أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الخليل - زمنٌ ولَّى،زمنٌ هُجِر.















المزيد.....

زمنٌ ولَّى،زمنٌ هُجِر.


عماد الخليل

الحوار المتمدن-العدد: 4242 - 2013 / 10 / 11 - 00:32
المحور: الادب والفن
    


1
في غفلة من الحياة،و رتابة أيامها سرقا لحظة جمعتهما ،بعد فراق طويل ،في بيت واحد يقيمان فيه منذ وقت غير يسير ؟! اختلساها ظناً أنها ستكون عطاءً متبادلاً،حاولت أن تتذكر متى كان آخر لقاء حميمي بينهما..لكن عبثاً،نسيتْ أنه أخذها من المطبخ وذهب بها إلى المكتبة حيث قضيا أجمل الأوقات بين الكتب والأوراق المتناثرة،كانت ليلة ممطرة وباردة وصوت فيروز يجلجل في زوايا البيت...
يا لها من ليلة !؟ قال بصوت تلفه نبرة الحسرة،تساءلت هي عن الذي تسلل إلى علاقتهما وجعلها فاترة،هما اللذان مرَّ على زواجهما أربعين يوما بالتحديد ؛لا أدري ،وبعدَ هذا الذي قيل، أسرقا لحظةً أم استرجعا ذكرى ؟
عبرت هذه التخيلات وأسئلتها وهما في بداية الممارسة،سمها كما شئتَ إلا أن يكون ما يفعلانه الآن " ممارسة للحب "،لطالما اشتكت له من خلو اللغة العربية من مقابلات لجمل وعبارات في لغات أخرى متعلقة بالحب و ممارسته،ويا ما تساءلت عن السر وراء احتكار الفقهاء الحديث عن الجنس وآدابه بعد تجريده من الشيء الذي يُكون تتويجا له،ليصير حديثهم حديثا فيما يجوز ولا يجوز بين اثنين يجمعهما سقف واحد،يفاجئها هو،قبل أن تكمل حديثها،بقبلة على خدها الأيسر فقلبها ثم يقترب من ثغرها فكانت تجزم _ كل مرة إلا هذه الأخيرة _ بأنه سيمطرها بأبيات عن الحب من شعرنا القديم ويلقي قصائد من أشعار الـمُحدثين،لأنها واثقة من أنه لا يدخل معركة دون أن يقوم بطقوسها الخاصة ويخلق مناخها،فقد صارت تحفظ لازمته التي يكررها " لا نتيجة منطقية دون مقدمات متسقة لا تناقض بينها ".
تواصل لعبة التذكر،ويؤلمها أنها لم تستطع،وهي على السرير،التكهن بأفعاله،فحين اقترب من شفتيها لم يقل شيئاً حملق فيهما طويلاً_ وتصرخ هي في داخلها " تقدم وازحف فلا كمين يوجد غيرَ باقة من الياسمين تحمل إمضاءً على شكل قبلة مطبوعة بأحمر الشفاه " _ وبحركة سريعة يجعلها فوقه،يعرف منطقها وطريقة تفكيرها، ففي مواقف كثيرة صرَّح لها بأن ما بينهما ليس معركة وإن اعتبرته كذلك فهي المنتصرة في كل ميادينها،فمعها تخلى عن منطقه الجدلي ونظرته المانوية للأشياء.
انتهت اللحظة ولم تُنهِ معها سيل الذكريات الجارف،كانت بضع دقائق مسروقة كافية لإثارة أسئلة مصيرية ومحددة لمسار هذه العلاقة.
بين كماشتين : إما أن يضحي أحدهما حتى تستمر هذه العلاقة أو ينهياها قبل فواتِ الأوان،هكذا قال وهذي خلاصته وهو يهم باقبيل جبينها،بينما هيَ تأكدت أن الفتور يطبع العلاقة بين أي شريكين في فترة من الفترات غير أنه لا يفسدها، ما فعلناه الآن سأسميه أي شيء إلا أننا " مارسنا الحب " .
2
أعترف ، سيدتي ، بأن حضنك يشهد ميلاديَ " الثاني "،أسمو وإياكِ عن الجراح...
لا تفتعل معارك وهمية، قاطعته ، فحضني ليس ساحة للحرب وليس بديلاً عن ميادين القتال الواقعية،استشهادك يكون دفاعا عن حق مسلوب لا في سبيل حضن مسبق الدفع.
تلعثم،حاول الكلام،لكنها واصلت :
كلامك المعسول،ولَّى زمنه،دعك من استحضار فقرة لهذا الكاتب،وجملة من كتاب ألفته سيدة على مكتبها المطل على البحر،تحكي فيها عن الدعارة في أمة صنعت الحضارة؛يا سيدي تُراكَ _ في ظني _ مؤمن بما قاله " ماركس " وحقيقة أن " لينين " أعاد كلامه إلى سياقه الأصلي...
حاول أن يقاطعها،ليشرح لها ، لكنها أشارت له أن يصمت،تابعت بصوت خافت :
لا أريد يا " رفيق " أن أدخل _ معك _ في نقاش حول موقعها في الفكر المعاصر أو علميتها....تلك أمور، الزمن كفيل بإبراز ملحاحية إعادة قراءتها على ضوء الواقع المعاش،وبناءً عليه استصلاح ما خلفه الفهم المبتذل ، من غموض والتباس؛ يا " رفيق " جِدة هذا الفكر لا تكمن في الأطروحة الحادية عشر حول " فيورباخ " أو إكتشاف محرك للتاريخ،جدته في كونه يبدع رجالا ونساء قادرين على تحديد الحَلَقَة الأساس التي ترتبط بها باقي حلقات السلسة ( القلادة )،إنها أساسا إدراك الأهم والمهم في " منزلة الأوان ".
رَمَتْ بورقة نقدية ( من فئة مئتا درهم ) على منضدة صغيرة،أشارت له أن يأخذها وينصرف،وهي تطل من نافذتها على الشارع قُبالتها،كانت ترى العديد من المتسولين والمشردين،لا يخالجها شك في أن بعضاً من رفاقها كان هذا مآلهم،سنوات من السجن والتعذيب،تضحيات جسام....إنه لأمر جللٌ أن يدير،من تحمل همومهم وآلامهم، ظهورهم لكَ بعد أن أديت الثمن وكم كان باهظاً ؟!
تأوهت ،واتجهت إلى الطاولة حيث قنينة الخمر، صبت لها كأساً،وهي تعيد كلمات رفيقتها بأن النظام السياسي القائم لم _ ولن _ يستطيع قتلنا أو إسكات أصواتنا،لكننا نحن من سنميتُ أنفسنا،سنقتل إرادة الحياة فينا،إنه لأهْوَنُ عليَّ أن يغتالني الجلاد،على أن تكون الخمرة والذكرى مدار حياتي،الفراغ القاتل هو عدو المستقبل؛فكان لها ما أرادت،قضت نحبها إبان الإضرابات الطعامية الطويلة في السجون،تحسدها وتمنت لو كانت معها.
إنها امرأة سليطة اللسان،من تظن نفسها روزا أم كروبسكايا أم سعيدة ؟! تساءل متذمراً بصوت عالٍ ،وهو يشق طريقه نحو المنزل،أضاف : ما زال في جعبتها الكثير...كل ما أعرفه،هي أنها امرأة ليست ككل النساء.
3
مضى في الطريق،يجرُّ وراءه سنيناً من الخيبة والانكسارات،ما كان له_وهو طفل صغير _ أن يفترض أنه بعد التقدم في السن سيصير إلى ما صار إليه : نملة تحلم بتخليص البشرية من الشرور،هو الذي كان يحلم في صباه بأن يصبح عسكريا يدافع عن تراب الوطن وحدوده أو شرطيا يبعد الأشرار عن أهل قريته ويفصل بينهم،في خصوماتهم،بحكم قيمة ورمزية بذلته.
__ أحسست في فترة ما من حياتي،بأنه عليَّ التخلي عن بعض قناعاتي ومبادئي،طوقتني هذه الفكرة من كل الجوانب،حاصرتني بشكل غريب؛عندما فاتحتُ رفاقي بالأمر كان مبرري أن حالتي النفسي منهارة،وفي حالة ما استجد أمر ما فسأسقط على الفور،لا أريد أن يكون لانهياري هذا أي عواقب على العمل الذي استلزم سنوات من الجد والمثابرة والسرية التامة.
__ أظنهم تفهمو حالتك،ولو أنهم في وضع لا يسمح بذلك،فقد غلبت عليهم الأواصر المتينة في علاقتكم الرفاقية والعشرة التي دامت سنوات طوال.
__لكن علاقتنا هاته يحطمها معول الخيانة،واكتوينا به كثيراً، لهذا لم أتلق جوابا واضحاًً،سكت البعض وآخرون حاولو دفعي للعدول عن قراري،لكن ذاك الرفيق،قال بأني أصبحت فاقدا للواقعية في التحليل والعمل الموكول إليَّ،وإنه ينتظر متى سأجن،ربَّتَ على كتفي،وتابع :
__ أشكرك على هذا المجهود الشاق الذي بذلته كي تقول لنا هذا،أعرف أنه أمر في غاية الصعوبة إذ اعتقادك بأنك جُننت أو على حافة الحمق يَشلُّ قدرتك على التفكير،ويُغيِّب الواقع عن ذهنك وتفكيرك.أيها الرفاق،هذا الرفيق أقرب إلى الجنون،عسى أن يجد من يساعده بعد رحيلنا،هذا هو الميتَّمُ الوحيد الذي سنتركه خلفنا.
__ هذا ما قاله فقط أم أضاف شيئا آخر ؟
__ علمتُ،فيما بعد،أنه أقنعهم بأنه ليس هناك أي داعٍ لاتخاذ قرار ضدي،ويلتزمو بمراقبة من أجلس معهم والأمكنة التي أذهب إليها وأوصاهم بزيارتي بين الفينة والأخرى.الغريب أنه جاء،لا أتذكر متى كان هذا ، إلى بيتي وأخذني بالقوة،ليلقيَ بي في مستشفى للمجانين.
انتابته نوبة من البكاء الحاد استمرت ساعات نام بعدها،فقد دخل عليه صديقه ،الذي ذهب ليأتيَ بمزيد من المسكرات بعد نفاذها لإكمال جلستهما الخمرية،فوجده يتحدث بصوت عالٍ ويجوب الغرفة ذهابا وإيابا؛فأهفهمه بأنه لا أحد يوجد غيرَهما،صرخ في وجهه بأنه أحمق ومجنون سيأتي الطبيب قريباً ليأخذه إلى مستشفى المجانين،فراح يبكي بلا توقف يكتمه حينا ويطلق عنانه تارة أخرى،ظل على هذه الحال إلى أن نام.
أفاق من النوم وَرجوعَ صديقه من عمله،أخبره بما جرى ككل ليلة،منذ أن اقتسما مبلغ كراءِ غرفة على السطح،ضحكا كثيراً تناولا وجبة الفطور/العشاء،استأذن صديقه ليخرج قليلا إلى البحرِ،وعلى محياه ابتسامة عريضة كمن أدرك للتو أنه وقع في الحبِّ وهو في لهفة ليخبرها بأنه يَهيمُ بها.
__ لا تنس أن تُخبرها بأن تعطيَكَ مالاً،فصاحب الغرفة يريد ماله بعد غدٍ،أريد أن أقول لكَ شيئا وأخشى من غضبك ؟!.
__ لن أسمح لك بأن تصفها بهذا الوصف القبيح،وإن تكلمتَ عنها بسوء فأقسم لك أني سأكسر محتويات الغرفة.
تركه حتى نزل من السلالم،وصرخ بأعلى صوته :
__ ستبقى في الواقع عاهرة تبيع جسدها مقابل من يدفع،مهما كانت ، في عينيك ، ملاكاً.
استمر في نزول السلالم،وهو يردد في نفسه،كيف سنصف امرأة أوقفت نفسها لمن دفع روحه في سبيل شعب بنسائه ورجاله باستثناءها هيَ ،ومن قاربت الأربعين بدون والد،زوج وما ولد،ولا تزال تُعلِّقُ سعادتها بسعادة من أخذو منها رفيق روحها،توأمها؛من قدمت الغالي والنفيس لأَجل تحقق الحلم،حلمهما الذي تراءى لهم في أعين كل الناس....هي ملاكٌ،وإن كنت غير مؤمن بوجودها،لكن الذي تحس بنظرة منه،إليك،بأنه قادر على فعل المستحيل لإسعادك وإبقاءك مبتسماً على الدوام...لن أسميه غير ملاك،وبلا منازع استحقت أن تكون ملاكنا الحارس،وهي ملاكي.
بصوتٍ عالٍ قال كلماته الأخيرة،هرول إلى كرسي أمامه،وقف عليه وصرخ : هي ملاكي الحارس.
وقف بعض المارة لمشاهدته والتفرج عليه،ثم ذهب كل إلى حال سبيله،بعد أن نزل من على الكرسي وواصل طريقه،يردد _ باكيا _ جملته الأخيرة.
كانت تنتظره في المكان المألوف،ما إن بدا لها آتياً حتى قامت،حيَّا كل واحد منهما الآخر،جلسا وبدأ يسألها كيف حال الرفاق،أمَا زالو صامدين،هذه ضريبة دربنا الذي خضناه،لا يهم فنحن على قناعة تامة بمآلاته وعواقبه،السجن،أعوامٌ من حريتنا هذا أهون ما نقدمه في سبيل شعبنا والشعوب التواقة للتحرر؛لم تخبريني،أيتها الرفيقة، عن حال الرفيقات المضربات عن الطعام منذ خمسٍ وأربعين يوماً ؟ أتوقفت سعيدة عن كتابة الشعر،لا أظنها تفعل ذلك عزيمتها قوية،أخبرتها في أحد الأيام أنها لن تتوقف عن الكتابة،وإن لزم الأمر أن تكتبه بدمها،هذا كان رهاني معها.
أجهشت بالبكاء،حاول أن يتدارك الأمر،وقال بأنه تحدث في ليلة أمس مع أحد الرفاق،وأخبره أنهم سيشرعون في بناء التنظيم من جديد،لهذا لا تبكِ فهذه البداية وحسبُ.واصلت هي البكاء،إنها تنتحب،لم يجد سبيلا سوى الإنخراط،معها،في نوبة البكاء والبكاء،وهدير الموج يُسمع من حين لآخر.
4
كان يوما غير عادي من أيام ماي في العام الأربعين بعد الهجرة،يستعد الشاب لحضور ندوة قيل عنها أنها فكرية،ستقام في إحدى الفنادق الفخمة،حصل على الدعوة بعد جهد شاق؛ما كان له ليفوتها هو الذي يوصف بالمشاكس والمدافع عن الآراء المتطرفة يعلنها بمناسبة أو بدونها،لكن في الأيام الماضية شعر بالإحباط ودب فيه اليأس لأنه دائما _ مع بعض رفاقه _ يكون الكل ضده أو ضد الكل،فكانو يسخرون منه فينعتونه بالجمود العقائدي تارة،بعبادة النصوص والتطرف تارة أخرى،فعزف مؤخرا عن حضور العديد من اللقاءات والمحاضرات،غير أن هذا الحدث متميز عما سبقه،فسيشهد حضور أبرز مثقف في البلد،سيتكلم عن رأيه في نظام الحكم والشأن السياسي والثقافي،بعد صيام عن الكلام _في هذه الأمور_ منذ ثلاثين سنة،فور خروجه من السجن،قيل أنه تمتع بعفو خاص،بعد اعتقاله مع مجموعته بتهم تتعلق بمحاولة قلب نظام الحكم،أُفرج عنه ووزعت قرون من السجن على رفاقه...منهم من لم يصل إلى زنزانته أبداً.
كيف لا يحضر ؟ وقد سمع عنه الكثير،أغلبها ربما يكون شائعات هذا ما يظنه،لكنَّ " ملاكهم " لا تذكره إلا نادراً،والمحاربون القدامى يتفادون ذكره ؛سمع _ اثنين منهم _ يتحدثان عن كونه هو من أفشى أسرارهم ومخططاتهم واعترف عليهم مقابل الإفراج عنه وعودته للتدريس في الجامعة ؟
دخل الفندق بعد حواجز تفتيش كثيرة،يقول في سره _ وهو داخل إلى القاعة _ بأنه لولا الثياب التي استعارها من صديق،لما سمح له بالدخول.
جلس في مقعد قريب من المنصة،بعد دقائق كانت القاعة قد امتلأت عن آخرها،وصل الجمهور ولم يصل المحاضرون بعد،فقد تأخرو عن الموعد المعلن عنه لبداية هذه الأمسية أكثر من أربعين دقائق ولم يكن لاعتذار الهيئة المنظمة عن تأخر الضيف،الذي أرجعوه لزحمة السير،أن يمنع عنهم وابلا من الشتائم واللعن.
هاهو ضيفنا يدخل متوجها إلى المنصة ملوحا بكلتا يديه إلى الجمهور،الذي لم يتعب من التصفيق والصراخ لدقائق.
كال المتحدث،باسم المؤسسة التي نظمت هذا اللقاء التي تدعمها الدولة بأموال طائلة كل سنة لتنظيم مثل هذه اللقاءات،للضيف من المديح ما لم تقله الشيعة في عليِّ أو جماعة معاوية وخلفاءها في ابن تيمية،فقد أصبح اليوم،وبقدرة قادر كذوب،صاحب فكرة تأسيس منظمة سياسية غيرت وجه المغرب،وعضواً مؤسسا لتيار سياسي مشاكس في أواخر الستينات،اعتقل مراراً ومدافع لا يشق له غبار عن حقوق الإنسان،هذه مناقب من أوراق سيرته السياسية والنضالية،أما الفكرية فقد تنقل في سوق الفكر من القومية العربية،إلى الإشتراكية والشيوعية وهو اليوم يقول عن نفسه أنه من الديموقراطيين،طغت على كتاباته الأولى الوجودية،ثم انتقل إلى البنيوية،وطبقها على بعض الكتابات التراثية،وتأثر بفوكو وتميزت أعماله الأخيرة بتقويض أسس الفكر الماركسي ومراجعة شاملة لهذه النظرية،جدير بالذكر_يتابع المتحدث _ أنه من عائلة فقيرة من إحدى القرى،كان عصامياً شق طريقه لوحده وبدون مساعدة من أحد ليكون ما صار عليه اليوم : مفكرا فذاً ومثقفا ملتزماً قل أن تجد له نظيراً،وقد خصنا اليوم بأن نكون نحن من ينشر له ثلاث أعمال روائية ( هي قيد الطبع) ودراسة أدبية حول أدبنا العربي المعاصر.
لم يكد يسكت حتى وقف الجميع مصفقا والصراخ يملأُ المكان،خُيل إليَّ أن إعلان الدولة الفلسطينية لم يُقابل بهذا الهتاف،أو أن مُلهم الشعوب غيفارا لو سمح له بالبقاء هنا مدة أسبوع ما قابلته هذه الحشود الغفيرة،إنها فقط تتأثر بما تسمع دون أن تسأل.
يعرف معاصروه،معاصرو مثقفنا،أنه ما كان صاحب فكرة أو عضواً مؤسسا قط،ولم يكن كاتبا مبدعا بقدر ما كان نسَّابا،ينسب أفكار غيره إليه،ما كان ماركسيا إلا لأنها كانت وسيلة ومطية للتسلق الطبقي،ولولا علاقاته النافذة ما كان ليكون اليوم على ما هو عليه.
يعرف المقربون منه _ رفاقه القدامى _ كل هذا وغيرَ هذا،يعلمون أن عائلته كانت من كبريات العائلات الإقطاعية،تملك رقاب مئات الأسر من صغار الفلاحين،كانت مقيما في ڤ-;---;--يلا ، أيام دراسته بالثانوية، لوحده مع خدم يقوم على خدمته،وحتى بعد إكتشاف والده تبنيه للماركسية،بقي حريصاً على إرسال المال إليه.
كل هذه التفاصيل التي تقيم صورة مغايرة لتلك التي تسود اليوم،وإن كان ما يعرفه معاصروه ويعلمه رفاقه القدامى صحيحا،هل سيغير هذا الأمر في الواقع ؟!
حيَّى الجمهورَ وشكره على هذا الترحيب الحار،وأنه كان مشتاقاً للعودة إلى هذه المدينة،فله فيها ذكريات عديدة،واصل بصوت خافت :
__ هنا تعرفتُ على رفيقة عمري،وأصدقائي بعضهم قضى في الأحداث المأساوية التي عرفتها البلد،ومازال منهم آخرون على قيد الحياة وكل منهم شق طريقا لنفسه.هنا أيضاً بدأ مساري الفكري،حيث ترجمتُ مقالة لسارتر بعنوان " الوجودية نزعة إنسانية " وفصولا مختلفة من الماركسية،ندمت فيما بعد على بعض هذه الترجمات،لعل " المادية الجدلية والمادية التاريخية " واحد منها،كما أنني أعترف بأني أخطأت عندما استبد بي الظن أنه ليس بالإمكان تشييد نظام جديد عادل إلا بإزاحة النظام الحالي عن طريق العنف،لكن عندما أعود بالذاكرة إلى هذه المرحلة،التي ساد فيها الفكر الماركسي والإشتراكي بعد انتصار الشيوعيين في روسيا والصين،في آسيا وأمريكا اللاتينية وصولاً إلى بعض الأقطار الإفريقية،وأيضا انتفاضة 68 الطلابية في فرنسا وقبلها الثورة الثقافية في الصين؛أمسى أنه لابد من تبني هذه الأفكار لكي يتم التحرر،وبلدنا الحبيبة لم تكن استثناءً وقبل مواصلة حديثي،لي ملاحظتين :
1_ بعد هذه المدة الطويلة _ أربعون سنة _ التي تفصلنا عن تلك المرحلة من تاريخنا،بإمكاني القول _ متجردا من الإيديولوجيا والذاتية_ وبموضوعية بأن تلك المرحلة طبعها طيش الشباب وشغبهم وركضهم وراء أحلام من المستحيل تحقيقها،وكنا سندفع الثمن باهظا لو تمكن هؤلاء من مسك الحكم.
2 _ أقدر التضحيات التي قدمها شعبنا في سبيل بناء دولة المؤسسات،لكن يلزم النظر إلى الأمور من زاوية أخرى،فهؤلاء اليساريون _ اليسار الماركسي خصوصاً _ تطاول على ثوابت راسخة منذ أمد بعيد،جاعلا من العنف الطريق الوحيد للتغيير،فكيف نريد من القائمين بأمور الدولة آنذاك التعامل معهم،أتستقبلهم بأكاليل الورود والأحضان ؟! بالطبع لاَ .
قد يقول البعض بأن الفقر والأمية والفساد المتفشي في أجهزة الدولة،والاستفراد بالحكم وقمع المعارضين كلها مبررات دفعت بهم إلى هذا الطريق،لم يكن لهم خيار آخر؛هذا الكلام مردود عليهم أنستبدل حكما " ديكتاتوريا "،وأضعه بين شولتين لأنني لا أوافق على هذا التوصيف لأنه منافٍ للواقع،بحكم استبدادي آخر...
خرج وهو يدرك أن مثقف"نا"،تحول إلى أديب السلطان،يا ترى ما هو المقابل ؟
نفض يده من هؤلاء المتاجرين بالفكر والثقافة.
خرج لا يعرف أين سيذهب،لجأ إليها،فنسيان الآلام،ولو مؤقتا،لا يكون إلا بين أحضانها.



#عماد_الخليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الخليل - زمنٌ ولَّى،زمنٌ هُجِر.