أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ياسين المصري - الشيخ أحمد وزملاؤه















المزيد.....


الشيخ أحمد وزملاؤه


ياسين المصري

الحوار المتمدن-العدد: 4237 - 2013 / 10 / 6 - 18:14
المحور: كتابات ساخرة
    


منذ زمن طويل يحدوني الأمل والرجاء وتراودني الرغبة العارمة في كتابة قصة "الشيخ أحمد وزملائه"، كما رأيتها وعايشتها، لما لها من عجب وما تسببه من غضب لمن لا يستحقون العزاء أو يفضِّلون الانطواء.

وددت أن أكتب، قدر استطاعتي، عن هؤلاء الرجال والنساء والأطفال، لا لسبب سوى أننى أرغِمت في فترة الصبى وبداية الشباب على قضاء الكثير من الوقت في التطلع إليهم ومراقبة أوضاعهم التي لا شأن لهم بها. فلم أجد لهم وجود يمكن وصفه ولا تاريخ يمكن قراءته. فحياتهم لم تكن حياة كاملة، أو كأنها الحياة والموت معا، وجودهم هباء منثور في تراب النفوس، مجرد لهَّاية وحيدة يلهو بها الكبار والصغار، لتمضية أوقاتهم الكئيبة في القرية، ببشاعة وهمجية. إنه العدم بعينه وقد دب في أعماق الحياة، حيث لم تعد تتداعى المعاني أو تتدفق الذكريات!!

كان من زملائه: إبراهيم أبو نادي وسيد نِنَّة وعلي بلَّة وإبراهيم العشار وبحيرة المهيوي والبت سنية العمشة ومحمد الملاس وآخرون يستحيل حصرهم. إنهم شخصيات عالمية بكل المقاييس، نقابلهم في حياتنا كل يوم تقريبا، ولا نراهم ولا نشعر بهم وكأنهم أشباح هبطت من السماء أو انبثقت من الأرض لتمشي بيننا وتعمل على تسليتنا. أوجدهم سخاء الطبيعة بالآلاف في المدن والقرى والنجوع المصرية، كما أوجدهم في لوس أنجلوس وطوكيو وبرلين، وهم لا علاقة لهم بالوجود. فكان "هتلر" يبيدهم لتنظيف الألمان منهم، والآخرون يرون الاستفادة منهم بتأهيلهم ودمجهم في المجتمع، ونحن لا نرى فيهم سوى وسيلة للتسلية واللهو الخفي، لا يعيشون بينا على هامش الحياة، بل في جحيمها، فنحن جميعا نكتوي بجحيمها. إخترنا لهم حياتهم لأننا لا نستطيع إختيار حياتنا. فاقد الشيء لا يعطيه. لا أحد يملك نفسه وسط الهباء والعدم؟؟

قذفت بهم الطبيعة إلى أتون العيش، وتكفلت بمدهم بأجيال جديدة كل يوم.

إنهم يحبون الظلام ويكرهون النور. فمع حلول الظلام يهرعون إلى جحورهم فوق الأرض وتحت الأرض، ويعاودون الظهور مع شروق الشمس، ليجوبوا شوارع المدن ودروب القري والنجوع بلا هدف أو سبب.

لا يكتسبون عالميتهم من العدم وحده، كما هو حال جامعة الدول العربية، بل يكتسبونها أيضا من سِماهم التي على وجوههم، ومن جهلهم بذاتهم، فهم لا يعرفون من هم وأين هم، ليس لديهم هوية شخصية أو وطنية أو ذكريات تاريخية أو رغبات أو آمال مستقبلية، وجودهم في الدنيا لا يعني أي شيء بالنسبة لهم أو لغيرهم. كما أن الآخِرة، التي هي خير وأبقى، لا مجال لها في نفوسهم، فلا مدلول يذكر لديهم لأي مكان أو زمان.

وجود الآخرين حولهم لا معني له سوي اللهو الخفي أو الطعام، الأول يهربون منه قدر استطاعتهم، والثاني يطلبونه كما تطلبه الحيوانات، فيلتهمون الفتات في ثانية واحدة أو ثانيتين، ثم يذهبون أو يفرون في حال سبيلهم إلى لا شيء، لا هدف ولا نيَّة لفعل أي شيء. يصاحبهم العدم، فلا مجاملات ولا تعاطف ولا حب ولا كره ولا نية للانتقام ولا سبيل للإبتزاز أو الخداع .... لا يقتلون ولا يذبحون ولا يكذبون، ولا يتزوجون ولا ترهقهم الحاجة إلى الجنس. لا يلهثون وراء الملذات وحطام الدنيا، ولا يعرفون طريق الخطايا التي حذر منه السيد المسيح، إنهم أحباب المسيح، ليس لديهم أي أمل، لكنهم في حاجة إلى الرجاء. يعيشون على الخبز وحده، ولكن بالخبز وحده لا يحيا الإنسان. تتسرب الحياة من بين أيديهم وإلى أعماقهم محملة بالعدم لتنفث في أجسادهم الضامرة عوادمها في غيبوبة القدر المزمنة.

إذا تكلموا لا يستمع إليهم أحد، ولا أحد يريد أن يفهم ماذا يقولون، وعن ماذا يتكلمون، وماذا يريدون. لا يندمون على شيء ولا يبكون لشيء أو على أي شيء سوى لإحساسهم بالألم، يهربون من الطوب والحجارة، يفرون من الغل الدفين في النفوس من حولهم، ومن الحسد على وجودهم الذي يتمناه الكثيرون. الألم هو عدوهم الأول والأخير.

حاولت دائماً وبإصرار أن أدخل إلى أعماقهم لأعرف ماذا يدور في رؤوسهم وما يختمر في نفوسهم، فجالست البعض منهم وحادثته فأضحكني وأضحكته وضحكنا معا، ولكني لم أجد شيئا ولم أرى شيئا.

كنا في نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي، وكان صاحب الانقلاب العظيم البكباشي عبد الناصر أول مصري يستمتع وحده وبكل فخر بشعبيته الشاهقة، ولا يألو جهدا في إغراق شعبه كل يوم بسيل من المشاكل الجديدة، ليدخل الشعب في سباق التكاثر مع الأرانب في صحراء أستراليا، أنه النهم الى زينة الحياة الدنيا، كنت أخطئ أحيانا وأهتم مع الآخرين بمجالسه الوزارية، حيث تتسمَّر أنظار الوزراء علي شفتيه ينتظرون في خشوع وخضوع كلماتهما، لا حركة واحدة ولا فعل. فلا يقولون شيئا، ولا يفهمون منه شيئا، بينما الشيخ أحمد وزملاؤه يجوبون البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ويذهبون إلى اللهو الخفي ويعودون منه في عمليات كر وفر لا تتوقف. فأمعنت النظر في وضعهم وقارنتة بغيرهم.

ورأيت أن أرشح لزعيم الانقلاب ورئيس الوزراء في ذلك الوقت بعضا منهم لتحسين الأداء، ورفع الكفاءات، وزيادة الخبرات. فوقع اختياري على إبراهيم أبو نادي كأفضل وزير للعمل، لا يرقى إلى مستواه أي وزير عمل لا في عهد البكباشي أو العقيد أو أو أصحاب الفخامة أو السمو الملكي أو غيرهم، كان بمقدوره ألا ينظر لأحد ولا يكلم أحدا أو يطلب شيئا من أحد وهو يقطع الزرائب بإتقان وفي وقت قياسي يحسد عليه، مما يؤهله، في أسوأ الأحوال، للحصول على جائزة الدولة التقديرية أو وسام الجمهورية من الدرجة الأولى أو، على أقل تقدير، قلادة النيل. وفي أفضل الأحوال الحصول على كسرة خبر بالجبن الأريش (بالقاف أي الخالي من الدسم)، دون حاجة إلى ضمان ولائه وطاعته العمياء لله ورسوله وألي الأمر منه، ماذا يفعل بالنقود أو الجوائز التقديرية وأين يحفظها وخلقانه مخرَّمة وذاكرته مخرَّمة أيضا، أخرام وراثية ينفذ منه جميع القطارات القادمة مرة واحدة من كل الاتجاهات في ساعة الذروة الصباحية أو المسائية، أو الإثنين معا، والمتجهه - بلا عودة - إلى قلب القاهرة الذي كان زمان، وقبل أن تحدث معجزة العسكر.

وسيد نِنَّة كان من أفضل وزراء الخارجية على الإطلاق، إذ يختفي لعدة أيام أو أسابيع أو شهور، ثم يظهر مرة أخرى ومعه رد واحد على فضول وكالات النباء: كُت عند المشير في جرْدَل سِتِّي (جاردن ستي). الأصل عنده هو: خير الكلام ما قل مدل.

أما محمد الملَّاس، فكان يعمل ويعتز بعمله كثيرا، لذلك كان أحسن وزراء النقل والمواصلات في ذلك الوقت، يحمل ويجر وراءه ما ثقل حمله وانعدم ثمنه. ليمَلِّس الأرض وينظفها ويمهدها من خلفه، في تجوال مستمر، فالأزقة متربة ومطعمة دائماً بكل أنواع وألوان الجلة القديمة والحديثة. والحفر والمطبات وأرصفة حديقة الحيوان ملأت طول البلاد وعرضها كالأمراض الخبيثة التي لا تعالج إلا بتمليسة واحدة منه.

المشكلة الرئيسية هنا، أننا نطيل النظر أكثر مما يجب إلى الابتسامة الساحرة على شفتي جولينيا سفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة الأمريكية لأنها تتعمد إخفاء ساقيها بين المقهورين، فلا نرى الدموع ولا نرى النوايا الحسنة ؟؟!!.

أما "الشيخ" أحمد، فلا أحد يعرف لماذا حمل هذا اللقب الذي أثار موجة كبيرة من الاحتقان والبلبلة في طول البلاد وعرضها، وتسبب في مشكلة أبدية كادت تسقط المشكلة الفلسطينية من إهتمام الأمم المتحدة. وشغل المحافل الدولية، فنشطت مباحث أمن الدولة للبحث عن إجابات مقنعة على أسئلة محددة منها: لماذا لم يحمل السلاح المقدس وينضم إلى المجاهدين حتى الآن؟؟!!، وهل يعتبر الجهاد من الفرائض العينية أم الشخصية ؟؟!. وهل هو من الدعاة الجدد آكلة أموال البشر؟؟!! وهل له صلة بشركات توظيف الأموال الإسلاموية وغسلها ؟؟!! وهل هو ذئب مفترس في فرو حمل وديع؟؟!! وأسئلة أخرى كثيرة.

عندما وقع الإختيار عليه ليتولى منصبا رفيعا في الدولة، اقترح الفنان الكبير شعبلة أن يتولى في التعديل الوزاري المنتظر حقيبة وزارة الإعلام ومراقبة المصنفات الفنية وغير الفنية والعناية بمصير المذيعات والفنانات الجميلات في أحضان المشير والشريف، ويتابع باهتمام عيني السيدة لبنى الناعستين الناعمتين، كي يتقنا الفن الأصيل. بينما رأيتُ وزارة الأوقاف مناسبة جداً له، بعد تجهيزه بعدَّة الشغل، وتجهيزها بمكبرات للصوت، لتحريك مشاعر الناس. ولا مانع من إعادة تأهيله للمنصب إذا لزم الأمر. ولكن لحسن حظ البلاد والعباد، أن التعديل الوزاري المنتظر لم يتم حتى الآن، ولا أمل في إتمامه على المدى القريب أو البعيد.

كان الشيخ أحمد، وبالرغم من رشاقته ووجاهته، لا يكلم أحدا على الإطلاق، ويكتفي طول حياته بهمهمات في نفسه ولنفسه تشبه الكلمات، لذلك توقعت ألا يحالفه الحظ في منافسة أنور وجدي، أو يصبح ذا شأن آخر من أي نوع، خاصة في بلاد سليطة اللسان، كثيرة الكلام.

ربما كان اقتراح الفنان شعبلة أكثر وجاهة للشيخ أحمد لالتزامه بالوقت، وتخليه عن "إن شاء الله"، فكان ظهوره اليومي المعتادا دائماً يتم في نفس الساعة والدقيقة، قادما من قرية دجوى المجاورة، ذاهبا إلى لا شيء، ويعود بلا شيء، بعد فترة زمنية محددة في نفس الساعة والدقيقة، مع أنه لم يعرف الساعة أو الدقيقة أبدا، كمن يحيا في عالم الأموات، يذهب للا شيء، ويعود بلا شيء. وجيوب جلبابه الأبدي المزفت والمزيت والملطخ والمسخمط، محشوة دائماً بكل المصنفات الفنية من أوراق جرائد ومجلات وما شابه ذلك مما تحتاجه وسائل الإعلام في ذلك الوقت. لذلك وقع في ظني أنه يحمل بالضرورة صورا حالمة للسيدة ماجدة "بو حريد". ولأن للضرورة أحكام، فقد تهت أنذاك في متاهة القرية العتيقة والخالية على عروشها من العمارة النفسية، ولم أدري حتى الآن هل خاب ظني أم لا.

وهكذا باءت بالفشل جميع تمنياتي، ولم أستطع أن أتوقع له أن يكون وسيلة للتسلية واللهو الخفي من نوع ومن مكان مختلفين، لمرأكن أعرف شيئا عن إمكانياته الخفية، فقد أثلج صدري (ملحوظة: لا عجب، فالثلج يملأ البلاد التي أعيش فيها الآن) نعم، أثلج صدري وغمره بالسعادة والبهجة وملأ قلبي بالاطمئنان والراحة هذا الخبر المفرِح الذي بلغني أخيرا من مصادر موثوقة أن زملاءه انفصلوا عنه وماتوا جميعا وحلت في أماكنهم أجيال جديدة، وتعيش إنت !!، بينما هو فقد انتقل إلى الرفيق الأعلى أو وافته المنية أو صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها "يعني باختصار شديد: مات" بالمثل، لأن الله لا يفرِّق بين أحد منهم، فقط - وهذا حقه - أسكنه فسيح جناته !!. وفاز بالاختيار الإلهي وتجنيده لإنقاذ البلاد والعباد من الجحيم!!!

جاء في الحلم "طبعا في الحلم" إلى عليوه أحد أقربائه الأذكياء، (ملحوظة هامة: لا بد لهذه الأشياء الربانية أن تتم في الحلم فقط وتكون للأذكياء وحدهم لضمان سريتها وخصوصيتها)، وأخبره بأنه إنضم إلى زمرة أولياء الله الصالحين ويحتاج إلى مقام. وبالفعل لم يكذب عليوه الخبر وأسرع بإختيار مكان يليق بمقامه، بحيث يكون بعيدا عن ساكني القرى، لأن الولي البعيد سره باتع، كما هو ثابت مخبريا، وأرض الله واسعة والعشوائيات الحمقاء لا حصر لها، وابتلاع الأراضي الزراعية لا يتوقف، والتربة الزراعية تعود إلى أصلها الصحراوي القحط، وطمي النيل معتصم خلف السد، والسد العالى لم يعلو قط، لأن أجدادنا الفراعنة العظام كانوا ضد التمسك بالغباء الجمعي على خط مستقيم.

صحيح أنه مقام "مش ولا بد" ولكن على أي حال، أفضل من السد العالي ومعه بركة ناصر، وأفيد من جامعة زويل، وأهم من مستشفي القوات المسلحة. لسنا في حاجة إلى استشارة السيد البدي أو السيدة نفيسة، فالسوق الحرة مفتوحة ومضمونه، والمنافسة الشريفة الطاهرة مشروعة ومرغوبة منذ ألف عام. أتنسون يا سادة أن الغاية تبرر الوسيلة إذا توقف الأمر على المصالح الشخصية الملحة والمهددة دائماً وأبداً ؟؟!!،

وصحيح أيضا، وتبعا لتقديرات خبراء الاقتصاد والأرصاد الجوية والنخب الاجتماعية، أن آلاف المقامات لأولياء الله الصالحين جداً في عرض البلاد وطولها سوف تتأثر ويقل دخلها، وتبقى صناديقها فارغة، ولكن لوقت قصير لا يتعدى الخريف القادم، ولن يؤثر بصورة أو بأخري على الدخل القومي، ولن تُجْبَر البلاد على مد يدها إلى المشكوك في نواياهم، المشروع باختصار- يا سادة - كما واضح، يساهم في عدالة توزيع الدخل جنبا إلى جنب مع قناة السويس المؤمَّمة، والآثار الفرعونية المرمَّمة، والزراعة التليدة المدمَّرة، والصناعة المصرية المزعبرة (ملحوظة أخرى: هذه الكلمة مساهمة من الكاتب للتقارب مع الأشقاء العرب ومعناها: المغشوشة).

أفتتح المقام الطاهر في مجلس عزاء مهيب، لم تشهده مصر منذ عام 343 ق. م، عندما فرَّ نِكْتانِبو الثاني "آخر الفراعنة المصريين" هاربا إلى بلاد النوبة، تاركا البلاد للغزو الفارسي. فظلت البلاد في حزن وحداد إلى وقتنا هذا، لأن أحدا من أبنائها ليست لديه العزيمة للتخلي عن المشاركة في الغزوات والسلب والنهب من كل الجهات.

بذل عليوه مجهودا جبارا في إعداد الحفل، ونجح أخيرا رغم الصعوبة الخطيرة التي واجهته في إبعاد البت سنية العمشة عن المشهد السياسي، لأنها لا تري الأمور إلا بعين واحدة، وتستميت في التمسك بشرعية الصندوق. لم تفهم بسهولة أن النذور ليست حكرا على أحد من دون الآخرين !!.

أخيرا توافد المعزون بأعداد غفيرة من كل الطوائف والملل، وحضر جمع كبير من السادة الدكتور رئيس الوزراء نائبا عن الرئيس، والدكاترة الوزراء المحمدات وغير المحمدات، وكبار رجال الدولة الأبرار، وسفراء الدول ورجال السلك الدبلوماسي المعتمدين في القاهرة، ولفيف من مشايخ السلاطين وأئمة المساجد المؤممة والزوايا الخاصة، ودعاة التكفير والفتنة في مقدمتهم فضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي جداً جداً الذي شرف الحفل الكريم بافتتاح الصندوق، وإلقاء كلمة العزاء دو مقابل.

غاب شيخ الأزهر عن الحفل لوجوده في مؤتمر "حوار الأديان" المنعقد في دولة الفاتيكان منذ مئات السنين، ولم يسفر عن شيء حتى الآن، الله لا يجعله يسفر عن شيء على الإطلاق، حتى لا تعاني هيئة الأمم المتحدة من العجز وينفرط عقدها، فينحل وسط مجلس الأمن الدولي. ويتعرض الجيش الأمريكي وحلفاؤه للبطالة، وتتوقف مصانع السلاح عن العمل، وتنهار بورصة الأوراق المالية في "وول استريت" بالكامل، فتبدأ أحجار الدومينو في التهاوي السريع.

إنهالت برقيات التعازي بالإميل والفيس بوك والتغريدات من رؤساء العالم، في مقدمتهم الرئيس تهامة والمستشارة مكريل والملك خيار كالته والإمبراطور روحوا موتو. وأطلقت المدفعية كل الطلقات النارية المتوفرة لديها، فزاد عددها عن مئة طلقة، ونقلت وكالات الأنباء العالمية والعربية مراسم العزاء بكل فخر واعتزاز، لأن أحدا لم يسقط - حتى الآن على الآقل - ضحية للطلقات الطائشة هنا وهناك. ولم تنشب - حتى الآن أيضا - حرائق كبيرة في حقول القمح، لعدم وجود الحقول، لزوم برمجة التسوُّل والعمولات !!.

وضعت الجثة الطاهرة في القبر المعطر - لآخر مرة - بماء الورد، ووراها الثرى (ملحوظة أخري: لا أريد تعقيد الأمور، ببساطة شديدة لا أحد يسأل عن سبب الجمال أو معناه، وهذه هي لغتنا الجميلة). اتجهت رأسه تلقائيا نحو الكعبة، وبينما كانت الميكروفونات تصدع بتلاوة القرآن الكريم من فضيلة الشيخ عبد الصبور وتتصدى بإصرار لثرثرة الحاضرين وتمنع وصول الراحة إلى القلوب والهدوء إلى العقول، كان الندلاء يوزعون القهوة السوداء المطعمة بالحبهان وحبة البركة والمستكة المهداة من الخويان (كلمة سعودية تعني: الإخوان)، وعليوه يحمل ذكاءه الريفي العتيق على عاتقه، ويتجول من وقت لآخر بين المعزين ويرفع يديه في استسلام مصحوبه ب"شكر الله سعيكم" وأحيانا "سعيكم مشكورا". وكان قد تم على عجل، ولكن بعناية متعمدة، إعداد صندوق النذور، فتكرم فضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي جداً جداً بإفتتاحه بدرهم مصدي وممسوح كان قد عثر علية في تل الزبالة القطري، وأعدت أماكن حفظ ذبائح وهدايا "أهل الله" ونوايا وضمائر الناس الطيبين، وتبرعت شركة النسيج الشرقي بالحصير الأخضر وشركة المحلة الكبرى بكسوة الضريح والعمامة الخضراء المطرزة بخيوط الذهب. وتم فرش الأماكن الهامة المخصصة للف الزوار حوله سبع لفات ضد عقارب الساعة طلبا للبركة الأحمدية الربانية، ولجلوس أكياس القطن المصري طويل التيلة المنقرض من الوجود كالديناصور (ملحوظة أخرى: إذا كنت لا تعرف شيئا عن انقراض الديناصور لأنك لم تعاصره، أرجوا أن تتوجه بالسؤال إلى من هم أكبر منك سنا).

المراسم مهمة للغاية في مثل هذه الحالات، لذلك يجب الاستفادة من تجربة الحراسة الشخصية المشددة للعقيد المقتول بطريقة يندى لها الجبين، ويشيب لها الولدان، تاركا وراءه جمهورية ليبيا الديمقراطية الشعبية الجماهيرية العظمى تتقزم وتتخبط في نفق مظلم، مثل الأشقاء، بأن تلتصق أكياس القطن مع بعضهن البعض حتى لا يدخل الهواء ويصيب جثة الشيخ الجليل بنزلة برد، ويسندن ظهورهن إلي الضريح في حلقة محكمة لحمايته من الشياطين المتعددة الألوان وليست الزرق وحدها، ويجب أن يتوشحن بالزي الرسمي الأسود المرصع بالطين المسخمط بالهباب. في انتظار أبدي للنذور الساقطة خارج الصندوق من النفوس المقهورة والمهتورة والمطحونة بفعل الثلاثي المرح: الفقر والجهل والمرض، واللي يجيبه ربنا من أشقاء النفط كويس.

أدرك عليوه بذكائه الريفي الأصيل أن سر الولي لا يكون باتعا في أي مكان بلا معجزات، ومعجزة الشيخ أحمد كانت في لسانه. فقد ظل لسانه متوقفا عن العمل طول حياته التي دامت أكثر من ستين عاما ولم ينبث ببنت شفه (ملحوظة أخيرة: بالعربي يعني أنه لم ينطق بكلمة واحدة) ولم يكلم أحد على الإطلاق لأن لسانك حصانك إن صنته صانك وإن هنته هانك، ولأن الناس أشرار ومثواهم جهنم وبئس القرار. لم يشأ أن يلوث لسانه بالحديث معهم. وكانت سعادته في صب جام غضبه عليهم بهمهمات لم يفهمها إلا الله. كان نعشه خفيفا مثل كل أولياء الله الطاهرين، ويطير مثل الريشة، ولكن ليس كتلك التي تذهب في مهب الريح، كان يعرف بالضبط كما عرف الفريق الركن فخامة الرئيس صدام طريقه إلى مثواه الأخير. لا بد لكل إنسان أن يساهم بقدر ما في تحديد مصيره.

ما أن علمت بهذا الأخبار السارة، حتى ركبت على الفور أول طائرة متجهة إلى القاهرة العامرة بكافة أنواع التلوث البيئي والسمعي والفكري، وقبل هبوط الطائرة، بلغني أن الرئيس يقدم اعتذاره الشديد لعدم تمكنه من الحضور على رأس المستقبلين. إنه في رحلة إستجمام مستديمة في شرم الشيخ، وأناب عنه الدكتور عبد المقصود كبير الياورات، عرف موظف الجوازات بنباهته المعهودة أن الإسم والكسم من أصل مصري، ونظر إلى بطاقة الدخول وسألني: أنت كتبت عن الهدف من الزيارة، الزيارة، زيارة مين؟ لم أشأ أن أكذب عليه، فقلت: لزيارة مقام الشيخ أحمد الدجوي، فابتسم ابتسامة نادرة ولكنها ماكرة وتركني أتخطَّى بأمان كل العقبات بما فيها تلك الوجوه الحديثة المتجهمة والنفوس الغاضبة والأفواه الصاخبة، التي لم أعهدها في بداية حياتي، وتوجهت على الفور برفقة عبد المقصود إلى الهدف "المقصود"، حتى لا يضيع منا وسط الزحام.

كانت تبدو عليه السعادة لأن سيارته المتهالكة تساهم بقدر كبير في الجو العام والمعتاد والمطلوب في القاهرة العامرة، ومازالت تنتمي، ومنذ أكثر من نصف قرن، إلى الأمل المفقود دائماً وأبداً، ال "نصر". أما سعادته التي لا تقدر بثمن، فهي أنه يقدم لي خدمة جليلة لا يقدمها لأحد غيري، وأنه لشرف عظيم له ولأسرته أن سيادة الرَّيِّس كلفه بهذه المهمة الغالية. وأتحاح له الفرصة النادرة لزيارة قبر الشيخ أحمد الدجوي دون أن يقحم نفسه في "قُرْعة" غير مضمونة، وليحكي لزوجته وأولاده بفخر شديد كيف أنه جمع في رحلة واحدة بين حنينين لا ينضبان، الحنين إلى أرض الوطن، والحنين لزيارة أولياء الله الصالحين.

وفر التغَيُّر المناخي فرصة نادرة للكلمات كي تتدفق من فمه كالسيول التي راحت تضرب العالم منذ سنوات، فهمت منها أن اليوم هو أفضل الأيام لهذه الزيارة فالاحتفال بمولد الشيخ قد بدأ للتو، وإن الشيخ لابد وأن يكون في انتظار المهنئين.

وصلنا إلى الضريح عند الساعة الحادية عشرة صباحا، فلم نجد أحد من المسؤولين الكبار أو رجال الدولة في انتظارنا. عرفنا فيما بعد أنهم ضلوا الطريق وتاهو في حقول الذرة وانغمست أرجلهم في الوحل حتى الرَّكب. فتم على وجه السرعة استدعاء الجرافات الشعبية لإلقائهم في المكان اللائق بهم. وجدنا فقط جمع كثيف من الأتربة تغطي المكان وتججب أشعة الشمس، فرأيت التراخوما المصرية واضحة في أعين الجميع من كل الأعمار. كان الصخب يصم الأذان ويشل العقول ويعمي القلوب. فقدت الأمل في رؤية الشيخ، خاصة بعد محاولات مضنية وفاشلة من عبد المقصود كي يفسح الطريق أمامي للوصول إليه. لقد ذهب أدراج الرياح عنائي وتعبي ومالي في هذه الرحلة. وأطبق اليأس على نفسي، وفقدت الأمل في معرفة الهمهمات التي طالما اشتقت إلى معرفة كلماتها واستيضاح معانيها. وقفت بعيدا أراقب الوضع وأفكر مالعمل؟؟!!، بدأت الذكريات تنهمر إلى ذهني كشلالات نياجرا، لم يعرف ولو لمرة واحدة في حياته فوق الأرض أن شخصا ما ينتظر منه شيئا، فكيف يعرف وهو تحت الأرض. قررت العودة بخفي حنين إلى حيث أتيت!!. وفجأة ظهر الشيخ الشبح أمامي، كما كان يظهر دائماً، وعلى وجهه المتجمد ابتسامة غريبة.

أردت أن أتقدم منه وأباركه وأحاول التحدث قليلا معه، أشاح بوجهه عني وسمعته لآخر مرة يقول بوضوح عبارته التي طالما همهم بها:
دا مولد وصاحبه غايب !!
ولأول مرة فهمت ماذا يعني !!



#ياسين_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أما آن الأوان للأزهر أن يتحرك؟؟
- بين هذا وذاك
- العربان المتأسلمون
- الشيطان الأكبر


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ياسين المصري - الشيخ أحمد وزملاؤه