أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - الذين عصبوا عيني (نسخة منقحة)















المزيد.....

الذين عصبوا عيني (نسخة منقحة)


رافع الصفار

الحوار المتمدن-العدد: 4242 - 2013 / 10 / 11 - 18:44
المحور: الادب والفن
    


. الذين عصبوا عيني


قصة: رافع الصفار


إذا كنتم ستسألونني كما سألني الآخرون إبتداءا بالذين عصبوا عيني وإنتهاءا بالذين رفعوا العصابة عنها، فأنا على يقين تام بأنكم لن تجدوا عندي ماتبحثون عنه.
- انتَ شنو؟
- يعني شنو آني شنو؟

كنت في العتمة، وأسمع صوته فقط.
- لك انتَ شنو؟ انتَ.. شنهو ملتك؟

كان صوته يثقب أذني كالمسمار، وذراعيَّ مقيدتان خلف ظهري.
- يعني شنو ملتك؟ انتو شتردون مني؟

عاد المسمار يحفر في رأسي.
- لك انتَ...انتَ...شنو؟ شيعي؟ سني؟ صُبِّي؟ انت شنو؟

فجأة إقتربت مني رائحة كريهة تشبه الرائحة التي أشمها عندما أذهب إلى مرحاض السوق.
- أريد أروح للمرحاض.

يصرخ أبي:
- لك متكلي شوكت تكبر وتصير رجال؟

أكرر:
- أريد أروح للمرحاض.

يقول أبي مستسلما

- يلله خلصني روح، بس لاتتأخر.

يقع المرحاض على السطح فوق أحد المحلات ويقود اليه سلم ضيق يلتف حول نفسه وينتهي بباب مخلوع. لكني لا أطيق رائحة المرحاض فأقضي حاجتي في زاوية من السطح وأنا أتطلع إلى سرب الطيور الذي يحلق في السماء الصافية الزرقاء.

_ آني أعرف السوق، واعرف دربونتنا، وهذا اللي تكول عليه ما موجود عدنا هناك.

أسمع لهاث أنفاسه على وجهي، فتتحرك معدتي. ينفجر صوته كالمنشار الكهربائي في رأسي.
- كلي انتَ آدمي لو حيوان؟

وكان أبي كلما أراد مني أن أجلب له شيئا يصرخ بي:

- لك انتَ حيوان انتبه، جيبلي المنشار..

وكلما ابتعدت عن المحل راكضا خلف حمار إحدى الجلابات المحمل بالخضار أو خلف أحد الباعة الجوالين يخترق صوته أرجاء السوق مجلجلا:

- لك حيوان وين رايح؟ تعال هنا. لتروح بعيد...

حتى صار الكل ينادونني به في السوق وفي الدربونة، ماعدا أمي التي ظلت تناديني بإسمي الحقيقي. كنت أحبها عندما تدعوني إلى الغداء، وعندما أدخل إلى المطبخ وأقول لها: آني جوعان، فتقول لي: روح اغسل ايديك وآني أصبلك. لكنها كانت تؤذيني عندما تسحبني بقوة إلى الحمام وتخلع عني ملابسي وتجلسني على التختة التي صنعتها بنفسي وتبدأ بفرك وحك يدي وقدمي بحجارة صفراء ثم تصب الماء الحار على رأسي وتملؤه بالصابون فأغص وأختنق وأنا أشهق وأبكي، لكني لم أكرهها أبدا. كنت أغضب منها، وبقيت أحبها دائما، حتى إختفت من البيت. أذكر أنني في الصباح إستيقظت على صوت بكاء، وكنت نائما في السطح، وعندما نظرت من الداير إلى داخل البيت رأيت نسوة يغطون أمي النائمة على الأرض بإزار ملون، ولم أرها بعد ذلك، وما عاد أحد يناديني بإسمي الحقيقي الذي نسيته تماما.
- كلهم لما يصيحون علي يكلولي حيوان..
- يعني انتَ اسمك حيوان، صح؟
- لع... آني جان عندي اسم..بس.. نسيته...

بدأت أشعر بثقل يتكدس فوق كتفي وخدرا يسري في ذراعي المشدودتين إلى الوراء، ورقبتي تؤلمني أيضا..
- زين انت عندك هوية؟
- هوية مال شنو؟

يعود لينفجر الصوت كالرعد في رأسي:

- لك هوية حيوان، هوية بيها اسمك واسم الخللفوك...

كنت محاصرا بالظلمة والضجيج والألم الذي راح يأكل في جسدي.

- لع آني ما عندي هاي ال.....ما اعرفها.....
- زين انت تقرا وتكتب....

إشترت لي أمي قميص وبنطلون وحذاء وحقيبة وقالت لي: ستذهب إلى المدرسة. وفي صباح أحد الأيام ألبستني الملابس الجديدة وسارت معي حتى مدخل بناية كبيرة تكتظ ساحتها بالأولاد. لكنني لم أحب المدرسة. كرهتها منذ اليوم الأول، وكرهت ذلك المعلم الطويل الذي يحمل بيده عصا، وطلب مني أن أفتح يدي وراح يضربني بعنف على راحتي كفي. قلت لأمي لن أذهب إلى المدرسة. أنا أكره المدرسة، وأكره المعلم الطويل الذي يتبختر دائما في الساحة حاملا عصاه التي أكرهها أيضا، وأكره الأولاد الذين كانوا يتجمعون حولي ويسحبون مني حقيبتي فتسقط على الأرض ويخرجون ألسنتهم ويطلقون أصواتا غريبة ثم يفرون وهم يضحكون.

سارت بي أمي ثانية إلى المدرسة وتحدثت مع المعلم الطويل الذي كان صارما معها وكان على وشك أن يضربها بالعصا هي أيضا وقال لها:

- ابنج ما منه فايدة. متصيرله جاره.

وطوال الطريق إلى البيت ظلت أمي تبكي وتمسح الدموع المنهمرة على خديها بشيلتها السوداء وتطلق الدعوات المتواصلة على المعلم الطويل وعلى عصاه التي أوجعتني كثيرا عندما كان يضربني بها.
- اخْذوني لمحو الأمية، وبعدين ورا جم يوم كالولي لتجي بعد.

وأسمع صوتا آخر ينبعث من العتمة التي تصر على محاصرتي، وما كان يأتيني منها سوى الضجيج والأنفاس والروائح العفنة.
- ماكو فايدة. جيبته من الأول غلط.
- لا تستعجل... لا تستعجل.....

وتضرب وجهي لفحة عفونة.
- كلي انتَ عندك بيت؟

ظهرتْ بعد فترة قصيرة من إختفاء أمي. إمرأة شرسة، تكره وجودي في أي مكان من البيت، وتنهرني بصوتها الغليظ كلما وقع بصرها علي، فكرهتها، وكرهت البيت وكرهت حياتي عندما أكون معها. حتى أبي ساءت طباعه معي وصار يشتمني كلما دنوت منه أو حاولت أن أطلب شيئا. وفي يوم خرج ليقضي حاجته ولم يعد. وجدوه محشورا في المرحاض فاغرَ الفم جاحظ العينين يحدق في السقف المليء بخيوط العنكبوت.

قالت لي المرأة الشرسة:
- لا أريد أن أرى وجهك.

طردتني من البيت، فلم أجد مكانا آوي إليه غير الخرابة، التي كانت بيتا مهجورا مخلَّع الأبواب والشبابيك لا ماء ولا كهرباء فيه.

- جان عدنا بيت، بس هسه لع. أنام وين ما جان بالخرابة، بالكهوة، بالجامع...

وفي السوق جاء فتى طويل القامة عريض الصدر مفتول الشاربين ليحتل المحل الذي عرفت طريقي إليه صباح كل اليوم منذ أن قرر أبي ورضخت أمي بأن المدرسة لن تنفعني في شيء، وأبقى فيه أو قريبا منه كي أنفذ الطلبات والأوامر حتى نعود إلى البيت عند المساء. قال لي الفتى:

- إذهب حيث تريد ولكني لا أريد أن أراك في المحل.

قال لي صاحب المقهى عندما رآني واقفا عند الباب لا أعرف لي هدفا محددا:
- لا تظل واقف، تحرك اجمع البوش.

وكنت سعيدا لأنه أخرجني سريعا من عتمة الفراغ الذي سقطت فيه.

- يمعودين تر بديت أختنق من الظلمة....

سمعت حركة أقدام بعيدة، وجلبة أصوات. سأل أحدهم، ولم يكن بعيدا عني.
- شكو؟

عادة في مثل هذا الوقت من الليل لا أعود أرى أحدا في السوق، بعد أن تخلو المقهى من آخر الزبائن، ويطفئ الأسطة عباس التلفزيون والبريمز ويلقي علي قائمة التوجيهات والوصايا اليومية والتي صرت أحفظها عن ظهر قلب حتى أن الأسطة يصدمني أحيانا عندما يقدم ويؤخر في تسلسلها، ويتركني كي أغسل المقهى بالماء والصابون وأمسح الطاولات وأنظف الإستكانات والفناجين وأدوات صنع الشاي والقهوة وأملأ الخزانات بماء للشرب، ثم أغسل وجهي ويدي ورجلي وأسحب الكبنك إلى أسفل وأغلقه من الداخل، بعدها أختار لي قنفة أنام عليها.

لكني في تلك الليلة، وقبل أن أنتهي من التنظيف فوجئت برجلين ملثمين يدخلان إلى المقهى.
- ماعدنا شي عزلنا.

لكنهما لم يكترثا لكلامي. أحدهما ظل واقفا عند الباب بينما توجه الآخر نحوي، وكنت منشغلا بتنظيف إحدى الطاولات بقطعة قماش مبللة. وضع كفه في ظهري ودفعني بقوة إلى سطح الطاولة، فإرتطم أنفي بالحافة.
- آآآآآآآآخ...لك ليش.. شتريد؟

رأيت الدم يسقط من أنفي على الأرض، وشعرت بأضلعي تتكسر، وأكتافي تنخلع وهو يشد ذراعيَّ خلف ظهري.
- شنو..شكو..ليش...آآآآآآآآآآآآآآآخ......

وسحبني بقوة إليه. ثم سقط شيء ثقيل كأنه صخرة على أم رأسي، وجاءت الظلمة. إرتفعت جلبة الأصوات، وتعالت صرخات متشنجة، لم تكن قريبة مني، لكني كنت أسمعها بوضوح:

- الشرطة.....
- الشرطة والمسلحات بكل مكان.....
- لا تطلع برة.....إرجع لِوَرا.....
- أركض ولك.....شيل سلاحك......

وإبتعدت الرائحة العفنة. كنت أسمع بعضهم يركضون، ويشتمون.
- لك وين البي كي سي؟
- بالسطح....
- لا تظل واقف كبالي..تحرك..اصعد لفوق..يلله بسرعة...

بعدها سمعت صوت إطلاق رصاص، وكان متقطعا، ثم راح يشتد ويطوقني، فحشرت نفسي داخل جسدي المتشنج وبقيت أنتظر. صياح، صرخات صارمة، وأقدام ثقيلة تقتحم المكان......

عندما رفع العصابة عن عيني وبدأ النور يعود إليها وبدأت أتعرف إلى هيئته وكانت رأسه مختفية تحت خوذة غريبة الشكل ويحمل بيده رشاشا بادر إلى سؤالي:
- انتَ شنو؟

رحت أبحلق في وجهه، ورأسي ما تزال تدور.
- آني كلشي. آني أشتغل وآكل وأنام بالكهوة...وأسطة عباس يعرفني... يعرف كلشي عني...

ربت على كتفي وهو يرسم على وجهه إبتسامة عريضة، فأحسست عندها بالهدوء والأمان.


أبوظبي 3. 9. 2006



#رافع_الصفار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صفحات من -جامع كوابيس الأحلام (رواية قيد الانجاز)
- رشوة
- إنتفاضة
- العراق بعيون أجاثا كريستي - 3
- العراق بعيون اجاثا كريستي - 2
- العراق بعيون أجاثا كريستي - 1
- عندما تصطادني الكلمات - 6
- عندما تصطادني الكلمات - 5
- عندما تصطادني الكلمات - 4
- عندما تصطادني الكلمات - 3
- عندما تصطادني الكلمات - 2
- عندما تصطادني الكلمات
- حالة تمرد


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - الذين عصبوا عيني (نسخة منقحة)