أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد سالم - تطور حركة الإستعراب الإسباني















المزيد.....


تطور حركة الإستعراب الإسباني


خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 4241 - 2013 / 10 / 10 - 20:35
المحور: الادب والفن
    



تشهد ساحة الإستعراب في إسبانيا مدرستين، كلتاهما تعملان في مجال الدراسات العربية والإسلامية وتتمتعان بالشرعية العلمية، وهما المدرسة الكلاسيكية، أي التي تهتم بالدراسات العربية الأندلسية والكلاسيكية، والأخرى حديثة تهتم بما هو معاصر. وتسير الأولى منهما على خطى العلامة الراحل إميليو غارثيا غوميث بينما تتبع الثانية تعاليم تلميذه بدرو مارتينيث مونتابيث الذي عمل في جامعة مدريد أوتونوما.
ورغم أن هذا لا يعني أن المدرسة الأولى وليدة الأمس القريب فإن بصمات التأسيس والريادة للعلامة غارثيا غوميث واضحة على الأجيال التالية. فقد سبقه في هذا الدرب أساتذة آخرون مثل غايانغوس وكوندي وكوديرا وغونثاليث بالنثيا وآسين بلاثيوس …، وهي تضرب بجذورها في العصور الوسطى.
من الملاحظ أن حركة الإستعراب المعاصر في إسبانيا تأخرت في نشأتها عن مثيلاتها في الدول الأوروبية الأخرى، إذ بدأت محاولات في هذا الصدد في القرن الثامن عشر ولم تتأصل حتى القرن الماضي. وهو أمر ملفت للنظر في بلد نجد فيه بصمات العرب غائرة في تاريخه وهويته الثقافية، البلد الأوروبي الوحيد الذي بنى العرب عاصمته الحالية، مدريد أو مجريط، إضافة إلى أن إحدى عواصمه السابقة تحمل اسمًا عربيًا، بلد الوليد، له دلالات وتبعات تكمن في وعي ولاوعي الإسبان، فلا يزال الحضور العربي موضع جدل ونقاش حتى اليوم بينهم على إختلاف هويتهم ووعيهم الثقافي. فلم يحسم الجدل بعد حول هوية الأندلس وانتمائها، وخاصة فيما يتعلق بالإجابة على سؤال: لمن هذا التراث؟ هل هو للعرب أم للإسبان، أم هو للطرفين؟
أما تخلف إسبانيا عن اللحاق بقطار الإستعراب حتى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فمرجعيته دينية بحته، فقد أغلق باب البحث في الشؤون العربية بعد محرقة المصاحف والكتب والمخطوطات التي أمر بها الكاردينال ثيسنيروس سنة 1511، والتي أتت على 80.000 مجلد عربي حسب بعض المصادر-أعداء هذا الكاردينال- و5.000 مجلد حسب مصادر أخرى مناصرة له. ولم يكتف الكاردينال ثيسنيروس بذلك بل سعى ونجح في إستصدار قرار ملكي مؤرخ في إشبيلية في 20 يونيو سنة 1511 يقر جمع المصاحف والكتب العربية كافة وتحريم إمتلاكها على أي فرد من العامة. وبعد ذلك تحولت الجهود التي كانت تبذل في حقل الإستعراب إلى مجالات أخرى.
ولم يكن هذا الموقف عفواً عن الإسلام وعن ثقافته أو شعور بالذنب، بل لبدء مرحلة جديدة من التنصير وحمل رسالة الإنجيل إلى سكان العالم الجديد الذي اُكتشف مع بدء حملات الإسبان والبرتغاليين على أمريكا اللاتينية في عام سقوط غرناطة، آخر معقل للعرب في الأندلس. كان سقوط غرناطة في مطلع يناير من عام 1492 ووصل كريستوفر كولمبس إلى القارة الأمريكية في أكتوبر من العام نفسه بينما كان يسعى إلى اكتشاف طريق جديدة إلى الهند.
وبذلك كانت محاكم التفتيش وراء وأد حركة الإستعراب الإسباني التي ولدت مبكراً. وكانت وطأة هذا القرار الملكي ومحرقة الكتب العربية والمصاحف شديدة إلى درجة أن الحوليات وبعض الكتب تؤكد أن الكثيرين سجلوا على أغلفة الكتب عبارة كهذه" إن الخوف يتملكني، هذا ليس القرآن اللعين".
وكان الدين وراء نشأة ودفن الإستعراب الإسباني في مرحلته الأولى، أي قبل القرن السادس عشر، إذ كان قد ظل معطلاً حتى القرن الثامن عشر ولم يأخذ طريقاً جاداً حتى التاسع عشر.
ويضاف إلى ذلك أن من أسباب تجمد حركة الإستعراب الإسبانية في تلك الفترة كان تراجع القوة السياسية والحضارية للعرب، بينما أخذ العالم المسيحي في النهوض والرواج الفكري والثقافي وتأكيد الذات، مما حمل إسبانيا على الإهتمام بالنهضة الأدبية التي بدأت في أوروبا تحت قيادة الكنيسة الكاثوليكية، وبذلك نسي الإسبان الكتب والمخطوطات التي كانت تضم بين صفحاتها خلاصة الحضارة العربية وظلت سنوات طويلة بين أرفف المكتبات والمحفوظات، ولم يقترب منها سوى بعض الباحثين من حين لآخر.
وكانت رغبة الكنيسة الإسبانية في توحيد البلاد دينياً سبباً آخر في وأد حركة الإستعراب الإسباني التي نشأت قبل أي حركة أخرى في أوروبا … وهو الأمر الذي حملها على وضع الدعاية هدف لدراسة القرآن والتراث العربي.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن إسبانيا كانت سباقة في هذا المجال، إذ بدأ الإستعراب الإسباني نشاطه والعرب كانوا ما يزالون في الأندلس، بغية التعرف على "الأعداء"، أي العرب، وضرب كتابهم المقدس. وهناك من يبرر هذا الهوس الديني بأن إسبانيا كانت طوال تاريخها ذات نزعة تبشيرية، وهذا مثبت تاريخياً من قبل الإسبان.
ومن هذا المنطلق أنشئت مراكز إستعرابية في الأديرة والكنائس بالمدن التي إستردها الإسبان من العرب إبتداءً من القرن الثالث عشر، وكان السبب هو رد الصفعة- حسب الكنيسة- "للمحتل" العربي والإنتقام من دينه ممثلاً في القرآن الأمر الذي أسفر عن وجود متخصصين ذوي باع في تفنيد كتاب المسلمين المقدس والنيل منه دينياً وثقافياً.
وتأكيداً لهذا السياق فإن أول ترجمة إلى الإسبانية للقرآن كانت إهداءً- تمت سنة 1143م- على يد روبرتو دي رتينيس، بأمر من القس بدرو البينيرابلي أو بدور الموقر Pedro el venerable ، حملت إهداءً إلى القديس برناردو يقول: "إلى الدعاية ضد الإسلام". إلا أن هذا الوضع سمح للإستعراب أن يشكل جزءاً من التراث الثقافي للإسبان، دون أن يكون بين أهداف رجال الدين.
بيد أن المسؤول الأول عن هذا الوضع، أي تكثيف الإهتمام بالدراسات العربية، كان الملك ألفونصو العاشر، الملقب بالحكيم، الذي أسس مدرسة طليطلة للترجمة التي عملت طوال القرنين الثاني عشر والثالث عشر. والمعروف أنها قامت بترجمة أمهات الكتب العربية في شتى العلوم إلى الرومانثية مباشرة- أي الإسبانية القديمة- دون نقلها أولاً إلى اللاتينية على غرار ما كان يقوم به رئيس أساقفة طليطلة دون رايموندو.
لقد شهدت تلك الفترة حركة ترجمة واسعة للكتب العلمية بحثاً عن التراث اليوناني الذي إستفاد منه العرب وتمثلوه، إلى جانب دراسة الفلسفة والدين لأهداف جدلية.
وإلى هذا الملك الحكيم والعاشق للأدب العربي يرجع الفضل في أول ترجمة للقرآن إلى الإسبانية، وكان من رواد الدراسات المقارنة والتأثر بالتراث العربي الذي ترك بصماته على مؤلفاته نفسه مثل: General Estoria, Libros del Saber de Astronomia y las Cantigas de Santa Maria. . وإليه يعود الفضل في تأثر كتاب إسبان بالثقافة العربية في مراحل لاحقة عليه، من بينهم دون خوان مانويل في كتابه "الكونت لوكانور"، ورئيس أساقفة إيتا - El Arcipreste de Hita- في كتابه " الحب الحميد"- El Libro de buen amor ، دون أن ننسى ثيربانتيس وروايته العالمية "دون كيخوتي"، الكتاب الأكثر انتشارًا في العالم بعد التوراة. هذا بالإضافة إلى ترجمة كتب تنتمي إلى التراث العربي العالمي نذكر منها "كليلة ودمنة".
ورغم القرار الملكي الذي إستصدره الكاردينال ثيسنيروس وتحول إسبانيا صوب العالم الجديد بغية تنصيره، فلم تكن القطيعة تامة بين المتخصصين الإسبان والثقافة العربية، ففي القرن السادس عشر نفسه كتب بدرو دي ألكالا " Vocabulista aravigo en letra castellana" وهو كتاب أساسي في معرفة صوتيات اللغة العربية في الأندلس، وهو مجال ما زال يفتقر إلى الكثير من الدراسات العربية والإسبانية، أعني هنا دراسات لغوية عن العربية الأندلسية، وهي دعوة أطلقها لدارسي اللغويات والأندلسيات في الجامعات العربية على أساس واقع عشته في الجامعات الإسبانية.
وفي تلك الفترة صدرت كتب تتناول تاريخ الأندلس، خاصة تاريخ مملكة غرناطة وتمرد الموريسكيين، من بينها Historia de los Reyes Catolicos (تاريخ الملكين الكاثوليكيين)، فرناندو وإيسابيل، لأندريس بيرنالديث و Cronica de los Reyes Catolicos لفرناندو بولغار، وla Guerra de Granada (حرب غرناطة) لدييغو أورتادو دي ميندوثا، وHistoria de la rebelion y castigo de los moriscos تاريخ تمرد الموريسكيين وعقابهم لمارومول كاربخال Marmol Carvajal.
ومع هذا النوع من المؤلفات ينتهي ما يمكن أن نطلق عليه الإستعراب الإسباني الخاص أو الذاتي، ويصاحبه خوف الموريسكيين من محاكم التفتيش، ومعهم هواة التعرف على التراث العربي في الأندلس، مما حملهم على إخفاء أي معرفة بلغتهم الأم. وأمام هذه المخاوف تقلص عدد المقبلين على دراسة العربية إلى درجة أن الأستاذية في العربية بجامعة سلمنكة ظلت شاغرة إبتداءً من 1500م، وظل قسم اللغة العربية في جامعة الكالا دي إيناريس- أوقلعة عبد السلام- شاغراً من الأساتذة بينما لم يطلب الطلاب الإنضمام إليه.
ولم تقم قائمة للإستعراب الإسباني حتى القرن الثامن عشر خلال ولاية الملك كارلوس الثالث- كان من أسرة البوربون المالكة في إسبانيا في الوقت الراهن. وأمام هذه المعطيات المحلية نشأت في إسبانيا حركة إستعراب معاصر مختلفة عن الحركات الأخرى في العالم، وبذلك ولد الإستعراب الإسباني واندثر ثم عاد للنهوض في ظروف مختلفة عن محيطه الأوروبي والعالمي. فقد ورد في مجمله من الخارج بسبب تصفية الإستعراب المحلي على يد المؤسسات الدينية منذ ولادته.
ولعل هذه الملاحظة تعد أبرز ميزات الإستعراب الإسباني المعاصر، إذ إستعير بينما كانت لديه أرض محلية خصبة للنمو والترعرع قبل أي إستعراب غربي. ولم يكن تطوراً لشئ محلي، بل مستورداً، جاء بعد قرنين من التوقف والجمود. وقد يُفهم هذا إذا أخذنا في الحسبان مقولة: إسبانيا مختلفة!Spain is different التي يحلو للإسبان التشدق بها، بين مزاح وجد، لتبرير أوضاع غريبة أو شاذة.
إن الوسط الذي يعيش فيه الإستعراب الإسباني معادٍ له، فالذاكرة الجماعية للإسبان تنظر إلى ما هو عربي نظرة ريبة، وفي أحسن الأحوال عدم إكتراث وشفقة، والإسبان لهم عذرهم في ذلك، فمن الضروري الأخذ بعين الإعتبار علاقات خضبتها دماء السكان الأصليين، أعني دماء سكان الأندلسيين الأصليين، الإسبان بعد سقوط غرناطة، حتى وإن كانت هذه العلاقات قد أنتجت إحدى أبرز حضارات العالم على مدى التاريخ، وكان لها دور مهم في تكوين هوية فريدة لإسبانيا. ولا نغالي إذا قلنا إن وصول إسبانيا إلى العالم الجديد يعود في جذوره السياسية والتجارية والدينية إلى ظاهرة الأندلس في بلد أوروبي.
والملفت للنظر بالرغم من كافة الظروف والملابسات التي أشرنا إليها أن الإستعراب الإسباني يشكل جزءاً من التراث التاريخي الثقافي لهذا البلد حيث يقوم فريق من الباحثين الجادين، يتمتعون بكفاءة علمية كبيرة، تبحث غالبيتهم في التراث المشترك للجماعة بينما هذه الجماعة أو المجتمع يدير ظهره لهم، باستثناء أقلية قليلة تعي هذا الدور وأهمية هذا التراث للبلد الأوروبي الوحيد الذي أقام فيه العرب حضارة إمتدت لما يقرب مع عشرة قرون، وليست ثمانية كما يشاع، إذ يجب الأخذ بعين الاعتبار تاريخ طرد الموريسكيين، في القرن السابع عشر، ومن تخلف منهم في إسبانيا إذ آثروا العيش في الأرض التي ولد فيها على الإنتقال إلى بلاد يجهلونها تماماً وإن كان ذلك سيعني حفاظهم على هويتهم الدينية وعدم طمسها كما حدث فيما بعد، إضافة إلى عودة بعضهم إلى شبه جزيرة أيبيريا بعد الرحيل إلى شمال إفريقيا.
هذا دون أن تكون لدي رغبة في الدعوة إلى الجهاد أو الإعداد لحرب صليبية ونحن في حالة هلامية لا تتحمل مزيدًا من المزايدات باسم القومية أو الدين، فما أكثر تجار الدين وتجار الوطنية!! لكنني فقط أشير إلى واقع يدركه اليوم المستعربون الإسبان والعرب المقيمون في بلاد الأندلس.
ولهذا عندما جاء كارلوس الثالث وأراد أن يُدخل الدراسات العربية في إسبانيا، في منتصف القرن الثامن عشر، لم يجد من يستطيع أن يؤدي هذه المهمة بين الإسبان، فاضطر إلى إستيراد المعرفة والأشخاص في مجال الإستعراب. آنذاك أمر باحضار عدد من الرهبان اللبنانيين، برز بينهم ميشيل قصيري- بعض المراجع العربية تقول إن إسمه ميشيل غزيري- الذي شغل وظيفة أمين مكتبة دير الإسكوريال ووضع عدداً من المؤلفات، كان أهمها تصنيف مخطوطات هذا المكتبة، وبينها بالطبع المخطوطات العربية، وكتاب للكلمات العربية التي دخلت الإسبانية، ودراسة وملخص لكتابي "لمحة" و"الإحاطة في أخبار غرناطة" للسان الدين بن الخطيب.
كما أسفر مشروع كارلوس الثالث عن ترجمة المجلد الضخم الذي وضعه بن العوام حول الفلاحة على يد خوسيه أنطونيو بانكيري ووضع قاموس عربي-لاتيني على يد فرانثيسكو كانييس.
جدير بالإشارة أن الحياة دبت في حركة الإستعراب الإسباني ليس فقط بسبب رفع الراتب والترقي الوظيفي اللذين وعد بهما كارلوس الثالث لمن يتعلم العربية، بل كانت أساساً بسبب تقليص صلاحيات رجال محاكم التفتيش إلى درجة فكر البعض في إلغائها.
وكان من تبعات هذا الوضع ولادة حركة الإستعراب الحديثة والحقيقية في القرن التاسع عشر على يد العلامة عاشق الكتب باسكوال غايانغوس (1809-1897) الذي درس بين باريس ولندن قبل أن يعود إلى مدريد عام 1843 لشغل منصب أستاذ اللغة العربية في جامعتها الذي أنشئ قبل بضع سنوات من عودته وهو في منتصف عمره. ورغم أن شخصية غايانغوس تركت بصماتها على بداية الإستعراب الإسباني ومدرسته الحديثة من خلال نزاهته العلمية وإنسانيته، فمن المعروف أنه تخلى عن درجة الأستاذية لطلابه ولم يضن عليهم بكتبه ومخطوطاته وملاحظاته العلمية التي جمعها طوال مسار حياته المعهدية.
إلا أن هذه المدرسة لم تسر على خطى حركة الإستعراب الإسبانية في العصور الوسطى ممثلة في مدرسة طليطلة للترجمة وردريغو خيمينيث دي رادا وبدرو دي ألكالا ومارمول كاربخال، بل تبعت خطى الرهبان اللبنانيين والسوريين والإستشراق البريطاني وخاصة الفرنسي من خلال سيلفستر دي ساسي ودوزي.
ومع عودة الإستعراب الإسباني إلى الساحة يلاحظ أنه إبتداءً من القرن الثامن عشر أخذ يقتصر تقريباً على أساتذة الجامعات، أي يمكن وصفه بالنزاهة وإنكار الذات والتحلي بالبحث التاريخي والعلمي بعيداً عن مقاصد إستعراب العصور الوسطى الذي نشأ في أحضان الكنيسة بحيث كان نفعياً وذا أهداف دينية أيدولوجية غير خافية على أحد، وعن دوائر الإستخبارات على عكس حركات الاستعراب في دول غربية أخرى.
أما فيما يتعلق بمواضيع الإستعراب الكلاسيكي فيمكن وصفها بأنها كانت محلية بعيدة عن الأسباب الرومانسية التي كانت وراء نشأة الإستشراق الأوروبي في نهاية القرن السابع عشر.
وتتميز حركة الإستعراب الإسباني عن الحركات الأوروبية الأخرى أنها عاش وعايشت الإسلام، فالأندلس كانت سبباً في خصوصية الإستعراب الإسباني، وهو وضع لم تتمتع به حركتا الإستعراب البريطانية أو الفرنسية رغم التاريخ الإستعماري الطويل الذي حظيت بها فرنسا وبريطانيا في الوطن العربي والعالم الإسلامي.
حري بنا الإشارة هنا إلى أن الكثير من المستعربين والمثقفين الإسبان يعللون تخلف إسبانيا حضارياً عن محيطها الأوروبي بطرد الموريسكيين من بلادهم إذ أنها بهذه الفعلة المضادة للتاريخ فقدت إسبانيا بخروجهم معظم العارفين ببواطن الأمور في الزراعة والتجارة. أما القائلون بأن الإحتلال العربي للأندلس كان وراء ذلك فهم قلة. ومجرد الجدل حول هذه المسألة لا وجود له بين حركات الإستعراب الأوروبية الأخرى، مما يؤكد على خصوصيتها في إسبانيا.
ومع حلول القرن التاسع عشر أخذ الإستعراب الإسباني، والغربي عامةً، يكثف إهتمامه بما هو عربي لظروف معروفة للجميع، إذ أخذ الأدباء والدارسون في البحث عن مغامرات ثرة خارج الزمان والمكان، في محاولة لإكتشاف الكنوز الممثلة في العصور القديمة والوسطى والآداب والثقافات الأجنبية. وكان الأدب الشرقي على رأس هذه الآداب التي حظيت بالإهتمام والدراسة، الأمر الذي رفع المستشرقين إلى مصاف رجال الدولة والمجتمع في الدول الأوروبية.
وفي إسبانيا أخذ الإستعراب المسار نفسه تقريباً وإن كان قد تخلف عن الحركات الإستعرابية في الدول الأوروبية الأخرى. وهناك من يذهب إلى القول إن إسبانيا مدينة بالكثير لمستعربيها في القرن التاسع عشر نظراً لأنهم بدؤوا عملهم من الصفر تقريباً، إذ كان عليهم وضع كتب قواعد اللغة العربية والقواميس وترجمة المخطوطات وتحقيقها ونشرها. إلا أن هذا الطرح يجانبه شئ من الصواب لأن المستعربين المحدثين أفادوا، بدرجة ما، من أعمال أسلافهم.
أما أبرز مستعربي بداية القرن الماضي فكان خوسيه أنطونيو كوندي الذي ترك بصمات واضحة على الإستعراب داخل وخارج إسبانيا. وبالرغم من الإنتقادات التي وجهت إليه والتقليل من شأنه فإن أحداً لم يحاول الكتابة في تاريخ الحضور العربي -أو الإحتلال كما يطلق عليه الإسبان- مباشرة من مصادره العربية، إذ إكتفى المؤرخون الذين سبقوه في إستقاء المعلومات من الحوليات المسيحية التي لم تكن كافية لسد الثغرات الكبيرة التي كانت قائمة قبله.
وبالرغم من أن خوسيه أنطونيو كوندي كان رائد الدراسات العربية إسبانيا فإن باسكوال دي غايانغوس يعد المؤسس الحقيقي لمدرسة المستعربين الحديثة الذي جمعته صداقة وعمل حميمين مع مستعرب لايقل عنه أهمية هو سيرافين إستيبانيث كالديورن المعروف بـ "السوليتاريو" el solitario أو المتوحد واشتهر بتأثره بما هو عربي في كتاباته من منطلق رومانسي. ثم تتلمذ على يد هذا الأخير فرانثيسكو خابيير سيمونيت وهو لا يتمتع بالقبول في الدوائر العربية والكثير من الإسبانية المحايدة، إذ يرون في أعماله مهاترات كثيرة وتحاملاً على العرب. وكان سيمونيت قد خصص جزءاً من أبحاثه لدراسة اللغة، وخاصة دراسة الكلمات الإسبانية ذات الأصول العربية، مفنداً بعض نظريات سلفه في هذه المجال من منطلق التقليل من شأن التأثير اللغوي العربي على اللغة القشتالية، الإسبانية.
ويعود الفضل إلى مستعربي القرن التاسع عشر في إكتشاف الأدب الموريسكي إذ ظل حتى ذلك القرن مهملاً إن لم يكن مجهولاً. كما قاموا بمراجعة الأفكار المتعلقة بالفتح والحضور العربيين في إسبانيا على أساس علمي، إلى جانب إكتشاف الجانب الجذاب والرومانسي للأدب الأندلسي من منطلق روح العصر. وحري بنا أن نشير هنا إلى أن الحضور العربي في شبه الجزيرة العربية كان موضع خجل وعار للكثيرين وبفضل دراسات هؤلاء المستعربين تغيرت الصورة وأصبحت إيجابية أو أخذت طريقها نحو تصحيح للأفكار بهذا الصدد، وهو واقع ملموس من خلال معاملتي اليومية مع الطلاب والزملاء في الجامعات الإسبانية إلى جانب جزء عريض من البعيدين عن هذا المجال.
غير أن القرن العشرين يظل أزهي عصور الإستعراب الإسباني بكل المقاييس، ففيه اكتشف أسين بلاثيوس أثر القرآن في الكوميديا الإلهية والكل يعلم أهمية هذا البحث، هذا إضافة إلى عدد ونوعية المستعربين الإسبان الذين يملأون الساحة ببحوثهم ودراساتهم الكلاسيكية والحديثة إلى درجة تستحق التوقف والتأمل والدراسة، وهي تشبه إلى حد ما عدد دارسي أدب الإسبانية في الوطن العربي عموماً ومصر خصوصاً، وإن كانت البون لا يزال كبيراً بين نوعية دراسات وتكرس الجانبين لعمله في هذين المجالين.
ومن أبرز رواد الإستعراب في النصف الثاني من القرن العشرين إميليو غارثيا غوميث الذي ظل الحارس الأمين على التوجه القومي الرجوعي اللاهوتي في نظرته إلى التراث الأندلس إلى أن فارق دنيانا في صيف 1995 ليدفن في المدينة التي بدأ فيها نشاطه العلمي والأكاديمي غرناطة مؤسساً لمدرسة الدراسات العربية. إلا أن هذا التوجه لا ينقص دوره البارز والموثر في حقل الإستعراب الإسباني والأوربي بصفة عامة شيئاً وإن إختلف معه البعض في بعض طروحاته بهذا الصدد.
وقد شهد القرن الحالي مولد مدرسة جديدة في الإستعراب الإسباني، هي المدرسة المعاصرة تضارع المدرسة الكلاسيكية التي تكرس نشاطها أساساً للدراسات الأندلسية والكلاسيكية العربية. ويعود الفضل كما أسلفت القول في إنشاء هذه المدرسة إلى العلامة بدرو مارتينث مونتابيث الذي خرج من عباءته معظم مستعربي هذه المدرسة الذين يملؤون الجامعات ومعاهد البحث الإسبانية، وكلهم يدينون له ويملأهم العرفان بذلك والزهو بالتتلمذ على يديه.
ولا يوجد متسع لتصور أن ساحة الإستعراب الإسبانية تشهد صراعاً أو مواجهة بين أساتذة ومريدي المدرستين. وأكثر من هذا فإن صاحب المدرسة المعاصرة، بدرو مارتينيث مونتابيث، يرفض إطلاق هذه التسمية على ما وضع أسسه منذ أن تفتحت عيناه على العالم العربي المعاصر بزخمه السياسي والثقافي في قاهرة عبد الناصر، التي لا يزال يعشقها، حيث عمل مديراً للمركز الثقافي الإسباني في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات. وكانت القاهرة نقطة إنطلاقه وإهتمامه بالأدب العربي المعاصر فترجم لنجيب محفوظ قبل أن تعرفه بلدان أوروبية كثيرة، ولكل من صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي ويوسف إدريس ونازك الملائكة ولآخرين تزخر بها مكتبات الجامعات الإسبانية.
ومع عودته إلى مدريد وانشاء جامعة مدريد أوتونوما شرع في تأسيس قسم الدراسات العربية في هذا الجامعة الفتية التي إفتتحت عام 1970، وفي إتخاذ توجه جديد في هذا الحقل، ليدرس، لأول مرة، الأدب والفكر العربي المعاصرين واللهجات العربية في جامعات إسبانيا. ولنا أن ندرك أهمية هذا التوجه بعد أن ظلت الدراسات العربية طوال حوالي قرنين مقصورة على ما خلفه الأجداد من تراث عربي في الأندلس، وهو تراث تنظر إليه هذه المدرسة على أنه إسباني بقدر ما هو عربي، ويذهب البعض إلى التوكيد على أنه إسباني رغم أن هذا اللفظ لم يكن له وجود سياسي في خريطة أوروبا إلى بعد أن رحل العرب بسنوات طويلة….
يضاف إلى هذا أن حركة الإستعراب في إسبانيا ظلت أكثر حركات الإستعراب الغربية بعداً عن دوائر الإستعمار الغربية، من هنا يمكن الجزم بنزاهتها، وإن كانت أصابع الإتمهم تشير إلى البعض بولوجهم هذا المجال، ولكن هذه تبقى في دائرة الإتمهم .
ورغم قصر عمر حركة الإستعراب الإسباني المعاصر مقارنة بمثيلاتها في محيطها الأوروبي تعد من أنشط الحركات وأكثرها إنتاجاً وتأثيراً في الحياة الثقافية في هذا البلد. ونظرة أولى على الكتب والبحوث التي يصدرها أساتذة الإستعراب في إسبانيا والعدد الهائل من الطلاب الذين يلتحقون عاماً بعد عام بأقسام اللغة العربية التي تنتشر في معظم جامعات إسبانيا، خاصة جامعات شرق وجنوب إسبانيا، وإن كانت جامعة عاصمة إقليم الباسك، في مدينة بتوريا، أخذت منذ عدة أعوام في تدريس لغة الضاد على يد شاب مصري هو الدكتور صلاح سرورو، فكانت مغامرة علمية تحسب له إذا أخذ في عين الإعتبار الظروف المالية والثقافية التي بدأ فيها مغامرته. وإذا أردنا أن نعرف الفارق الكبير لصالح حركة الإستعراب الإسبانية فعلينا أن نقارن بينها وبين الدراسات الإسبانية في الوطن العربي، ولتكن المقارنة بين ما ينتجه أساتذة أقسام اللغة الإسبانية في أكبر بلد عربي، مصر، ونظرائهم في أقسام اللغة العربية في إسبانيا، لندرك البون الشاسع لصالح الإسبان، كمًا وجودةً.
إن حركة الإستعراب الإسبانية بمدرستيها تلفت النظر، فهناك إقبال كبير على تعلم العربية والبحث والتنقيب في تراثها، وهو أمر كان يثير فضولي ودائماً كنت أسأل الطلاب في بداية العام الدراسي: لماذا تتعلمون العربية؟ وأجد إجابات متنوعة ومتعددة ومعظمها يشير إلى حب للثقافة العربية ورغبة في التعرف على الجيران، والتعرف على تراثنا المشترك وعلى أصدقائنا العرب على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. إنها عوامل عدة، في مجملها مغامرة ثقافية جميلة!



#خالد_سالم (هاشتاغ)       Khaled_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكاتب الإسباني أنطونيو غالا: الأندلس تتملكني، فهي الهواء ال ...
- تأثير نوبل نجيب محفوظ على الترجمة من العربية إلى الإسبانية
- عالم الأندلسيات محمود مكي يترجل إلى الآخرة من بلاد الأندلس
- الغيطاني وجدلية المجرد والمحسوس في -متون الأهرام- *
- الشاعر رفائيل ألبرتي : تأثرت بالشعر العربي الاندلسي وغارثيا ...
- الإسلاميون والديمقراطية في مفترق طرق
- سورية في قلب أم الدنيا
- الرؤيا في شعر البياتي
- لا تجبروا جيش الشعب المصري على أن يكون فاعلاً على غرار جيوش ...
- أزمة اللغة في -المسرح الجديد- في إسبانيا
- مشاهد بعد معركة الإخوان المسلمين
- العرب بين الإنتحار واللهو بتطبيق الشريعة: مصر على شفا جَرف ه ...
- من البنية إلى البلاغة في السميوطيقا البصرية
- التأليف الموسيقي في خدمة الصورة السينمائية (الخطاب الموسيقي ...
- توظيف وتطبيق العلامات المسرحية
- حركة الإستعراب الإسبانية من الداخل
- مكان الطقس في سميوطيقة العرض
- السارد في المسرح
- سميولوجيا العمل الدرامي
- الشاعر أوكتابيو باث في ذكراه:على العالم العربي أن يبحث له عن ...


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد سالم - تطور حركة الإستعراب الإسباني