أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد حمدان - حوار أملاه الحاضر 18 عدالة الإسلام 2 العبودية















المزيد.....



حوار أملاه الحاضر 18 عدالة الإسلام 2 العبودية


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 4226 - 2013 / 9 / 25 - 20:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



قلت لمحاوري : أظنك تعرف أن العبودية هي الظلم الأقسى ، الأعمق ، والجور الأشد ضراوة وعنفا ووحشية ، الذي تعرض له بنو البشر . قال : ذلك صحيح . قلت : فكيف تفسر إذن أن الديانات السماوية الثلاث ، وهي رسالات العدل والعدالة كما يردد أتباعها ، لم ترفض هذا الظلم فقط ، لم تواجه هذا الظلم فقط ، لم تعترض هذا الجور فقط ، وإنما قبلته وشرعته ، وعبأت أتباعها على الإيمان بأنه ضرورة ، وأنه نظام مجمتعي ثابت وغير قابل للتغيير ، ومن ثم فهو أبدي وسرمدي أيضا ؟ قال : هذا هو اللغو بعينه ، ولا أقول التخريف بعينه . هو افتئات على الدين ، وهو تجني وظلم بين ، غير موضوعي ومجافي للحقيقة . فالدين الإسلامي ، واعذرني لأني أعرف القليل جدا عن اليهودية والمسيحية ، ليس فقط لم يأت بالعبودية ، ولم يدعو لها ، وهو وقد وجدها قائمة ، فإنه ليس فقط لم يشرع لها ، وإنما وضع نظاما متدرجا للخلاص منها . ولو تم اتباع وتطبيق النظام الذي وضعه الإسلام ، لكانت البشرية قد تحررت من هذا الظلم الوحشي ، وغير الإنساني ، ومنذ زمن طويل . ومضى يسرد الآيات والأحاديث ، وابتسامتي تتسع ، وعلامات غيظه ، من ابتسامتي تزداد .
البدايات :

ولما انتهى من السرد قلت : ما رأيك في أن نعود إلى البدايات ؟ قال : وأي بدايات تقصد ؟ قلت : أظنك ما زلت تتذكر حديثنا في حلقة حد الخمر عن نوح . ونوح ، ليس مجرد نبي ورسول كما نعرف جميعا . هو أبو البشرية الثاني . ليس لأنه أنقذ الجنس البشري ، المنحدر من أبيه آدم ، من الانقراض بسبب الطوفان ، بل لأن من نسله عاد البشر الحاليون . نوح كما تذكر شرب الخمر وسكر ، ودخل ابنه الصغير عليه خباءه فرأى انكشاف عورته . أبناؤه سام ويافث عرفوا كيف يتصرفون ، وداروا سوأة أبيهم . ولما أفاق ، وقصوا عليه ما حدث . غضب ولعن كنعان ، ابن حام ، وحكم عليه ونسله بالعبودية ، لأبناء يافث وسام . " ملعون كنعان ، عبيد العبيد يكون لأخوته " . كانت هذه هي اللعنة وكان هذا هو الحكم . ولم يكن هذا بالأمر العابر . أقره الرب ، ما دام نزل على لسانه وفي كتاب مقدس . وأيضا هو حكم بعبودية ثلث البشرية آنذاك ، لثلثيها الأخريين ، بسبب خطأ ، أو خطيئة ، هناك جدل حول المسؤولية عنها . ما يعنينا هنا أن الحكم ، ومن الرب ، بعبودية بشر لبشر ، بدا وكأنه واكب نشأة البشرية . والأهم أنه ، بحكم الرب أيضا ، سيواكبها حتى يوم فنائها . قال : دعني من هذا فأنا لا أعرف شيئا عن التوراة ، ولا أرغب في جدال حولها . قلت : لننتقل إذن لخروج بني إسرائيل من مصر . قال : وماذا عن هذه ؟ قلت : تعرف أن يعقوب وأبناءه لحقوا بيوسف في مصر بعد قحط أصاب فلسطين . و تقول التوراة أن نسلهم وقع في عبودية المصريين . واستمر هذا الحال قرابة خمسة قرون ، إلى أن كان موسى . فجأة تذكرهم إلههم . نظر مذلتهم ، سمع صراخهم من ظلم مسخريهم ، وقرر إنقاذهم بإخراجهم من مصر ، وإصعادهم إلى فلسطين ، أرض ميعادهم التي تفيض لبنا وعسلا . إذن ، والكلام حسب التوراة وسفر خروج ، قرر الإله إنقاذ شعب من العبودية . لكنه ،وفي ذات الوقت ، قرر استعبادهم لشعب آخر ، هم الكنعانيون ، أجدادنا نحن أهل فلسطين . ولأنني رأيته متحفزا للكلام ، ذكرته باتفاقنا بأن يكون هذا الموضوع ، موضوع حوارنا ، في حلقة قادمة ، وواصلت : إنقاذ بني إسرائيل من العبودية ، رافقته تعليمات واضحة وقاطعة ، وأوامر صارمة و حاسمة ، ليس فقط بالاستيلاء على أرض الكنعانيين ، وطردهم منها ، بل وبإبادتهم ، كلما استطاع بنو إسرائيل إلى ذلك سبيلا . وأما الناجون من أهل البلاد فقد حكم عليهم إله إسرائيل بالعبودية أيامهم كلها . حطابين وسقائي ماء وعبيدا لبيت الرب ، حسبما ورد في التوراة . نخرج من هذا إلى أن فرض العبودية على بني البشر ، هذا الظلم الوحشي ، الذي لا تدانيه في قساوته وجوره أية وحشية ، صدر عن إله . ولأنكم لا تعترفون بأن إله إسرائيل ذاك ، لم يكن هو الله ، إله البشر كلهم ، بل تؤكدون بأنه هو الله ، يكون الله هو من فرض العبودية على شعب بأكمله . لماذا ؟ حتى يتسنى لشعب اختاره أن يستولي على أرضه ، وأن يطرده منها . وبهذا المعنى كانت عبودية البشر للبشر فريضة وحكما من الله تعالى . قال : أرفض كل ما تقول ، لأنني في الأصل لا أعترف بأي من التوراة أو إله بني إسرائيل ، الذي ليس هو الله الواحد الأحد ، الذي خلق العدل وشرعه لسائر بني البشر أجمعين .

سبارتكوس وثورته :

قلت : لننتقل إلى المسيحية إذن . قال : ولك هذه ، ولو أنك تعرف ضعف معلوماتي في هذا المجال . قلت : أظنك مع ذلك تعرف ، من مقررات التاريخ في المدرسة ، أن الامبراطورية الرومانية التي حكمت شعوب وأمم حوض البحر المتوسط ، ونصف أوروبا ، عرفت وعايشت أقسى عهود العبودية في التاريخ كله . وفي عهدها ، كما في أجزاء عديدة من العالم ، الصين مثلا ، قام العبيد ، وهم من مختلف الأجناس والألوان ، بثورات عدة ، سعيا لخلع نير العبودية عن كواهلهم . وفي روما ، وفضلا عن تسخير العبيد في أقسى الأعمال ، المناجم مثلا ، ابتكر الحكام نوعا من استغلال العبيد بغرض الترفيه والترويح عنهم وعن الناس . ظهر متعهدون يدربون هؤلاء العبيد على القتال – عرف هؤلاء العبيد بالمصارعين وبالمجالدين - ، وليستعرضوا بعد ذلك مهاراتهم أمام نظارة مسرح – شبيه بالمدرج الروماني في عمان - ، ولينتهي الاستعراض بقتل الفائز للمهزوم ، وصراخ النظارة لمرأى الدم .

وتابعت القول : كان سبارتاكوس أحد هؤلاء العبيد المصارعين . وكان قدره أن يقود ثورة زملائه ، أملا في الخلاص من هذا الظلم . وانضم لثورته سائر العبيد في إيطاليا كلها . وتركز أملهم في الخروج من إيطاليا والانتقال إلى أحد ولاياتها الإفريقية ، فنيل الحرية . والملفت للنظر أن مسعى سبارتاكوس هذا ، جاء تكرارا لمسعى بني إسرائيل في الانعتاق من ربقة عبوديتهم للمصريين ، وبدون معرفة من سبارتاكوس بسبق هذا المسعى ربما . المهم أن الامبراطور الروماني أفشل خطة سبارتاكوس ، وواجهه في معركة حاسمة ، قتل فيها آلاف العبيد ، وتم أسر سبارتكوس وآلاف أخرين ، تم رفعهم على الصليب . أقام الامبراطور آلاف الصلبان على جانبي شارع يشكل أحد مداخل روما ، وعلى امتداد عدة كيلومترات ، ورفع هؤلاء العبيد الأسرى على الصلبان ، ليموتوا عليها جوعا وعطشا ، وبعد عذاب جسدي وروحي ممتد وشديد الفظاعة ، ولتنهش لحومهم الطيور الجارحة بعد ذلك ، وقبل ذلك .

قال : في الحقيقة سمعت شيئا من هذا ، ولكن ليس بهذا التفصيل . قلت : هذا إيجاز ، شديد في إيجازه . وربما جاء سماعك بها من واقع أن السينما تناولت هذه الثورة من زوايا مختلفة ، وفي أفلام عدة . وأضفت : وتظل الحقيقة الأهم في هذه الواقعة ، من وجهة نظري ، أن هذه الثورة حدثت قبل أقل من قرن على قدوم المسيحية . ورغم أن الامبراطورية الرومانية ، ونتيجة لهزيمة ثورة سبارتاكوس ربما ، شددت من إجراءات ظلم العبيد ، إلا أن المسيح ، فيما يبدو ، لم يسمع صراخهم ، ولم يستجب لنداء خلاصهم . المسيحية أبقت على هذا الظلم ، ربما لأنها ظنت بأن نظام العبودية هذا ، هو النظام الأفضل للبشرية ، وأنه رافقها من الأزل ، وسيظل قائما بلا تغيير إلى الأبد . ولأن محاوري اكتفى بهزات من رأسه ، تراوح بين الرفض وعدم الفهم ، تابعت قائلا : والمثير للدهشة أن أتباع المسيحية ، ومنذ القرن السادس عشر ، قرن الاكتشافات الجغرافية ، شنوا أعنف حملات الاستعباد ، وأكثرها ضراوة ووحشية على مر التاريخ . أقصد رحلات صيد المساكين الأفارقة ، وشحنهم في عنابر السفن ، وبيع من يصل منهم حيا في الأسواق الأمريكية ، ولتبدأ مرحلة ، هي الأقسى والأكثر وحشية في التاريخ الإنساني كله . وجاءت مرافقة القساوسة لهذه الحملات ، وبينها الاستعمارية ، بدعوى هداية هؤلاء المساكين إلى دين الرحمة والعدل ، لتلفت انتباه أي مهتم بموضوعات الرحمة والعدالة . وأضفت : وأظنك تعرف أن العبودية في أمريكا كانت قاسية بصورة تفوق أي وصف ، وأن العبيد عملوا في حقول القطن بالأساس ، وأن الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن ، حين حاول تخليص أمريكا ، الدولة الفتية الصاعدة ، والمنارة الجاذبة لذوي الطموحات في العالم ، حين حاول تخليصها من هذا العار ، قامت الحرب الأهلية الأمريكية ، إحدى أكثر الحروب الأهلية ضراوة في التاريخ المعاصر ، وربما من أكثرها تكلفة بشرية واقتصادية . انتصر لينكولن وصدر قانون إلغاء العبودية ، والذي كلفه حياته ، ليطبق لا على أمريكا وحدها ، ولكن على العالم أجمع . لكن عهد العبودية لم ينته بصدور هذا القانون ، بل استمر أمريكيون ، منظمة الكلوكس كلان مثلا ، وبمؤازرة قسس وكنائس ، في مقاومته ، وحتى ستينيات القرن الماضي ، وظهور حركة مارتن لوثر كنج ،المقاومة للتمييز العنصري ، ولاستكمال تحرير العبيد ، وإلى ما بعد اغتياله .

الإسلام والعبودية :

بادر محاوري بالقول : ولكن الإسلام بريء من كل ذلك . لم يدع لها ، ولم يوجدها ، كما لم يحبذها . قلت : هذا صحيح . جاء الإسلام فوجد العبودية نظاما قائما ، تماما كما حدث مع اليهودية والمسيحية . ومثلهما لم يدنها ، ولم يستنكرها ، كما لم يرفضها . قال : ولكنه حض على تحرير العبيد ، ووضع من التشريعات ما يضمن ، لو التزم المسلمون بتطبيقها ، الخلاص من هذا العار ، حسب وصفك ، وبصورة تدريجية ، لا تلحق أضرارا بالمجتمع وقدراته الانتاجية الاقتصادية . قلت : وهل تعتقد يا عزيزي أن الديانتين اللتين سبقتا الإسلام – اليهودية والمسيحية – خلتا من حض المؤمنين ، من أتباعها ، على كسب رضى الرب بتحرير عبيدهم ؟ والأهم من ذلك هل كان مجتمع الحجاز ما قبل الإسلام كارها ، وبالتالي غير مطبق ، أو متبع ، للتعليمات التي أتى بها الإسلام ، في مسألة التحرير التي تشير إليها ؟ وهل تعتقد فعلا وحقيقة أن تلك التعليمات ، أو التشريعات ، كان الالتزام بتطبيقها سينقذ البشرية بالفعل من عار هذه الجريمة المروعة ؟ قال : أكيد كان سيحدث ذلك لو تم تطبيق الشرع تطبيقا صحيحا ؟ قلت منحيا أية علائم لدهشة تعتريني : هل أنت واع لما تقول ؟ قال : بالطبع أنا أعي ما أقول ، ومصر عليه . قلت : أنت لا شك قرأت السيرة النبوية ، وقرأت أيضا تاريخ الهجرة ، أو ما يعرف بالعهد النبوي في حكم المدينة والدولة الحديثة . كما ولا بد أنك قرأت تاريخ الخلافة الراشدية . قال : نعم قرأتها فماذا تعني ؟ قلت : إذن أنت تعرف أنه ورغم تطبيق النبي للشريعة فقد ازداد عدد العبيد ، ومن الجنسين ، زيادة كبيرة ، ولدرجة أنه لم يعد بيت من بيوت المسلمين يخلو من هؤلاء العبيد . وفي العهد الراشدي تضاعف هذا الحال مرات ومرات . وغير ذلك توفي النبي ولديه عبيد من الجنسين . وكذلك كان الحال مع الخلفاء الراشدين ، وحيث كان عبيد عثمان بالعشرات . وفيما بعد وصل عبيد من بقي من المبشرين بالجنة إلى المئات . فكيف نفهم ما تقوله عن التطبيق الصحيح للشريعة ؟ قال : المسألة هنا أن ظرفا خاصا حكم المسلمين ، وأعني به تواصل الغزوات والحروب ، وما ينتج عنها من أسر وسبي ، وبالتالي هذه الزيادة ، التي لا يحد منها تطبيق التشريعات الخاصة بتحرير العبيد . قلت : ولكن الحروب ، وتدفق السبي والأسرى ، تواصل على مدى التاريخ الإسلامي كله ، وكان ذلك التضخم في طبقة العبيد ، ومن ثم نقض صحة الزعم بأن الإسلام بتشريعاته كان السباق لتحرير البشرية من هذا الظلم المريع .

فك رقبة :

ولأن محاوري سكت مفكرا أضفت قائلا : تعال هنا ، ألم تكن التشريعات الإسلامية ، بتحرير العبيد ، أعرافا وتقاليد لأهل الحجاز قبل ذلك ؟ قال : هذا غير صحيح . قلت : إذن تعال نحتكم إلى الآيات . ولنبدأ من سورة البلد ، وهي مكية كما تعلم . قال : لك ذلك . قلت : جاء في السورة ، وآياتها جميعا تخاطب المرء مذكرة إياه بقدرة الله ، التالي : { وما أدراك ما العقبة * فك رقبة } . ولأن فك رقبة تعني إعتاق العبيد ، فمعنى الآية أن القرآن خاطب أهل مكة بما يعرفونه ويعتادونه . وصيغة الآية بعيدة عن المطالبة بالإعتاق ، من أناس هم أصلا لا يؤمنون لا بالرسالة ولا بالقرآن . قال : هذا غير صحيح لأن الآية تحض المؤمنين على الإعتاق ، وتشرح لهم مكارم ونبل هذا العمل . قلت : سأسايرك ، ولكن أعود للتأكيد بأن ذلك فعل – الإعتاق - كان أهل مكة ، وغيرهم من أهل الحجاز ، يعرفونه لأنهم يمارسونه ، في النذور مثلا ، ولدي أكثر من دليل . قال ساخرا : أتحفنا بأدلتك يا رعاك الله . قلت : حين أخذ كبراء مكة في تعذيب عبيدهم لردهم عن الدين الجديد ، ورأى المسلمون الذين كانوا قلة وقتها ، ما وقع لبلال ولآل ياسر من بلاء ، بادر أبو بكر لشراء بلال من مالكه أمية بن خلف ، أحد عتاة كفار مكة ، وأعتقه . ثم كررالأمر مع زملاء آخرين في الدين ، ليبلغ من اشتراهم وأعتقهم سبعا ، خمس نساء ورجلين . هنا يلاحظ المدقق أن المكيين لم يمانعوا في بيع عبيدهم ، رغم معرفتهم بغرض الشاري . كما لم يمانعوا في إعتاقهم . ويلفت النظر هنا أن أحدا لم يعارض ، ولا حتى عاتب ، أبا بكر على أفعاله هذه . أبوه فقط هو من لامه ، ومن زاوية أنه يهدر ماله فيما لا نفع فيه . والآن ألا يدل ذلك ، في رأيك ، على أن أبا بكر في فعله هذا ، لم يأت بما يخالف أعراف الناس ؟ ألم يدر بخلدك أن فعلا مستحدثا كهذا ، كان يمكن أن يحدث هزة اجتماعية ، لو كان مخالفا لأعرافهم ، ومن ثم كان عليهم أن يعارضوه ، وبكل قوة ؟ سكت مفكرا ثم قال : ربما كان الأمر كذلك . قلت : وحادثة أخرى : تعرف أن أبا لهب ، وهو عم الرسول ، كان من أشد الناس عداوة للدعوة . وأبو لهب كان يملك عبدة اسمها ثويبة ، وهي للمصادفة أول مرضعة للنبي . خديجة ، زوجة النبي ، وإكراما لزوجها ، وقبل النبوة ، حاولت شراء ثويبة وإعتاقها . ورفض أبو لهب . ولكن وبعد هجرة النبي ، وانتهاء الاحتكاك المباشر مع النبي ، قام أبو لهب بإعتاق ثويبة . والتراث يورد لنا الكثير من الأمثلة على نذور بإعتاق عبيد . فعلى ماذا يدلل ذلك في رأيك ؟ قال : أعترف لك أنك أفحمتني ، فماذا بعد ذلك ؟

تحرير رقبة مؤمنة :

قلت : في المدينة نزلت الآيات الحاضة على تحرير العبيد ، وبتأكيد أحيانا على أن تكون الرقبة المحررة رقبة مؤمنة . وأيضا على حق المكاتبين من العبيد في حصة تساعدهم من أموال الصدقات . قال : نعم ذلك صحيح . قلت : ويلاحظ في هذه الآيات أن الآية 3 من سورة المجادلة ، والآية 89 من سورة المائدة ، ذكرت تحرير رقبة دون إشارة لصفة مؤمنة أو غير مؤمنة ، بينما في الآية 92 من سورة النساء ورد توصيف الرقبة بالمؤمنة وثلاث مرات متتاليات . وفي المرات الخمس جاء أمر تحرير الرقبة كفارة عن ذنب ، أو خطأ ارتكبه المؤمن . ولكي نفهم الفرق نعود إلى الآيات ، فنوع الخطأ ، والعقوبة . الآية 3 من سورة المجادلة أشارت إلى وجوب كفارة الظهار . والظهار هو أن الرجل كان يقول لزوجته " أنت علي كظهر أمي " . فتبقى عنده معلقة ، لا هي مطلقة ولا هي زوجة . والآية فرضت كفارة تحرير الرقبة قبل العودة لعلاقات الزوجية . وأضفت : أنت تعرف أن الشرع حرم الظهار ، ولم يعد موجودا ، وبالتالي انتفى باب تحرير العبيد هنا . أما الآية 89 من سورة المائدة فتشرع كفارة اللغو في الأيمان ، وحيث تحرير الرقبة واحد من بين عدة خيارات ، من بينها إطعام عشرة مساكين ، من نفس طعام الأسرة ، أو كسوتهم ، أو صيام ثلاثة أيام . وقلت : وأظنك تعرف أن الحل الأخير – الصيام – هو الحل الأقرب للقبول . ونأتي إلى الآية 92 من سورة النساء ، والتي تشترط صفة الإيمان – الإسلام – للرقبة المنوي تحريرها . وهي كفارة للقتل الخطأ ، وحين يكون المقتول مؤمنا ، ومن نفس الجماعة ، أو مؤمنا ومن جماعة معادية ، أومؤمنا ومن جماعة بينها وبين جماعة القاتل ميثاق معاهدة . قال : نعم هذا صحيح . وهناك مسألة الإيمان والرغبة في التقرب إلى الله ، والنذور ...الخ ، فضلا عن المكاتبة ، وحصة المكاتب من بيت مال المسلمين ، تعينه على بلوغ غايته في تحرير نفسه . وهي كما ترى أبواب واسعة للتخلص من العبودية ، والأهم أنها تدريجية وسلسة ، لا تحدث هزات اجتماعية ، ولا تلحق ضررا بالعملية الانتاجية الاقتصادية ، التي كان العبيد يقومون بالعبء الأكبر منها . قلت : ولكن ، وكما ترى فالتحرير هنا فعل فردي ، ومرتهن بالخطأ الإنساني ، ومن ثم توقيع عقوبة الكفارة . وبالتالي ولو افترضنا دقة التقيد بتنفيذه فإنه لا يوصل إلى التخلض من جرم وظلم وعار العبودية . ولتوضيح فكرتي أشير إلى واحد من عوامل زيادة العبودية ، وأعني الزيادة الطبيعية للعبيد ، وأقصد مواليدهم الذين يتحولون إلى عبيد مع أول صيحة لهم في الدنيا ، تلك التي تعقب خروجهم من بطون أمهاتهم . وأسأل : ألا تظل هذه الزيادة الطبيعية أكبر عدديا من أولئك الذين تحررهم الكفارات ؟. قال : يحتمل أن تكون كذلك . قلت : وأيضا أنت تعرف أن فعل الاستعباد فعل جمعي ، بمعنى أن أسرى معركة واحدة ظلوا يتعدون الآلاف . وإذا أضفنا لهم موارد العبودية الأخرى ، ومنها استيرادهم من أسواق العبودية المختلفة ، يتضح لنا تماما ، أن مسألة تصاعد حدة عار العبودية في الإسلام ، ليس مرده عدم الالتزام بتطبيق الشرع كما تقول ، ويقول غيرك .

المكاتبة :

قال : وماذا عن باب المكاتبة الواسع الذي تتعمد إهماله ؟ المكاتبة ، بمعنى توقيع عقد بين المالك والعبد ، يتعهد العبد فيه بدفع مبلغ متفق عليه ، وبعد أجل محدد ، للمالك ، فيحصل بذلك على حريته . قلت :المكاتبة وردت ضمن الآية 33 من سورة النور ونصها التالي :{ والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ...} . وأضفت : أنت تعلم أن خلافا وقع بين العلماء يتعلق بإلزامية المكاتبة من عدمها . وتعرف أن المشرعين انقسموا بين قائل بإلزامية المكاتبة ، في حال طلب العبد ذلك ، وآخرون قالوا بعدم إلزاميتها ، أي باختياريتها . وهذا اللبس استند إلى نص الجزء الأخير من الآية { إن علمتم فيهم خيرا }، الذي ترك الحكم للمالك على مقدرة العبد على الوفاء بالعقد من عدمه . أما الأولون فاستندوا إلى فعل الأمر { فكاتبوهم } للاستلال على الإلزامية ، فيما استند الآخرون إلى منح المالك حق اشتراط علم ، معرفة الخير في طالب المكاتبة . وقطعا للطريق على محاولة اعتراضه أضفت : لنسلم بالزامية المكاتبة وأنها فريضة ، ولنستطلع أثرها على عملية تخليص البشرية من لعنة وعار وظلم العبودية . أولا وكي نساعد القارئ على المتابعة ، دعنا نوضح له بنود هذه العملية وفي نقاط : 1 ) يطلب العبد المكاتبة ، ويوافق المالك 2) تعقب الموافقة مفاوضات على المبلغ الواجب دفعه ، وفي العادة يحدده المالك ، مع بعض التراجعات هنا وهناك . 3 ) يتم الاتفاق على المدة اللازمة لتوريد وإكمال المبلغ المتفق عليه .4) يخرج المكاتب إلى العمل الحر ويبدأ في توريد ما يتوفر لديه ، أسبوعا بعد اسبوع ، أوشهرا بعد شهر ، حسبما ينص عليه الاتفاق . 5 ) إذا نجح العبد في تسديد كامل المبلغ المتفق عليه حصل على حريته ، وفي حال انتهاء مدة العقد قبل استكمال المبلغ المتفق عليه ، ينفسخ العقد ، ويؤول كل ما توفر من مال العبد لمالكه ، وحيث تفشل مهمة التحرير .
قال : ذلك صحيح وفي الغالب ينجح العبد في الحصول على حريته . وهي ، كما ترى ، ولو تمت حسبما سنها الشرع ، آلية ناجعة وفعالة لتخليص البشرية من عار وظلم العبودية . وهي تبين كيف أن الإسلام كان السباق لمعالجة هذا الظلم التاريخي ، وتخليص البشرية من توابعه . قلت : ولكن نظرة مدققة ، في واقع العبودية ، تبين أن هذه الآلية ، كما آلية الكفارات ، محدودة الفعالية ، وحتى غير فاعلة . زمجر معترضا : كيف ؟ قلت : أولا لا ينصاع المالك في العادة لطلب العبد في المكاتبة . ولعلك تذكر موقف أنس ، أحد أقرب المقربين للنبي ، وخادمه الذي ظل يرافقه كظله ، من طلب سيرين ، والد ابن سيرين ، مفسر الأحلام المشهور من طلب المكاتبة . قال : نعم أذكر ذلك . قلت : أنس رفض الاستجابة لطلب سيرين ، كما رفض الاستماع للوساطات التي لجأ إليها سيرين . واضطر سيرين إلى اللجوء لطلب مساعدة أمير المؤمنين ، عمربن الخطاب الذي استهول موقف أنس واستنكره . ووحاول عمر ، وفي البداية رفض أنس الاستجابة ، ليفرضها عليه عمر فرضا . قال : نعم ذلك صحيح . ويمكن أخذ موقف أنس كمؤشر على أن كثيرين كانوا يرفضون الاستجابة لطلبات عبيدهم في المكاتبة . ومع ذلك ظل هذا الباب بابا هاما لكسب الحرية . قلت : وثانيا كان العبيد يشكلون مجموعات بشرية كاملة . بمعنى أن فيهم أصحاب أسر ، ومن لا أسر لهم . وفيهم الأطفال والفتيان ، وفيهم الشيوخ المسنون . وفيهم الأصحاء وغير الأصحاء . الأقوياء والضعفاء . المهنيون وغير المهنيين . وفيهم الذكور وفيهم الإناث . ومن الإناث من تصلح لمنح المتعة ، ومنهن من تنحصر فائدتها في الخدمة . والمكاتبة لا تنطبق إلا على الذكور الأصحاء والمهنيين منهم بالأساس ، أي من يضمن أن يجد عملا مستمرا ، وبأجر يزيد عن متطلبات عيش يوفر له القدرة على الاستمرارية . وكانت المكاتبة بدون أي نفع لكل جنس النساء ، وحيث لا تنفعهن الحرية ذاتها ، في بلد ليس لهن فيه أهل أو حتى معارف . فما الذي ستفعله صبية من الري – طهران – مثلا بالحرية في دمشق ، أو في المدينة ؟ أو من طنجة في بغداد ؟ فعلى الأقل يوفر لها تمتع المالك بجسدها مأوى ومأكلا وملبسا ، فيما تلقي الحرية بها إلى الشارع ، وتحرمها حتى من سقف يظللها . وأضفت : وأظنك تعرف أن المكاتبة تستثنى منها الأسر ، والأطفال والمسنون ، والمرضى ...الخ . ولأن محاوري صمت كمن أصابته الصدمة ، مضيت قائلا : وكل ما سبق يفسر لنا ما جرى على أرض الواقع . فرغم حداثة عهد الإسلام ، وقوة الإيمان ما زالت تعمر النفوس ، والرغبة في التقرب من الله بالإعتاق غامرة ، شهدت المدينة تدفقات للعبيد كبيرة . وقرب نهاية العهد الراشدي ، تفوقت أعداد العبيد على أعداد أهل المدينة الأصليين . والأمر ذاته حصل في كل الحواضر . وكان مشهدا عاديا أن يحوي البيت الواحد عددا من العبيد ، ومن الجنسين ، يفوق عدد أفراد الأسرة بكثير . وأيضا يفسر الأرقام غير القابلة للتصديق عن أعداد ملك اليمن ، من النساء ، لدى كبار الصحابة ، وحيث تقول كتب التراث أن بعضهم ، مثل عبد الرحمن بن عوف ، ملك ألف أمة ، من مختلف الجنسيات ، ومن ذوات البشرات السمراء ، والشقراء والسوداء ....الخ . وقاربه الزبير وطلحة وغيرهم . وحتى أن علي بن أبي طالب ، وهو المؤمن الزاهد ترك أربع عشرة أمة ، أوصى أولاده برعايتهن . وقبل لفظ عثمان للروح أوصى بإعتاق 29 عبدا من عبيده ، امتشقوا السلاح للدفاع عنه .

عمر والعبودية :

قال : بكل تأكيد لا أوافقك في أي شيء مما أسلفت . وأكثر من ذلك ، ورغم اعترافي بقوة منطقك ، إلا أن كل ما قدمته تأويل أرفضه جملة وتفصيلا . يا أخي لماذا تنكر علينا سبقنا للعالم كله في موضوع تخليص البشرية من لعنة العبودية ؟ ألم تصلك صرخة خليفة المسلمين ، عمر بن الخطاب ، في وجه والي مصر عمرو بن العاص وابنه : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " ؟ قلت : بلى وصلتني . ولكن كتابنا المحدثون ، الذين يستشهدون بها ، ينطبق عليهم القول " يحرفون الكلم عن مواضعه " . فهم وهم يشعرون بالضعة أمام الغرب ، وهم يعانون من عقد النقص ، من الشعور بالدونية ، أخذوا في اختراع وتلفيق انجازات ، بكل أسف لم تحدث مطلقا . كما أنطقوا عبارات ومواقف ، بإخراجها من سياقها ، بما لم تنطق . وتعال نستقرئ ذلك الحدث معا . الحدث تمثل في وقوع خلاف بين شابين ، مصري وابن الوالي ، على فرس فازت في السباق . ابن الوالي ضرب الشاب المصري بالسوط . هذه حادثة لا علاقة للعبودية بها . هي تقع في خانة الاستقواء بالموقع ، بالمركز ، بنفوذ الأب . والد الشاب المصري سار من الاسكندرية إلى المدينة ليشكو تجاوز ابن الوالي والاعتداء على ولده . هذا أمر لا يفعله إلا شخص صاحب مكانة مرموقة . والخليفة ، وهو يستدعي الوالي من مصر إلى المدينة ، يفعل ذلك لأنه يعرف عواقب مثل هذا الاستقواء بالمكانة وبالنفوذ ، كمقدمة لظهور وتعمق ونمو الفساد السياسي . وبعد هذا وذاك لم يكن أطراف الحدث مشتبكين في حرب ، الوضع المؤهل قانونا لحدوث الاستعباد . وإذن فإن عبارة عمر " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " ، عنت تجاوز الوالي لصلاحيات موقعه والتعدي على خلق الله ، ولم تعن أبدا أي معنى من معاني العبودية ، والتي كانت غير واردة كلية في هذه الحادثة . قال : لا أدري ما أقول . يا أخي من أين تأتي بتأويلاتك هذه التي تتنافى مع كل ما اعتدناه ، وبنينا إيماننا عليه ؟ قلت : هو استخدام العقل ، هذه الهبة الثمينة التي وُهبناها ، ويصر البعض على إهمالها ، في استقراء وتحليل الرواية التي تصلنا عن الحدث ، أيا كان هذا الحدث . فالتصديق والإيمان واستبعاد تفعيل العقل ، هي آفات حياتنا كلها يا صديقي .

إكرام العبيد :

قال : وماذا عن حض المؤمنين عن إكرام العبيد ومعاملتهم المعاملة الحسنة ؟ فأظنك تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى المسلمين بعبيدهم . أوصاهم بعدم إيذائهم سواء باليد أو باللسان . أوصاهم بحفظ كرامتهم ، وبإطعامهم من طعامهم ، وإلباسهم من لباسهم . قلت : ذلك صحيح . لكن ظل بين مالكي العبيد من هو صالح ، فيأخذ بوصية النبي ، كما فعل أبو ذر الغفاري ، ومن هو طالح وفاجر ، يقسو عليهم ، يعاملهم كالحيوان ، يدمر آدميتهم ، ويذبح إنسانيتهم ، ومن هو بين بين . ومع ذلك فإن المعاملة الحسنة قد تخفف من قسوة العبودية ، ولكنها لا تلغيها . وأكثر فإن التشريع قنن العبودية بكل وحشيتها . قاطعني صارخا : هذا تجني على الشرع . وما تقوله عاري تماما عن الصحة . قلت مهدئا : عندك حق . لكن تعال نستحضر بعض التشريعات لنقطع الشك باليقين . ففضلا عن أن العبودية تصادر اسم العبد أول ما تصادر . تحرمه من مجرد ذكر نسبه ، وتنسبه إلى مالكه ، فقد قرر الشرع اعتباره مجرد متاع ، عقار ، بضاعة ، مال . قال : هذا غير صحيح . من أتيت بكل هذا الافتراء ؟ قلت : لنفتح موطأ مالك ، وهو كتاب فقه قبل أن يكون كتاب حديث ، وأي كتاب فقه من مقررات التدريس في كليات الشريعة ونقرأ . سنجد في قوانين الأسرة مثلا ، ومقارنة بحقوق الأحرار ، أن الشرع حدد للعبد الجمع بين امرأتين ، وهن أربع للحر . الطلاق البائن للعبد طلقتان ، وللحر ثلاث . عدة الحرة أربعة أشهر وعشرة أيام ، وعدة الأمة نصفها ، شهران وخمسة أيام . وعدة طلاق الأمة شهر ونصف ، وهي ضعفها للحرة . وحد العبد والأمة في الزنا ، خمسون جلدة وهي الرجم للثيب الحر ، ومائة جلدة وتغريب سنة للبكر . والقتل حد الزنا مع الحرة . وحدهما في قذف المحصنات أربعون جلدة وهي الضعف للحر . وليس على قذف الأمة حد . والعبد إن طلق امرأته لا يجوز له إرجاعها إلا بعد أن يطأها رجل غيره . قلت : هل أمضي في السرد ؟ قال : لا هذا يكفي وهو صحيح لا أنكره . قلت : وتعال إلى الفروض . فأنت تعرف أن العبد لا يشارك الحر إلا في فروض الشهادتين ، الصلاة والصوم . فليس على العبد زكاة لأنه لا يملك أي مال . كما ليس عليه حج ، لأنه لا يستطيع إليه سبيلا . وهو إن رافق مالكه إلى الحج ، لايعتبر حجه أداء للفريضة . إذ يتوجب عليه بعد إعتاقه أداءها . وليس على العبد جهاد ، وإن شارك فيه فليس له نصيب من الغنيمة . قال : كل ذلك صحيح فإلام ترمي من سردك هذا ؟ قلت : في أمريكا العبودية كان المالك يعاقب العبد الذي يحاول الهروب بأشد ألوان التعذيب . ويعقب ذلك كله بقطع مشط قدمه ، ليحرمه من إمكانية محاولة الهروب مجددا . أما الشرع الإسلامي فقرن الإخلاص للمالك بالإيمان . ووصم محاولة الهروب بالكفر ، ووصف العبد الهارب بالعبد الآبق ، ووضع على عاتق الدولة مسؤولية إعادته من أقصى مكان في الأرض إلى مالكه . قال : وماذا أيضا ؟ قلت : أنت تعرف نص الآية :{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } ، كما وتعلم ، ولا شك ، الحكمة منها . قال : ذلك أكيد . وماذا بعد ؟ قلت : ولكن هذه الآية استثنت العبيد من حكمها . صرخ قائلا : ما هذا الافتراء ؟ كيف يهيؤ لك عقلك أن تقول ما قلت ؟ . قلت : حنانيك ياصديقي . فأنت تعرف أن العبودية تسري من الآباء إلى الأبناء والأحفاد ، وإلى ما شاء الله . ابن العبد يولد عبدا . فما الوزر الذي ارتكبه طفل العبد حتى يولد عبدا ؟ وأنت تعرف أن الوالد العبد لا ولاية له على أولاده . هو مثلا لا يزوج ابنته . يزوجها المالك . والولد الذي هو ملك لمالك الأب ، يمكن تفريقه عن أسرته ، بالبيع متى شاء المالك . وأكثر ليس للزوج العبد ولاية على زوجته . والمالك يملك تفريقهما ، وتشتيت الأسرة ، بالبيع ، عند أول خاطر يعن له . وكله تطبيقا للشرع . والقائمة تطول وتطول يا صديقي . قال : وهل تريدني أن أصدق وأن أتقبل كل هذا النسف لعدالة الإسلام ؟

الفرص الضائعة :

قلت : أليس الأجدر بعلماء المسلمين ، خصوصا كتابهم المحدثون ، التخلص من عقدة النقص تجاه الآخرين ، والغرب على وجه الخصوص، والتعامل مع حقائق الشرع وحقائق التاريخ ؟ قال : ماذا تقصد بقولك هذا ؟ قلت : يعترف الكتاب في دخائلهم بسبق الغرب للإسلام في قضايا كبرى ، كقضية تحرير العبيد . وتتلبسهم حالة من الشعور بالنقص ، تلجئهم إلى التبرير ، بديلا للإقرار بالحقيقة . ويقودهم منحى التبرير هذا إلى تقمص دور الماشطة ، لتجميل ما لا يمكن تجميله . في حالتنا هذه يلجأون إلى الزعم بسبق الإسلام في مسألة تحرير العبيد ، ويعيدون الفشل إلى ما يصفونه بعدم الالتزام بتطبيق الشرع . ويلجأ آخرون إلى القول بأنه ما كان بمقدور المسلمين إطلاق سراح أسرى الأعداء ، في وقت يحول هؤلاء الأعداء أسرى المسلمين إلى عبيد ، الأمر الذي يفضي إلى اختلال في ميازين الصراع . ويقول غيرهم أن التدرج في حل مسألة العبيد ، كما أقرها الشرع ، تجنب المجتمعات الإسلامية خطر الهزات الإقتصادية ، وحيث يقوم العبيد بالقسط الأوفر في عملية الانتاج . ويتجاهل كل هؤلاء حقائق عدة منها : 1 ) ان الخلافات الإسلامية ، وعلى مدى قرون عدة ، لم تكن فقط المبادرة إلى الحروب – الفتوحات - ، بل وصاحبة اليد العليا فيها . 2 ) وأن النتيجة المباشرة لهذه الحروب تمثلت في استعباد ملايين البشر . 3) وأن أسواق النخاسة ، ومن غير موارد الحرب ، لم تبق فقط على نشاطها ، بل وشهدت توسعا غير مسبوق . 4 ) وأن حروب المسلمين مع المسلمين شهدت تضخما غير مسبوق لأسواق العبيد ، ولكن هذه المرة للعبيد المسلمين . 5 ) وأن المسلمين تخلوا عن تجارب ناجحة لهم ، كان تثبيتها ، والبناء عليها ، يعطي الإسلام قصب السبق في هذا المجال ، ويضع عدالة الإسلام في مكانة لا يحتمل أن تدانيها أية مكانة أخرى . قال : أقر معك بكل ما قلت . لكن ما الذي تعنيه بالنقطة الأخيرة ؟ قلت : نحن حين نقرأ التاريخ الإسلامي عموما ، والسيرة النبوية خصوصا ، يفوتنا دائما الوقوف عند ما يستحق الوقوف عنده ، لاستخلاص العبر . قال : ماذا تعني بقولك هذا ؟ قلت : أنت بلا شك قرأت فتح مكة ، من كتب السيرة ، ومن كتب التاريخ . وأظنك مثل غيرك لم تنتبه إلى واقعة مفصلية في ذلك الفتح . قال : أنت تثير فضولي بأشد ما تكون الإثارة ، فإلى أية واقعة تشير ؟ قلت : كان العرف الحجازي ، الذي صار عرفا إسلاميا ، يقضي بتحول مكة ، أهلا وناسا ، وأرضا ومالا وممتلكات ، إلى غنائم للمسلمين . وكان الفاتحون يتحرقون إلى هذا ، خصوصا وأن للبعض منهم ، أنصار الأوس والخزرج ، تارات قديمة عند قريش ، رأوا أن الأوان قد آن لتسدديها . رأى النبي ، وبأم عينيه ، وسمع بأذنيه ، تحرق الأنصار هذا . كما رأى بأم عينيه استسلام بنات ونساء مكة للمصير المفجع الذي ينتظرهن . رآهن وقد خرجن ، وبعد الإعلان بأمان من يلتجئ للكعبة ، ولبيت أبي سفيان ، ولمن يغلق عليه باب بيته ، ناشرات شعورهن – الصفة الأساس للأمة السبية - ، يحملن خمرهن ويمسحن بها عرق خيل المسلمين . بمعنى آخر خرجن عارضات أنفسهن للسبي . بادر النبي لوقف الكارثة ، بإعلان تحريم مكة على الفاتحين . وعادت النساء لبيوتهن . وعلى عكس كل الغزوات ، لم يحصل الفاتحون في مكة على اية غنيمة . إذن كانت تجربة باهرة النجاح ، أكدت انصياع المسلمين لأمر منع السبي والاستعباد ، ومصادرة الممتلكات ، واقتسام الغنائم . لكن وبدل أن يثبت النبي ما حصل في مكة ، كقاعدة ينطلق منها المسلمون لإقرار عدالة جديدة ، وتخليص البشرية من لعنة العبودية ، فقد تراجع النبي عنها وبمجرد تخطيه لحدود مكة . قال : لا أفهم . ماذا حدث بعد ذلك ؟ قلت : خرج من مكة لغزوة حنين ، وأنت تعرف ما حدث فيها من سبي ، ومن غنائم . قال : وهل شهد الإسلام مبادرة مماثلة ؟ قلت : نعم . حدث ذلك في عهد عمر بن الخطاب . عمر وبعد الفتوحات الواسعة ، وسيادة العنصر العربي على جزء واسع من العالم القديم ، وبعد ذلك التدفق الهائل من سبايا البلدان المفتوحة على الحواضر العربية ، رأى أن من غير اللائق أن يكون العربي عبدا . إذن وقد قال قولته الشهيرة :" إنه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضا وقد وسع الله عليهم فتح الأعاجم " ، فقد أمر ببدء عصر جديد ، يتم فيه تحرير كل عبد عربي . وتنفيذا لأمره هذا انطلق العرب يفتشون عن أبنائهم العبيد ، ويفدون كل عبد عربي بعبدين من الأعاجم . ونجحت الفكرة نجاحا مذهلا . ولم يبق في أسر العبودية إلا تلك النساء اللواتي كن قد ولدن لأسيادهن . وكان مقدرا لخطوة عمر هذه أن تتواصل ، وبالتالي تحدث هذه العدالة الجزئية ، بتخليص جنس من الأجناس البشرية ، وهم العرب هنا ، من لعنة وعار العبودية . لكن ما حدث أن الصراع العربي العربي ، خصوصا في العهد الأموي ، عاد بمبادرة عمر القهقرى . وعاد العربي المسلم يستعبد أخاه العربي المسلم ، وتعرض العربية المسلمة مثل غيرها في سوق النخاسة ، يتفحصها الشاري ، كأي بضاعة ، قبل اقتيادها إلى بيت المتعة . قال : أصدقك القول أنني رغم معرفتي بهذه الوقائع إلا أنني لم أرها أبدا من زاوية النظر هذه.

خاتمة :

قلت : وإذن دعنا نختم حوارنا اليوم بالإشارة للتالي : في حواضر الإسلام ، وبعد الحرب الأهلية الأمريكية الضروس ، وبعد اعتلاء أبراهام لينكولن لعرش تشريع حظر العبودية ، ظل بإمكان المسلم ، وحتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين ، أن ينزل إلى السوق ، ويعود معلقا صبية بذراعه ، مثل أي سبت للخضار ، ويسكنها شقة ليستمتع بجسدها كما يشاء ، وليلفظها في أية لحظة يبدو له فيها أن قدرتها على إمتاعه قد تراجعت . وختمت الحوار قائلا : والآن يا صديقي تم استئصال هذه اللعنة ، حتى من بلاد المسلمين ، وبعد أن تأخرت كثيرا عن أمم أخرى كثيرة ، بفعل القوانين الدولية التي قضت بتحريم العبودية . قال : ولكن عهد العبودية لم ينته . ألم تسمع عن الرقيق الأبيض ؟ قلت : بلى سمعت . ولكن يا صديقي هذه غير تلك . فالرقيق الأبيض تجارة سرية محرمة ومجرمة ، مثلها مثل تجارات كثيرة ، كتجارة المخدرات ، وتجارة السلاح ، وتجارة الأعضاء البشرية ...الخ . هي تجارة لا تحطى بتغطية قانونية ، ولا بحماية دينية ، ولا حتى برعاية دولة . هي تجارة ملاحقة من أجهزة ومؤسسات القانون ، وعقوباتها مشددة . ولكنها ، مثل تجارة الممنوعات كلها ، موجودة ، وتحدث بكل أسف . لكنها لا تعني أبدا استمرارا لعهد العبودية . هذه اللعنة التي أطبقت على عنق البشرية آلافا عديدة من السنين ، ذهبت ، انتهت إلى غير رجعة . وأخيرا دعني أذكرك أن أمما كثيرة ، خصوصا أهالي بلدان العالم الجديد الأصليين ، لم يعرفوا عهد العبودية أبدا . ربما كان حظهم أن الأديان السماوية لم تكن قد وصلتهم بعد . اعترض محاوري مجددا ، ولكننا أغلقنا هذه الجولة من حوارنا ، وافترقنا على أمل بلقاء جديد .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار أملاه الحاضر 17 العدالة في الإسلام 1 الغنائم
- من فتنة عثمان إلى فتنة مرسي
- حوار أملاه الحاضر 16 خروج مؤقت آخر عن المسار
- عبد المجيد حمدان- كاتب وباحث واحد قادة اليسار الفلسطيني- في ...
- وبات لزاما عليتا التصرف كدولة
- حوار أملاه الحاضر 15 الشريعة وتطبيق الحدود 5 خروج مؤقت عن ال ...
- حوار أملاه الحاضر 14 الشريعة وتطبيق الحدود ...حد الجنايات 4 ...
- حوار أملاه الحاضر 13 الشريعة وتطبيق الحدود ...حد الجنايات 3 ...
- حوار أملاه الحاضر 12 الشريعة وتطبيق الحدود ....الجنايات 2 حد ...
- قراءة في ثورة الشباب المصري 18 الإخوان ودولة الخلافة
- حوار أملاه الحاضر 11 الشريعة وتطبيق الحدود حد الجنايات 1
- حوار أملاه الحاضر 10 الشريعة وتطبيق الحدود ملك اليمين والمجت ...
- حوار أملاه الحاضر 9 الشريعة وتطبيق الحدود ....زنا الإماء
- حوار أملاه الحاضر 8 النبي وتطبيق حد الزنا
- حوارأملاه الحاضر 7 الشريع وتطبيق الحدود حد الزنا 2
- حوار أملاه الحاضر 6 الشريعة وتطبيق الحدود ....الزنا (1)
- حوار أملاه الحاضر 5 الشريعة وتطبيق الحدود ....الخمر
- حوار أملاه الحاضر 4 العورات بين المجتمعي الإنساني والرباني
- حوار أملاه الحاضر 3
- حوار أملاه الحاضر 2


المزيد.....




- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد حمدان - حوار أملاه الحاضر 18 عدالة الإسلام 2 العبودية