالدفاع عن الحيز الديمقراطي المهدد باستمرار بالسياسات العنصرية والعدوانية ، لهم مصلحة عضوية بنيوية، في الدفاع عن الحقوق القومية والمدنية للجماهير العربية والاعتراف بها أقلية قومية من أهل هذا الوطن الذي لا وطن لها سواه
وإذا كان التغيير العميق القادر على تحقيق المساواة الكاملة في الحقوق القومية والمدنية لن يتم بدون الجماهير العربية او في مواجهتها، وإذا كان هذا التغيير، لن يتحقق ايضا عن طريق الجماهير العربية وحدها. فان النضال الدمقراطي المشترك للجماهير العربية والقوى الديمقراطية اليهودية، قادر على أن يضع في الجانب الواحد من المتراس، كل اولئك الذين لهم مصلحة في تغيير النظام القائم تغييرا ثوريا، نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والقومية ، وفي الجانب الآخر منه، كل اولئك الذين لهم مصلحة في الاحتفاظ بالنظام الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي القائم، والذي يوفر الظروف لتعميق الاستغلال الطبقي والقومي سواء بسواء .
إن المعركة على الحقوق القومية ، والمعركة على الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية ، هي معركة متداخلة ، لا تستطيع أن تخوضها بنجاح غير قوة يسارية أممية بامتياز ، امتحان يساريتها ومصداقية أمميتها في ظروف اسرائيل هي في الموقف الشامل المقاوم لثلاثي الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية مجتمعة ، وكل واحدة منها على حدة .


النضال الاممي هو الجواب الثوري في نضال الاقلية القومية العربية في إسرائيل


إن حقوق الجماهير العربية في اسرائيل لا يمكن إنجازها من دون إحداث اختراق تقدمي عميق ، وتغيير ديمقراطي حقيقي في جوهر البنية السياسة الاسرائيلية السائدة وثقافة الحكم النافذة فيها وفي المفاهيم السائدة في مؤسسة الحكم . ويصبح إحداث هذا الاختراق هو مصلحة وجودية للأقلية القومية العربية الفلسطينية في اسرائيل ولمجمل القضايا التي تناضل من أجلها.
ولكن من الجهة الاخرى، سيكون على أية قوى اسرائيلية معارضة أو متململة من منطلقات ليبرالية أو ديمقراطية ، ترى مصلحة حقيقية في إحداث تغيير ديمقراطي وتقدمي عميق، وتوسيع الحيز الديمقراطي التقدمي في اسرائيل ، سيكون على هذه القوى أن تعي أن مثل هذا التغيير لا يمكن أن يتحقق من دون القضاء على سياسات الاضطهاد القومي والتمييز العنصري ، وسلب الارض، والقمع وتضييق الخناق على الحريات الشخصية والسياسية ، ورفض الاعتراف بالحقوق المدنية والقومية للاقلية القومية العربية في اسرائيل .
ومن هنا فإن النضال لإحداث التغيير التقدمي الثوري الحقيقي في إسرائيل ، هو بالضرورة نضال أممي مشترك تلتقي في إطاره وتتفاعل مصلحة الجماهير العربية ومصلحة القوى الديمقراطية اليهودية المعنية بإحداث التغيير، ولا تستطيع أن تقوده سوى قوة يسار حقيقي ذات توجه أممي . إن الجماهير العربية وحدها ، لا تكفي لإحداث التغيير الجوهري، ولكن من دون وزنها فإن أية قوة أخرى لا تستطيع إحداثه.
ان الاستراتيجية الاممية للحزب الشيوعي، هي الاستراتيجية القادرة على تدعيم نضال الاقلية القومية العربية، والقادرة على الدفاع عن مصالحها الوجودية، وعن حقها في المساهمة في احداث التغيير الثوري والدمقراطي العميق، لأنها استراتيجية طبقية، لا ينحصر فيها فضاء الاقلية القومية العربية في سقفها القومي، بل تحتفظ لنفسها بالأفق المفتوح الممتد الى فضاء الطبقة العاملة الاسرائيلية، وفضاء شعبها الفلسطيني،وتضامن القوى التقدمية العالمية ، لتؤثر وتتأثر.

ان الجماهير العربية في دولة اسرائيل، بتذويتها الاستراتيجية الاممية للحزب الشيوعي، لم تسلم بقبول موقعها على الهامش، بل قررت استعمال وزنها المتزايد ووزن مواطنتها من اجل ان تكون شريكا كاملا في احداث التغيير الديمقراطي العميق داخل دولة اسرائيل ، وفي النضال جنبا الى جنب مع القوى الدمقراطية وقوى السلام في اسرائيل، من اجل السلام العادل الاسرائيلي الفلسطيني والإسرائيلي العربي ومن أجل تحرر الشعب الفلسطيني واستقلاله الوطني وممارسة حقه في تقرير المصير على أساس القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية . بما فيها حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة.

ان الجماهير العربية، ليس فقط أنها رفضت ان تجلس مكتوفة الايدي في انتظار الخلاص والفرج العربي الرسمي الموعود، الذي كان أصلا وتاريخيا مصدر البلاء ومساهما في نكبة الشعب الفلسطيني ، لا مصدر خلاصه. وإنما اختارت ان تكون عاملا فاعلا ونشيطا في النضال من اجل الحل العادل لقضية شعبها الفلسطيني من موقعها داخل اسرائيل. من منطلق مقولات وثيقة 6 حزيران 1980 :" نحن جزء حي وفاعل ونشيط من الشعب الفلسطيني . ليس محمية طبيعية ثقافية وإثنية تذكر بماض عابر ، وإنما أقلية قومية ناهضة ةمتجذرة تبني مستقبلا واثقا في وطنها ..
ان المفهوم الاستراتيجي الاممي الذي يطرحه الحزب الشيوعي الإسرائيلي , ليس نقطة ضعف الحزب الشيوعي في المسألة القومية، بل العكس هو الصحيح . إن هذا المفهوم الأممي هو نقطة قوة الحزب، وقيمته المضافة التي تمكنه وتمكن الاقلية القومية الفلسطينية من المساهمة في معركة شعبها التحررية من موقعها داخل اسرائيل .
إن انتماء الجماهير العربية في اسرائيل الواضح وغير المتلعثم إلى الشعب الفلسطيني ، وفي الوقت ذاته، الانتماء الواضح وبلا تأتأة الى معركة التغيير في المجتمع الاسرائيلي والى معارك الطبقة العاملة في اسرائيل، هو الذي يوفر لها القدرة على المساهمة المتميزة، ويوفر لها الشروط المناسبة من أجل إلقاء وزنها في معارك التغيير الثوري ، بحكم مواطنتها وبحكم انتمائها القومي سواء بسواء ، مع ما يعنيه ذلك من ممارسة دور فاعل ونشيط في المعركة لإحقاق الحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حقه في التحرر والاستقلال من جهة ، وممارسة دور فاعل في احداث التحويل الديمقراطي العميق للمجتمع الاسرائيلي الآخذ بالتدهور نحو الفاشية في تسارع مخيف، من الجهة الأخرى .

لقد حصلت الاكثرية الساحقة من الجماهير العربية التي بقيت في وطنها والتي لم تطلها سياسة التهجير، على المواطنة الاسرائيلية، بفعل بقائها وتشبثها في وطنها وسط تسونامي الاقتلاع والترحيل . لكن جمهور المواطنين العرب، لم يكن قادرا على الاكتفاء بالمواطنة، بل كان عليه ان يخوض نضالا مريرا من اجل البقاء والحق في التطور والعيش الكريم (يردد في مواسمه ومناسباته : "جليلنا ما لك مثيل، وترابك أغلى من الذهب ، ما نرضى بالعيش الذليل لو صرنا لجهنم حطب ) ، ورفض التسليم بموقع اليتيم على مائدة اللئيم، وموقع الحطابين وسقاة الماء الذي كان يجري إعداده له . كان عليه أن يخوض نضالا مريرا من أجل الدفاع عن أرضه وبقائه، ومن أجل انتزاع مستقبله ومستقبل أجياله الطالعة في وطنه من جهة ومن أجل تمسكه بحقه في الاسهام في معركة انقاذ حق شعبه الفلسطيني في وطنه التاريخي وحقه في التحرر والاستقلال وتقرير المصير من الجهة اأخرى . "فنحن أهل هذا الوطن ، ولا وطن لنا سواه ".