عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4244 - 2013 / 10 / 13 - 00:22
المحور:
الادب والفن
كل النساء في مدينتي خالاتي
قصة قصيرة
شمسه في عرف شارعنا المترب النائم على وسادة النسيان تمثل رمز للاستفحال الرجولي ,لسان لا يعرف من طهارة الكلام شيء حتى المسكين زوجها يقف كأنه طفل رضيع أمامها ,بفحولته التي يشبهها الناس كأنه ثور جاموس(شفج دواب), نشأت هكذا سوقية تمتهن المتاجرة بكل شيء في سوق المدينة صباحا, سوق لا تتداول به مفردات التجارة المعروفة بيض دجاج منزلي رز دقيق حنطة وأحيانا المراباة مع القرويين انتظارا لموسم الحصاد.
كريم بالتصغير زوجها عريف بالجيش عرف عنه صرامته في امور الفصيل الذي يقوده, هذا ما ذكره بعض الذين يعرفونه عسكريا حازما لا يقبل المناقشة حتى من معارفه من اهل مدينتنا الصغيرة, له عقلية ريفي متزمت يرى في الأمر العسكري قداسة تشابه قداسة السماء, يطلق عليه زملائه كريم مصيبة, هذه المصيبة قد توحي فعلا لما يعيشه الرجل من تناقض رهيب بين واقع منفلت واخر ممهور بالصرامة.
شمسه كمعظم اخواتها ولدت فقيرة يتيمة تحت رعاية زوج أم مسلوب الإرادة وأم جبارة حتى باسمها جبرة أم الدجاج, التعامل مع الناس على أنهم دجاج هذه سمة الأم في السوق ولو أني في بعض تقرباتي منها وانا طفل صغيرة كنت أتحسس منها فيضا حنانويا كبيرة لم أألفه من أحد كانت تكرمني في كل مرة بعشرة فلوس وأحيانا ببيضة وأحيانا تضمني لصدرها لأحس بعض ما أفتقد.
شمسه عرفت الاضطهاد وهي قاصرة فقدت أحدى عينيها في مشاجرة نسوية برغم أنها تملك وجه جميل وجسم قصير مكتنز وبشرة بيضاء محمرة من دون شقيقاتها ,لكن روح التمرد تسكنها كأن قبيلة من الجن تسكنها, عرفتها وخشيتها في ثورتها المتعددة لكنني أحببت الجلوس معها أثناء ما تروق لها الأمور خاصة عندما يحل كريم ضيفا في أول أيام اجازته ,شفتيها البنيتين تلمعان من أثر قشرة الجوز التي تستعملها كمكياج ليوم واحد يترك أثرة لمدة أسبوع أو اكثر أحيانا ,تثرثر كثيرا عن الرجال وكرهها لهم وخاصة عندما تحل عند الحفافة لتزيل الشعر الأصفر الخيف من وجهها , كنت أرى فيها جميلة الجميلات وهي مكسوة بحمرة غير معتادة على خديها من أثر الحف, أختبئ أحيانا لأتلصلص على ساقيها الضخمتين وهي تقلع عنهما الشعر ,حدث ذلك مرة أو مرتين كنت أدرك أنها تعلم بتلصلصي لكنها لا تمانع.
جبرة أم عبد هي سيد سوق النسوان وكل من فيها كانوا ربائبها ,حريم من نوع خاص يتداولن التجارة البسيطة بلغة منفردة ومصطلحات لا يفهمها الكثير, أما الأزواج غالبا نراهم في العمل البسيط لا يعودون إلا مساءا منهكين لتلك الصرائف المبنية من حصران القصب والطين تأكلها رطوبة الارض شتاء وحر الصيف الذي لا يرحم إلا من ضل فقط, للموسم قانون وللفرح أيام لا تتعدى عن رمزيتها فقط تحل لترحل , ودولاب جبرة يدور, كنت أظن أن كيس نقودها المتدلي من صدرها والذي تخفيه احيانا تحت ثوبها الفضفاض عبارة عن كنز من ثقل الدراهم والفلاسين التي فيه .
يحرص كريم دوما على أن ينهي اجازته من الخدمة دون أن تحدث مشاجرات مع الجيران ليعود في كل مرة يسترضي الجميع ويريق ماء وجهه في وهو الذي لا يسعه إلا نصرة شمسه في كل مشاجرة يهيج كأنه الدب الثائر, أظنه كان يخاف ان يدعها تسحق تحت أيدي النساء كما هو حالها في غيابه, وإن كانت تنتقي دوما البيوت الضعيفة والمستكينة لتبرز موهبتها في ادارة الصراع.
شارعنا الذي ما رأيته يوما كبقية الشوارع في المدينة ولا رأيت عامل نظافة يدخل له, يعج بالأطفال لذين لا يهدئون من لعب ولا من صراخ ومشاجرات احيانا, كان أيضا يعج بعربات النقل وبعض الأحصنة وكثيرا من الحمير التي كانت تتخذ من الشوارع اصطبلات حرة وكلاب شرسة وأخرى نائمة نهارا لتستيقظ مساءا لتحول الشارع إلى معارك ليلية بينها وبين الوافدة أو المارة فيه من مكان أخر, بيتنا كان من ضمن مجموعة صغيرة فيه حجرتين من طابوق ومسقف بالحديد, كان الشارع قديما أرض مستنقع أشترته أم جدتي اليمانية عندما أسكنها جدي الملاح وجاء بها من اليمن السعيد في أحدى رحلاته.
جبرة وبناتها كانت تسكن منتصف الشارع طولا في صف من البيوت المتراصة بسعفها وحوائطها الطينية, كانت هناك تحالفات تنشأ وتتفكك بمجرد حدوث شجار بين أطفال العوائل لتخرج كل عائلة تدافع عن حق طفلها ظالما أو مظلوم لتنتهي الشجارات اما بتحالف جديد أو انهيار تحالف قديم ,لا صداقات دائمة ولا عداوة باقية, كانت معظم النساء هن من يعقدن الصلح أو يفرضن الشروط وعلى الرجال ان ينهوا ما بدأ (بمشية) أو ترضية علنية يقودها جدي حكيم الشارع وعاقلهم الوحيد ليصبح الجميع وكأن لا شيء حدث.
بعد خمس وعشرين مضت عدت لمدينتي القديمة على رأس وظيفة مهمة لا يمكن لأحد في المدينة أن يتجاوزني, كان سؤالي الأول عن شارعي واهله وعن شمسه بالذات ,لأجدها مع بنتيها في مكتبي بعد يومين من تسلمي الوظيفة, ليس الزمن فقط هو من تغير الكثير من الأشياء تغيرت ,شمسه أمامي ليست تلك المدرعة البشرية التي لا تهاب أحد رأيتها منكسرة فقدت زوجها كريم وأبنها في الحرب, الأن هي تحت رحمة الراتب التقاعدي ,لم يعد هناك سوق نسوان ,لقد تغيرت المدينة فعلا.
حديث كان ذي شجون طويلة تذكرت فيها أن الإنسان ليس في كل الأحيان حيوان ,ولكن النظرة الأولى تبقى ملاصقة له حتى لو تغير كل شيء ومات فينا الماضي, حتى الموظف المسئول عن مكتبي لم يمنحها فرصة الدخول, كم أنت متكبر نحن جئنا لخدمة الناس ,ولكنها...! ولكنها ممن هم في أولويات قائمتنا .
تأملت وجه فاتنتي شمسه التي كنت صغيرا أحرص كثيرا على أن اركز على وجنتيها المتوردتين ,أرى إلا التجاعيد وحدها تحكي قسوة الزمن الذي جار ومر, كانت فرحة جدا بي نادتني كما كانت تناديني سابقا ,لكنها اعتذرت ونادتني أستاذ , ضحكت لأطمئنها إني كما كنت مدللها سابقا لم أعد أراها فاتنتي إنها الخالة شمسه, زوجة الشهيد كريم لا أحد يمنعها من الدخول ولا غيرها كل النساء في مدينتي خالاتي.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟