أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سمير أمين - هل تمثل آسيا الصاعدة تحديا للنظام الإمبريالي؟















المزيد.....


هل تمثل آسيا الصاعدة تحديا للنظام الإمبريالي؟


سمير أمين

الحوار المتمدن-العدد: 1208 - 2005 / 5 / 25 - 12:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يناقش سمير أمين، المفكر الاقتصادي وأحد أقطاب نظرية التبعية، التحولات التي تشهدها الصين محللا السيناريوهات المحتملة لمستقبل هذا البلد، ومعارضا للرؤية التي تعتبر أن الإنجازات التنموية التي حققتها آسيا يمكن أن تضع أساسا لتجاوز الإمبريالية.

يزعم الخطاب السائد أن ميراث التخلف الذي أنتجته الإمبريالية هو في سبيله للتجاوز بواسطة آسيا التي تستدرك تأخرها عبر إثبات نفسها في قلب النظام الرأسمالي، وليس بالقطيعة مع هذا النظام. وتحفز المظاهر الراهنة على تبني هذه الرؤية المستقبلية بدرجة كبيرة. وفي حقيقة الأمر، وعلى مدار ربع القرن الأخير، سجلت آسيا تلك معدلات للنمو الاقتصادي ملفتة للنظر، في الوقت الذي غرقت فيه بقية مناطق العالم بأكملها في الركود. ومن ثم فإن تصورا خطيا يسمح باستنتاج أننا نتجه نحو تجديد للنظام الرأسمالي العالمي ليصبح أكثر توازنا لصالح آسيا، فنكون بصدد رأسمالية تفقد من هذا المنطلق طابعها الإمبريالي، على الأقل فيما يختص بآسيا الشرقية والجنوبية دون بقية العالم الثالث. ونضيف إلى ذلك أيضا أن هذه المنطقة تتحكم من الآن فصاعدا في قدرات عسكرية تعد مهمة بالنسبة لها وهي في طريقها إلى التحديث، وأن الصين والهند هما قوتان نوويتان.

إن المستقبل "الأكيد" الذي سيترجمه هذا التطور هو عالم متعدد القطبية، منظم حول ما لا يقل عن أربعة أقطاب متساوية اقتصاديا وعسكريا، على الأقل بشكل كامن، هي الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين. ويمكن أن نصبح كذلك بصدد ستة أقطاب إذا ما أضفنا إلى ما سبق كلا من روسيا والهند. ويضم مجموع هذه الأقطاب إلى جانب البلدان والمناطق التي ترتبط بها بشكل مباشر، وهي كندا وأوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا وكوريا، الغالبية العظمى من شعوب الكوكب. وسيختلف هذا النظام متعدد القطبية من هذا المنطلق عن الأشكال المتعاقبة من الإمبريالية متعددة القطبية قبل 1945، إلى الإمبريالية أحادية القطبية، مع تكون إمبريالية الثلاثي الجماعية، حيث لم تكن أي من هذه الأشكال تضم سوى أقلية من شعوب العالم.

يبدو التحليل الذي يستند إليه هذا المنطق قاصرا. فهو في المقام الأول لا يأخذ في الاعتبار السياسات التي تنوي واشنطن اتخاذها لإفشال المشروع الصيني. وإضافة إلى ذلك، فنظرا لأن أوروبا لا يمكنها أن تتصور انعزالها في الأطلنطية التي تقع فيها في عباءة الولايات المتحدة، ونظرا لأن اليابان تريد ـ نتيجة لأسباب شبيهة أو مختلفة ـ أن تبقى مذعنة للدولة التي تحميها في الجانب الآخر من الباسيفيك، تصبح أيام إمبريالية الثلاثي أطول من أن تحصى. في المقام الثاني، فإن قياس النجاح بمعدلات النمو الاقتصادي فقط يصبح خادعا وتصبح صحة المضي في هذا التحليل إلى أبعد من ذلك وإسقاطه على عدد من السنوات أمرا مشكوكا فيه. إن النمو الفعلي القادم في آسيا يعتمد على عدد من العوامل الداخلية والخارجية التي تتمفصل وفقا لأشكال مختلفة، تتوقف من ناحية على النماذج الاستراتيجية للتحديث الاجتماعي التي تختارها الطبقات المهيمنة المحلية، ومن ناحية أخرى على ردود أفعال الخارج، أي القوى الإمبريالية التي تشكل الثلاثي. إن نموا مستديما، ذو نفس طويل قادر على تحسين ملموس ومحسوس في مستويات المعيشة المنخفضة جدا للسكان الآسيويين، ويضمن الحفاظ على التضامن الوطني ـ كما في الميراث الإيجابي لكل من الثورة الصينية وفيتنام ـ أو تستطيع بناء هذا التضامن في مناطق أخرى ـ في الهند وجنوب شرق آسيا ـ يتطلب تخطيطا متماسكا للخيارات الاقتصادية والوسائل السياسية. إن ذلك لا يمكن أن ينتج تلقائيا من النماذج المستخدمة في اللحظة الراهنة والمتأثرة بدرجة كبيرة بالدوجمائية الرأسمالية والليبرالية. إضافة إلى ذلك فإن النمو المأمول يتطلب نموا ذو شأن في استهلاك الطاقة وخاصة النفط. وإضافة لما يمثله ذلك من تطور نوعي من وجهة نظر التوازن البيئي، فإن هذا النمو يؤدي إلي تأجيج الصراع مع دول الثلاثي الإمبريالي التي تستأثر وحدها إلى الآن بموارد الكوكب.

ويعزي الخطاب السائد نجاح صين ما بعد ماو إلى فضائل السوق والانفتاح على الخارج فقط. لكن هذا الخطاب يبسط بشكل هائل تحليل حقيقة الأوضاع في الصين الماوية كما أنه يتجاهل المشاكل التي يطرحها الخيار الرأسمالي.

خلال عقود الماوية الثلاثة من 1950-1980، حققت الصين بالفعل نموا استثنائيا بمعدلات تمثل ضعف تلك التي حققتها الهند أو أي منطقة كبيرة أخرى في العالم الثالث. كما بدا أداء العقدين الأخيرين من القرن أكثر استثنائية أيضا، حيث لم تحقق أية منطقة كبرى في العالم أداء أفضل على مر التاريخ. لكننا يجب أن نتذكر بقوة هنا أن هذه الإنجازات منقطعة النظير ما كان من الممكن حدوثها في غياب أسس اقتصادية وسياسية واجتماعية تم إرساؤها خلال الفترة السابقة. كما أن تسارع عجلة التنمية كان مصحوبا بقفزة إلى الأمام في معدلات نمو الاستهلاك. من ناحية أخرى نقول أنه بينما في الفترة الماوية أعطيت الأولوية لبناء قاعدة صلبة على المدى الطويل، فإن السياسية الاقتصادية الجديدة شددت على التحسين الفوري لمعدلات الاستهلاك، وهو ما أصبح ممكنا بفضل مجهودات العقود السابقة. ومن ثم فأنه لا يصبح عبثيا أن نفترض أن العقود الماوية تميزت بالانحراف لصالح بناء أسس عل المدى الطويل. لكن بخلاف ذلك، فإن التركيز على الصناعات الخفيفة والخدمات منذ عام 1980 فصاعدا لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، لأن الصين لازالت في حاجة إلى توسع في الصناعات الأساسية.

إن مسالة الانفتاح، بمعنى المساهمة في تقسيم العمل الدولي وفي كل الجوانب الأخرى للاقتصاد العالمي، مثل الاستعانة برأس المال الأجنبي واستيراد التكنولوجيا والانخراط في مؤسسات إدارة الاقتصاد العالمي وحتى الاندماج من الناحية الأيديولوجية والثقافية، لا يدار وفقا لتعبيرات متطرفة مثيرة للجدل مثل تعبير انفتاح أم انغلاق، والتي يستخدمها المدافعون الدوجمائيون عن الليبرالية الجديدة المنتصرة لإغلاق باب الجدل.

ويجب أن نعرف الكيفية التي يمكن بها إدارة الانفتاح حتى نكون قادرين على جذب الأرباح. لأنه لكي تتسارع عملية التنمية التي تتضمن درجة من اللحاق بركب التقدم، يجب أن نستعير التكنولوجيا الأكثر تقدما والمتمثلة في معدات يمكن استيرادها من الخارج، ويجب أن ندفع ثمن هذه التكنولوجيا بواسطة الصادرات. من المؤكد أن ما تستطيع دولة في هذا الوضع أن تقدمه للسوق العالمي في هذه المرحلة هو منتجات تستفيد من الميزة النسبية التي تتمتع بها، والمتعلقة بكثافة عنصر العمل. لكن عليها أن تعرف أنه في ظل تلك التجارة غير المتكافئة فإنها سوف يتم استغلالها، ومن ثم فإنها تقبل هذا الوضع ـ مؤقتا ـ لعدم وجود بديل آخر. لكن الخطر الظاهر هنا هو أن نجاح هذا الخيار يحفز على قلب نظام الأولويات الذي يحكم المنطق الخاص باستراتيجية للتنمية جديرة بهذا الإسم. وتتضمن مثل هذه الاستراتيجية إخضاع الأهداف الكمية للتجارة الخارجية لمتطلبات إقامة مشروع تنموي يؤكد قوة التضامن الاجتماعي في الداخل، ومن ثم يكون قادرا على فرض نفسه في الخارج بأكثر استقلالية ممكنة. إن الدوجمائية الليبرالية تطرح عكس ذلك بالضبط، أي الانخراط الكامل في التقسيم الدولي للعمل، المرتكز على إعطاء الأولوية للتوسع في الأنشطة التي يستفيد من خلالها البلد بالميزة النسبية التي يتمتع بها، والخاصة بوفرة الأيدي العاملة. وإذا كان على الصين أن تتوقف عند الخيار الذي تتبناه السلطة الموجودة حاليا، فإن نسب النمو لديها ستتضاءل لكي تصل إلى تلك الخاصة بالهند، والواقعة في مرتبة المتوسط العالي. إن الخيار الأول هو التكيف مع فك الارتباط، الذي يعني رفض الخضوع للمنطق المسيطر للنظام الرأسمالي العالمي، دون أن يعني الاكتفاء الذاتي. أما الخيار الثاني فهو التكيف مع المنطق السائد للنظام الرأسمالي والذي يكون دائما تكيفا سلبيا في واقع الأمر (ويمكن أن نصنفه أيضا بكونه انخراطا إيجابيا) مع متطلبات الاندماج في النظام الدولي.

إذن فإن السؤال المحوري هو الآتي: هل تتطور الصين نحو شكل رأسمالي مستقر؟ أم أنه يظل من المنظور إمكانية انتقالها إلى الاشتراكية؟ ما هي التناقضات والصراعات التي كانت على مسرح الأحداث في الصين المعاصرة؟ ما هي جوانب القوة والضعف في الطريق الذي تبنته الصين (والذي يبقى بدرجة كبيرة رأسماليا)؟ ما هي مؤهلات القوى المضادة للرأسمالية (أي الاشتراكية، على الأقل بشكل كامن)؟ ما هي الشروط التي يستطيع الطريق الرأسمالي أن ينتصر في ظلها، وما هو شكل الرأسمالية المستقرة إلى هذه الدرجة أو تلك التي يمكن أن ينتجها هذا الطريق)؟ تحت أي شروط يمكن أن تتحول اللحظة الراهنة في اتجاه يمكن أن يصنع مرحلة طويلة في الانتقال إلى الاشتراكية (الذي سيأخذ وقتا أطول).

إذن المسالة هي أن نعرف ما إذا كانت الطبقات الحاكمة يمكن لها بالاختيار الذي تبنته أن تحقق غاياتها وأن تكون هذه الغايات بمثابة سمات لرأسمالية صينية قيد التكوين، وما هي درجة الاستقرار الفعلي التي لدى هذه الرأسمالية؟ ما هي الإمكانيات المطروحة بشأن الطريق الرأسمالي في الصين اليوم؟ إن الموجود على الأرض بالفعل هو التحالفات داخل سلطات الدولة، والطبقات الجديدة من "الرأسماليين الكبار المنتفعين"، والفلاحون في المناطق التي اغتنت بسبب ما تقدمه من خدمات للسوق الحضرية، والطبقات الوسطي التي تعيش حالة صعود كبير. لكن يبقى أن هذه الكتلة المتجانسة لا تتضمن الغالبية العظمي من العمال والفلاحين. إن كل الحالات المثيلة بداية من التحالفات التاريخية التي أقامتها البرجوازيات الأوروبية مع الفلاحين ضد طبقة العمال، ثم بعد ذلك التسوية التاريخية بين العمل ورأس المال عبر الاشتراكية الديمقراطية، تظل مع ذلك تحالفات مصطنعة وهشة.

في ضوء قيام إمبريالية الثلاثي بنشر أشكال جديدة قيد التكوين من التناقض بين المركز والأطراف ترتكز على الاحتكارات الجديدة التي سبقت الإشارة إليها أعلاه، تصبح هذه الأشكال مطالبة بتعميق الاستقطاب على الصعيد العالمي، وليس الحد منه. بهذا المعني، فإن تصنيف "الدول الصاعدة" يكشف هزلا أيديولوجيا، حيث أن هناك دولا، بعيدة عن اللحاق بركب التقدم، تمثل الرأسمالية الطرفية للمستقبل. ولا تعد الصين استثناء من ذلك.

بالتناقض مع هذا النموذج الذي يوافق مرحلة جديدة من انتشار الرأسمالية في سياق هو دائما إمبريالي، يصبح الطريق المؤدي إلى الخيار الاشتراكي أطول كثيرا ومختلفا بدرجة كبيرة عن ذلك الذي تخيلته الأمميتان الثانية والثالثة. وفي ظل هذا المنظور تشكل "اشتراكية السوق" مرحلة أولية. لكن هناك شروط لكي يصير الأمر هكذا، أهمها المسألة الزراعية التي أضعها في قلب هذا التحدي الذي تواجهه الصين المعاصرة.

في عام 2000، ارتفع عدد سكان الصين إلى 1،2 مليار نسمة، ثلثي هؤلاء، أي 800 مليون، هم من سكان الريف. إن تصورا خطيا لما سيكون عليه الحال عام 2020 يشير إلى أن الاعتقاد بأن التحضر يمكن ببساطة أن يقلل بشكل ملموس من عدد الريفيين يعد اعتقادا وهميا، بل وخطيرا، حتى لو كان من المتوقع أن يؤدي هذا التحضر إلى تخفيض نسبة الريفيين إلى عدد سكان الصين. إن نموا ديموجرافيا بمعدل 1،2% في السنة يجعل عدد سكان الصين في عام 2020 مقداره 1،52 مليار نسمة. من ناحية أخرى فإننا نقر بأن الصين تستطيع الحفاظ على نمو جيد، بنسبة 5% سنويا، لصناعاتها وخدماتها الحديثة الواقعة في المناطق الحضرية. ومن المؤكد أنه لأجل الوصول إلى التحديث، وتلبية المتطلبات التي تفرضها المنافسة، فأن هذا النمو لا يتحقق فقط بواسطة نمط موسع للتراكم، أي إنتاج نفس صناعات وخدمات اللحظة الراهنة، لكن بكميات أكبر كثيرا، وإنما بتبني نمط للتراكم كثيف جزئيا، مرتبط بتحسن قوي إنتاجية العمل بمعدل 2% سنويا. إن النمو في عرض العمالة الحضرية سيكون 3% سنويا، بما سيصل بعدد السكان المستوعبين في الحضر إلى 720 مليون نسمة. غير أن إجراء عملية طرح بسيطة يكشف أن 800 مليون صيني سيظلون ريفيين ـ وهو نفس العدد الحالي من الصينيين الريفيين ـ لكنه سيمثل آنذاك انخفاضا من 67% إلى 53% من إجمالي السكان. إذا كان هؤلاء الريفيين سيضطرون للهجرة إلى المدينة، لأن ليس لديهم سبيل للحصول على الأرض الزراعية، فلن يكون أمامهم سوى النمو كسكان مهمشين في العشوائيات، كما كان الحال منذ زمن طويل في رأسماليات العالم الثالث.

في ظل هذا الصراع العملاق بين الطريق الرأسمالي ـ اللانهائي ـ وبين بعث الاشتراكية، فإن الصين تمتلك مؤهلا أساسيا وهو ميراث الثورة. في واقع الأمر، فإن الحق في الأرض بالنسبة لكل فلاحي الصين وفيتنام هو حق معترف به. إن هذا الحق الذي تتجاهله الرأسمالية هو مع ذلك شرط الحياة بالنسبة لنصف البشرية. ويصبح وهميا أن نظن أن التخلي عن هذا الحق، بمعنى أن نعطي الأرض وضعية السلعة، كما يقترح جميع دعاويي الرأسمالية في الصين وغيرها، سوف يؤدي إلى الإسراع في عملية التحديث.

في ظل هذه الظروف، يصبح مستقبل الصين غير محسوم. فالمعركة من أجل الاشتراكية لم تنتصر، لكنها لم تنهزم أيضا. وفي رأيي فإن هذه الهزيمة لن تحدث إلا في اليوم الذي يتخلى فيه النظام الصيني عن حق الأرض لكل الفلاحين. وإلى ذلك الحين، فإن الصراع الاجتماعي والسياسي هو الذي سيحدد طريق التطور. وتسيطر الطبقة السياسية الحاكمة على الصراع بواسطة الطريقة الوحيدة التي لدى دكتاتوريتها البيروقراطية. كما أن قطاعات من تلك الطبقة تفكر في المناورة بواسطة هذه الوسيلة نفسها لأجل عملية صعود البرجوازية. إن البرجوازية والطبقات الوسطي المرتبطة بها لم تقرر القتال لأجل الديمقراطية، كما أنها تقبل بسهولة النموذج الأوتوقراطي "للنمط الآسيوي" شريطة أن يسمح هذا النموذج بتلبية شهيتها للمستهلكين. أما الطبقات الشعبية فهي تقاتل في الميدان للدفاع عن حقوقها الاقتصادية والاجتماعية. ولكن هل ستستطيع هذه الطبقات أن توحد معاركها وتبتكر أشكالا من التنظيم كافية لصياغة برنامج بديل ايجابي وتحدد مضمون ووسائل الديمقراطية التي يمكن أن تخدم مصالحها؟

نتيجة لهذا الأسباب، يجب أن نرى ثلاثة سيناريوهات للمستقبل الجاري بناءه، هي: 1- مشروع إمبريالي لتقطيع أوصال الدولة وجعل مناطقها الساحلية كومبرادورية. 2- مشروع تنموي رأسمالي وطني. 3- مشروع تنموي وطني وشعبي مرتبط بطريقة تكاملية وفي الوقت نفسه صدامية مع منطق السوق الرأسمالي ومع المنطق الاجتماعي المسجل من منظور اشتراكي على المدى الطويل، حيث أن هذه المشروع يمثل مرحلة في الطريق الاشتراكي الذي ستنتهي إليه الحالة الراهنة.

إن الخيار الذي يفضل السوق غير المنظمة وأقصى درجات الانفتاح ـ بمعنى مشروع الليبراليين الصينيين والأجانب ـ يتفق مع الاستراتيجية الإمبريالية، التي تعظم من حافز عدم التسييس وتعارض بلا إحساس الطبقات الشعبية وتعزز ضعف الأمة والدولة الصينية في مواجهة الخارج. وبالتأكيد لا يتحمل هذا الخيار أية درجة من الديمقراطية، علاوة على كونه لا يخرج الصين من وضعية المشارك من موقع الأطراف، الواقع تحت سيطرة منطق انتشار إمبريالية الثلاثي الجديدة.

يبدو من الصعب أن نحدد بدقة، من النظرة الأولى، ما يميز النموذج الثالث عن الثاني، وهو ما يتضمن وجود سيطرة مؤكدة على العلاقات الخارجية، وأنماط التوزيع التي تحافظ على مستوى مقبول من التضامن الاجتماعي والإقليمي. لكن يبقى الخلاف في الواقع خلافا في طبيعة وليس في درجة قوة الوسائل الخاصة بالسياسة التي تنفذها الدولة. وهنا يأتي أصل الجدل الحقيقي، حيث إن الخيار التقدمي لا يمكنه أن يرتكز إلا على إعطاء الأولوية لتوسع السوق الداخلي، على قاعدة من العوائد الاجتماعية المنظمة بطريقة تقلل إلى أقصى حد عدم المساواة الاجتماعية والإقليمية. وبناء على ذلك يتم إخضاع العائد الخارجي لمتطلبات المنطق السائد هنا. لكن الخيار العكسي يضع الانخراط العميق، بلا توقف، في النظام الرأسمالي العالمي، بمثابة المحرك الرئيسي للتنمية الاقتصادية، ومن ثم فهو يرتبط بطريقة حتمية بتفاقم التفاوت الإقليمي والاجتماعي قطعا. وعندما يتم التعبير عن هذا الخيار وفقا لهذه الشروط، فإنه لا يترك لنا إلا هامش ضيق لنموذج "الرأسمالية الوطنية" القادر على اللحاق بالعالم الرأسمالي المتقدم، وجعل الصين قوة كبرى جديدة، بل وقوة عظمي تجبر تلك القوة العظمى الموجودة على التخلي عن هيمنتها. إنه لا يوجد احتمال كبير أن سلطة سياسية أيا ما كانت تستطيع أن تحتفظ لفترة طويلة بما فيه الكفاية بوجود هذا الهامش الضيق، ومن ثم فليس هناك احتمال كبير أن استراتيجية مستوحاة من هذا الهدف المنظور يمكنها أن تتجنب السقوط إلى اليمين وتنتهي بالخضوع للخطط الإمبريالية، أو إلى اليسار وتتطور نحو النموذج الثالث المشار إليه.

خاتمة: نحو إعادة بناء أوروبي آسيوي
كان "التاريخ العالمي" منذ وقت طويل تاريخا للتكامل وللتصادم بين المجتمعات الكبيرة المكونة للعالم القديم (آسيا وأوروبا وأفريقيا). وكانت أمريكا ما بعد الكولومبية مسرحا للتوسع المنعزل للقوة الأعظم التي كانت تتشكل هناك، أي الولايات المتحدة. ومنذ عام 1945، أكدت الولايات المتحدة قدرتها الدولية مجبرة في البداية على المشاركة (غير المتساوية) مع المنافسة العسكرية والأيديولوجية السوفيتية، وثم بعد ذلك أكدت قدرتها في ظل وجود درجة واضحة من عدم التكافؤ عقب انهيار الاشتراكية.

في نفس الوقت، صعدت أوروبا إلى مصاف القوة التجارية الأولى في العالم وانخرطت في عملية بناء سياسي يستبعد احتمال عودة الحرب الدائمة بين الدول المكونة لها، بينما تقوم اليابان بتحديث نفسها في الوقت الذي تنخرط آسيا في هذا الطريق بسرعة استثنائية. وتقدم الرأسمالية الإطار المرجعي الملزم لهذا النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب الذي يجري تأسيسه. وفي مواجهة التحدي الأمريكي للتقارب الجاد بين أقطاب العالم القديم، هل من الممكن فرض عوامل جديدة للاستقرار تتسم بالتوازن؟

إن التحليلات التي طرحتها تستدعي الكثير من التبصر في هذا الشأن. لقد أكدت على هشاشة الأبنية التي لدى اثنين من الشركاء الأساسيين في النظام هما أوروبا المتورطة في الأطلنطية والصين. إن هشاشة اليابان والهند وروسيا، ليست بأقل من ذلك، نظرا لأسباب مختلفة لا تسمح المساحة الضيقة لهذه الورقة بعرضها.

غير أنني لا أخلص من ذلك أن المشروع الأمريكي للقيادة الأحادية للعالم سوف يفرض نفسه بالضرورة. إن هيكل التحالفات السياسية بين الدول الأوروبية الكبرى وروسيا وآسيا (وخاصة الصين والهند) هو على جدول الأعمال الآن، وإذا تم إنجازه، فسوف يؤدي إلى الهزيمة الأكيدة لطموحات واشنطن الفائقة. آنذاك فإن التعددية القطبية سوف تقدم الإطار اللازم للتجاوز الممكن والضروري للرأسمالية. إن العالم المتعدد الأقطاب المستقر والأصيل سوف يكون في النهاية اشتراكيا، أو لا يكون.



#سمير_أمين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول مفهوم القومية
- في إطار الرؤية التاريخية للتوسع الرأسمالي ألامبريالية الامري ...
- تبدأ بالعنف وتنتهي بالهيمنة الأمريكية د. سمير أمين يحدد 3 مل ...


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سمير أمين - هل تمثل آسيا الصاعدة تحديا للنظام الإمبريالي؟