أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جواد بشارة - مفردات الكون المرئي الجوهرية: الصدفة أم الضرورة، الشواش والعماء أم العدم، التمدد والانكماش أم التوسع إلى ما لانهاية؟















المزيد.....



مفردات الكون المرئي الجوهرية: الصدفة أم الضرورة، الشواش والعماء أم العدم، التمدد والانكماش أم التوسع إلى ما لانهاية؟


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 4241 - 2013 / 10 / 10 - 22:21
المحور: الطب , والعلوم
    


مفردات الكون المرئي الجوهرية: الصدفة أم الضرورة، الشواش والعماء أم العدم، التمدد والانكماش أم التوسع إلى ما لانهاية؟
د جواد بشارة
في البدء كان اللاشيء والفراغ؟ وهل هناك فراغ حقاً وهل هناك وجود حقيقي للاشيء؟

تكنولوجيا البشر تسبر أغوار الكون

عندما كان البشر الأوائل ينظرون الى قبة السماء يصابون بالذعر والدهشة في آن واحد، فهناك في السماء العالية تسكن الآلهة المحاطة بالنجوم، تحصي أنفاس البشر وأفعالهم وتتوعدهم بالويل والثبور. ثم جاء الفلاسفة ليقدموا اللبنات الأولى للنظرة العقلانية للوجود لكنهم لم يكتشفوا قوانين الطبيعة بعد. هناك نظام رائع وبديع ومعقد وغاية في الانتظام والتنظيم والدقة كما يبدو لناظر الانسان لكنه غامض ومليء بالأسرار والألغاز، وبفضل قوانين، كانت خفية على البشر، استطاعت الطبيعة أن تخلق التركيبة المذهلة لتنوعات العالم، والتي كان القدماء يعزوها لفعل رباني مطلق ولا محدود القدرة. مر وقت طويل قبل أن تخرج قوانين الطبيعة الى العلن وتعلن عن نفسها، بعد أن انتبه الحكماء والفلاسفة والعلماء القدماء الى تكرار بعض الظواهر الطبيعية وانتظام تعاقب الليل والنهار وتعاقب الفصول وعزوها الى عالم الأرواح الذي يقف وراء هذا التناغم، فلكل شيء روح تحركه. بعض الفلاسفة كأرسطو على سبيل المثال، حاول تفسير العلة والسبب أي الإجابة عن لماذا ولم يركز على الكيفية، أي كيف تحدث الأشياء والظواهر كسقوط المطر مثلاً. وعندما ظهرت الأديان، لا سيما السماوية منها، أرجعوا كل شيء الى إرادة الكائن الأعظم وغدت الطبيعة مجال يحكمه الإله بمجموعة من القوانين، فكان العالم الألماني يوهان كبلر Johannes Kepler يبحث عن كمال الله من خلال عظمة خلقه ودقة تنظيمه عندما كان يدرس حركات الكواكب ودورانها، وكان العالم الإنجليزي إسحق نيوتن Issac Newton يعتقد أن الكون ليس إلا آلة هائلة ومحكمة بدقة متناهية من قبل إله مهندس عقلاني، أي أن الله في نظره، كان هو الضمان لكل عقلانية الطبيعة، وهي العقلانية التي تتيح للعقل البشري، الذي هو بدوره هبة إلهية، إمكانية فهم العالم. بينما أدخل غاليلو غاليله Galilée المنهجية العلمية مؤكداً أن العلم يهدف الى البحث عن العلاقات الكمية بين الظواهر الفيزيائية التي تبدو منفصلة عن بعضها البعض على أن يبنى هذا البحث على المراقبة والمشاهدة والرصد والتجربة. وإن الله خلق الكون الساعة بعد أن أحكمه بدقة وتركه يعمل لوحده بصورة دائمة، وابتعد الله رويداً رويداً عن ساحة التفكير العلمي تاركاً العقل يفكر ويعمل في الصدارة مخلفاً وراءه مبدأ الإيمان والاعتقاد الديني، الى أن تحول الله الى مجرد فرضية زائدة في رأي العالم الفرنسي الماركيز بيير سيمون دي لابلاس le marquis Pierre Simon de Laplace في كتابه الميكانيك السماوي La mécanique céleste الذي أهداه إلى نابليون وسأله هذا الأخير أين المهندس الأكبر، أي الله، في هذا النظام البديع؟ أجابه لابلاس:" ياسيدي إنه فرضية لا حاجة بي إليها في نظامي. وهكذا ابتعد الله شيئاً فشيئاً قبل أن يعلن موته الفيلسوف المتشائم نيتشه. انطلق العلماء مبتعدين عن القيود والإملاءات الثيولوجية الكنسية أو الدينية في بحثهم عن شكل الكون وحجمه وتاريخه وجغرافيته، أصله ومصيره، هيكليته وهندسته، وكان على رأس هؤلاء آلبرت آينشتين Albert Einstein وماكس بلانك Max Planck، الأول صاحب نظرية النسبية الخاصة والعامة، والثاني واضع أسس نظرية الكموم أو الكوانتا. الأول يبحث في اللامتناهي في الكبر، في الكواكب والنجوم والمجرات، والثاني في اللامتناهي في الصغر، في الذرات والروتونات والالكترونات والنيوترونات والكواركات وما دونها.
ما تحت وما فوق:
عندما نقول اللامتناهي في الصغر فهذا يعني أننا ملزمون بالحديث أولاً عن العلم الذي يتعامل مع هذا المفهوم، وهو فيزياء الكوانتا أو ميكانيكا الكم physique ou mécanique quantique، وهناك قلة من العلماء من تفهموا في بدايات القرن الماضي أسرار هذا العلم وما يترتب عليها من تغيرات في الرؤية العلمية للكون والمادة والطاقة وإعادة النظر في المسلمات العلمية السائدة.
فيزياء الكموم أو الكوانتا هي بلا شك أحد أكبر المغامرات العلمية للقرن العشرين. وبالتالي ينبغي الكشف عن أصولها وجذورها وأسرارها وما يعتليها من غموض وصعوبات مفاهيمية، أي الأسس والتجارب والتطبيقات المرتبطة بهذه النظرية.
تحتوي الأسس العلمية لفيزياء الكوانتا أو الكموم، على الأساسيات من الخيارات المفيدة في فهم واستيعاب المباديء الكوانتية أو الكمومية الرئيسية حسب تسلسل ظهورها التاريخي والزماني. وعلينا أولا أن نضع فيزياء الكموم أو الكونتا في سياق الامتداد المكمل للفيزياء الكلاسيكية كونها جاءت لتجيب على تساؤلات ومسائل لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية حلها أو تفسيرها. إن مفهوم الكمومية ثوري بطبيعته ولقد أدخل إلى عالم الفيزياء بمختلف الأشكال. ولابد من الحديث عن العلماء الذي وسموا بأعمالهم ومساهماتهم العلمية فيزياء الكموم أو الكوانتا وتركوا بصماتهم وكونوا جيل الرواد، كماكس بلانك والبيرت آينشتين ونيلز بور ولوي دي بروجلي وغيرهم. Max Planck،Albert Einstein،Niels Bohr،Louis de Broglie، وبعد هؤلاء الآباء المؤسسين لهذا الصرح العلمي، يأتي جيل من العلماء والفيزيائيين الموهوبين جداً الذين وضعوا القاعدة الرياضياتية الشكلانية المتينة اللازمة للأبحاث العلمية اللاحقة في هذا الميدان. وقدموا إضافات مذهلة مثل مبدأ الاستبعاد لبولي principe d’exclusion de Pauli، ومبدأ الريبة أو اللايقين لهيزنبيرغ principe d’incertitude d’Heisenberg، أو معادلة شرودينيغر الشهيرة l’équation de Schrö-;-dinger، ومع ماكس بورن Max Born برز مبدأ الاحتمالات principe de probabilités، وعلينا أن نلاحظ كيف تغلغلت التخمينات والافتراضات في أبحاث العلماء وزعزعت مفهوم الحتمية conception déterministe في عالم الفيزياء. كما يتعين علينا توضيح كيف استطاعت فيزياء الكموم أو الكوانتا أن تلج عصر التفسيرات والنبؤات أو التوقعات. كان آينشتين ينظر بعين القلق والهلع من التحولات والتطورات التي طرأت على النظرية الكمومية أو الكوانتية التي ساهم هو شخصياً بتأسيسها وتطويرها. وتجسد نقده فيما عرف بمفارقة EPR التي سنشرحها بالتفصيل لاحقاً، ونعرج على مختلف تيارات ومدارس التفسير لميكانيكا الكموم أو الكوانتا من تفسير كوبنهاغن interprétation de Copenhague الى يومنا هذا في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. مع إطلالة سريعة على أهم التجارب الجوهرية، وهي في أغلبها تجارب ذهنية تفكيرية وليست مختبرية، مثل مفارقة قطة شرودينيغر paradoxe du chat de Schrö-;-dinger، وبالطبع التجارب المختبرية التي أثبتت صحة المعطيات العلمية لفيزياء الكموم أو الكوانتا كتجارب العالم الفيزيائي الفرنسي آلان آسبيه Alain Aspect وتجارب جون بيل John Bell الأحدث منها والتي ردت بعد ثلاثين عاماً على مفارقة EPR والتي أعطت الحق لبور وأعتبرته مصيباً في حججه ضد آنشتين التي خطأت طروحاته وحججه، والتجارب الأحدث كتجربة الحصول على غيوم من الذرات الباردة أو أبحاث وتجارب عالم الفيزياء الفرنسي الحائزة على نوبل للفيزياء سنة 2012 سيرج هاروش Serge Haroche.
وهنا ياتي الجزء الأهم ألا وهو التطبيقات العملية لفيزياء الكموم أو الكوانتا في مجال البحث العلمي وفي حياتنا اليومية، كموضوع الليزر واستعمالاته المدنية والطبية والعسكرية الذي جرى تطويره منذ سنوات الستينات في القرن المنصرم، إلى جانب تطبيقات مستقبلية مثل الكريبتوغرافية أو التشفيرية والترميزية cryptographie والانتقال الفوري الآني تيليبورتيشن téléportationوالحاسوب الكمومي أو الكوانتيordinateur quantique ومختلف الأدوات والأجهزة الالكترونية الحديثة كالهاتف الذكي smartphoneوالجي بي أس GPS أي محدد الأماكن عبر الستلايتات أو الأقمار الصناعية والتصوير الشعاعي الطبي imagerie médicaleالخ..
منابع الفيزياء الكوانتية أو الكمومية:
في نهاية القرن التاسع عشر اعتقد علماء الفيزياء أن قواني الفيزياء الكلاسيكية التي اكتشفوها تمنحهم المعرفة الكاملة لفهم العالم. باستثناء بضعة تساؤلات ظلت معلقة تبحث عن أجوبة علمية شافية. ولكن في بداية القرن العشرين في العم 1900 حدثت انعطافة حادة في الفيزياء المعاصرة عدت بمثابة ثورة حقيقية وذلك بولادة الفيزياء الكمومية أو الكوانتية La physique quantique من صلب محاولات بعض العلماء الإجابة على تلك التساؤلات العلمية العالقة. ففي عشية القرن العشرين كانت حصيلة المعارف والخبرات في مجال الفيزياء وباقي العلوم الطبيعية وفيرة وفيها تكمن جذور وأصول الفيزياء الكمومية أو الكوانتية. كانت الفيزياء منقسمة إلى ثلاثة تخصصات رئيسية هي الميكانيك والكهرومغناطيسية والديناميكا الحرارية la mécanique، l’électromagnétisme، la thermodynamique، فالميكانيك الكلاسيكي أو النيوتني نسبة لنيوتن mécanique classique newtonienne يستند إلى دعامتين وضعهما إسحق نيوتن Isaac Newton في نهاية القرن السابع عشر. الداعمة الأولى مكونة من ثلاث قوانين هي قواني الحركة، والدعامة الثانية هي قانون الجاذبية أو الثقالة الكونية وهي بلا أدنة شك أكبر الاكتشافات العلمية لكل الأزمان التي سبقت اكتشافها. وكان الجمع بين هذين الاكتشافين هو الذي قاد البشرية الى التطور والتقدم النظري والتقني الهائل الذي حققه الانسان في العصر الحديث. فبفضل قوانين نيوتن يمكننا اليوم حساب مسار الصواريخ والاقمار الصناعية التي ترسل للفضاء. أما الكهرومغناطيسية، وهي الفرع الجوهري الثاني من الفيزياء المعاصرة، فقد نجمت من توحيد المغناطيسية بالكهرباء وكان العالم جيمس ماكسويل James Maxwell هو الذي أعلنها سنة 1864 على شكل أربع معادلات باتت شهيرة. وما زالت تستخدم لوصف الأنظمة المتنوعة، كموجات الراديو والتلفون والمحركات الكهربائية الخ.. أما الفرع الثالث للفيزياء الكلاسيكية، أي التيرموديناميك الحراري فيقوده ثلاث مبادئ جوهرية ويدرس آليات وميكانيزمات التحول الحراري للأجسام، وتطور هذا الفرع من الفيزياء في القرن التاسع عشر على يد العالم كارنو وجول وكلاوسيوس Carnot، Joule،Clausius وكانت لهذا العلم تطبيقات عديدة مثل اختراع محركات التفجير وأنظمة التبريد وغير ذلك من الأنظمة الفيزيائية والجيوفيزيائية physique، géophysique. وإلى جانب هذه الفروع الفيزيائية الأساسية مجتمعة يوجد علم البصريات l’optique والذي يمكن التعامل معه بمعادلات ماكسويل حصراً لذلك يمكن اعتباره جزء من الكهرومغناطيسية ولكن بخصوصية منفردة. فهناك واجهتان لعلم البصريات: الأولى هندسية géométrique التي تمثل الإشعاعات الضوئية كالخط المستقيم الذي نخطه على سطح ورقة بمساعدة مسطرة / والثانية موجية ondulatoire التي تعامل الضوء كموجة. وكانت هذه الطبيعة المزدوجة للضوء مثار جدل وسجالات علمية لعبت دوراً أساسياً في ظهور وتطوير الفيزياء الكمومية أو الكوانتية. وبعد بضعة قرون من التردد، بسبب الرؤية الحبيبية الموروثة عن نيوتن للضوء، بات من البديهي في فجر القرن العشرين، اعتبار الضوء ذو طبيعة موجية أيضاً. وذلك بفضل أبحاث وتجارب علماء الفيزياء هيوغينز Huygens سنة 1690، ويونغ Young سنة 1801، وفرينلFresnel سنة 1818، وتوجتها فيما بعد معادلات ماكسويل الشهيرة التي وصفت كيفية تأرجح الحقول الكهربائية والحقول المغناطيسية التي تكون الضوء، في الزمان والمكان. ولو تمكنا من حل تلك المعادلات سيكون بإمكاننا وصف الموقع والسلوك المؤقت للحقل الكهرومغناطيسي لكل نقطة إشعاع ضوئي. ونستنتج من ذلك ثلاث أشياء: الأول أن الضوء ينتشر بسرعة ثابتة ومحددة وهي سرعة الضوء المعروفة 300000 كلم في الثانية، والميزة الثاني هي أنه إذا لم يلتق الضوء بعائق فإنه سينتشر في اتجاه ثابت ومستقيم، والميزة الثالثة هي الحل الرياضياتي الذي يثبت بداهة الظاهرة الموجية التي تتأرجح بتردد معين أي عدد التأرجحات في الثانية الواحدة وبطول معين للموجة التي تحدد لون الشعاع الضوئي. فالضوء الأزرق لديه طول موجة تقدر بأربعمائة نانومتر أي سنتمتر مقسوم على 250000. إن إدراك الصفة الموجية للضوء سمح للفيزيائيين فهم ظاهرتين أساسيتين وهما التشابك أو التداخل والزيغ أو الانحراف وحيود الضوء الذي لا يمكنه شرحه وتفسيره وفق النموذج الحبيبي أو الجزيئي للضوء. فالتداخل والتشابك يحدث عندما تلتقي موجتان أو أكثر في نقطة ما من الفضاء أو المكان. والمثال التوضيحي لذلك هو عند رمي حجرين في مستنقع ساكن على مسافة الواحد عن الآخر وكل واحد منهما يحدث موجات حول نقطة تصادم الحجر بالماء الساكن وبالتالي يمكننا أن تلاحظ مصدرين للموجات التي تتداخل ببعضها البعض. أما انحراف الضوء وحيوده فينتج عندما يمر شعاع الضوء خل فتحة تكون أبعادها مساوية لطول موجة الضوء النافذ ومن البديهي القول أننا لا يمكن أن نفسر هاتين الظاهرتين إلا إذا اعتبرنا الضوء ذو طبيعة موجية. ومن هنا برزت ظاهرة الجسم المسخن ذو الشعاع الأسود حسب درجة الحرارة وطول الموجة التي تصدى لشرحها وتفسيرها علميا الفيزيائي الفذ ماكس بلانك Max Planck ولكي يحلها قدم لنا ما نعرفه اليوم بفيزياء الكموم أو الكونتا physique quantique.
في سنة 1900 انكب ماكس بلانك يبحث عن تفسير لمشكلة الجسم الأسود corps noir الذي يتعرض للتسخين ويطلق نوعاً من الأشعة غير المرئية، الأمر الذي قاده الى تقديم ثابت بلانك الشهير constante de Planck واكتشف أن تبادلات الطاقة داخل المادة تحدث على شكل حزم كمومية paquets quantiques أي إنه هو الذي ابتدع ثابته الشهير في معادلته الشهيرة ومفهوم الكم أو الكوانتا. ولد العالم الألماني ماكس بلانك سنة 1858 وكان مولعا منذ صغره بالموسيقى ويعزف على آلة البيانو وكان من التلاميذ الموهوبين والمتميزين، وبعد إنهائه المرحلة الثانوية بامتياز دخل الى جامعة ميونخ لدراسة الفيزياء وكان يرغب في معرفة القوانين التي تحكم وتسير الطبيعة. اتجه في بادئ الأمر لدراسة الثرموديناميك أو الديناميكا الحرارية thermodynamique ودافع في هذا التخصص عن أطروحته سنة 1878. و الثرموديناميك هو فرع الفيزياء الذي يدرس تبادلات الحرارة بين الأجسام الباردة والأجسام الساخنة، وبفضله تمكن البشر من اختراع المحرك والثلاجة. كرس بلانك جل وقته لدراسة آليات انتقال الطاقة داخل المادة. تم تعيين ماكس بلانك سنة 1888 أستاذا للفيزياء النظرية في جامعة برلين العريقة. وكان قد خلف عالم الفيزياء الألماني الشهير هيلمولتزHelmoltz على رأس هيئة علماء الفيزياء في برلين. وكان متواضعاً وخجولاً وبقي في منصبه الى تاريخ تقاعده سنة 1926. كانت مشكلة الجسم الأسود من معضلات الفيزياء الكلاسيكية منذ أبحاث غوستاف كيرشهوف Gustav Kirchhoff سنة 1860. في تلك الفترة، ومنذ عهد نيوتن، كان العلماء يعرفون أن الضوء يبدو أبيضاً، أو أصفرا بالنسبة لشعاع الشمس، مكوناً في الواقع من عدة أطياف ضوئية مختلفة الألوان عرفت بمفهوم الطيف الضوئي spectre de la lumière، فهناك الطيف المرئي spectre visible المحصور بين البنفسجي والأحمر، وكل لون مرتبط بقيمة فيزيائية تعرف باسم طول الموجة longueur d’onde والمعاكس لها بصيغة الرياضيات يعرف باسم التردد fréquence. وكان مريشهوف يحاول أن يفهم ماهي العلاقة بين لون طول الموجة الذي يبثه الجسم عند تسخينه ودرجة حرارة ذلك الجسم، بغض النظر عن طبيعة أو شكل الجسم المعني. أي اكتشف أنه يمكن الربط بين درجة الحرارة ولون الجسم المسخن، وكانت هذه الظاهرة ملحوظة ومشخصة ومعروفة خاصة لدى صناع الزجاج، وكانت غاية كيرشهوف من تجاربه هي قياس الطيف الضوئي الذي يبعثه الجسم الأسود عند تسخينه بدرجات حرارة مختلفة ومتصاعدة. فتمكن عند درجة حرارة معينة من قياس كثافة الضوء المنبعث لكل لون من الطيف المرئي. وتثبت من أنه في كل لون تكون الكثافة الضوئية المتلقاة لا تعتمد، لا على طبيعة المادة أو المعدن ولا على شكله ولا على حجمه، وكانت المشكلة أعقد فيما يتعلق بالطيف غير المرئي أي الأشعة فوق البنفسجية والأشعة ما تحت الحمراء، وكانت تلك المشكلة معروفة باسم كارثة ما فوق البنفسجي catastrophe ultraviolette. كانت القضية مهمة بالنسبة للصناعيين خاصة صانعي المصابيح الكهربائية الذيم كانوا يمولون التجارب والأبحاث النظرية بغية استمداد التطبيقات الصناعية منها، فقرر بلانك إيجاد قانون يتماشى مع كافة مناطق الطيف الضوئي المرئية وغير المرئية، من خلال إيجاد الصيغة الرياضياتية التي تتلائم مع النتائج التجريبية، ولتحقيق غايته، لجأ بلانك لأبحاث أجريت سنة 1870 من قبل العالم الفيزيائي لودفيغ بولتزمان Ludwig Boltzmann. وكان هذا الأخير قد طور نظرية عرفت باسم النظرية الحركية للغازات théorie cinétique des Gaz من خلال الحسابات النظرية البحتة. حاول بلانك تطبيق هذه المعطيات على الجسم الأسود وافترض أن الطاقة المشعة تحرر على شكل حزم paquets وليس على نحو ممتد، وإن كل حزمة تمتلك طاقة تعادل تردد الإشعاع مضروب بقيمة رقمية محدد وثابتة دائماً وهي التي عرفت فيما بعد بثابت بلانك h وسميت الشرائح المنبعثة بكموميات أو كوانتات الفعل quantum d’action ووضع كل ذلك في معادلته الشهير E=hv حيث E هو الطاقة و h هو ثابت بلانك و v تردد الشعاع وهذه المعادلة الرياضياتية في اللامتناهي في الصغر هي المقابل الرياض يأتي لمعادلة آينشتين الشهيرة E=mc2 في اللامتناهي في الكبر في نظرية النسبية. ولقد حصل العلمان الألمانيان على جائزة نوبل للفيزياء بلانك سنة 1918 وآينشتين
البحث عن شكل الكون وأصله:
عندما كانت التكنولوجيا البشرية في أوائل القرن الماضي شبه بدائية بالمقارنة بما يتطلبه علم الأكوان وعلم الفلك والفيزياء الفلكية من أجهزة رصد ومشاهدة ومراقبة وحساب متطورة ودقيقة جداً، كان العلماء يكتفون بالنماذج النظرية والتجارب الفكرية والمعادلات الرياضياتية لرسم خارطة الكون وشكلة وجغرافيته وتاريخه وتطوره، ولكن مع التطور التكنولوجي الذي تحقق في العقود الأخيرة من القرن العشرين وبالأخص في العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين، كالحواسيب العملاقة التي تتيح لنا إجراء عمليات محاكاة معقدة ومتقدمة جداً وبالأبعاد الثلاثة، والأقمار الصناعية والتلسكوبات الأرضية والفضائية، حيث بات بإمكان العلماء تناول مواضيع كانت شبه محرمة عليهم، ومن بينها: ماذا كان يوجد قبل الانفجار العظيم البغ بانغ Big Bang الذي ثبتت صحة وقوعه قبل 13،820 مليار سنة على نحو ما؟ وما هي آخر المعلومات العلمية الدقيقة والحقيقية عن الكون المرئي، الذي صار يعرف بكون بلانك L’Univers de Planck نسبة لصورة الكون التي رسمها تلسكوب بلانك الفضائي؟
في 14 أيارـ مايو سنة 2009 أطلقت الوكالة الأوروبية للفضاء l’Agence spatiale européenne (ESA) بالتعاون مع وكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA، تلسكوباً أو مقراباً فضائياً متطوراً جداً ومخصصاً لدراسة الأشعة الخلفية الماكروية المنتشرة للكون المرئي rayonnement fossile، وفي 21 آذار مارس 2013 قدم هذا التلسكوب جزءاً من نتائج رصده وصوره ومشاهداته على مدى الخمسة عشر شهراً الأولى من مهمته الرصدية. وقدم للعلماء وللعالم أجمع حصيلة معلومات غاية في الأهمية والدقة العلمية عن تاريخ ومكونات الكون المرئي ووضع أوضح خارطة تم الحصول عليها للأشعة الخلفية الماكروية المنتشرة الناجمة عن حدث التضخم الكوني l’Inflation cosmique وقام بمراجعة لمعدل التسارع الكوني rythme de l’expansion de l’Univers وإعادة النظر في نسب المكونات الكونية الأساسية la composition de l’Univers والأهم من كل ذلك إمكانية العثور على آثار لما قبل حدث الانفجار العظيم traces d’un avant Big Bang، وآثار لفرضية تعدد الأكوان traces du multivers éternel مما سيغير حتماً نظرتنا السائدة اليوم عن الكون المرئي.
أطلق بعض العلماء مازحين على مقراب أو تلسكوب بلانك الفضائي صفة عالم الفلك المعدني Astronome de Métal عند اجتماعهم في الوكالة الأوروبية للفضاء لتقييم نتائج وصور التلسكوب الفضائي بلانك ورصده للأشعة الكونية الخلفية الماكروية المنتشرة للكون المرئي بعد ولادته مباشرة ومراحل تكونه الأولى. وقد مهدت هذه المعطيات العلمية الجديدة والمهمة جداً، أمام علماء الفيزياء والفلك والكونيات طرق جديدة للتفكير والتأمل مثلما خلقت تحديات جديدة أمامهم. كانت المهمة الملقاة على عاتق تلسكوب بلانك هي تصوير أدق التباينات الحرارية مهما صغرت، في الأشعة الكونية الخلفية الماكروية المنتشرة fond de rayonnement diffus cosmologique بعد 380000 سنة من انبثاقه، أي بعد الانفجار العظيم. بعبارة أخرى اقتناص الإشعاعات المرئية الأولى للكون المنظور. وضع هذا التلسكوب بعيداً في الفضاء الخارجي على ارتفاع مليون ونصف المليون كيلومتر عن الأرض ليراقب اللانهاية الكونية عبر مليارات المجرات ومنها مجرتنا درب التبانة وآلاف المليارات من النجوم.
وخلال أكثر من 1000 يوم كان يبحث في عمق الفضاء بفضل التكنولوجيا البصرية التي زود بها والقادرة على مجابهة كافة الظروف المناخية الفضائية، وتصوير عمق السماء التي صارت اليوم، بفعل التوسع والتمدد الكوني، تتواجد على بعد 45 مليار سنة ضوئية، لم يترك شاردة ولا واردة لم يصورها حتى لو كانت بحجم ذرة غبار على قمة جبل بارتفاع 1000 متر، أو الشعور بحرارة طير على سطح القمر من على سطح الأرض، كأمثلة مجازية على دقته الرصدية. لذلك نجح بلانك في رصد واقتناص وتصوير أقدم أشعة مرئية في الكون. وللمرة الأولى بات بوسع العلماء تقديم إجابات أولية لأربع ألغاز في الفضاء: كيف ولد الكون؟ وهل هو محكوم بالصدفة أم بنظام خفي لا نعرف شيئاً اليوم؟ وماذا كان يوجد قبل الانفجار العظيم؟ وأخيراً هل هناك كون واحد هو كوننا المرئي أم عدد لامتناهي من الأكوان؟ اكتشف تلسكوب بلانك بصورة عرضية أن عمر الكون أقدم بمائة مليون سنة من العمر التقديري المتعارف عليه فصار عمره اليوم 13،820 مليار سنة بدلاً من 13،720 مليار سنة. ولقد رأى بعض الباحثين والعلماء أن خلف هذه المعطيات الجديدة يوجد نوع من الشيفرة الكونية code cosmique لا أحد يعرف مصدرها أو أصلها، إذ أن الكون يريد أن يقول لنا شيئاً ما كما يقول العام الأمريكي ماكس تيغمارك Max Tegmark من المعهد الشهير MIT بعد أن اطلع على تحليل نتائج مهمة بلانك ولكن ماهي هذه الرسالة المشفرة التي يريد الكون إرسالها لنا؟ وبأية لغة كتبها أو صاغها؟ وهل من الممكن أن ننجح يوماً ما في فكها ومعرفة مضمونها؟
أتاح لنا تلسكوب بلانك أن نطلع على تركيبة ومكونات الكون المرئي وشكله. وبخصوص توبولوجيا الكون المرئي كان العلماء يعتقدون أنه ذو ثلاثة أبعاد ومسطح أو ممتد plate إلى ما لا نهاية، أي مفتوح، في حين تقول نتائج مهمة بلانك أن هناك انحناء إيجابي طفيف لا نشعر به نظراً لضخامة الكون واتساعه، أي إنه بالضرورة مغلق وكروي الشكل يتضمن السطح الكروي والأعماق ثلاثية الأبعاد إضافة للبعد الرابع الزماني، أي أن نصف قطر الكون ليس سوى الزمان وهو دائم الحركة والتغير وهذا ما يفسر لماذا يكون الكون المرئي في حالة توسع حيث النسيج الزمكاني هو الذي يتوسع ويتحرك. وفي غمرة الانفعال لدى العلماء المكلفين بتحليل نتائج مهمة بلانك، يعود التساؤل الجوهري والأبدي للظهور مرة أخرى. من أو ماذا يكون أصل الانفجار العظيم وما سبب حدوثه؟ وهو ليس بالضرورة حدث فوضويchaotique إذ يبدو لبعض العلماء أن ولادة المادة لم تكن عشوائية بل منظمة ومرتبة بدقة هارمونية orchestrée على نحو مذهل يفوق التصور ولذلك يحق لنا أن نتساءل ماذا ومن يقف وراء هذا الضبط والإحكام الخارق؟ هل هو الثابت الكونيconstante cosmologique الذي لا يعدو كونه مجرد رقم رياضي صرف nombre mathématique pur ينظم ويسير ويتحكم بدقة متناهية بكافة القوانين التي تنظم وتسيير الكون وبالتالي فإن أي تباين حراري في الأشعة الكونية الخلفية الماكروية المنتشرة لن يكون وليد الصدفة كما يعتقد العالم الأمريكي ستيف كارليب Steve Carlip الذي كتب بهذا الصدد: عندما نراقب هذه الأشعة الكونية الخلفية الماكروية المنتشرة نلاحظ وجود تباينات طفيفة في طيفها تعود للتباينات والتنويعات الطفيفة في الكثافة وهي ليست وليدة الصدفة ونموذجها متوقع ومفهوم خاصة في ما يتعلق بالعلاقات المترابطة بين النقاط الباردة والنقاط الساخنة الواضحة بجلاء في الصورة التي التقطها التلسكوب الفضائي بلانك لطفولة الكون حيث إن النظرية لا تكتفي بتوقع بعض الأرقام بل باقتراح وتقديم منحني مدروس ومرسوم بدقة متناهية تنطبق عليه كافة نتائج المشاهدات والرصد. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذا القول يلمح لوجود عقل كوني أعلى يكون سبباً في هذا التنظيم السماوي منذ ولادة الكون المرئي. ومع ذلك لم يتردد أحد أكبر العقول الفزيائية المعاصرة وهو أنطوني زي Anthony Zee وزميله ستيفن هسيوStephen Hsu في خرق الممنوع لدى العلماء فيما يتعلق بالعلاقة بين الله والعلم والقول: يبدو ممكناً أن هناك رسالة مشفرة مخفية في الأشعة الكونية الخلفية الماكروية المنتشرة. ويمكن الافتراض أن هناك كائن علوي أو عدة كائنات متعالية هي التي خلقت الكون المرئي، فنحن لا نتطرق للسؤال بشأن معرفة ما إذا كان ذلك محتملاً أم لا، بل نقدم هذه الفرضية ليس إلا، ولنفترض أنه أو أنهم أرادوا إعلامنا بأن الكون المرئي خلق قصداً وبتعمد والسؤال في هذه الحالة كيف سيرسلون لنا تلك الرسالة المشفرة؟ لدينا قناعة بأن الأساس الذي تستند عليه مثل هذه الرسالة هو واحد ووحيد ولا يمكن أن يكون غير تلك الأشعة الكونية الماكروية الخلفية المنتشرة بحيث يمكن لكل الحضارات الفضائية المتطورة تكنولوجياً، ومنها حضارتنا نحن البشر، رغم تواضع إمكانياتنا التقنية، أن تراها كلوحة الإعلانات الضخمة على مستوى الكون كله. وبما أن مختلف مناطق السماء غير مترابطة وغير متصلة ببعضها، عندها فقط يمكن للكائن المتواجد في لحظة الخلق أن يضع مثل هذه الرسالة المشفرة داخل الأشعة البدئية. وما زالت مسألة الخلق العفوي الذاتي أو الخلق المبرمج للكون المرئي تقلق مضاجع العلماء وعامة الناس، ويعتقد التوأمان الفرنسيان الأخوة بوغدانوف Frères Bogdanov أن هذه الأشعة البدئية تحتوي على آثار لحالة الكون السابقة لحدث الانفجار العظيم. فمن الممكن أن يكون الكون قد شهد مرحلة بدئية سابقة قبل الانفجار العظيم نستطيع أن نصلها من خلال التحليل الدقيق لهذه الأشعة البدئية على حد تعبير عالم الفيزياء الفلكية جورج إفتساثيوس George Efstatthios أحد أهم أعضاء الفريق العلمي المشرف على مهمة التلسكوب الفضائي بلانك. وهذا يعني أن هناك عدد كبير من العلماء ممن يعتقدون أن حدث الانفجار العظيم ليس هو حقاً بداية الكون بل مجرد مرحلة اجتازها الكون من مراحل نشوئه، كما يؤكد العالم سين كارول Sean Caroll الفيزيائي الشهير في مرصد كالتيش Caltech في كاليفورنيا في كتابه: من الأزل إلى الآن From Eternity to Here وربما يكون الكون موجوداً على صورة ما أو في حالة ما نجهلها منذ عشرات المليارات من السنين الضوئية قبل حدوث الانفجار العظيم وقد يكون في صورة عالم المعلومة الصرفة أو البحتة monde d’informations purs، أو مجرد واقع افتراضي أو رقمي موجود منذ 30 أو 40 مليار سنة على شكل معلومة مشفرة رياضياتياً تتضمن كافة الخصائص الكامنة للكون المادي الذي انبثق بعد وقوع الانفجار العظيم وبالتالي فإن التباين الظاهر على خارطة الأشعة الكونية الخلفية الماكروية المنتشرة ما هو إلا آثار باقية للشيفرة الرياضياتية التي تتضمن الأصل لكل الوجود الكوني في صيغته الرقمية وصيغته المادية قبل وبعد الانفجار العظيم وهي الحالة التي سماها علماء الفيزياء حالة الـــ KMS التي تحدثنا عنها في نصوص سابقة عندما كان الوجود الكوني يتأرجح بين الزمان الواقعي والزمان المتخيل والزمان المركب.
إن كسر التماثل أو ال تناظرasymétrie، وبروز التباين بين قطبي الصورة البيضوية للأشعة الكونية الخلفية الماكروية المنتتشرة التي صورها تلسكوب بلانك يقود الى طرح فرضية ما قبل الانفجار العظيم ومحاولة تفسيرها علمياً. حيث اقترح عالمان فيزيائيان تفسيراً يقع على حدود الميتافيزيقيا وهو الاقتراح الذي يقول أننا نتواجد في كون فقاعة univers bulle في حالة انتفاخ واتساع داخل بنية معقدة من تعدد أكوان لامتناهي على غرار النموذج الذي تطرحه نظرية التضخم الدائم والأبدي لأندريه ليند théorie de l’inflation éternelle d’Andreïz Linde كما يقول آلان ستونيباركر Alan Stonebraker. لقد سبق أن لوحظ مثل هذا الخلل في الأشعة البدئية من قبل التلسكوب الفضائي الأمريكي WMap وتم تأكيده من قبل تلسكوب بلانك ويتعلق بانعدام التناظر أو التماثل الكلي التام asymétrie في التقلبات والتأرجحات fluctuations الحرارية داخل الأشعة الخلفية الماكروية الكونية المنتشرة في كافة أرجاء الكون. وبدون الدخول في التفاصيل التقنية ونسبة التباين ونوعه ودرجته، نستطيع القول أن هذه الظاهرة تدل على أن كوننا كان قد نشأ عن مرحلة من مراحل مستمرة في حركة دائمية أزلية أبدية لكون مطلق مكون من عدد لامتناهي من الأكوان الفقاعات التي تنشأ من انفجار عظيم نتيجة تفاعلات سابقة ثم يتطور ويتسع بموازاة مليارات الأكوان المماثلة أو المغايرة في الشكل والمحتوى والمكونات، وما الانفجار العظيم سوى مرحلة انتقالية تسبقها مراحل وتعقبها مراحل لا حد لها. نظرية التضخم تقول أننا لا يجب أن نعثر على تباينات واختلافات صارخة بي القطبين الكونيين وقد يكون هذا التباين الملحوظ لا يشير الى تطور جذري في نماذجنا الكونية القائمة حالياً ولا مقدمة لفيزياء جديدة لكنه لا يجب أن يهمل بل يجب أن يأخذ في الاعتبار في كافة التحليلات والتفسيرات. العالمان اندريو ليدل ومارينا كورتيس Andrew Liddle et Marina Cortes يعتقدان في مقال مشترك لهما نشراه في الموقع العلمي الرصين arxiv أن هذا التباين والخلل في التناظر والتماثل ليس سوى أثر من بقايا النماذج التضخمية ولكن من نمط خاص جداً ويستندان إلى أبحاث سدني كولمان Sidney Coleman في علم الكون الكمومي أو الكوانتي cosmologie quantique والى معطيات نظرية المحيط الكوني la théorie du paysage cosmique المنطوية في سياقات نظرية الأوتار الفائقة la théorie des supercordes حسب ليونارد سيسكند Leonard Susskind حيث أن هذه النظرية تؤكد أن كوننا ليس سوى المعادل لفقاعة كونية غازية ظهرت مثل غيرها من الفقاعات اللامحدودة العدد في حساء سائل، أي جزء ضئيل من الكون المتعدد multiversكتلك التي نجدها في نظرية التضخم الأبدي لأندريه ليند.
يمكننا مقارنة الزمكان عندما يحتوي على طاقة الفراغ énergie du vide، المشابهة ربما للطاقة المعتمة أو السوداء l’énergie noire، بماهية سائلة يحدث في داخلها تحولات وانتقالات المراحل التي تحول الفراغ من حالة طاقوية الى أخرى.ويمكن أن تتدخل مثل تأثير النفق effet tunnel من خلال حواجز طاقوية، ولقد وصفت هذه الحالة نظرياً باستخدام طريقة فايمان intégrale de chemin de Feynman أما ستيفن هاوكينغ و هارتل Hartle فقد استخدما في نموذجهما الكوزمولوجي الزمان الخيالي temps imaginaire وبفضل هذا الزمان الخيالي يمكننا أن نجد حلولاً لبعض معادلات آينشتين بعد جمعها وربطها بنظريات كمومية أو كوانتية للحقول des théories quantiques des champs سميت بالانستانتونات instantons وهو الأمر الذي نجح فيه سدني كولمان سنة 1987. ويمكننا باستخدام الــ instanton وصف الأكوان المتعدد الأزلية والأبدية واللانهائية التي تظهر في طياتها الفقاعات الكونية للحالات الطاقوية المختلفة والمتنوعة على نحو عفوي، ومن ثم تتمدد بسرعة الضوء. لكن المشكلة تكمن في أن الانحناء الكوني للفضاء المتمدد والمتوسع في تلك الفقاعات يبدو سلبياً مثل سرج الحصان أي منحنياً إلى الداخل وليس إيجابياً كانحناء الكرة. وفي داخل هذه التركيبة يمكن أن تنشأ او تولد أكوان متعددة بنفس الطريقة أو بطرق مغايرة، حسب أندريو ليدل ومارينا كورتس Andrew Liddle et Marina Cortes اللذين يعتقدان أن هذا الخلل في التماثل والتناظر الذي سجله التلسكوبان الفضائيان دبليو ماب وبلانك WMap et Planck هو نتيجة طبيعية لمثل تلك النظريات المستندة على مفهوم الــ l’instanton الذي اقترحه كولمان. وكذلك انتقالات الطاقة المحلية داخل هيكلية من تعدد الأكوان حيث تتنوع طاقة الفراغ بالتوافق مع معطيات نظرية المحيط الكوني la théorie du paysage cosmique في النظرية الأم الأوتار الفائقة supercordes.
هناك حقلين لاموجيين champs scalaires لولادة الكون المرئي المنظور والمرصود يقفان وراء سر التوسع المتسارع للكون المرئي والمنظور عند مرحلة التضخم l’inflation وكذلك التقلبات الكمومية والكوانتية في محتواه المادي التي كانت هي الأصل في ولادة المجرات. وفي كل النظريات الحديثة عن التضخم هناك نوع من حقل هيغز champ de Higgs يسمى حقل التضخم يقوم بالمهمة. ولكن من الصعب تفسير مشاهدات تلسكوب بلانك بهذه الطريقة. والحال حاول العلماء صياغة نماذج تضخمية يكتفي فيها التضخم بإنتاج توسع كوني قوي وسريع للفضاء أو للزمكان ولكن لفترة قصيرة. ثم يتواجد حقل ثاني يسمى الحقل المقوس curvaton يقوم بانتاج التقلبات في المحتوى الكوني التي نرصدها على أنها تقلبات في الحرارة وتوجد آثارها في الأشعة البدئية للخلفية الكونية الماكروية المنتشرة المسؤولة عن ولادة المجرات.
تعرضت نظرية ليدل وكورتس Liddle et Cortes للعديد من الانتقادات والاعتراضات لأنها لا تتنبأ على نحو دقيق وصحيح بالتوزيع الوسطي للوزارات des quasars إلا أنها تتنبأ أيضاً بأن كوننا المرئي ليس منبسطاً أو ممتداً وبنيته ذات تحدي سلبي كسرج الحصان في حين أن التحدب الكروي إيجابي. وسوف تظهر النتائج النهائية لتحاليل مهمة بلانك في نهاية سنة 2014 مما يعني أننا لم نحسم الأمر كلياً بعد فيما يتعلق بهندسة géométrie وجغرافية الكون المرئي أو المنظور الحقيقية.
صورة الكون بين الأمس واليوم

كان العلماء الرواد في مجال الكوزمولوجيا يعتقدون أن الكون محدود بنظامنا الشمسي أو يتحدد بحواف مجرة درب التبانة، لكن القرن العشرين قلب المفاهيم الكونية كلها على عقب، ولعبت الفيزياء الحديثة دوراً جوهرياً في تغيير المفاهيم والمعارف منذ تبلور الدعامتين الرئيسيتين للفيزياء المعاصرة، وهما نظرية الكموم أو فيزياء الكوانتا théorie de la mécanique ou la physique Quantique ونظرية النسبية théorie de la relativité.
ومنذ بداية القرن العشرين صار الناس ينظرون الى السماء نظرة مغايرة عما كانوا يألفونه في الماضي، وقدم لهم العلم صورة مذهلة للطبيعة والكون وأسرارهما وألغازهما، ورؤية مختلفة للظواهر الفيزيائية وتفسيرها. لم يعد الكون نتاج رغبة أو إرادة ربانية وعملية خلق مباشر على يد كائن علوي صممه وخلقه في ستة أيام كما ورد في النصوص الدينية للأديان التوحيدية الثلاثة. لقد قدم العلم رواية مختلفة ومغايرة في الجوهر والتفاصيل والمدة الزمنية التي رافقت ولادة الكون المرئي أو المنظور. من هنا ظهر مفهوم الانفجار العظيم أو البغ بانغ Big-Bang الذي حدث كفرادة singularité كونية قبل 13،820 مليار سنة ضوئية. ولكن ما هو البغ بانغ؟ تصور الناس على خطأ أن البغ بانغ هو فعلاً انفجار يشبه انفجار القنبلة النووية. لكنه في الحقيقة لم يحدث في مكان ما في الوجود بل حدث في آن واحد في كل مكان إذا جاز لنا التعبير لأنه لم يكن هناك مكان ولا زمان بالمعنى المتعارف عليه لدى البشر اليوم. فلم يكن هناك مكان مستقل عن الزمكان لكوننا المرئي الذي بدأ مع البغ بانغ. كان قصورنا وعجزنا العلمي والتكنولوجي يحول بيننا وبين سبر أغوار الكون ومعرفة مكوناته وتاريخه وهندسته وجغرافيته وطوبولوجيته وهيكيليته وأصله ومصيره. بيد أن عمليات الرصد والمشاهدات الحديثة للكون اليوم أتاحت لنا الولوج إلى أعماقه والعودة إلى بداياته، الى فترة زمنية قريبة جداً من البغ بانغ. لا نعرف لحد الآن على وجه الدقة ما إذا كان هذا الحدث يتوافق مع اللحظة البدئية المفترضة أو المحتملة لنشأة الكون المرئي المادي أم كانت هناك حالة سابقة لهذا الكون المرئي لم نبلغها بعد بأجهزتنا الرصدية والقياسية وصارت تعرف بين العلماء بحالة الــ KMS. تأكد العلماء المعاصرون من صحة افتراضاتهم النظرية السابقة في أن البغ بانغ يتعلق بمرحلة بالغة الكثافة والحرارة أو السخونة مر بها الكون المرئي منذ حوالي 13،820 مليار سنة ضوئية.
كان بوسع العالم العبقري البرت آينشتين Albert Einstein (1879-1955) أن يتوقع أو يتنبأ، من خلال معادلاته ونظرياته، بوجود البغ بانغ وبكثير من الأمور الأخرى في الكون كالتوسع والتمدد والثقوب السوداء الخ.. إلا أنه لم يكن يعتقد في بداية القرن العشرين أن الكون يتطور ويتحرك. لقد سبقه في هذه الفرضية الراهب البلجيكي وعالم الفيزياء جورج لوميتر Georges Lemaître (1884-1966) والعالمان السوفياتيان آلكسندر فريدمان Alexandre Friedmann (1888-1925) وجورج غاموف Georges Gamow (1904-1968) وهؤلاء كانوا المهندسين الأوائل للسيناريو العام للانفجار العظيم البغ بانغ الذي يتفق عليه اليوم شبه إجماع بين العلماء.
تركزت أغلب جهود علماء الكونيات cosmologistes على إعادة رسم وتشكيل مراحل تلك الحقبة الكثيفة والساخنة بأكبر قدر من الدقة والتي ما تزال الى يومنا هذا غامضة ومليئة بالأسرار. لذلك فإن من مهمات تلسكوب الفضاء المتطور جداً بلاك هي تقديم معلومات علمية دقيقة عن حالة الكون عندما كانت درجة الحرارة حوالي 100000000000000000000000000000 درجة، أي واحد يتبعه 29 صفراً. وكما هو معروف فإن تعبير الانفجار العظيم البغ بانغ أطلقه تهكماً وسخرية من الفرضية والخصم الكبير لها العالم فرد هويل Fred Hoyle الذي انتشر كالنار في الهشيم.
بعد انتشار نظرية الانفجار العظم البغ بانغ تجراً الكثير من العلماء على اعتبار الحدث بمثابة الأصل للكون وولادته ذاتياً دون الحاجة الى خالق يخلقه ومن بين هؤلاء العالم الإنجليزي ستيفن هاوكينغ Stephen Hawking الذي قال ذلك بوضوح وبلا لبس في كتابه الأخير التصميم الكبير «The Grand Design» وإن الكون انبثق ذاتياً بفعل قزانين فيزيائية موجودة بمعزل عن إرادة إلهية أي لا يوجد تدخل إلهي في عمليق نشوء الكون. وتقول إشاعة أن البابا اجتمع بستيفن هاوكينغ وقال له :" اهتموا أنتم معشر العلماء بما بعد البغ بانغ واتركوا لنا ماقبله". وكانت الكنيسة قد ردت فوراً على أطروحة هاوكينغ على لسان رئيس أساقفة كونتربري روان وليام Rowan Williams، أن الإيمان بالله ليس مسألة معرفة كيفية ارتباط هذاء الشيء بذاك في الكون، بل الاعتقاد في حقيقة وجود كائن حي وعاقل يعتمد كل شيء موجود على نشاطه وإرادته وخلقه". فالفيزياء ليست قادرة لوحدها على الإجابة عن التساؤل الأزلي: لماذا يوجد شيء ما بدلاً من لا شيء. بينما رحب أستاذ الفيزياء في جامعة جورج ماسون العالم جيمس ترفيل James Trefil برؤية وقال أن أطروحة هاوكينغ تقتحم أعمق المسائل الكوزمولوجية المعاصرة دون اللجوء الى معادلة رياضياتية واحدة وربما ستشكل بداية لتقديم الدليل العلمي على صحة نظرية تعدد الأكوان univers multiple. شعر بعض العلماء بالحرج لأن نظرية ستيفن هاكوينغ تضعهم بين خيارين إما قوانين الفيزياء وإما الله والحال أن قوانين الطبيعة لا يسعها وحدها أن تزودنا بالتفسيرات الكاملة عن الكون وليس بمقدورها أن تخلق شيئاً لأنها مجرد وصف لما يحدث في ظروف معينة كما قال جون لانوكس John Lennox الأستاذ في جامعة أكسفورد وهو عالم ومسيحي متدين. وأضاف معقبا: ربما تكون قوانين الفيزياء هي السبب وراء انبثاق الكون المرئي لكنني أؤمن أن الله هو الذي خلق ووضع تلك القوانين وأعطاها هذه المهمة. إن جمال وأناقة تلك القوانين تدل على أصلها الإلهي فكلما آمنت بالعلم يزداد إيماني بالله.
فمنذ أن ظهر البشر في هذا العالم وهم يتساءلون ماهو أصل الكون ومن الذي أوجده ولماذا هو على هذه الهيئة وما هي حقيقة الواقع وهل هناك واقع واحدة أم عدة وجوه وماهيات للواقع؟ بالنسبة للمؤمن المسألة بسيطة والحل جاهز فالكون صممه وخلقه إله متعالي ذو قدرات لا محدودة لحكمة خفية لا يعرفها إلا هو، في حين يرى من يفضل التفسير العلمي أن هناك عدة أجوبة ممكنة تتوالى منذ أفلاطون Platon وفيثاغور Pythagore ونيوتن Newton الى آينشتين Einstein وستيفن هاوكينغ والفيزياء الكوانتية أو الكمومية physique quantique، ويعتقدون بوجود نظرية جامعة وشاملة وموحدة لجميع النظريات العلمية التي أفنى آينشتين حياته وهو يبحث عنها وأسماها ستيفن هاوكينغ بالنظرية أم la théorie M. في سنة 1992 اكتشف العلماء كوكباً شبيهاً بالأرض يدور حول نجم آخر غير شمسنا ويقع في المسافة القابلة لاحتضان الحياة عليه واليوم بلغ عدد الكواكب الشبيهة بكوكب الأرض والتي تدور حول نجوم شبيهة بالشمس، أكثر من 800 كوكب وربما سيتم العثور على إحداها أو على عدد منها على حياة سواء في مرحلتها البدائية او تكون متطورة تكنولوجيا بمستوى حضارة البشر أو متفوقة عليها كما يعتقد ستيفن هاوكينغ مما يعني أن الأرض لم توجد لكي تضم الجنس البشري الوحيد في هذا الكون لكنه ينصح بعدم الاتصال بحضارات أكثر تطوراً علميا منا لأن مصيرنا سيكون مثل مصير الهنود الحمر على يد المكتشفين البيض الأوائل لأمريكا الشمالية والجنوبية، أي الإبادة. واليوم صار بوسع البشر بفضل التقدم التكنولوجي الذي حققوه وبالذات المرقاب أو التلسكوب الفضائي بلاك Planck الذي أطلقته وكالة الفضاء الأوروبية ESA رصد وتصوير ودراسة وتحليل الترددات الموجية الماكروية fréquences micro-ondes لدراسة الأشعة الكونية الخلفية المنتشرة في الكون le rayonnement cosmologique fossile (RCF) والذي سوف يزودنا بمعلومات علمية دقيقة جداً عن كتلة وعمر وهندسة ومكونات ومصير الكون المرئي أو المنظور masse، l’âge، la géométrie، la composition et le destin de l Univers observable ووضع خارطة كاملة ومجسمة ثلاثية الأبعاد للكون المرئي وسوف يوفر معطيات أساسية لكل علماء الفلك والفيزياء الفلكية كتوزع الغازات الباردة في مجرتنا وبنية المساحات ما بين النجوم المجرات، كما سيكشف لنا أين ومتى وكيف تتكون النجوم. إحدى ميزات تلسكوب بلانك الفضائي الأساسية هو قدرته على كشف درجة حرارة الجسيمات ما دون الذرية وجزيئات الغبار الكوني الأكثر برودة لأن درجة الحرارة مؤشر فيزيائي مهم كونها تعكس توازن الطاقات équilibre des énergies الموجودة في وسط مابين نجمي interstellaire خاصة عندما يكون هذا التوازن غير متناسب ومتماثل بين منطقة وأخرى مما يساعد على كشف تطور عملية تشكل النجوم. وفي خضم بحثه عن حشود وتجمعات الغازات الأكثر برودة في المجرات يدلنا على مناطق تشكل النجوم أو التي في طريقها للتكون والولادة. وهي معلومات أدق وأوضح تضاف لما تم كشفه في هذا المجال من قبل مسباري هيرشل Herschel التابع لوكالة الفضاء الأوروبية ESA ومسبار سبايتزر Spitzer التابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA وكذلك آيراس IRAS الذي صور السماء بأطوال موجات أقصر حيث يتوفر للعلماء اليوم كنز هائل من المعلومات وباتوا يعرفون على وجه الدقة كيفية تكون النجوم في مجرة درب التبانة بأكملها. فالفضاء الكائن بين النجوم ليس فارغاً بل يحتوي على غيوم وأغبرة وغازات متداخلة تملأ الوسط ما بين النجمي milieu interstellaire. ولقد زود تلسكوب بلانك بجهاز التردد العالي l instrument Haute Fréquence (HFI) الذي يغطي ستة رقع للذبذبات ما بين 100 و857 غيغاهيرتز وجهاز التردد المنخفض GHz l instrument Basse Fréquence (LFI) الذي يغطي الرقع بين 30 و70 غيغاهيرتز GHz. تعتبر الأشعة الكونية الماكروية الخلفية المنتشرة Le rayonnement fossile منبع المعلومات الرئيسي عن الكون المرئي في بداياته الأولى وتخيل منظره فاللوحة الكونية تبدو كأنها ذات تباين هندسي أو معماري مكون من مجرات وخليط غير متجانس من المركبات الأخرى كالغازات والأغبرة والغيوم، في حين كان الكون متجانساً في الفترة بين البغ بانغ الانفجار العظيم وظهور أول أشعة خلفية 380000 سنة بعد الانفجار ولم تكن هناك تقلبات كبيرة مما يسمح بمتابعة تطوره رياضياتياً.
كان هناك تضخم l’inflaton هائل ومفاجيء في الكون البدئي قبل ظهور المادة وهو حقل لا موجي champ scalaire مثل بوزونات هيغز boson de Higgs التي أكتشفت مؤخراً في مسرع ومصادم الجزيئات LHC وكانت الجوهر الوحيد الذي يحتويه الكون قبل تكون المادة التي نعرفها اليوم في 10-32 من الثانية بعد البغ بانغ ولقد تمكن تلسكوب بلانك من رصد مسلك التضخم خلال التمطط الذي سببه التوسع الكوني الذي افرز التقلبات les fluctuations التي نشاهدها الآن على الصورة التي التقطها بلانك للأشعة البدئية. وهكذا تتيح لنا الأشعة الكونية الخلفية الماكروية المنتشرة معرفة الكون لفترة زمنية طويلة قبل أن يبدأ ببث هذه الأشعة.


الكون المرئي من الحتمية والسكون الى الاحتمالية واللايقين والحركة الدائمة


كان مبدأ الحتمية déterminisme هو الطاغي على المشهد العلمي على مدى قرون عديدة، ثم ظهرت نظرية العماء La théorie du Chaos وهي بمثابة علم جامع وشامل globale يحطم الحواجز القائمة بين مختلف الفروع العلمية والاختصاصات disciplines وهو الأمر الذي عرف بالعلم الهوليستيكي science Holistique، بحيث لم يعد ممكناً شرح أو وصف العالم فقط من خلال عناصره التكوينية أو التأسيسية الأولية كالكواركات والكروموزومات والنورونات أو الألياف العصبية quarks، chromosomes، neurone، وبالتالي كان لا بد من الإطاحة بصرح الحتمية والسكونية ومنح الطبيعة حريتها الخلاقة أو الإبداعية وماهيتها التجديدية. هذا هو المناخ الذي ساعد على انبثاق ميكانيكا الكموم أو الكوانتا mécanique quantique في بداية القرن العشرين كما لو كانت ريح الحرية قد هبت على عالم الذرات وما دونه من عوالم وحلت الريبة وعدم اليقين محل الحتمية واليقين داخل الغموض أو الضبابية الكوانتية flou quantique. لقد اكتشف العالم الألماني فيرنر هيزنبيرغ Werner Heisenberg أن الطبيعة تتبع مبدأ اللاحتمية واللادقة واللايقين principe d’incertitude المعروف لدى البعض بمبدأ الريبة، في المستوى الذري وما دون الذري atomique et subatomique فالمعلومات التي نستقيها من تعاملنا مع الجسيم الأولي particule élémentaire غير كاملة دائماً. فإما أن نقيس موضع إلكترون بدقة عالية جداً، عند ذلك علينا أن نتقبل حقيقة أننا في هذه الحالة لن نعرف أبداً وعلى وجه الدقة سرعته أو العكس إذ يستحيل معرفة الإثنين معاً بدقة متناهية. إن هذا اللاتحديد لا يعزى لعدم امتلاكنا لوسائل القياس المتقنة والمتقدمة تكنولوجياً، بل لكون هذه الميزة هي من الخصائص الجوهرية في الطبيعة لا سيما في مستواها اللامتناهي في الصغر. ومن هنا، وبسبب عدم دقة وشمولية المعلومات عن جسيم ما لأنها دائما غير كاملة، فإن مستقبل ومصير هذا الجسيم المضبوط والدقيق، الذي يعتمد على هذه المعلومات، سيكون صعب التحديد ويستحيل التنبؤ به. وبذلك تحطمت رؤية العالم الفرنسي لابلاس عن كون منظم كالساعة حيث يستطيع العقل البشري فهم ومعرفة ماضي وحاضر ومستقبل كل ذرة فيه. بعبارة أخرى هناك في مكان ما جزء من الصدفة hasard والعشوائية والاحتمالية يتحكم بمصير الذرات ومكوناتها. لذلك لا يمكننا تحديد مسار ومدار وتموضع جسيم وحركته وسرعته في نفس الوقت وبنفس الدقة مثلما نفعل بخصوص تحديد مسار ومدار القمر حول الأرض. ففي أعماق الذرة لا يكتفي الالكترون أن يتبع بتعقل مداراً واحداً ثابتاً بل يمكنه أن يتواجد في كل مكان في آن واحد. فكل جسيم، سواء كان إلكترون أو فوتون، يملك شخصية مزدوجة، فهو جسيم وموجة في آن واحد حسب الظروف وأجهزة القياس والمراقب الذي يقوم بعملية القياس. فعندما يكون على هيئة موجة يمكنه أن ينتشر ويحتل فضاء الذرة الفارغ برمته. ويكون خاضع لمبدأ الاحتمالية probabilité وتلعب الصدفة والعشوائية دوراً بديلا عن اليقين والدقة. والجدير بالذكر أن هذا التشخيص العلمي تم إثباته بالتجارب المختبرية. فكل شيء يعتمد على كل شيء interdépendance وكل شيء في الكون المرئي متصل ببعض interconnecté بطريقة أو بأخرى لكننا لا ندرك ذلك بحواسنا مما يعني أن الكون المرئي يمتلك نظاماً شاملاً رغم العشوائية الظاهرة في مستواه الذري وما دون الذري. وبهذا الصدد قام آينشتين بتجربة فكرية سنة 1935 بالتعاون مع إثنين من زملائه هما بوريس بودولسكي وناثان روسن عرفت بمفارقة EPR - Einstein Boris Podolsky، Nathan Rosen – بشأن اللاتحديد المكاني non localité للرد على مبدأ عدم اليقين والاحتمالية التي نادى بها بور وأعمدة النظرية الكمومية أو الكوانتية ودحض نظريتهم وإثبات بطلانها. وملخص التجرية هو أن العلماء الثلاثة اعتبروا أن جسيماً ما انفلق عفوياً الى فوتونين، أي جسيمين من جسيمات الضوء، هما A وB وبموجب قانون التناظر والتماثل symétrie يغادر الجسيمان باتجاهين متعاكسين. فلو غادر الجسيم A باتجاه الشمال فسوف نرصد حتماً الجسيم B في الجنوب، إلى هنا تبدو الأمور طبيعية، لكن لا يجب أن ننسى غرائب الميكانيك الكمومي أو الكوانتي الذي يقول أن للجسيم طبيعة مزدوجة nature duelle خاصة في مستواه ما دون الذري فهو جسيم وموجة في آن واحد، وظاهره يعتمد على ما إذا كانت آلة الرصد مفعلة وتشتغل أم منطفئة أو متوقفة عن العمل، أي هل هناك عملية رصد ومراقبة للجسيم أم لا. وقبل تشغيل جهاز الرصد لا يقدم الجسيم A مظهر الجسيم بل مظهر الموجة، وبما أن هذه الموجة لم يحدد لها موقع معين فهناك حتماً بعض الاحتمالية لأن يتواجد A في أي اتجاه لا على التعيين. فقط عندما تفعل أو تشغل آلة القياس والرصد لترصد A حتى يتحول هذا الأخير إلى جسيم ما دون ذري ويدرك أنه يتجه نحو الشمال. ولكن إذا كان A لم يكن يعرف قبل رصده أي اتجاه سيسلك، فكيف أمكن لتوءمه B أن يحدس ويخمن او يحزر مسبقاً سلوك A ويحدد سلوكه لكي يتم رصده هو الآخر في نفس الوقت بالاتجاه المعاكس؟ لا يوجد معنى منطقي لذلك حسب العلماء الثلاثة، إلا إذا تقبلنا فكرة أن A أعلم آنياً instantanément توءمه B بالاتجاه الذي سيسلكه. والحال أن نظرية النسبية لآينشتين تمنع أية إشارة بالانتقال والسفر بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فالله لا يرسل إشارات تخاطرية signaux télépathiques كما كان يقول آينشتين تعليقاً على استحالة حصول فعل آني غامض بين جسيمين منفصلين بمسافة في الفضاء بسرعة تفوق سرعة الضوء. وبناءاً على هذه التجربة الفكرية استنتج آينشتين أن الميكانيك الكمومي أو الكوانتي لا يقدم وصفاً كاملاً للطبيعة. وبما أنه من أنصار الحتمية فقد أعلن معارضته لوصف الواقع حسب الصيغ الاحتمالية لتي توسلها الميكانيك الكوانتي، فحسب تعليقه كان يتعين على A أن يعرف أي اتجاه سيسلك ويعلم توأمه B قبل أن ينفصل عنه، مما يعني أن يكون للخصائص الذاتية لــ A واقع موضوعي مستقل عن فعل الرصد والقياس والمراقبة. فالتفسير الاحتمالي للميكانيك الكمومي أو الكوانتي يفترض أن A يمكن أن يتواجد في أي اتجاه عندئذ سيكون خاطئاً حسب استنتاج آينشتين. بقيت هذا التجربة في حالتها التفكيرية لغاية سنة 1964 عندما قام عالم الفيزياء والرياضيات الإيرلندي جون بيل John Bell الذي يعمل في المنظمة الأوروبية للدراسات والأبحاث النووية سيرن CERN بصياغة نظرية رياضياتية théorème mathématique عرفت باسم متباينات بيل inégalités de Bell الذي أراد أن يدقق تجريبياً ما إذا كانت هناك متقلبات أو متغيرات خفية variables cachées في المنظومات الرياضياتية. وفي سنة 1982 قام العالم الفرنسي وفريقه في جامعة أورسي آلان آسبيه Alain Aspect بإجراء سلسلة من التجارب المختبرية على عدد من أزواج الفوتونات الناجمة عن شق أو إنفصام فوتون واحد إلى فوتونين متماثلين بغية اختبار صحة مفارقة أو تجربة الثلاثي EPR وجاءت النتائج حاسمة لا تقبل الجدل حيث تم انتهاك أو خرق متباينات بيل بانتظام مما يعني أن آينشتين كان مخطئاً. ففي تجربة آلان آسبيه كانت المسافة التي تفصل بين الجسيمين A و B حوالي 12 متر ومع ذلك كان B يعرف فوراً وبشكل آني ما يفعله A وهي ظاهرة آنية فورية instantané والحال إن الإشارة الضوئية بينهما التي تحمل المعلومات من أحدهما للآخر لا تمتلك الوقت الكافي لقطع مسافة الــ 12 متر الموجودة بين الفوتونين بالرغم من انتقالها بسرعة الضوء حيث استخدمت ساعة ذرية للقياس. ثم جاءت نتائج متطابقة تماماً من إعادة نفس التجربة ولكن بأجهزة قياس أكثر دقة وتطوراً سنة 1998 على يد العالم الفيزيائي السويسري نيكولا جيسن Nicola Gisin وفريقه في جنيف وكانت المسافة الفاصلة بين الجسيمين أو الفوتونين هذه المرة 10 كلم وكان سلوكهما متطابقاً وآنياً تماماً.
أجريت تجارب مماثلة على سلوك الالكترون باعتباره جسيم كمومي أو كوانتي غريب الأطوار ولا يمكن توقع سلوكه فهو قادر على أن يتفاعل مع نفسه وهذا يذكرنا بالقول الأثير الساخر لريشارد فينمان Richard Feynman الحائز على جائزة نوبل للفيزياء وأحد أهم علماء القرن العشرين:" إن الجسيمات ما دون الذرية لا تتصرف كموجات ولا كجسيمات ولا كغمامات ولا ككرات البليارد ولا ككتل متصلة ومربوطة بنوابض ولا كأي شيء آخر تعرفونه أو تألفونه أو سبق لكم أن رأيتموه". فالعمود الفقري لميكانيك الكوانتا هو أن الجسيم ما دون الذري يمكن أن يكون في عدة أماكن في نفس الوقت وما علينا سوى معرفة ما سيترتب على ذلك وينعكس على العالم الواقعي الميكروسكوبي والماكروسكوبي. وبإدخال مفهوم اللايقين ومبدأ الريبة للفيزياء الحديثة توجب علينا إعادة شرح وتوضيح مفهوم الاحتمالية الموجود في كثير من تفاصيل حياتنا وليس فقط في نظرية الكموم أو الكوانتا رغم أهميته الجوهرية.
ومع مرور الوقت تقبل أغلب العلماء الفطاحل وعلى رأسهم آينشتين نفسه فكرة أن الطبيعة تحوي في أعماقها وجوهرها سيرورات عشوائية في ظاهرها، خاصة في عالم اللامتناهي في الصغر. فجسيم كمومي أو كوانتي ما، موجود في مكان ما محدد، وفي وقت محدد، يمكنه في لحظة زمنية أخرى لامتناهية في القصر لا تتجاوز جزء من مليار المليار المليار من الثانية، أن يتواجد في أي مكان آخر في الكون، بل ويمكنه أن يتواجد في آن واحد في عدة أماكن، سواء على بعد متر واحد أو في أطراف الكون على بعد مليار سنة ضوئية وأكثر. وهذه حقائق علمية وليس من الخيال العلمي، تم إثباتها تجريبيا ومختبرياً بفضل أجهزة ومعدات ومختبرات متطورة تكنولوجياً وبدرجة مذهلة في الدقة والاتقان، منها على سبيل المثال مصادم ومسرع الجسيمات LHC في جنيف التابع لوكالة الفضاء الأوروبية والمركز الأبحاث والدراسات النووية سيرن CERN والتلسكوب الفضائي بلانك Planck الخ.. مما يدل على أن العالم الكمومي أو الكوانتي عشوائي المظهر تحكمه الفوضى والاحتمالات وعدم الدقة والريبة أو اللايقين. في حين يعلم الجميع من خلال الدراسة والخبرة أن الطبيعة منظمة بدقة وتقودها قوانين فيزيائية ثابتة لايمكن خرقها فكيف يمكن التوفيق بين هذين التشخيصين العلميين، أي الفوضى البادية في العالم الكوانتي واستقرار عالم الواقع؟ من أهم مكونات المادة هو الفراغ الظاهر بين مكونات الذرة وما هو أدنى منها وبين مكونات الكون المرئي كالكواكب والنجوم والمجرات والكازارات والسدم والغازات والأغبرة الكونية الخ.. ولكن في واقع الأمر ثبت بما لا يقبل الشك علمياً أن الفراغ ليس هو فراغ حقيقي وهو مليء بما لا نعرفه اليوم ولا نعرف ماهيته من مادة سوداء وطاقة معتمة وأشياء أخرى لم نكتشفها بعد، وأن كل شيء وكل ذرة في الكون متصلة ومرتبطة ببعضها حميمياً وإن ارتباط الالكترونات والفوتونات والنيوترونات ببعضها لحظوياً أو آنياً في نفس الوقت لا يعد انتهاكاً للنظرية النسبية كما أعتقد البعض. ولا يخرق مبدأ السبب والنتيجة والعلة والمعلول de cause à effet عكس ما تصوره آينشتين وأثار قلقه سنة 1935 من إمكانية وجود تواصل بين الجسيمات في نقل المعلومات بسرعة تفوق سرعة الضوء مما يعني إنهيار أحد أعمدة نظريته النسبية المتعلق بثبات سرعة الضوء وإنه لا يوجد في الكون ما يمكنه التنقل بأسرع من الضوء الذي تحدثه الطفرات الكمومية أو الكوانتية بين الجسيمات الكوانتية. التفسير الوحيد لذلك هو تقبل فكرة الاتصال والتواصل الدائم بين جميع الجسيمات الموجودة في الكون بما فيها تلك التي تكون أجسامنا التي تقوم باستكشاف الكون برمته وإن مجموع تلك الاستكشافات هو الذي يحدد الظاهر المستقر لعالم الواقع الذي نعيش فيه. بعبارة أخرى، كل شيء يحدث كما لو أن كل إلكترون في الكون المرئي يعرف الحالة الكمومية أو الكوانتية لأشباهه المتواجدين في الطرف الآخر للكون المرئي. بل إن بعض العلماء اقترح فرضية لا تقل غرابة ودهشة بوجود عدة عوالم متداخلة ومتوازية mondes multiples et de réalités parallèles، أي إن الكون المرئي والأكوان غير المرئية أو غير المنظورة من قبلنا لحد الآن، تتداخل في تركيبة تحتوي كافة الإمكانيات والاحتمالات، إذ نحن لا ندرك الآن سوى جزء صغير جداً من الواقع الكوني الأشمل اللامتناهي في كبره وسعته وحجمه. إن ما نراه اليوم من عجائب ومنجزات تكنولوجية مبهرة ومذهلة، وهي ليست سوى بدايات بسيطة لما سيأتي من مبتكرات واختراعات، تحققت بفضل النظرية الكمومية أو الكوانتية وتطبيقاتها العملية التي نراها ونستعملها اليوم كأنها أشياء عادية مثل الستلايات والمحطات الفضائية والأقمار الصناعية والتلفزيونات والجي بي أس GPS وأجهزة الهواتف الذكية المحمولة والكومبيوترات أو الحواسيب والمركبات الفضائية والسيارات والطائرات وما يتخللها من أجهزة إلكترونية والروبوتات الخ..

الكون المرئي بين الديمومة والزوال


الترابط والاتكال المتبادل L’interdépendance، اللاديمومة أو اللااستمرارية L’impermanence هي الصفات الجوهرية للوجود كما يقول بوذا.

إذاً، هل الكون المرئي عشوائي منفلت أم منظم ومنضبط؟ هل هو دائم وأزلي أم زائل ومنقرض؟ هل هناك شيء يسبقه وشيء يعقبه أم لا؟ هل هو وحيد أم هناك غيره مواز أو مجاور له؟
الترابط بين المكونات، من أصغرها إلى أكبرها، واعتماد بعضها على الآخر، وعدم ديمومتها وتعرضها للفناء وإعادة الانبعاث أو الولادة من جديد، الحركة الدائمة، والتجدد والتطور المستمر، هي سمات النموذج الكوزمولوجي الجديد الذي يحاول العلماء إثبات صحته اليوم. فالكون المرئي أو المنظور لا يتكون من وحدات متينة ومتميزة وثابتة أو مستقرة، بل هو بمثابة دفق من الأحداث المتغيرة والمتحركة، وسيل من التيارات الديناميكية في تطور دائم، فكل شيء متصل ببعضه ويعتمد على بعضه البعض ويتفاعل فيما بينه على نحو مستمر. فكما يقول علماء الكوزمولوجيا، إن كل شيء يتحرك، وكل شيء يتغير، وكل شيء يتطور. لا شيء في الكون المرئي يبقى على حاله فكل شيء يعاني من اللاديمومة، من أصغر ذرة وما دونها إلى الكون المرئي برمته مروراً بالمكونات الأساسية كالمادة والطاقة والكواكب والنجوم والمجرات والكائنات بمختلف أنواعها. كانت هناك قوة دفع هائلة مجهولة المصدر جعلت الكون في حالة توسع منطلقاً من حالة في غاية الصغر والسخونة والكثافة، كبرت وبردت وتمددت ومازالت تتمدد وتتوسع. ومع نظرية الانفجار العظيم البغ بانغ Big Bang اكتسب الكون المرئي تاريخاً. وصار له بداية وماضي وحاضر ومستقبل. وتشير آخر عمليات الرصد والمشاهدة والدراسة والتحليل إلى أن توسعه son expansion متواصل وسيستمر إلى نهاية الزمان وهل هناك نهاية للزمان؟ وإنه سوف يموت يوما ما بعد مليارات مليارات السنين، في حالة برودة متجمدة، لكن هذا لا يعني نهاية الوجود، فهذا الكون المرئي ليس سوى ذرة غبار في محيط لامتناهي من الأكوان الأخرى المتعددة الماهيات والمكونات والثوابت الكونية. كل البنى التكوينية للكون المرئي في حالة حركة دائمية وتشارك في رقصة باليه كونية مذهلة فهناك حركة الدوران الذاتي أي الكواكب والنجوم والمجرات تدور حول نفسها rotation autour d’elles-mêmes وتدور حول بعضها البعض كالأرض حول الشمس والشمس حول المجرة وهكذا، في حركة تباعد وتقارب، عن بعضها البعض، ولكل منها تاريخ مثلما للكون المرئي، باعتبارها من مكوناته، فهي تولد وتتطور وتموت. فالنجوم تتبع دورة حياتية كالبشر، فهي تولد وتموت لكنها دورة حياة تحسب بملايين وبمليارات السنين. فالأرض تدور في الفضاء بسرعة 30 كلم في الثانية في رحلتها السنوية حول الشمس. والشمس تجر معها الأرض في دورانها حول مجرة درب التبانة la galaxie de la Voie lactée، بسرعة 230 كلم في الثانية، وهذه المجرة تدور بدورها حول مركز ما مع جارتها الأقرب وهي مجرة المرأة المسلسلة آندروميدا Andromède بسرعة 90 كلم في الثانية، والمجموعة المجرية التي تضم مجرتنا وآندروميدا وغيرها من المجرات تدور بسرعة 600 كلم في الثانية حول حشد المجرات المسمى العذراء amas de la Vierge الذي يجذبه حشد أو تكدس أكبر وأضخم هو الهيدرا Hydre وحشد أخر أكبر وأقوى هو سنطور Centaur، وهذه بدورها تنجذب نحو تجمع من عشرات الآلاف من المجرات تسمى الجاذب الأكبر Grand Attracteur، وهكذا.. هذا في مستوى الوجود اللامتناهي في الكبر، والأمر لا يختلف في مستوى اللامتناهي في الصغر، أي العالم الذري وما دون الذري le monde Atomique et Subatomique، فلا شيء يدوم على حاله في هذا العالم الغريب. فالجسيمات يمكن أن تغير طبيعتها. فالكوارك quark وهو أصغر وحدة أو بنية جوهرية أولية مكتشفة من قبل الانسان للمادة، يمكن أن يغير عائلته أو قيمته، فالبروتون proton يمكن أن يصبح نيترونneutron، وبعث أو إطلاق بوزيتون positon، وهو الجسيم المضاد للالكترونantiparticule de l’électron، ونيوترينو neutrino. وفي عملية إفناء annihilation مع المادة المضادة l’antimatière تتحول المادة إلى طاقة énergie خالصة. وحركة الجسيم يمكن أن تتحول الى جسيم والعكس صحيح. بعبارة أخرى، إن خصائص جسم أو شيء محسوس أو مادة يمكن أن تتحول الى جسم أو شيء محسوس أو مادة. فبفضل الاهتزاز أو الارتجاج الكمومي أو الكوانتي الغامض للطاقة يمتليء الفضاء المحيط بنا بعدد لامتناهي من الجسيمات التي تسمى الجسيمات الافتراضية particules virtuelles التي تظهر وتختفي بسرعة مذهلة وذات دورة حياة غاية في القصر durée infinitésimale وهي أفضل تجسيد لللاديمومة l’impermanence. إن الميكانيك الكمومي أو الكوانتي la mécanique quantique يصف السلوك الغريب للطبيعة في مستواها الميكروسكوبي واللامتناهي في الصغر ويستحيل إدراكه من قبل العامة من الناس فكما قال العالم الأمريكي ريشارد فينمان Richard Feynman إذا كنتم تعتقدون أنكم تفهمون الميكانيك الكمومي أو الكوانتي فهذا يعني أنكم لم ولا وسوف لن تفهموه على الإطلاق. وكان آينشتين يعتقد، وبل وعلى قناعة تامة، بأن هذه القوانين الكمومية أو الكوانتية الغريبة والغامضة تخفي مستوى من الواقع أكثر جوهرية مما نتصور. فالشيء أو الجزيء الميكروسكوبي اللامتناهي في الصغر لا يملك في حقيقة الأمر أية قيمة دقيقة ومحددة لموقعه وسرعته أو لكموميته الحركية أو المتحركة sa quantité de mouvement. فإما السرعة أو الموضع فلو حصلنا على السرعة فمن المستحيل تحديد الموضع في الفضاء وهو الأمر الذي يكشف عن ظاهرة تداخل وتشابك حركتين متموجتين من تردد واحد l’interférence وهي ظاهرة لها صلة بالموجات بدلاً من الأشياء المادية مما حدا بالعلماء الى إدخال مفهوم دالة الموجة la fonction d’onde التي تسمح بحساب احتمالية قياس معين يعطي هذه النتيجة أو تلك. ما هي دالة الموجة وكيف نفسر تحولها المفاجيء ما أن نبدأ عملية القياس؟ وكيف يمكن تخيل حالة أو واقع جسيم لايرصده أو يراقبه أو يقيسه أحد؟ النظرية الكمومية أو الكوانتية تعمل بأرقى صورها وفعاليتها رغم غرابة قوانينها وعدم اقتناع العلماء بمفاهيمها. واستحالة تطبيقها على اللامتناهي في الكبر أي المستوى الكوني الأكبر الذي تعاملت معه نظرية النسبية لآينشتين. لذلك ظهر علماء شباب وجريئين اقترحوا أسلوبًا جديدًا للكشف عن الجاذبية الكمّومية أو الكوانتية la gravité quantique التي يعتقدون بإمكانية العثور عليها في آثار الانفجار العظيم البغ بانغ Big Bang. لذلك اقترح عالم الفيزياء - لورانس كراوس Laurence Kraus، عالِم كونيات بجامعة ولاية أريزونا، والعالم فرانك ويلكزك Franck wilkzek، الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل من معهد ماساشوستس بكامبريدج - أسلوبًا جديدًا للكشف عن الجاذبية الكموميّة أو الكوانتية، التي حيّرت العلماء، في آثار الانفجار العظيم.

تنبأت النظرية النسبية العامة لأينشتاين بوجود موجات في نسيج الزمكان تُعرَف بموجات الجاذبيةondes gravitationnelle، ومثلما تُحمَل القوة الكهرومغناطيسية بواسطة الفوتونات، يفترض العلماء أنّ قوة الجاذبية يتم حملها بواسطة جُسيم أولي يُدعى "الغرافيتون"Graviton، ولكن يأس الكثير من العلماء من ملاحظة أو اكتشاف أي جرافيتون في الفضاء يرجع إلى حقيقة أنّ قوة الجاذبية ضعيفة جدًا لدرجة أنه يُعتقَد أن أي تفاعلات بين الغرافيتونات والمادة تفوق قُدرة الإنسان على ملاحظتها، بسبب افتقاده للتكنوليا المتقدمة اللازمة لهذه المهم. بل قال العالِم فريمان دايسون Freeman Dyson، من معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بنيو جيرسي، في مؤتمر عُقِدَ في سنغافورة للاحتفال بذكرى ميلاده الـ90، أنه لمن المستحيل فيزيائيًا بناء كاشف للغرافيتونات. فهناك العديد من الكواشف المقترحة لكنها ستفشل بسبب التشويش الناتج عن الكواشف نفسها، بالإضافة إلى التشويش الكمومّى. أو الكوانتي ذاته. ويجادل دايسون بأنّ الطّريقة القياسيّة للبحث عن موجات الجاذبية - من خلال ارتداد الضوء بين مجموعة من المرايا ومن ثمَّ قياس التغيُّرات الدقيقة في انفصالهم - ستكون أمرًا ميؤوسًا منه للكشف عن الغرافيتونات: فلكي نكون دقيقين بما فيه الكفاية للكشف عن هذه التغيرات الدقيقة في المسافة الضئيلة بسبب الغرافيتون الواحد، لابد للمرايا أن تكون ثقيلة جدًا لدرجة أنها ستنهار لتكوّن ثقبًا أسود.

فى النموذج الأكثر قبولا بين العلماء لميلاد الكون، فإن الكون قد خضع لحالة تضخم Inflation رهيب خلال جزء من مليار المليار المليار المليار من الثانية الأولى من وجوده، وطبقًا للنظرية العامة لأينشتاين، فإن هذا التضخم قد ولّد موجات الجاذبية والتي تمدَّدت على طول الزمكان في اتجاه، وانكمشت على طول الاتجاه الآخر.

يُعتقَد أن العملية التي يولد بها التضخم موجات الجاذبية قد تكون كمومية أو كوانتية ميكانيكيًا في طبيعتها، وبسبب أن الغرافيتونات تظهر وتختفي من الوجود في الفراغ. استخدم العالمان أداة رياضية اسمها "التحليل البُعديّ" لاثبات أن توليد الموجات الجذبوية خلال التضخم يتناسب مع مُربّع ثابت بلانك (قيمة تظهر فقط في النظريات الكمومية أو الكوانتية)، مما يعني أن الموجات الجاذبية كمومية كوانتية بالفعل، كما يقولان. فإيجاد آثار الاستقطاب في خلفية الإشعاع الكوني الماكروي المنتشر (وهي صورة لبداية الكون بعمر حوالي الـ300000 ألف عام) قد يكون أول اختبار تجريبي على أن الجاذبية كموميّة. أو كوانتية. يتخذ العالمان الكون برمته كمختبر وأداة تجريبية لأبحاثهما على أمل الحصول على غرافيتون متضاعف بفعل التمدد الكوني لكنه أمل ضعيف جداً إن لم نقل مستحيل في الوقت الحاضر. لقد أيد صاحب نظرية التضخم العالم آلان غوث Alan Guth وهو أستاذ الكوزمولوجيا في معهد MIT الشهير أي معهد ماسوتشوست للتكنولوجيا، أبحاث كرواس وويلكزك واعتبرها محاولة جديدة لاثبات أن موجات الجاذبية المتوقعة تنجم عن الخصائص الكمومية أو الكوانتية لمجال الجاذبية ذاته، وليس فقط بفعل التفاعل بين مجال الجاذبية والتذبذبات أو التقلبات الكمومية أو الكوانتية للمجالات الأخرى، وبالتالى إذا تمكنا من رؤية دليل مُلاحظ ومقنع من قياسات الاستقطاب لإشعاع الخلفية الكونية الماكروية المنتشرة بوجود موجات الجاذبية، إذن سيكون لدينا دليل قوى على أن الجاذبية كمومية أو كوانتية بالفعل."



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التشيع والدولة: رجال الدين أمام اختبار الحداثة
- دردشة في باريس بين جواد بشارة و الباحث الفرنسي المتخصص بالإس ...
- المليشيات المتشددة في سوريا: الدروس العراقية والليبية
- قراءة في الجذور التاريخية للانقسام الشيعي السني في الإسلام ر ...
- المحطات الخفية في رحلة الكون المرئي
- الجولة ما قبل الأخيرة لمباراة العلم ضد الدين:
- حرب المخابرات سترسم ملامح الشرق الأوسط الجديد
- لبشر وكائنات السماء الأخرى في الكون المرئي : معضلة الاعتراف ...
- مهمة التلسكوب الفضائي بلانك تلقي ضوءاً جديداً على صيرورة الو ...
- برهان شاوي بعيون باريسية
- رؤية بانورامية موجزة لتطور النظريات الكونية من بداية القرن ا ...
- صيرورة الكون المرئي وماهيته من الأصل إلى الكل الحي
- البنية الهندسية لهيكيلية الكون الكلي
- عرض لكتاب الدكتور جواد بشارة الكون الحي
- رحيل الذات
- رؤية فرنسية غير رسمية للأزمة السورية
- تراتيل المدينة المقدسة
- جحيم اللقطاء
- مقدمة لجغرافية الكون المطلق
- صرخة المنفى


المزيد.....




- مش بس السمنة.. الإفراط في المشروبات الغازية يؤثر على صحة عظا ...
- عضو لجنة الفيروسات: مريض فيروس بى لا يعدى الآخرين طالما يتنا ...
- الفيضانات التي شهدتها دول خليجية لا تعود لاستخدام تكنولوجيا ...
- الصحة العالمية: الشخص المصاب بأنفلونزا الطيور انتقلت إليه ال ...
- امنع الشيبس .. يؤثر على صحة طفلك ويتلف خلايا الدماغ
- G7 تدعو إلى خفض الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة النووية ال ...
- -إيران تهدد بمهاجمة محطات الطاقة النووية الإسرائيلية-
- اضطراب يؤثر على حركة العين وسلامة الرقبة.. اعرفه
- أستاذ كبد: الدولة وفرت أحدث علاج مناعى لسرطان الكبد مجانا.. ...
- -مرض غامض- يثير الهلع في الأرجنتين!


المزيد.....

- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جواد بشارة - مفردات الكون المرئي الجوهرية: الصدفة أم الضرورة، الشواش والعماء أم العدم، التمدد والانكماش أم التوسع إلى ما لانهاية؟