أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كاظم مؤنس - تشكل الخطاب الاتصالي و الفعل اللغوي















المزيد.....



تشكل الخطاب الاتصالي و الفعل اللغوي


كاظم مؤنس

الحوار المتمدن-العدد: 4230 - 2013 / 9 / 29 - 01:21
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ينضوي الرمز في تجلياته الغامضة تحت فضاء لا متناه في طبقات البنية اللغوية ، مهما كان جنسها ونوعها، وقد سجل هذا التصور حقيقة ملازمة له، فالرمز مرتبط باستمرار بكيفية النظام التعبيري سواء كان نظاما لسانيا أو غير لساني ، أما عن علاقته بالأجزاء الأخرى وما يحتله من موقع داخل هذا الكل المسمى بفضاء اللغة ، التي هي أساس شرطه التكويني ، فهو يبدو بشكله المستقل غير قادر على تحقيق ذاته الا من خلالها ، وليس له فاعلية الاتصال ألا بها وعن طريقها، فغاية اللغة سعيها " إلى ترميز العالم الذي تمثله " وهذا " ما يجعل منها نظاما سيميائيا " وهو تصور يتوافق مع ما ذهب اليه ـ أدوارد سابير ـ في كتابه اللغة 1921 الذي اعتبر فيه ان " اللغة نظاما رمزيا " فضلا عن كونها تلك الأداة العظيمة في عملية الوعي والتي عن طريقها نرى الأشياء على نحو واع، وهي حين تحيل الأشياء إلى مدلولات لدال ما، فهي إنما تقوم بترميز الأشياء، ليظهر الرمز كعنصر يختزل العديد من المواصفات الكمية والكيفية، يختزن الكثير من الطاقة التي تضفي بالضرورة على نص الرسالة بعدا دلاليا، فضلا عن بعدها التداولي، حين يجعل النص منفتحا لا يتوقف عند كفايته، ويدفع به إلى الاستمرار والتحول والامتداد، و يتماها مع اللغة فيعود إليها بسبب الترابط الحاصل، ليتجلى في تكامل العلاقة داخل نص المضمون الاتصالي، مما يجعل منه متعدد الإبعاد والدلالات.
وتأسيسا على ذلك فإن الرمز بمجرد أن قبل الاندماج داخل النص تحول إلى وحدات بنية نصية مدمجة، وموجهة في إطار كلية النص أو الرسالة، فهو أبنيتها الجزئية، المكروية، الخارجة من جغرافية النص الاتصالي، لتستحيل إلى فضاء مفتوح، بقراءات متعددة في مرتكز محوره العمودي أو مستواه الدلالي .
و لأن النص في ماهيته نتاجا، يتمثل موقف القائم بالاتصال، من حيث أنه " نموذج للسلوك اللساني الذي يمكن أن يكون مكتوبا أو منطوقا " وهذا يسري على النص أي كان نوع وسيطه التعبيري، فهو في النهاية سيبقى نموذجا للسلوك الاتصالي، له إحالاته الخارجية من خلال الرموز المحررة لشكل النص طالما هي وحداته الجزئية التي أتفق عليها. وما النص " إلا فعل لغوي .... تشتغل اللغة فيه وسيلة للتواصل ....ويعرفه مايكل ريفاتير بأنه ليس إلا سلسلة من وحدات إخبارية متعاقبة " وهذه الوحدات مسيقة في نسيج اللغة، وهذه الأخيرة متمثلة بمركب شامل من الوحدات المنسجمة أو الكودات على حد تعبير إيلام، إذ يرى بأن " اللغة في الواقع مركب من الكودات " وفي معرض تحديد وظائفها وتعريفه لها يجد " بأن اللغة هي وحدات متماسكة ومحددة بشكل جيد وأنها حاملات اتصال اتفاقية " أما النص فهو" مضمون السلوك الاتصالي ويتضمن اللغة ....وتعني مجموعة الرموز التي لابد أن يكون لها مغزى عند المتلقي " الذي يعد عنصر أساسي في العملية الاتصالية، نظرا لدوره الفعال في إنجاز الإنتاج الاتصالي، وصحيح أن الحقل اللغوي يفسح مجالا واسعا لإنتاج قراءات متعددة لكن ذلك مرتبطا بالفروق الفردية والتجربة المشتركة بين القائم بالاتصال والمتلقي، وفي ضوء هذه العلاقة عادة ما تتحدد لغة الرسالة آو النص المبثوث، لأن شكل اللغة ومضمونها يتحدد بهذه العلاقة ويتأثر بها تأثيرا واضحا، ونحن وان نتناول بعض المكونات بالوصف أو الإشارة لكن لا ينبغي أن نتجاهل حقيقة بالغة الأهمية، بان العمليات الاتصالية لا تقوم على الأجزاء بل على الكلية وهنا يجب أن يفهم أن الكلام يدور في كلية الرسالة آو كلية النص بكل ما يشتمل عليه وبقدر تعلقه باليات العملية الاتصالية وبنيتها العامة، ومن هذا المنظور تتأكد تحذيرات موكاروفيسكي بأن العمل بمجمله ينبغي " أن يفهم كرسالة ولا يجب النظر إليه كمحتوى متضمن في شكل لا معنى له " فالمصدر في خطابه الاتصالي يقوم بفعل إبداعي ، يقوم في ممارسة لغوية، ولن يكون للحرف ولا للكلمة معنى لدى المتلقي إلا لكونها تأخذ مكانا ضمن السياقات اللغوية المكونة لفضاء الرسالة حيث نجد عند سوسير " إلى جانب فكرة العلامة لديه فكرة القيمة " بمعنى أن الكلمة أو الوحدة يتوقف معناها على علاقتها بالوحدات الأخرى، والجملة يتكون معناها من مجموع المعاني في كل وحدة أو كلمة، أي من المجمل، أي من مجموع تراص الوحدات في نسق منتظم، وما التوكيد اللغوي إلا تركيز اللغة على وحداتها الصغرى التي تركب بنية مضمونها الاتصالي، وتكونه، وتنشئه، فضلا عن تأكيد علاقتها مع بعض، على أساس أن العلاقة ليست رمزا لشيء خارجي، بل أنها تسبق الشيء، ولا يمكن عزلها عن دلالتها المادية خارج نص الرسالة الاتصالية، فالرمز ليس مستقلا ولا منفصلا عن الواقع المادي الذي افرزه، وكما لا يجوز عزل الرمز عن الواقع المادي، كذلك لا يجوز فصله عن اللغة، فهو وحدتها البنائية الصغرى.
وتأسيسا على ذلك يصبح من العسير فصل اللغة عن الواقع ومن هنا تكتسب طروحات ـ فيتكنشتاين ـ في محاولته لتفنيد اللغة التي عالجها في إطار ـ نظرية الصورة ـ من أن " اللغة تشترك مع الواقع بصورة عامة ....حيث تركز جدل هذه النظرية عند فيتكنشتاين بان هناك علاقة لا مفر منها بين اللغة والواقع " والجدير بالذكر أن ـ ميشيل فوكوـ تبنى ذات الفكرة عند تناوله لطبيعة وعمق العلاقة القائمة بين اللغة والواقع " إذ لاحظ من أن اللغة حتى في أكثر حالاتها استقلالا تبقى تمثيلية إلى حد ما ، على نحو لا مفر منه " .
ولأن اللغة ليس في متناول مدركات الفرد ما لم تتمظهر بمضمون اتصالي يتجلى بقدرة القائم بالاتصال على تطويع المهارات اللغوية لتشئ نص الرسالة التي يجدها ليفي شتراوس " لغوية بالدرجة الأولى "
لذلك لا يصح عزل الرسالة عن الواقع الخارجي، وبالتالي فان الرمز لم يعد وحدة إنشائية في النص الاتصالي فحسب، وإنما عنصر قادر على إقامة علاقة جدلية بين عالم الداخل والواقع المادي الذي يتمرى فيه وعليه فإن إمعان النظر في النص الاتصالي. يوصل المتلقي إلى القبض على الكثير من الدلالات التي يسعى المتلقي للوصول إليها والتي لا يمكن رؤيتها آو كشفها إلا برؤية الواقع المادي في داخل شفرات النص، فالرمز تركيب لغوي يكشف أسرار اللعبة اللغوية وعمقها، وما النظرة في داخل النص إلا إحالة وحضورا للمحيط اجتماعي، وهذه الثنائية أدت بطريقة حتمية إلى ظهور ثنائية مماثلة في تفسير وظيفة اللغة وتحديد معنى الرمز في داخل الرسالة فبدت ( اللغة شكلها شكل النقود تعبر عن ذاتها بشكل مادي.
فاعلية التركيب وفاعلية القراءة :ـ
من الأهمية بمكان أن نعي بان للغة تأثير في إدراكنا وتشكيل تصوراتنا عن الواقع الخارجي، ويمتد هذا التأثير ليشمل الفئات التي نستخدمها في تصنيف مدركاتنا، فالمنبهات التي نتلقاها من البيئة المحيطة تحفز استجاباتنا إزاء ما ندركه، وتتمثل هذه الاستجابات في انتقاء عددا من هذه المنبهات و وضعها بصيغة أو تشكيل أو سياق ما، يقود عملية تحرير المعنى لدى المصدر الذي يأخذ على عاتقه مسؤولية تحويل الأفكار إلى رموز فيصبح للمنبهات معنى، ومن الطبيعي أن يكون لبنائنا المعرفي وعادات استخدامنا للغة دورا في اقتناص الكودات وتحويلها إلى كلمات أو تعبيرات حركية ذات معنى ليقوم القائم بالاتصال لاحقا ببثها بالوسيلة المناسبة. وتأسيسا على ذلك " فالاتصال يتأثر بشكل مباشر بعادات استخدام اللغة ، وبهذا تصبح اللغة جزءا لا يتجزأ من هذه العملية "
ويقول ماركس بشأن (اللغة بأنها تجسيدا أو تشيئا للوعي ) على اعتبار أن اللغة ،والرمز، والاتصال، مفاهيم تتصدى لمشكلات عميقة، عمق وجودنا، فتعمل على ترميزها، مما يخلع عليها معان غاطسة.
وفي كثير من الأحيان يواجه المتلقي صعوبات تتعلق بتصور المعنى، ففي الفنون جميعا لا نجد تعارضا بين اللغة والاتصال لأن مفهوم النشاط اللغوي، ينحصر في نظام ثنائي يميز بين المفردة والرمز، وفي كل مرة يمكن الاهتمام بواحدة من الوحدتين، فإذا كان المصدر يهتم بتركيب الكلمات، فعلى المتلقي أن يجيد فن القراءة، وان يجيد فن اليقظة للوصول إلى الكلمات، لأنه سيتلقى سيلا عارما من الأنساق اللغوية المشحونة بالرموز والأفكار، فاللغة " في كل ميادينها رموز الأفكار....والكلام جسم مادته الكلمات ....وأجزاؤه تختلف على حساب مادة موضوعه " بعبارة أخرى على وفق وسيطه التعبيري، فالسرد الصوري جسم مادته الصورة، والمسمع الإذاعي جسم مادته الكلمات ..ومهما أختلف نوع الوسيط التعبيري وتنوعت وظائفه ، فستلتقي جميعا بقاسمها المشترك، الاتصال مع الآخر، وهو غاية التعبير، فضلا عن كونه الرابط الأقوى بين جميع أنواع الاتصال، وكلها " تهدف إلى غاية واحدة هي التعبير ....(كما أن ) غايتها تحقيق الصلات بين الإنسان، أو معرفة الإنسان للأشياء ".
وتأسيسا على ذلك فان عملية شحن اللغة بالرموز والتعارضات سيضع المتلقي في مواجهة فضاء من الاحتمالات الدلالية ، فلا يكتفي حينها المضمون الاتصالي من الاستمرار بترشيح دلالات جديدة، كلما اصطدم بقراءة أو قارئ جديد، حيث تتحول الكلمة إلى إشارة ، لا لتدل على معنى فحسب، وإنما لتثير في الذهن إشارات أخرى، تخلع على المضمون الاتصالي في نص الرسالة فاعلية البقاء بفعل إنتاج مستويات من التأويل المتصل في كل مرة بسياقه الاجتماعي، لأن " تعدد الدلالات يمنح النص طاقة إيحائية هائلة ويجعله قابلا لقراءات متعددة " .
بيدَ أن الوصول إلى طبقات المعنى التي تتفاوت في العمق، والمنتجة بفعل كيفية التعبير، رهين بالتفاوت في الفروق الفردية التي تلعب دورا بالغ الأهمية في إنتاج قراءات متنوعة للنص وبعض من هذه القراءات يأتي سليما وآخر لا يتلمس طريقه إلى مكمن الصواب، مع تسليمنا الكامل بان ليس من حق المتلقي، أن يذهب إلى ما يشاء، وقد كان الحال هكذا على مر العصور وسيظل مليئا بقراءات غير متوحدة. إلا أن ذلك كان يتزامن على الدوام بالسعي إلى تشخيص الصعوبات الأساسية المتعلقة بتصور المعلومة المندرجة في رسالة القائم بالاتصال والتي تنضوي ضمنا على غاية وموقف، لأن المصدر يتصل لكي يؤثر باتجاهات جمهور المتلقين، وأداته في ذلك هي اللغة حيث تصبح اللغة هنا " غاية ووسيلة معا، لها وجودها المستقل ...وأنها أداة إبلاغ وتوصيل " متجسدة بشكل نص الرسالة المعبر عن الموقف الاتصالي الذي تمثل باختيار الكلمات، ووصفها، ورصفها، وتشكيل العبارة، وتمكينها من احتواء المعنى، بطريقة تثير اهتمام المتلقي لذلك فنحن ( نتكلم من اجل أن نبلغ هدفا ) ونتصل بالآخر من اجل هدف ما، ويحدث أن المتلقي قد يقرءا كود الرسالة بشكل سليم ويصل للغرض الذي ينشده المصدر، وقد لا يفهم المعنى بالكامل عند حدوث قراءة خاطئة فيصاب بما نسميه بعدم التيقن فيحرفها أو لا يعيرها الاهتمام الكافي، مما يستدعي من القائم بالاتصال إجراءا إضافيا، وهنا ينبغي أن نؤكد على أن قيمة المضمون الاتصالي تتمثل بأنه معرفه تنقلها شفرات اللغة، وهذه الأخيرة هي وسائل لمعالجة مشاعرنا ومواقفنا، فضلا عن كونها أسهامة جادة لتكوين نظام اتصالي، ولذلك فهي بمجملها أفكار إنسانية محكومة باعتبار انفعالي لأن ( القول العاطفي لا يمكن فهمه دائما بمعزل عن إشارة من نوع ما )
اللـــــــــــغة والـفـكـــــر :ـ
وبغض النظر عن دور اللغة الانفعالي والموقف من الآخر، وبعيدا عن دورها في تحقيق التآلف الاجتماعي والمشاركة في الاتصال، تسهم اللغة في البناء الفكري والمعرفي للإفراد، وعلى وفق هذا المنظور تستحيل اللغة إلى " وسيلة ضرورية لتنمية الفكر الفلسفي وتوصيله ...باعتبارها عنصر أساسي في هذا الفكر " ولعل الأساسي في هذه الفكرة، لا يختلف في شكله ومضمونه عن تصورات أرسطو في تلاصق اللغة بوحداتها ـ الكلمات مع الفكرـ ، فقد " كانت اللغة عند أرسطو رمزا للفكر ....وبدون الكلمات لا يتيسر فكر ولا علم " .
أن افتراض الواقع هو إشارة واللغة ببنيتها هي حاضنة هذه الإشارة كما أن الأخيرة أداتها في التعبير، أما المفاهيم التي تنضوي تحت ظلال الأشياء في فضاء اللغة فليست محسوسات مادية بل منظومة من الكلمات المتوائمة، أما حقيقة الموجودات في الواقع، فيتم الحصول عليها عبر ترميزا لغويا بالغ التعقيد ينتمي لفعل الإدراك " وان ما يتسرب إلى الذهن هو فكرة عن الشيء وليس الشيء ذاته ....وإن ما تدركه العين هو علامات لا موضوعات معزولة والعالم تسكنه العلامات " وما الدلالات التي تحررها العلامات إلا نتاج تجربة إنسانية مشتركة فضلا عن كونها وليدة ثقافة بعينها . لكن تظل " العلاقة بين اللغة والموضوع علاقة حقيقية " فإننا نتواصل مع الأخر من خلال عملية عقلية ونفسية تصل إلى أبهى حالاتها في مادة الفكر، وهي اللغة وسيلتنا التي ألفناها منذ الأزل " فكانت وسيلتنا للوقوف على الأفكار، أو على الكلام النفسي، و اللغة هي التي تكسب هذه الأفكار ظاهرة الحالة الطبيعية للأشياء " وتضعها ضمن مدركاتنا الحسية بفعل قدرتها على ضبط مفهومها ومن ثم موضوع وجودها الحسي ولذلك كانت اللغة عند أرسطو رمزا للفكر كما أسلفنا ولا وجود لفكر دون لغة، كما لا يوجد بناء بالمعنى الصحيح إلا لما هو لغوي، ولعل مقولة ليفي شتراوس " تعطي تحديدات دقيقة لدور اللغة وفهمها بقوله : بأن النشاط الرئيسي للذهن هو العملية الرمزية التي تتمثل باللغة " وان أية نظرية تعنى بهذه الخصـوصية إنما ستعني التفكير ممارس بالتمثيل الرمزي الذي هو اللغة , وتأسيسا على ذلك " تصبح اللغة وسيلة التفكير الإنسانية ".
ومن هنا يتأتى القول بأننا لا ندرك الوجود إلا عند أو إثناء وعـــينا بـــه لغويا, وتأسيسا على ذلك فاللغة هي الشكل الوحيــــد الذي ينطــــــوي عـــلى إدراك الموجودات ، وتتجلى أبرز صور هذا المعنى في مقولة جاك دريدا " من أننا لا ندرك الكينونة، إلا عند وعينا بها لغويا، أي حين نعبر عنها لغويا....والموقف نفسه يتبناه فيلسوف التأويلية ـ مارتن هيدجر ـ ....إننا أيضا لا ندرك الكينونة إلا بعد الوعي بها داخل اللغة " وبما ان " الكلمات علامات حسية للأفكار على حد تعبير جون لوك" كما أنها الرابط المشترك بين فن تركيبها من قبل القائم بالاتصال، وفن قراءتها من قبل المتلقي، لذلك فهي التي ترشد إلى المعنى و بها يتمظهر وجود الفكرة، ولعل مقولة – ليفي شتراوس – السالفة الذكر تخلع على هذا التصور تحديدا صارما عن دور اللغة في هذا الإطار .
ويبدو جليا من أن " انجح الوسائل لوصف هذا التواصل، هي اللغة، فنحن نتواصل تواصلا لغويا إن صح هذا التعبير "وتحت هذه الكيفية ثمة حقيقة مفادها: بأن مجمل العمليات الاتصالية، وعلى اختلاف أنواعها إنما تتوقف على إيصال الرموز إلى الآخرين لأنها - أي الرموز- هي الوسائل التي تعتمد على توحد الفهم المشترك للمعاني التي تحملها، وما الاتصال إلا عملية حمل الرموز للمعاني العرفية " فالرموز هي العمود الفقري للاتصال الجماهيري ,وبدونـها لا يمكن للاتصال إن يحقق أغراضه " فالإنسان لا يستطيع التعبير عن أفكاره إلا عن طريق وسيط مادي قادر على التعبير السليم عن المعاني في الأعمال أو الرسائل الاتصالية التي لابد إن تتجسد بصورة ما , ومن دون هذا التجسيد لا يمكن لأحد أن يعرف مضمونها , وهنا يبرز دور اللغة باعتبارها منظومة رمزية فما الحروف والألفاظ ووحدات التعبير إلا رموزا، وهذا يتوافق بالضرورة مع فكرة " أن الرموز مستعملة بشكل واسع في التواصل البشري " والجوهري في العملية الاتصالية، يتمثل بعملية الترامز، حيث يشكل الرمز الأساس المادي والمطلق في الاتصال الذي مهما اختلف وتنوع فانه يظل قائما بين قطبين المرسل الذي لابد أن يرسل الرموز عن طريق وسيط ما، والمتلقي الذي سيقوم بالاستقبال فيحلل الرموز ويفسرها، انطلاقا من مرجعية ساندة للتوافق النفسي والفكري الذي يعيش في ظله الإنسان مع العالم الخارجي والذي ينعكس في علاقات اجتماعية مع الآخرين .
وأمثل توصيف للغة في الاتصال اللفظي أوفي الاتصال غير اللفظي، هو أن يقال عنها بأنها الوسيط المطلق لأنها بلا شك ليس العنصر المهيمن فحسب بل أيضا العنصر الذي تتجلى فيه حقيقة الوسيط، فيمنحه المعنى والنظام، كما يمنحه القوة التي لا تضاهيها قوة، خصوصا، حينما يتعلق الأمر بالصورة في وسائل الاتصال الجماهيري السينما والتلفزيون .
فالرموز كوحدات لغوية منتجة لبنية الرسالة الاتصالية تتواشج كمترابط عضوي يعمل على إبراز دورها كبنية فرعية عاملة بطاقتها القصوى على أطلاق كل موحد قادر على إنتاج معنى ومضمونا محددين، حيث يتفق كلا من القائم بالاتصال والمتلقي على مفاهيمه المشتركة مسبقا، بمعنى أن ما تشير إليه كلمات ما، أو صور ما، هو تجربة ما، وهذه التجربة يتعادل فيها المصدر والمتلقي ولا تنطوي على موجودات البيئة فحسب بل تتضمن كل التجريد المتفق عليه من سابق، فتصبح الوحدات رموزا تعبر عن فكرة ما . هذه الفكرة هي تفسير سابق، ورؤية سابقة، كما أنها فهم واقع بين قطبي الدائرة الاتصالية من سابق، ويذهب ـ مارتن هيدجر في كتابه الوجود والزمن ـ لاختزال هذه الفكرة بقوله " حين يتم تفسير شيء ما على أنه شيء،فإن التفسير سيوجد أساسا على كونه سابق الفهم، سابق الرؤية، سابق التصور،ولا يمكن للتفسير أن يكون، دون افتراض مسبق لإدراك شيء مقدم إلينا" وما يسميه هيدجر بالافتراض المسبق يترادف لدى شرام بالتجربة المشتركة الإطار الدلالي لدى شرام








ويعتبره ـ جاداميرـ من المسلمات، لأنه عنصر حاضر بالأساس في عملية تفسير أو تأويل حاملات المعنى، في أي نص أو مضمون اتصالي، وإن أية محاولة تفسير أو تأويل ينبغي أن تضع ذلك في الاعتبار، لأنه المرجع، ثم لأنه ملتحم بفهمنا على حد تعبيرـ جادامير ـ الذي يشير إلى أن " الرأي المسبق والمفاهيم المسبقة تعتبر جزءا حيويا من أي حالة تأويلية ...(فهو) التأريخ المؤثر....الوعي التأريخي الفعال، وعي أولي بالحالة التأويلية "
ولابد من القول بان عمليتي الإرسال والتلقي ، هما عمليتان معرفيتان يجتهد فيهما الاثنان للحصول على أفضل تشكيل لغوي للتعبير عن المضامين والمعاني في الرسائل الاتصالية المتبادلة بينهما، فالأول يشكل رسالته ويحملها مضامين معينة ثم يبثها إلى المتلقي لتحقيق أهدافا يرومها، وهو بلا شك يتوقع من الأخير استجابة معينة تتشكل هي الأخرى بصيغة تعبيرية ما، إذ أن كل عملية تعبير تمثل في خلاصتها تحول الأفكار إلى منظومة من الرموز اللفظية أو غير اللفظية كما هو الأمر في السينما والتلفزيون والمسرح والرسم ....الخ، حيث يتمثل دور الأول بتحويل الأفكار إلى رموز بينما يقوم الثاني بتحويل الرموز إلى أفكار، وهكذا يستمر التواصل .في الدائرة الاتصالية.
وقد ندرك أو لا ندرك بشكل كافي من أن اللغة كمنظومة سيميائية لا تزال غامضة ونائية، ولم تستطع قراءتنا أن تكشف حتى اليوم مطلق أساليبها كما لم تستطع معالجاتنا أن تناقش معالجتها بتأنٍ وعمق، ومع ذلك فإننا نستخدمها ونتخاطب بها ولا نبالي بوصف ما نصنعه، ومع كل ذلك تبقى اللغة تسهم في صناعة الفكر .
اللغة وفعل المعرفة :ـ
وتستقي كلمة الخطاب الاتصالي مشروعيتها من دخولها بقوة في بنية اللغة، ومن طبيعة المادة التي تعالجها، والسياق الذي تندرج فيه، ومن ثم فإن الخطاب الاتصالي يتكشف على صيغة كاملة تغطي فضاء النص من مفهوم منفتح على كل ما يتوالد في الخطاب من معالم معرفية ويصبح بالضرورة فوقها متقصيا أشكالها الجمالية . إن المضمون الاتصالي هو نص الرسالة وخطاب القائم بالاتصال في نفس الوقت، وتأسيسا على ذلك ينبغي ان نضع في اعتبارنا الحقيقة التالية " يتشكل الخطاب النصي من أبنية لغوية " بمعنى أن التعاطي مع الخطاب الاتصالي ينبغي أن يكون أساسه اللغة باعتبارها أهم كيفية مناسبة لطبيعته، لكون الاتصال " نوع من التفاعل الذي يحدث بواسطة الرموز " وعبارة أرسطو الشهيرة " بان الكلام تعبير عن التفكير " أن هذه الرموز تشير إلى العلاقة بين القائم بالاتصال والمضمون وهي كيفيات لغوية أو قوليه، أساسها اللغة وكل لغة " تتألف من علامات " وحسب تفسيرات سوسير فان العلامة هي التقاء دال ومدلول لها مرجعية واقعية مرمزة اجتماعيا. وفيما يخص حركية العلامة والدور الذي يقوم به القائم بالاتصال فقد أعطت نظريات ـ هجلمسليف Hjelmeslev ـ معنى بالغ السهولة فهي في مفهومه ليست علاقة بين صورة وشكل، ولا علاقة قائمة بين شيء مادي حاضر عيانيا ومفهوما غائبا، بل من منظوره نتيجة عملية رمزية يقترحها القائم بالاتصال ويفسرها المتلقي، ولعل أهم ما في هذا الحراك الدينامي بأنه لا ينُظر إليها كشيء واقع ، بل كشيء يحدث مع الاستخدام على أساس التقاليد المقبولة من كل من المرسل والمتلقي . وتقوم هذه العلامات بوظيفتين " استكشاف المعنى والتواصل،الذي يتحدد كإيصال الرسالة من باث إلى مستقبل " فإذا كان المعنى يتمثل ماذا ؟ فالتواصل يتمثل كيف ؟ وأحسن تمثل إلى ماذا، سيكون بكيف . ويتماهى ذلك مع التصور السوسيري لمستوى اللغة " مستوى العبارة ، ومستوى المحتوى، باعتبار وجود العبارة شرطا لوجود المعنى " فالعبارة نسقا يتكفل بحمل المعنى( المضمون الاتصالي ) للإبلاغ عن حالة قول المصدر المنضوي تحت نص الرسالة، وبالتالي فان السلوك الاتصالي يمثل تعلقا أبلاغيا قابلا لإقامة واقعه الإشاري، مما يجعل من رموز النص بناء علاماتي في خطاب يحققه المصدر، وهي لا تتمثل في إنتاج مقولات فحسب بقدر ما تتثمل بتوليد مضامين اتصالية، تنتج تأثيرا دلاليا يمكن أن نسميه اتصالا، ومن هنا فان العملية الاتصالية تتصل بممارسة فعل المعرفة، وأداتنا في المعرفة هي اللغة التي تتمثل " غايتها بتحقيق الصلات بين الإنسان، أو معرفة الإنسان للأشياء " .
والجدير بالذكر أن العلامة بحد ذاتها كوحدة مكونه " من شكل المضمون وشكل التعبير، وقائمة على التضامن بينهما وهو ما يسميه سوسير بالوظيفة السيميولوجية وعندئذ تصبح الوحدة ذات وجهين مفتوحة على اتجاهين صوب الخارج حيث مادة التعبير وصوب الداخل حيث مادة المضمون ".
وفي مقاربات لباختين بين مفاهيم النص والبلاغة " يرى انه حيث لا يوجد نص فليس ثمة موضوع للبحث وللتفكير والنص عنده سواء كان مكتوبا أم شفاهيا يعتبر مادة أولية تقوم بتحليلها الألسنة والفلسفة وغير ذلك من العلوم (ولدى لوتمان) تأتي العلاقات الداخلية للنصوص باعتبارها تكوينات سيميولوجية متوحدة ".
شرط النص حضور المتلقي :ـ
إذا كان المصدر هو الشخص الذي يؤسس حواره بوضع أفكاره في صيغة رموز تعبر عن المعنى المراد، وان هذه الرموز تشكل الرسالة التي تستهدف المتلقي، فمن البديهي القول بان المتلقي هو مستقبل الرسالة وهو الذي يقع عليه عبء فك رموز الرسالة وتحويلها إلى أفكار ومعاني، وهما في هذا الفعل الاتصالي مشتركان، فضلا عن أنهما يتبادلان الأدوار أيضا فالمتلقي هو كذلك مرسل في ظرف ما، كون الرسائل التي ستصدر منه حددتها الرسائل التي تلقاها، وفي الاتصال ألمواجهي النموذج الأمثل حيث يقوم كل من المرسل والمستقبل بوظيفتين هما الإرسال والاستقبال في نفس الوقت،و هنا يكون منطلق دائرة الاتصال أو كما يسميه سوسير "دائرة الكلام " في ذهن أولهما، حيث تنضوي تحته أحداث الوعي وهي المفاهيم المرتبطة بتصورات العلامات اللغوية أو ما يسميها بالصورة السمعية المستخدمة للتعبير عن تلك المفاهيم ، وفي الدماغ يحدث الترابط النفسي بين الصورة السمعية والمفهوم المطابق لها . إلا أن نجاح عملية الاتصال يرتبط " بمدى معرفتنا بنوعية الجمهور الذي يستقبل الرسالة، ولذا فإن معرفة الخصائص الديموغرافية والخصائص السيكوغرافية للجمهور تكون أساسية لتوجيه الرسائل الملائمة إليهم " وإذا ما تجاوزنا عن وعي الآليات المرتبطة بمكونات عملية الاتصال لأنها ليست موضوع بحثنا هنا، لكنا رغبنا بالتعرض لها بقدر مناسب، مع رغبتنا بالتأكيد على أن العملية الاتصالية بمجملها محكومة أيضا بالبيئة الاجتماعية والثقافية وبعدد من العناصر الأخرى التي تشكل مدركات المتلقي والتي في ضوئها أيضا تجري عملية تفكيك وحدات النص الاتصالي، وهذا الإجراء لا يقتصر أبدا على الصحافة بل يمتد لكل المجالات التعبيرية وكل بحسب خواص الجنس الذي ينتمي إليه الوسيط سواء كان مسموعا أو مقروءا أو مرئيا، وكل وسيط تعبيري من هذه المجموعة وغيرها، لابد أن يصل إلى المتلقي بصيغة شكل أو بهيئة ما، وان يتجلى ببنية وهذه البنى تظل ماثلة لدية بشكل ما، لتفضي إلى الوحدات المحررة لها، وبذلك تؤدي وظيفتها داخل البنية الكلية للنص بالمستويين التوليدي بما يختص بالعلاقات الداخلية بين الوحدات وتراكيبها، ودلالي فيما يختص بالمعاني وبهذا الشكل فان الكود كوحدة جزئية يعبر بالضرورة عن المضمون الاتصالي، وهو يشارك في الحركة العامة للمضمون، ويبلغ ذروته في المستوى الدلالي ثم ينتهِ إلى نتيجة طبيعية من كونه جزء من مؤلف في وحداته العضوية النامية .
ويرى ابن خلدون نتيجة للاحتفال بالصياغة أن العبرة بالألفاظ وأن المعاني تبع لها، ولعله يقصد أن الألفاظ دون المعاني هي مقياس براعة الكاتب وان الألفاظ هي التي تطلعنا على المعاني فهي الدليل عليها، وبدون الألفاظ لا يستطيع الفرد استجلاؤها، فالمعاني في منظوره متوفرة لكل إنسان، ولا تحتاج إلى صناعة، أما فيما يختص بتأليف الكلام للعبارة عنها هو الذي يحتاج للصناعة، فالألفاظ كالقوالب للمعاني.
وفي فروض نظرية التلقي يسوق ـ مورس بكهام ـ فرضية تناقش الدور الوظائفي للعلامة في إطار حراكها في مجالي التلقي والمعنى فالعلامة لا تستطيع أن تقول شيئا إلا بوجود شخص يستقبلها، ويستجيب لما تريد قوله، وفي ظل غياب المتلقي واستجابته فلا وجود لدلالة ولا معنى، وهو تصور يتوافق مع ما تناوله ـ بارت ـ عن معنى النص، من أن النص بكامله علامة . وان لا وجود له في غيبة المتلقي، وهو تصور يتسق أيضا مع فلسفتي الظاهراتية والتأويلية في موقفيهما من اللغة والمعنى، على اعتبار أن المعنى لا وجود له خارج اللغة، وتأسيسا على ذلك ليس ثمة أمكانية لإدراكه قبل أو خارج السياق اللغوي، بعبارة أخرى أن معنى النص لا وجود له إلا في لحظة إدراكه أو وجوده داخل وعي المتلقي ويبدو أونج أكثر تطرفا حين يشترط وجود النص بحضور المتلقي بحيث يبدو بأنه الأساس لفكرة يجب أن يكون ثم يجب أن يعني شيئا ما " يجب في الكلام كما في الكتابة إن يكون ثمة متلق حاضر وألا فلن يتم إنتاج النص " فما المعاني التي لدينا ألا ثمرة تجاربنا السابقة التي تشكلت منذ أن اكتسبنا المعاني الأولى لتلك الكلمات، ثم أخذنا نضيف إليها التفسيرات التي نحصل عليها، فكلما اتسعت تجربتنا، كلما اكتسبنا معان ٍ جديدة، وهي عملية مستمرة باستمرار الحياة، حيث يعمل الإنسان على،دمج الجديد بمجموعة المعلومات السابقة التي تطورت عنه، وبالتالي فإن المعاني التي لدينا هي خلاصة كل هذه التجربة الغنية التي شكلت قيمنا ومعتقداتنا، ومدركاتنا.
وتأسيسا على ذلك لم يعد المعنى كامنا في الكلمة بل هو كامن فينا( نحن المرسل والمتلقي ) لأننا نقوم بتخصيص أو إضفاء هذا المعنى، كما أن التفسير الذي نخلعه على الكلمة يقترن بإدراكنا عن استعمال هذه الوحدة والشخص الذي يستخدمها، لأن اللغة تستخدم بقدر كبير من الذاتية
وهكذا يدخل المتلقي في لعبة تبادل الأدوار بينه والمرسل وتذوب الحدود الفاصلة بينهما، يترافق ذلك مع تمظهر ثقافة المتلقي وتمثله لمعارف عصره في إطار السياق الاجتماعي، بمعنى أن البنية المعرفية للقائم بالاتصال و وعي المتلقي وإدراكهما لما حولهما، يدخلهما في حقل ثقافي ينتهي إلى مرجعية واحدة، أنتجت تلك الرسالة أو النص الذي يمتلك حضورا ينتمي إلى سياق ثقافي واجتماعي معين، وغاية يمارس القائم بالاتصال من خلالها آراءه وأفكاره ويحاور المتلقي وفقا لهذا المنظور، مما يجعل منه بناءا ذهنيا قائما على مجموع المضمون الاتصالي، وهو الدافع وراء إنتاج الاتصال، أما العلاقة بينهما فهي التي تبني الرسالة، وتأسيسا على ذلك ومن هذا المنظور تتعدد مستويات الاتصال، فالمستقبل ليس مجرد متلقي سلبي في العملية الاتصالية بل هو كيان له مرجعيته السياسية والثقافية والاجتماعية التي يخاطبها القائم بالاتصال، ساعيا إلى التأثير فيها وصياغة اتجاهها .
صنـــــــاعــــة المعـــــنى :ـ
وأن كلا من المرسل والمتلقي يكونان تصورا منظما عن العالم الذي يعيشان فيه، وكل يستخلص من هذا التصور في مدار الإطار الجمعي بناءا عاما له معنى، فكل المدركات متصلة ببعض وتنتهي إلى تجربة الفرد التي استحالت إلى حاضنة تفسح مجالا أضافيا في التصور الذي كونه الفرد عن العالم في مرحلة سابقة، وكل مضمون اتصالي سيدعم التجربة و يرسخ التصور الأساسي، ولذلك ففي العملية الاتصالية يأتي قرار المتلقي وفقا للمدركات التي تفاعلت لديه من سابق، والتي تنادمت وتواصلت داخل سياق اجتماعي وثقافي . ويفترض ـ أمبرتو إيكو ـ " بأن كل أشكال التواصل تستلزم وجود سنن، و إذا كان علماء اللسان قد برهنوا على أن كل كلام يقتضي وجود لسان سابق عليه في الوجود، فيمكن افتراض أن كل إنجاز تواصلي يستلزم قدرة تسبقه ....وان السنن أو القواعد التي تضبط التواصل هي نتاج المواضعة الثقافية " وبمثل هذا التصور تكون مكانة المتلقي على ذات القدر من القيمة التي يتمثلها المرسل أو القائم بالاتصال ، ويمكن اعتبار هذه الفكرة كواحدة من أبرز إستراتيجيات الوجود لدى متلقي الرسالة الاتصالية، لأن دوره هنا سيتعدى حالة استخلاص المعنى، لينتقل إلى حالة صناعة المعنى " فصنع المعنى وليس صنع الرسائل هو الذي سيحدد الاتصال، بصرف النظر عن المضمون أو الإطار الذي يحدث فيه الاتصال . فالاتصال إذن هو عملية ديناميكية تحدث داخل الفرد الذي يقوم بالتفسير" مما يحوله من مستهلك سلبي إلى مستقبل متفاعل مع المصدر، حين يقوم بملء فجوات النص الاتصالي. وهذا في حقيقته استحقاقا يسننه متلق جدير بمكانته النوعية في العملية الاتصالية .
ولكن لا ينبغي أن نتجاهل من جانب آخر بأن المعنى ذاته ليس سوى جزء لا يتجزأ من وسائل المصدر التعبيرية ذلك لان تجربته لا تعني بتجميع الأفكار والوقائع فحسب بل تمثل إدراكا ثقافيا وعاطفيا لمجمل الحياة , فاللغة تنتج درجات متفاوتة من الارتباطات الذهنية القادرة على خلق مستوى من الإعجاب والأداء المندمج مع التجربة الحاضرة والمباشرة لصياغة كلا ذا مغزى .
وفي هذا الكل تتأسس قراءات متعددة بسبب تعددية التأويل وتعددية طبقات المعنى، المرتكزة على مهارات المتلقي وقدرته على استنطاق الوحدات التعبيرية من جهة، وعلى الطاقة الإيحائية للوحدات التعبيرية وقدرتها على تحرير عددا من الدلالات من جهة ثانية، وهو أمر يقربنا كثيرا من تصورات – شيلنـــــج- الذي يعتبر الصورة الفنية " تعبيرا متناهيا عن اللامتناهي" لأنها تنطوي على عدد لا نهائي من المعاني بحيث يصعب وضع معنى محدد في جوهرها، وكذلك تتأكد تباينات التوجهات هذه في طروحات – بارت – حيث يذهب إلى القول "بإمكانية الاختلاف المطلق في قراءة النص وهو ما ذهب إليه ـ آرنولد هاوزر- في قوله من أن تفسيرا جديدا إنما يغير من معـناه ومضمونه .وبالرغم من أن بيرس يحيل الرمز إلى العام الخارجي أي إلى مرجعيته وكذلك يفعل العلم إلا أن هذه الإحالة في الحقيقة سواء كانت فنــا أو علما إنما تعكس الواقع إلى حد نسبي على حد تعبير ميخائيل اوفسيانيكوف، إلا أن جان متري يرى " بان الواقعة منبع لا ينضب من المعاني بالنسبة للبشر) وإذا توسعنا بتناول هذه المسألة واحتمالات تفسير الصورة في وسائل الاتصال الجماهيري فان متري يلفت النظر إلى نقطة بالغة الخطورة تناولها ـ ايزنيشتاين ـ في معرض حديثه عن اللغة الصورية وعن الصورة العيانية التي تحضر بالإنابة عن الواقع بقوله : " أن كل اللقطات لها ظلال عديدة من المعاني بالإضافة إلى معناها السائد " . ومع أن الرموز منظومة من الأنظمة العلاماتية المتشابكة والتي لا تملك بالضرورة صفة النموذجية كما هي الموجودات في الواقع، وان الصوت والصورة هما نموذج لعملية تتم ضمن صيرورة متعددة الجوانب، وان الواقع المعالج ليس نظاما صارما، ولأن المرسل يدفعه إلى حيز الوجود حيث يكسبه معنى متوافقا مع اختياره الواعي لصياغة نظاما علاماتيا يتجمع في الصورة . إذن فمن الطبيعي أن تقودنا هذه الجدلية إلى ساحة اللغة مباشرة، وهي الحقيقة التي يمكن استخلاصها لتخطي أية عقبات تحول دون الحديث عن الصورة والرمز واللغة بذات الكيفية .
وتأسيسا على ذلك يصبح من المفيد القول بان الرموز نتاج واع، بكيفيات الواقع بمجمل معانيه، ولأنها كذلك، فإن لها شكلا ومحتوى، وهما يمثلان بالضرورة شيئا أو مفهوما، وعليه فان الرموز عموما , مباشرة أو غير مباشرة، لفظية كانت أم غير لفظية، إنما هي تعبير عن فكرة ما، وهي تعمل كجسر تواصل، وهي علاقة، بمعنى أن الأشياء حينما تستحيل إلى رموز تتجسد في علاقات مركبة ومعقدة مع الذين يوظفونها ويستخدمونها ومع الواقع الذي يدل عليها، وهي تندمج مع كل الرموز التي تنتمي إلى نظامها . إذا ما دخلت في العملية الاتصالية في إطار اللغة التي يستخدمها ويفهمها الأفراد الذين يتواصلون مع بعضهم في نقل الأفكار وتبادل المعلومات المتعلقة بالواقع . ويظل هذا الواقع سجلا لكينونات تتمثلها اللغة .


المصادر والمراجع :ـ
(1 ) الغانمي، سعيد : أقنعة النص، دار الشؤون الثقافية ، بغداد : 1991 . ص20
(2 ) لوتمان، يوري : مدخل إلى سيميائية الفلم،ترجمة نبيل الدبس، مطبعة عكرمة، دمشق : 1989،
(3 ) مؤنس، كاظم : دراسات نقدية في جماليات لغة الخطاب البصري ،عالم الكتب الحديث ، الأردن.
(4) مداس، احمد : لسانيات النص ـ نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري، .عالم الكتب الحديث، الأردن : 2007.
(5) القليني، فاطمة و شومان، محمد : الاتصال الجماهيري اتجاهات نظرية ومنهجية ،دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع ، القاهرة : 2004 .
(6) هولب ،روبرت سي : نظرية الاستقبال . ترجمة رعد عبد الجليل دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا : 2007.
(7 ) كولماس ،فلوريان: اللغة والاقتصاد ، ترجمة أحمد عوض ، عالم المعرفة العدد 263 ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت : 2000 .
(8) شعبان ،هيام :السرد في أعمال إبراهيم نصر الله ،دار الكندي ، الأردن : 2004.
(9) لوشن ، نور الهدى : مباحث في علم اللغة ومناهج البحث اللغوي المكتبة الجامعية، الإسكندرية : 2000.
(10) إمام ، إبراهيم : الإعلام والاتصال بالجماهير،مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة : 1984.
(11 ) فضل ، صلاح : بلاغة الخطاب وعلم النص، سلسلة عالم المعرفة العدد 164 ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت : 1992.
(12) مكاوي،حسن عماد والسيد، ليلى حسين : الاتصال ونظرياته المعاصرة، ط السابعة ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة :2008.
(13) نابيس، كارمن بوبيس : علامات العمل الدرامي ، ترجمة خالد سالم ،مركز الحضارة العربية ،القاهرة : 2003 .
(14 ) كورتيس، جوزيف : مدخل إلى السيميائية السردية والخطابية ، ترجمة جمال حضري،الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف ،2007 .الجزائر: 2007 .
(15 ) سوسير، دي فرديناند : فصول من دروس في علم اللغة العام، ترجمة عبد الرحمن أيوب ،في أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة مدخل إلى السيميوطيقيا، المرجع السابق ، ص 145 .
(16 ) أونج ، والتر ج : الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن البنا عزالدين ، ترجمة حسن البنا ، عالم المعرفة العدد 182 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت : 1994 ، ص 305 .
(17) إيكو، أمبرتو : سيميائيات الانساق البصرية ، ترجمة محمد التهامي ، ط 1 ، دار الحوار للطباعة والنشر، سوريا : 2008 .
(18) - ثابت . مذكور : النظرية والإبداع في سيناريو وإخراج الفلم
السينمائي .الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة : 1993.
(19) اندرو، ج . دادلي : نظريات الفلم الكبرى، ترجمة جرجس فؤاد الرشيدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة : 1987 .



#كاظم_مؤنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلطة اللغة وحاملات المعنى


المزيد.....




- أحد قاطنيه خرج زحفًا بين الحطام.. شاهد ما حدث لمنزل انفجر بع ...
- فيديو يظهر لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريب ...
- بسبب محتوى منصة -إكس-.. رئيس وزراء أستراليا لإيلون ماسك: ملي ...
- شاهد: مواطنون ينجحون بمساعدة رجل حاصرته النيران داخل سيارته ...
- علماء: الحرارة تتفاقم في أوروبا لدرجة أن جسم الإنسان لا يستط ...
- -تيك توك- تلوح باللجوء إلى القانون ضد الحكومة الأمريكية
- -ملياردير متعجرف-.. حرب كلامية بين رئيس وزراء أستراليا وماسك ...
- روسيا تخطط لإطلاق مجموعة أقمار جديدة للأرصاد الجوية
- -نتائج مثيرة للقلق-.. دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت
- الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف أهداف لحزب الله في جنوب لبنان ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كاظم مؤنس - تشكل الخطاب الاتصالي و الفعل اللغوي