أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - تراجيديا الوجود في ديوان -كأنه يعيش- للشاعر أشرف عامر















المزيد.....



تراجيديا الوجود في ديوان -كأنه يعيش- للشاعر أشرف عامر


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4225 - 2013 / 9 / 24 - 13:01
المحور: الادب والفن
    


تراجيديا الوجود فى " كأنه يعيش "
لأشرف عامر
د. أمانى فؤاد
* صدر للشاعر "أشرف عامر" ديوانه الجديد "كأنه يعيش"( ) أكتوبر 2011م، وهو مجموعة من القصائد التى كتبت عام 2008م، لذا لم تستقطبه الحالة الفاشية لثورة 25 يناير، تلك الحالة التى استحوذت على كثير من الإصدارات بعدها ووصمتها بالمباشرة والخطابية، وفى هذه السطور أقدم دعوة لكل من يسترق السمع بشغف للتجارب العميقة والمغايرة فى التجربة البشرية، حيث الومضات التى يبرق فيها جوهر الحقيقية الإنسانية وتنصهر عارية، إنها دعوة لدخول عالم هذا العمل من الباب الأعمق لهذا الوجود.
سمعت أحد المفكرين الذين اعتقلوا سياسياً يروى ذات يوم أنه تلقى صفعة شديدة الوطأة من كف ضخمة عنيدة باطشة، ضمن مسلسل التعذيب فى المعتقل، يتذكر أنه شعر وقتها: أن رأسه تغادره، تسقط على الأرض بجواره، لدرجة أنه نظر بجانبه ليراها، يقسم أنه بحث عنها بعينيه.
ويتصور قارئ ديوان "كأنه يعيش" أن رأس المبدع على مسافة ما منه. هناك تؤمه منها انفصلت عن جسده ووجوده، كأن هذه الأخرى بجواره تشاهده وتراقبه وهو يعيش داخل نص درامى مسرحى يحدث بجواره، لكنه أيضاً فى عمق المَشَاهد، وبداخلها، يحياها الشاعر على مستويين.
اتاح له الانفصال والاتصال هذا أن يعيد المشاهدة، أن يرصد ويراقب ويحلل الحياة فى عمق، يسرد شعرياً فعل العيش، الحياة وكأنها دور يقوم به، يعيش وكأنه يعيش.
يرى منظومة الوجود بقيمه ومحاوره من زوايا مغايرة، كما يعيد النظر فى معتقدات وأفكار عاشها بالفعل، وخاض غمارها وآمن بها فى وقتها وفى سياقاتها، ثم تتراءى له خالية عارية فى لحظة مراجعة سمحة ومتسعة، ربما انبثقت هذه الرؤية بعد صفعات متعددة من الحياة، من كف باطشة، أو متسللة تضرب فى العمق وتتسق مع تحولات مستمرة هى ديدن هذا الوجود.
ويبدو جميل هذه الرأس المنفصلة التى تراقب هذه المسرحية الهزلية وكأنها متصالحة مع الوجود بأشيائه ومفرداته المتناثرة. ربما يستفزها الواقع ويعذبها لكنها باتت تراها فى مناطقها الجديدة التى تحوى إضاءات مغايرة لما كان ثابتاً وراسخاً لديها، أو فى الموروث الجمعى.
ينتقل "أشرف عامر" فى "كأنه يعيش" لمرحلة أبعد، يتجاوز ديوانه السابق "هو تقريباً... متأكد"( ) ربما فى الديوان الأول كان يتصور أن هناك وصولاً ما، أو قد يتأكد من شئ ما، لكنه فى الديوان الأخير قد أدرك أنه لا وصول، وأن الرحلة ستستمر إلى اللانهاية، كما أنها ابتعدت مسافة عن رائيها، يدركها ويراها وكأنه يعيش فيها.
واللافت للنظر النقدى أنه فى الفترة الزمنية التى كتبت بها القصائد كان المجتمع المصرى والمثقفون منه بخاصة شديدى التوتر والاحتقان، ينتظرون انفراجة ما فى حياة راكدة، وينشغلون بالهم العام وقضاياه، وتظهر بالفعل أصداء من اهتمام الشاعر بالتلاحم مع قضايا المجتمع إنسانياً وفنياً فى ديوانه السابق "هو تقريباً متأكد" والذى كتبت قصائده فى زمن قريب من زمن قصائد ديوان "كأنه يعيش" وفى هذا الأخير يقدم "أشرف عامر" تجربة فكرية ووجدانية ذاتية تنحو تجاه العقل والوجدان الفلسفى الصوفى أكثر من التحامها بالواقع الحياتى إلا نادراً.
فى الديوانين لم نزل نسبح فى بحر "أن الشئ الثابت الوحيد فى هذا العالم هو التغيير" وفى ديوانه "كأنه يعيش" انقشعت الأوهام فى صورة أنصع عن سابقه، دعونا نقبض على مفرداته فى العنوانات فقط: "كأنه" تحمل معنى الافتراض الجدلى، كما تتضمن الإيحاء بدخول عالم مصنوع ضمن مناطق الوهم لا الحقيقة، ويعيش فعل مضارع متسع الدلالة والتجدد، غير منتهى، يحتمل الحاضر والمستقبل دون أن ينغلق، كما أن العيش فعل يحتوى أفعالاً أخرى لا نهائية، وفى الديوان السابق: "هو" للمفرد الغائب المنفصل بقدر عن الذات الشاعرة، و"تقريباً" التى تحتمل الشك، وتودى بل تقتل فى عمق كل ما سيأتى لاحقاً من معنى التأكد الذى أصابه التقريب بصدع لن يستقيم فى "هو تقريباً متأكد".
كما تتنوع عنوانات قصائد ديوان "كأنه يعيش" فيتكثف فى عنوان القصيد الحدث الرئيسى بها مثل "النباح" و"لذة"، أو الكيان المؤثر فيها مثل "فأر الذاكرة" أو "الفاعل الوحيد"، أو نقيض ما يريد الشاعر البوح به "مثل فى خصومة أبى" وهو عنوان لم تتكرر مفرداته فى متن القصيدة مثله مثل "هكذا يكون القتل"، عنوان يلخص فيه الشاعر مظاهر يضطر الإنسان أن يعيشها وهى لا تتفق مع اقتناعاته فيرفضها؛ ولذا يأتى العنوان ليلخص نتيجة ممارسات متعددة، أو ليوصِّف مثل قصيدة "الأزمة" حالة بشرية شديدة الوجودية، فلا مجال عند الشاعر لتكرار كلمة فى القصيدة إلا لحاجة فنية ملحة، فكل مفردة تأتى فى مكانها لتضيف معنى جديداً حتى وإن كررت فهى تحوى بعداً درامياً فى سردية القصيدة.
ويتبدى الديوان حالة من التحريض مع سبق الإصرار والترصد على الذهاب، ولنا فى المفتتح الذى يستهل به الديوان "لوالت وايتمان" إشارة تحث على رحلة لا وصول فيها إلى شئ، فكل السردية الشعرية تؤول إلى اللاشئ، ويبقى الشئ الذى يعنى الشاعر هى الرحلة ومراحلها فقط.
فى قصيدته "النباح" يجسد الشاعر صوتاً داخلياً، صوت يصدر عن كل الموجودات، كل ما فى العالم البنت والرجل والطبيعة بأرضها ومائها وإنسانها، صرخة شعور بافتقاد الأمان، صرخات قصيرة مستغيثة ومتوسلة، كأنها تستغيث بقوة وإصرار، لكن القصيدة ترجح أنه لا أحد فى الوراء" ولذا تستمر الدوائر تدور والحوادث تحدث والأرض تحترق، فالنباح فى القصيدة يبرز - فى ظنى - بجوار صوت الحيوان الذى نعرفه، صوت الوجود، صوت الإنسان والموجودات الأخرى، الجميع يسعى إلى معنى أو منطقة يستكين فيها ويطمئن إليها، لكن يستمر النباح ولا شئ.
ويوهمنا المبدع أن هناك سردية ما فهناك شخوص وأشياء: الحارس، والبنت، والوردة التى تُمضغ، والصبارة وما ترمز إليه، والضحية، والرجل، ويجهد القارئ ليتلمس علاقة بين الشتات، لِيَتَكَشَّفْ له الأمر أن الحالة كلها أكبر من الكائن الذى ينبح، ومن الشخوص، بل تتعداها إلى الموجودات، ثم إلى استمرار حالة النباح رغم الشتات، وكل على طريقته ولأسبابه، ويبدو أن حالة الذعر أو تلمس قوة عليا هذه لا تستحوذ على "الإنسان فقط" بل تنتاب موجودات العالم من أرض وبحر وسماء؛ لِتَتَكَشَّفْ لنا جميعاً أننا فى حالة صراع مع اللاشئ فى انتظار اللاشئ. وتتجلى دراما القصيدة وتأزم ذروتها فى أن هذا الإدراك المأساوى لخواء هذا الوجود لا يستبين إلا فى احتراق النظرة الأخيرة عند النهاية، يقول الشاعر: "يتعلم الإنسان ما يجهل، لكن خارج الوقت/ ينبح/ تحترق النظرة الأخيرة، فى اللاشئ/ وتغمض السماء عينيها/ لا أحد فى الوراء/ لا أحد/ ووحده النباح/ يعيش فى فضاء الروح/ وعتمة البيـوت" ص9، 10. كأن الشاعر هنا يقدم التراجيديا شعراً تراجيديا الوجود فى هذا العالم مصفاه "لا أحد فى الوراء/ لا أحد".
- وفى قصيدته "فأر الذاكرة" يبدو هذا الزحام ممَّا تبقى من الأشخاص الذى انحصر وجودهم في أرقام الهواتف، لا أحد، حتى المعرفة ما قد يتصوره الشاعر فى زمن يقينيات أو حقائق، وما دُوِّنَ فى الأوراق، لا أحد، يقول: "نعم/ لدى كثير جداً/ من الأوراق/ ودليل مكتظ/ بالأسماء والأماكن/ وفى كل مرة/ وأنا أدس فيه أرقاماً جديدة/ أتصفح أوراقه السابقة/ أجدها/ بيضاء" (ص12، 13، فأر الذاكرة) يذهب بنا مباشرة إنه لا أحد يبقى، ولا شئ.
ولو أن نظرة نقدية تجاوزت قصائد الديوان فرادى، وارتفعت قليلاً لتتعامل مع النصوص فى سردية كلية لوجدت أن للديوان منذ بدايته هدفاً مراوغاً، فهو يحدد طرح أسئلة وجودية تتعلق بالحياة البشرية "الله" أو "المرجعية" فى "النباح"، الحاجة إلى الآخرين "الأصدقاء" أو مفهوم الحياة البشرية الفردية فى منظومة اجتماعية فى "فأر الذاكرة" و"فى خصومة أبى"، إعادة النظر فى التراث المعرفى والمعلوماتى للبشر "فأر الذاكرة" معنى الموت والفناء فى "برج حمام" و "الخلود" و"ورقة من سفر الغياب"، الحلم وما يمثله فى حياة الإنسان من أمل لا ينقطع ربما يهبه قدرة على الدفع بالحياة فى "أوراق البحر" و"لذة"، مفهوم خاص للمكان فى "أوراق البحر" و"فى هكذا يكون القتل" كأن للمكان حياة وكأن باستطاعتهما أن يتبادلا الحلم "المكان والإنسان" يقول "أشرف عامر" عن الإسكندرية: "كيف لى أن أواجه البحر الآن وأوراقه التى طارت من فوق الطاولة، بللها الماء، وكرمشتها الرطوبة، ولم يعد بدَّ من افتضاح الأمر،/ . واكتشاف الملح فى حكايات الموج/ وفى تفاصيل العشق/ وسر العطش" ص31.
ويقدم الشاعر مفهوماً خاصاً للزمن يتجاوز "أشرف عامر" فيه اللحظات التاريخية ويرمى بعينيه وروحه بعيداً ليلتقط اللحظات الإنسانية فى امتداداتها.
وإذا كان "ماركس" يربط ربطاً مباشراً بين الفن والواقع، ويمضى "أرنست فيشر" أبعد من هذا فى رؤيته للفن، فيرى أن الفن بمقدوره أن يجعل من اللحظات التاريخية المحددة لحظات إنسانية عامة ومتكررة، يمزج الشاعر فى علاقة ملتبسة بالزمن فى قصيدته "الوقت يجرى" بين مشهدين، مشهد يحدث فى لحظة السرد الشعرى، ومشهد تستدعيه الذاكرة، انفراط عقد السيدة الحسناء، وانفراط مسبحة الجد، وفى الإثنين يتجاوز المبدع الزمن لتبقى روحه روح طفل تقفز على العمر وتمحى آثاره بل تتحداه، يقول الشاعر عن هذا الطفل بداخله: "يقفز بالعمر/ ويأتى/ حبات العقد المنفرط/ تنط/ والطفل كذلك/ معها" ص84، قفزة لحظية عبرت الزمن واقتنصت انطلاقة فرحة من الماضى وعادت لتثبت أن تلك الروح المنطلقة لم تزل تخاتل الشاعر، لم تزل كأنها باقية.
فى قصيدته "لا أحد هناك" تتكرر قفزات الشاعر خلال الزمن، وفيها ينقسم الشاعر لاثنين: هذا الجسد المادى المتعين ويقول عنه: "يجلس الآن مع الزمن وجهاً لوجه/ الزمن الذى يعض ملامح وجهه/ ويحفر نهراً تحت جفنيه" ص80، 81، ينتصر الزمن هنا فى صراعه مع جسد الشاعر. ثم يقفز كأنه طفل يصفه يقول: "يأخذه بعيداً/ يقفز فوق الزمن/ ويرقص/ يتصاعد فى كونشرتو يقطف ورداً/ ويقدمه/ لا أحد هناك ليأخذه" ينتصر الآخر الطفل، الشاعر بأجنحته التى كانت ترفرف فى صراعه مع الزمن، لكن يظل هناك خواء الوحدة.
ما يميز عمق الصراع عند "أشرف عامر" أن التراجيديا ليست بين الإثنين فقط الزمن والشاعر، وأن لكل منهما جولة وانتصارات، بل ما يجعل الشاعر ينكفئ على نفسه أنه برغم انتصار الشاعر على الزمن إلا أنه " لا أحد هناك" ليأخذ منه وروده وعطاياه وحبه، كأنه وَفِى أكثر من موضع يصل بدراما سرديته الشعرية إلى نقطة عدمية تلتقى فيها أطراف الصراع السابقة لتجد مفارقة أكبر مما يتوقع الإنسان.
فى نظرة بانورامية لنصوص الديوان يسقط الشاعر محاور الحياة الإنسانية التى اعتادها ودرج عليها الفكر البشرى وتقع قصيدته على اقتراحات إجابات مغايرة لا يجزم بيقين تجاهها تقدم مزيداً من الدهشة، ومتعة المسارب والطرق الجديدة، يصبح إنسانه كائناً خفيفاً لا مجال جاذب يستطيع إن يجمع شتاته، لا ثقل يشده إلى أرض أو معنى، فكأنه كائن تتطاير مسلماته الواحد تلو الآخر.
ويُسَرِّب الشاعر هذه الحقيقة البشعة عن وحدة الإنسان وغربته بهذا العالم بطريقة سردية سلسة تستعين بالأشياء وباليومى والمباشر، ويتوسل فى شعريته بالأداء الوظيفى البسيط للإنسان يقول "لعن: الله فأر الذاكرة/ يقرض الأسماء واحدًا، فواحدًا، ويتركنى وحيدًا/ أغسل الأطباق/ أرتق الجوارب المثقوبة/ وأحشر في دليل الهاتف أرقامًا قد لا تكون مهمة/ على الإطلاق/ وقد أحتاج إليها/ فأجد الصفحة/ بيضاء!" ص13، 14.
كثيراً ما شعرت وأنا أردد كالآخرين مصطلح "شعرية الأشياء" أننى أبغى توضيحاً وتفهماً أعمق لهذه العلائق التى تتوالد بين الإنسان والأشياء المتناثرة حوله، فى حياته، وما تمثله له، لأننى بالفعل أجد أن القصيدة التى تتوسل بهذه الأشياء وتوظفها بصدق حقيقى لا جرياً وراء "الموضات" الشعرية يضاف إليها روح شعرية مختلفة، لها مذاق متمايز، وتترك بالروح أثراً ما، أشياء "أشرف عامر" فى قصائده ربما تكون ملجأ للهروب فيها، ربما تصبح أحضانها له أكثر دفئاً من البشر، ربما تحنو على الإنسان أكثر من مثيله الإنسان، فعلاقة رتق الجوارب أو غسيل الأطباق بين الإنسان وهذه الأشياء ربما تكون أكثر تواصلاً عن علاقة بين شخص وآخر، أو ربما هروب من الوحدة، وتتوسل الذات الشاعرة بالأداء الحركى فى علاقة ما مع هذه الأشياء لينسى الإنسان وحدته، تنمو بين الأشياء والإنسان الذى يستهلكها أو يصنعها علاقة تكامل، تتصف بالحميمية، تجعله قادراً دوماً على تأملها وتذوقها، تجعله لا يدرك العالم دون أشيائه.
التشكيل الفنى لأشياء "أشرف عامر":
1- الأشياء والسرد التوصيفى:
- فى قصيدته "فى خصومة أبى" يصنع المبدع مزجاً بين التوصيف للمشهد وأشيائه يقول عن القهوة: "وذات مرة قال لى/ وهو يشد طرف كمَّه/ بعيداً عن نار الموقد: أحياناً... أفضلها/ لأنها بمذاق يختلف.." ص21. يوظف الشاعر الأشياء والحكى ليذهب بقارئه إلى منطقة الواقع، الحدث المعاش بالفعل وهنا لا تأتى روح الشعر من التعالى أو الانعتاق من اليومى والمعتاد بل يأتى التعالى الفنى وروح هذه النكهة الشعرية من مادة الأشياء، وروائحها ومذاقها، من ما خبرناه بها واعتدناه لكننا لا نلمح أو ندرك جماله وخصوصيته لكثرة ما مورس فى حياتنا.
وكأن الأشياء هى ما تختزن الإنسان وتحمله بداخلها، قد تموت وتسكن الأشياء، وتقبع هادئة لكن يظل لها وجود يختزن ما يفنى، تختزن الإنسان بفكره ومعتقداته، يقول "أشرف عامر" عن قهوة "كافيه أوليه" التى يعشقها أبوه الليبرالى: "وفى كل مرة أحن فيها إلى رشفة من فنجان قهوته/ أتساءل وأنا أرشفها: هل كان أبى يقصد أنها/ تتضمن معنى احتضان الآخر/ باعتبارها مزجاً/ بين الأبيض والأسود/ "حليباً وبناً؟" ص22، تنبعث روح الشعر هنا من أن الأشياء تحولت من مجرد كونها أشياء مفردة رغم ما تحمله لنا من زخم داخلى، وارتباطات فى الذاكرة، واعتياد، إلى قيم فنية، أدوات قد جملت بالتشكيلات والتقنيات السردية والمجاز البصرى والأداء الوصفى التمثيلى، تحولت الأشياء إلى قيم فنية تحمل ثقل الواقع وحيويته وتجسده، وتصور النبض القابع بخلاياه، والفيصل أشياء حملت ثم وُظِّفَتْ، ثم تتضح المرحلة الأخطر وما يهب ثراء لفن الشعر الذى قد يراه البعض تقنيات والفيصل كيف وظفت، تتشكل الأداة أو التقنية مع "أشرف عامر" وتحَّمل بقيم فكرية ثرية، تنتهى "الكافية أوليه" امتزاج الأبيض بالأسود إلى امتزاج الغرب بالشرق، إلى الاندماج فى روح متسامحة متعايشة فى نظرات إنسانية رائقة وحضارية.
الأشياء لا تحمل الشعرية فى ذاتها إلا بقدر، تحملها بوعى وإصرار حين يشعَّرها المبدع، حين يضعها فى سياقات فنية فيجعلها تبعث أنغامها الداخلية، تبعث بما خزن بداخلنا لها من ذكريات وارتباطات وبما جمعتنا بها من سياقات، وبما حملت به من أفكار وقيم إنسانية رائقة، أو جعلت رموزاً لها، يصبح الورد فى "غمضة فرح" رمزاً لعلاقة إيجابية تترك بالذات الشاعرة غمضة مع الورد، مع أصدقائيه فرح، هو ذات الورد – فى قصيدة "لا أحد هناك" – الذى يقدم تناقضاً، يكنى عن وحدة الشاعر حين لا يجد أحداً يهديه إليه.
وهنا أتساءل: كيف يكون الشاعر قريباً من الواقع المعاش وأشيائه؟ وقريب فى ذات الوقت من جوهر الشعر؟ فشعرية الحداثة التى حاربت الواقعية والرصد والوصف المباشر وناشدت روحاً متجاوزة وجميلة وثائرة على النمطى، لا تحفل بالمعنى قدر احتفائها بالفن ذاته بتقنياته التى تبتغى فى ذاتها.
ومنها تنبعث هذه الروح الشعرية الهادئة غير المفتعلة أو المتعمدة.
وأتصور أن هذا التوجه الشعرى لشعراء "ما بعد الحداثة" يعود فى تأثيره إلى قصائد "كفافيس" الشاعر الذى زلزل ركود الأشياء فأظهر فيها ما خفى واستتر بحكم العادة والملل، ورتابة الرؤية والنظر، أوجد علاقات متجددة غير مطروقة فى الأشياء البسيطة المتناثرة، فبعث بها إشعاعات فنية مستحدثة وقدم عوالماً بكراً تخلَّق الدهشة وتثير العقل والوجدان.
أتصور أن "أشرف عامر" قد استطاع أن يحقق هذه المعادلة بين الواقع وروح الشعر حين مزج بين الأشياء اليومية المعتادة والمعاشة، وبين حكى المشاهد تمثيلاً لها كما تحيا الأشياء فى الواقع والأحداث، الحكى، مع التوصيف مع توظيف الأشياء أكسب هذا النوع من الشعرية طبيعة خاصة، مزجت بين الواقع والشعرية، لنا أن نلاحظ "ذات مرة قال لى" وهو استهلال سردى يتعلق بالزمن ثم "وهو يشد طرف كمه بعيداً عن نار الموقد" أداء مشهدى تمثيلى واقعى يكسب المشهد نوعاً من الطبيعية، وينقل زخم الواقع وتصوراتنا عنه كما نحياه.. ثم يتوالى التوصيف عن تفاعله مع القهوة وكيف يتذوقها.
2- الأشياء والزمن:
تصبح الطاولة فى قصيدته "غمضة فرح" هى الأداة التى تحمل الذكريات ودفء استدعاء الأصدقاء لها، تضفى الطاولة هذا الجماد الذى يتحلق حوله الأحبة بريقاً على الذكريات، أم تكسب الذكريات الطاولة ثقلها العاطفى وما خزَّن فيها من عطاءات ومشاعر البشر التى تتقافز فوقها وحولها، هذه العلاقة الجدلية بين الأشياء التى قد تبدو جامدة وبين الأحياء "البشر" تحوَّل الأشياء إلى كائنات نابضة بإمكانها أن تزخر بحياة خاصة قد يكون منها أنها تختزن ما يمر ويستهلكه الإنسان فى لحظات زمنية منصرمة، هذه الأشياء تختزن الأحداث وتختزن الزمن، يقول الشاعر: "تفاصيل الأمس المهمشة/ تستعيد الآن بريقها/ تقفز فوق الطاولة الممتدة/ من صحن المقهى/ إلى أعماق الملتفين حولها) ص68.
فى قصيدة: "الوقت يجرى" يصبح عقد السيدة الحسناء ومسبحة الجد أشياء تنفى الزمن وتوقف تقدمه على ذات الشاعر، تحمل الأشياء علاقات متنوعة بين الشاعر والزمن، علاقات تبدو متناقضة، لكنها واقعية، تحمل تغيرات وتبدلات حياة الإنسان.
3- الأشياء فى علاقات مجازية:
كما أن جدل الأشياء فى علاقات مجازية مع المجردات: الأحداث والمشاعر وتجسيد هذه العلائق فى أوصاف مؤنسنة كالقفز أو ما عاداه، ثم امتداد هذا التعالق والتجاذب لينفذ إلى أعماق الملتفين من بشر، هذه التراكيب التى تصف انصهار العلائق بين الأحداث والأشياء والإنسان هو ما يهب هذه الأشياء خصوصيتها الشعرية الموجهة والتى تصهر الكون فى كلية واحدة متفاعلة، والشعرية الحقيقية هى ما تقدمه وهو فى حالة انصهاره.
* يستعين الشاعر بالأشياء فى قصيدته "صلاح جاهين" ليشكَّل تكويناً مجازياً رائعاً يقول: "العم صلاح جاهين/ شأنه شأن البحر/ يأتينى من الباب الخلفى للوجود/ ممتلئاً بالمعنى/ ومنفرداً بالدهشة/.. ص42 للوجود إذن باب خلفى، باب للخواص الذين يأملون فى معنى قيم، معنى له صفة الدهشة، يستخدم الشاعر الشئ بما يحمله من خصائص الانفتاحية العابرة ليخلق منه علائق متجددة تفتح عوالم توصف انطباعات الذات الشاعرة تجاه منظومة متكاملة: الشاعر صلاح جاهين، البحر، الباب الخلفى للوجود، الامتلاء بالمعنى، والتفرد بالدهشة.
ويوظف الشاعر أسلوب العطف الظاهر، أو المفهوم ضمناً ليخلق حالة ثرية من تضامن الأشياء وتعددها، يخلق ثراء وقع الأشياء وتجمعها، سواء كان الأثر الذى تتركه سلباً أو إيجاباً يقول: "عندما يموت الإنسان/ أشياؤه تموت/ قميصه الأبيض/ وقميصه السماوى الفاتح، معطفه البنى السميك/ وحمالة البنطلونات/ نظارته/ دفاتره وأوراقه المرتبة بعناية/ فلاتر الغليون/ بقايا زجاجية العطر/ منشفة الوجه الخاصة به/ وأمواس الحلاقة، منذ أن مات أبى/ قبل سبعة عشر عاماً/ لم أفتح خزانته الخشبية قط" ص19، 20.
وعندما يستخدم الشاعر أسلوب التقرير "عندما يموت الإنسان/ أشياؤه تموت" ليس من الضرورى أن نصدق الشاعر، فالشاعر يبدو خائفاً من حياة الأشياء لا من موتها، فهو لم يفتح خزائنها لخوفه من حياتها أو الحياة التى بقيت بها واستمرت من أبيه فى حياة الأشياء التى تبدو موجودة وحية، لكنها منتقصة بصورة ما، الأشياء هنا فى تضامها ومجموعها تخلق حالة من الوجود المصدوع وتترك خشية ما فى قلب الشاعر.
كأن الشاعر يقدم روحاً تسعى للانعتاق من أسر الأشياء، من أسر اليومى والمعاش والتقليدى، لا تبتعد عنهم بل من خلالهم ومن جوهرهم تخرج منهم، ولا تعلو فوقهم، بل منهم تستخلص ما عتقته روح صاحبهم، ويبقى هذا الروح الشعرى فى ما يخلد فى الأشياء ولا يموت؛ لتحلق فى أفق المتسامى القادر على التحرر من التاريخى والزمنى، ولذا يقدم الشاعر مائدة متنوعة من الأشياء الخاصة للغاية فكلها معاً تعمل كمجال جاذب وخالق لحالة من الوجود الخاص للغاية (لأبيه)، وجود يخلخل حدث الموت أو الفناء بصورة ما.
وأعود ثانية لأؤكد أن من العناصر الشعرية الأساسية فى قصائد ديوان "كأنه يعيش" أساليب السردية المتنوعة، وتقنيات الحكى التى تضفى العمق والتشويق على معانى الديوان الإنسانية.
من هذه الأساليب استهلال القصائد بتعبيرات الحكى التى تلعب على عناصر زمنية ومكانية متنوعة، فى قصيدة "لذة" يستهلها الشاعر بقوله: "فى ليلة بعيدة/ كنت على يقين" ص85، وتظل قدرة الشاعر على اللعب على عنصر الزمن ثم فتحه على معنى وجودى عميق مثار تساؤل لتمكنه من عناصر القص وتوظيفها لخلق امتدادات زمنية ووجدانية لقصائده شديدة التكثيف.
وتبدو بداية بعض القصائد وتكوين سرديتها كأنها قصص قصيرة، تسلط الأضواء سريعاً على لحظة مكثفة ومتوترة فى حياة الشاعر أو الآخرين، يقول فى استهلال قصيدة: "السرير المقابل": "ذلك المتكور/ فى السرير المقابل لسريرى/ فى غرفة الحالات الحرجة/ لم يغط فى نوم عميق" ص97.
ثم تعلو دراما الشعرية لتصل إلى الذروة ثم إلى لحظة التنوير التى غالباً ما تنتهى إلى مفارقة غير متوقعة شأنها شأن هذه الحياة التى لا سقف يحد من مفاجأتها لنا بما لا نتوقع، ويتكرر ذلك فى كثير من قصائد الديوان مثل "لذة" و"السرير المقابل" أو قصيدة "قادم" يقول فيها: "هكذا/ تأتى الإشارة/ والإشارات لا تختفى/ اللون الأحمر/ يوقف سير المارة/ إلا طفلاً/ قمحى اللون/ لا يلتفت يميناً ويساراً/ يتقدم حتى يبتلع المشهد كله" ص91،92. ينهى المبدع القصيدة بمفارقة مجازية تضفى غموضاً "شفيفاً" يوحى لكنه لا يبين وهنا يتجلى تميزه.
فى قصيدته "دون اطمئنان" يقول: كلما دخلت نفق الأزهر/ أشعر بفأريتى/ هكذا أكون:/ فأراً فى ماسورة/ مغلقة من الجهتين.." ص53، يعادل المكان هنا – نفق الأزهر – رحلة حياة الإنسان القصيرة والتى يبدو فيها الفرد فأراً مذعوراً فى نفق مظلم يغدو اختيار الشاعر للمكان مصوراً لرؤية الشاعر للحياة التى يقول عنها" وفى نهاية النفق/ العربة تمرق دون اطمئنان تتشخص الأساطير/ وتحترق الظلمة عند المخرج/ لكن لا يستريح الفأر/ ولا تهدأ/ روحه المجهدة" ص54، 55.
الأشياء والرمز:
تصبح الأشياء فى قصيدة "وشم الكف" الصحف، حزمة الجرجير، طبق الفول وقرص الطعمية "دلالات بسيطة تذهب لتلقى رموزاً شديدة الإيحاء لطبيعة حياة مريرة لإنسان بسيط. يفقد فيها الشيخ العجوز ابنه "عبد الله" الذى يبيع "آية كرسى الأم الذهبية" وربما هى كل ما تملكه فى الحياة؛ ليذهب فى البحر فى ما يسمى برحلات الموت، هذا البحر الذى تسترق السمع أنفاسه ابنة عمك، التى تتأمل وجه "عبد الله" فى وشم الكف المنقوشة بالحناء، الأشياء وهذه التراجيدية المركبة بين عناصر الحكى وشخوصه: الشيخ، والأم، وابنة العم، وعبد الله الراحل فى رحلة موت من رحلات الشباب المصرى فى العقد الزمنى الأخير كلها عناصر تتكثف لتخلق تراجيديا شعرية تتوسل بالأشياء البسيطة لتنسج واقعاً مريراً قد طرأ على الحياة المصرية، الأشياء هنا رموز لمعانى ودلالات عميقة وقاسية بل شديدة المرارة.
يلتحم الشاعر هنا بقضايا المجتمع الذى يؤثر فى عمق تجربته الشعرية الإنسانية والفنية لكنه يأتى التحاماً غير منغمساً فى لحمة الواقع، التحاماً صوفياً فلسفياً، الواقع بعد أن انصهر وكرر وصفى لمرات فى نفس الشاعرة وتجربته الفكرية، واقع حالات فردية نعم، لكنها ضمن منظومة رؤيوية شاملة.
وتستمر الأشياء أداة وتقنية شعرية شديدة الخصوبة فى قريحة "أشرف عامر" الشعرية، فالغرفة بشباك السجن المرتفع تصبح شفرة تفك مغاليق شخصية "إبراهيم الشريف" اليسارى القديم فى قصيدته "غرفة بشباك مرتفع" تلك القصيدة التى تتوسل بالأشياء المتعددة لترسم بورتريه شديد الرهافة لأحد أصدقاء الشاعر، حياة امتدت لسبعين عاماً ونيف، وفيها تتجلى المسرحية فى أبهى حللها، فشخصية القصيدة كأنها تمشى، وكأنها سعيدة، تقاتل ثم يحصد الفوز الآخرون، يقول عنها الشاعر: "ذلك اليسارى الجانح الذى/ يحب الله كثيراً/ ويمجد البسطاء فى الأرض/ علمه الماء "المدلوق" على بلاط السجن/ أن البرد حالة ممتدة لا تنقطع/ فصمم فى بيته غرفة بشباك سجن مرتفع/ ولم تفلح بطاطينها فى أن تمنح الجسد النحيل الدفء" ص64. تتوالى الصفات السردية بطريقة تصاعدية فى رسم الشخصية، تلك التقنية الرئيسية فى شعرية الديوان تقنية بناء الشخصيات النماذج مع الأشياء الموظفة لترك دلالات تختص بها ذوات القصائد.
ويقول عنه فى أحد اللقطات التجسيدية الموحية: "وفى كل صبح يطل/ تزفه العصافير عند الفجر/ وتحط على كتفيه/ تلتقط بلطف/ حبات قمحه القليلة/ ثم تمضى سريعاً إلى شأنها/ يجز على أسنانه/ بعادة قديمة تلازمه/ ويبتسم/ كأنه سعيد" ص62/ 63. أهما متلازمان الجز على أسنانه وابتسامه؟ أهكذا يريد الشاعر أن يصوره؟
يقدم الشاعر فى ديوانه "كأنه يعيش" دراما إنسانية كأنها مسرحية لنص درامى، عرض شعرى رائق يتوسل بسردية للحياة شفيفة، فيها الإنسان الفرد، المفرد، كأنه يعيش، كأنه يقوم بدوره فى الحياة، وأنا لا أعنى بهذا قضية جبر أو اختيار، نحن حتماً مع "أشرف عامر" فى منطقة اختيار، لكنه اختيار ضمن منظومة الحياة التى هى على هذا النحو القامع للحرية، لظروف اجتماعية وأيديولوجية، وسياسية، وفكرية، وثقافية متعددة، الاختيار الذى يؤطره قمع مجتمعى خارجى يقول فى كأننا نفعل: "سنشرب شيئاً، كالشاى، ونشكو شيئاً، كالحياة" ص101.
يقدم الشاعر حياته، حياة إنسان يعيش فى لوحة تشكيلية يشاهدها، وهى ذات بسيطة للغاية لكنها ذات مصقولة بمفهوم للثقافة تجاوز ما هو متداول عن الثقافة المتوافرة فى المفاهيم السابقة إلى كونها فعل مراجعة ونقاش وجدل، وهى قدرة الإنسان المعاصر على أن يتمكن من استيعاب تحولات الكون فى محاولة السيطرة على هذه التحولات، بفهمها على الأقل فقط، والتعايش معها وكأنه يعيش.
ويعد الديوان حواراً مع الوجود بكل معانيه الفيزيقية والميتافيزيقية رغم يقين من الشاعر بأنه لا جدوى، يقول فى "الخلود": "نعلم إننا سوف نمضى لكننا/ نرفض الخروج من هذا العالم/ قبل أن نضيف إليه بصمة تخصنا/ نقاتل من أجلها/ ورغم يقيننا بأننا لن نعود" ص93.
ويحيل الشاعر فى متن نصوص قصائده كثيراً إلى أعمال شعرية يحاور أثرها، ويأخذ من قبسها الذى تركته فى روحه، مثل "هذا الزحام لا أحد"، "لأحمد عبد المعطى حجازى" فى قصيدته "لا أحد هناك"، وقصيدة "ورد أقل" "لمحمود درويش" فى قصيدته "خلود"، وتبدو هذه التناصات تماسات فنية مرهفة تستدعى المخزون المعرفى والوجدانى لأثر هذه الأعمال فى ثقافة الشاعر وتشكيل زائقته وفكره الفنى.
قد يلمح القارئ تباين حالات الشاعر فى بعض قصائد الديوان، فحين يقرر عدم استمرار بقاء أحد من الأصدقاء أو المعارف فى "فأر الذاكرة" و "لا أحد هناك" يعود ليعلى من شأن الصداقة فى قصائد تنطق بعاطفة صادقة لأصدقائه، ويوحى صدقها بخروجها عن كونها مجاملات فى قصائد "غمضة فرح" و"الأوغاد" ولكنه الشاعر الذي يدرك أن الحياة الإنسانية تحتمل هذا التناقض وهذا التبدل من حالات نفسية إلى أخرى، وفى الحالتين أيضاً يجب أن نراعى التجربة الخاصة للديوان، فالشاعر كأنه يحب، وكأنه يفتقد، وكأنه لا يتواصل.
الذات الشاعرة:
وتستحوذ الذات الشاعرة الغنائية على قصائد الديوان ولا تظهر الغيرية أو أصوات أخرى بالديوان إلا نادراً، مثل ما يبدو فى قصيدته "وشم الكف" وفى قصيدته "الفاعل الوحيد"، وبرغم أن القصيدة منسوجة بإبداع فنى وإنسانى رائق عن "قطة صاحب خالد" إلا أنها القطة من خلال الذات الشاعرة، واحتياجه لفاعل فى الأيام الباهتة، وتبتعد الذات الشاعرة عن الذات الحداثية التى تعلو لتصبح رائية من أعلى، ذات صاحبة رسالة، لتمثل ذات ما بعد حداثية معنية بالإنسان البسيط فى رؤية أصبحت أكثر وضوحاً وصدقاً مع النفس فى هذا الديوان "كأنه يعيش" لتصبح ذات إنسانية مطلقة ترتفع فوق القومية أو المحلية.
فى القصائد المعنونة "بصلاح جاهين" أو "هواجس الفقد" أو "الناس" أو "غرفة بشباك مرتفع" أو "غمضة فرح" أو "الأوغاد" أو "السرير المقابل"، يلمس الشاعر الخلايا العصيبة للآخرين عارية، الآخرين من خلاله، من زاوية رؤيته لهم وتأثيرهم بحياته، ما استخلصه واصطفاه بداخله " للآخر" الذى لا يبدو عند أشرف عامر مثل "آخر" سارتر بل يبدو إضافة وامتداداً للإنسانية، ولمنظومة وجودية أكثر اتساعاً، تشمل كل كائنات الوجود، ففى نهاية قصيدة "برج حمام" يقول الشاعر بعد أن تهاوت أحلامه من شاهد من عمود من الرخام الوردى ليخلد إسمه يقول: "فلا بأس/ لا بأس/ يكفينى برج حمام/ برج صغير فى قرية بعيدة/ يحتضن الحمام الهارب/ من تحفز الصيادين/ ومن هجير الصيف.." ص17، 18.
تستمر الذات الشاعرة فى ديوان "كأنه يعيش" مثل ديوان "هو تقريباً متأكد" تعيش بأوجهها وأقنعتها المتعددة، فلم تزل هناك كائنات شاخصة فى سكونه ص47، لكننى أتصور أنها أصبحت أكثر هدوءاً أو تصالحاً مع الوجود فيما حولها بكل موجوداته، وربما مرجعية هذا التصالح تعود لتلك الحياة أو العيش الوهمى، لهذه المسرحية الهزلية التى تحياها الذات الشاعرة يقول فى قصيدته: "كأننا نفعل" :"سنشرب شيئاً، كالشاى/ ونشكو شيئاً، كالحياة/ ونحن جالسان حول طاولة/ مسكوب على مفرشها المائل للصفرة/ بقايا زمن/ سنفعل ذلك بكل الملل!" ص101.
المجاز فى "كأنه يعيش":
توظف التراكيب والأساليب المجازية فى ديوان "كأنه يعيش" بطريقة ضمنية غير معلنة عن نفسها فى صخب، بل تتسلل فى عمق لتؤدى مذاق شعرى وروح إنسانى عميق.
يصبح القارب الخشبى فى قصيدته "لذة" رمزاً يحتمل معانى قد تكون حياة الشاعر والمسار الذى اختاره مغايراً لما هو سائد، أو قد تكون الحياة الإنسانية فى مطلقها، وتصبح الأمواج ثقل التيارات التى تدفع الإنسان إلى حياة غير ما يتمناها يقول الشاعر "فى ليلة بعيدة/ كنت على يقين/ من فشل القارب الخشبى المستكين/ فى ملاحقة الأمواج/ ورغم تعاظم اليقين/ وشوشت له أن يفعل/ قاربى الذى غمرته/ لذة الغرق" ص85، 86. أيبدو الغرق عند الشاعر حتمياً؟ له أو للإنسان بصفة عامة.
ويصبح الأصدقاء هم "الورد الليلى" فى قصيدته "غمضة فرح" يقول: "فى صحبة الورد الليلى/ تتفتح الذاكرة/ وتستحضر حلاوة مضت/ يتسع القلب.." ص67.
والقطار فى الجرى فى السنين هى رحلة العمر الإنسانى فى "الجرى فى السنين"، ثم تتوالى الصور المجازية فى نفس القصيدة يقول ".. وأظل وحيداً/ فى طرقات ليلية/ تسكنها الوحشة/ وتتصارع على غنائها قطط/ مسعورة" ص96.
ويستخدم الشاعر صحبة من الأفعال المتوالية ليضفى مجموعة من الصفات المجتمعة وهو بصدد وصفه للقطة فى قصيدة الفاعل الوحيد يقول: "... تتوهم الخصوم/ وتقاتلهم/ تتذمر/ تتأسد/ تتأنسن/ وتنام بيننا/ فى منتصـف السريـر" ص38، 39.
يعشق الشاعر جدْل التقنيات البلاغية معاً فهو من خلال أسلوب التشبيه والكناية وأساليب البديع مثل: إطلاق الجزء أو المتعلق وإرادة الكل أو الأساس يقول فى قصيدته: "السرير المقابل" عن المريض الذى بجواره فى غرفة الحالات الحرجة: "... كان أشبه بكرة إسفنجية/ غير متقنة الصنع/ فأخذت مع كل ركلة/ تخرج جزءاً من أحشائها/ فى ركن قصى./ ملاءة السرير المقابل لسريرى/ فى غرفة الحالات الحرجة/ كانت/ فى صباح اليوم التالى/ نظيفة ومرتبة" ص88.
* أصبحت ملاءة السرير هذا المتعلق بالمريض الذى كان بجوار الشاعر نظيفة ومرتبة ويستشعر القارئ النهاية من خلال ضفر التشبيه "كان أشبه بكرة إسفنجية غير متقنة الصنع، مع تجسيد المشهد وتوصيفه ليكنى الشاعر عن جهد يبذله المريض ليحفظ حياته، مع وصف هذا المتعلق بالمريض "الملاءة" بكونها نظيفة ومرتبة كأن المعركة التى كانت فوقها قد انتهت.
يتجاوز أشرف عامر حدود البلاغة التقليدية ويناشد بلاغة جديدة قادرة على استيعاب اللحظة الحياتية والحضارية التي نعيشها.
يقول الشاعر فى قصيدته "لا أحد هناك": "الحركة الأخيرة فى سيمفونية الحياة/ تستنهض فيه أمساً مشمولاً بالوهج/ يولد فى الضوضاء سكون.." ص81، إن هذه الصور المجازية التى تولد من التناقض الأمس المشمول بالوهج، والسكون الذى يولد فى الضوضاء، كل هذا التناقض هو سمة الحركة الأخيرة فى سيمفونية الحياة، وهو المجاز الذى يتمتع بالسلاسة والرقى الوجدانى فى الوقت ذاته.
وأحياناً ما تصبح بعض الأساليب التقريرية أشد وقعاً وتأثيراً من الاستخدامات المجازية للغة ففى قوله: "علمه الماء المدلوق على بلاط السجن/ أن البرد حالة ممتدة لا تنقطع" ص64، من قصيدة "غرفة بشباك مرتفع" يبرع الشاعر فى توليف صياغته وتراكيب مفرداته وإيجاد علاقات بين المتباعدات ليوحى ويكنى عن حالات نفسية شديدة الحساسية وذات خصائص تركيبية غير واضحة فتأتى تراكيب صياغة الأسطر الشعرية لتوحى بحالات إنسانية حقيقية لكنها ترقى إلى تعالى المجاز ووقعه على النفس.
وتجدر الإشارة إلى التوافق بين رؤية "أشرف عامر" فى هذا الديوان، رؤيته للحياة الإنسانية كأنها وهم كبير، وبين تعامل مع المجاز مغلف بغلالة شفيفة ذات حساسية شديدة فى ظل هذا الضباب وضياع الحكايات الكبرى فى الموروث الإنسانى، يأتى المجاز فى صوره رمزاً أو تشبيهاً أو لوناً من ألوان الكتابة، ويخفت تراكم الصور الشعرية، فالشاعر يمحو ويهدم المتكرر والمعهود ولا تعنيه فى كثير إقامة بناءات أو كيانات بديلة، صور من قبيل "ووحدة النباح يعشش فى فضاء الروح" ص10، تبدو الصورة بسيطة غير متوالدة لكنها عميقة فى ذات الوقت وتصيب المعنى فى يسر ووضوح. يغلفها الغموض من تفسير المصدر "النبَّاح" واستكشاف ما يعنيه الشاعر، وتبقى علاقات الاستعارة فى الصورة الكلية متاحة للقارئ للإحاطة بها.
ويبقى الشئ الجميل الذى لا يناله التغيير هو المكانة التى يتركها شعر "أشرف عامر" فى روح متلقيه، كأن فنه بتؤدة يحفر خندقاً مقيماً ويستقر هادئاً، وهو فى إقامته بالنفس يترك تموجات غير صاخبة لرياح لا تهدأ فى الفكر وفى الوجدان، حركة انسيابية، ملحة وذات إصرار، شعرية تستطيع أن تجدد طرح الأسئلة، وتقترح أو كأنها تقع على إجابات مغايرة، من شأنها أن تترك فى الروح مزيداً من الدهشة والمتعة، تغذى النفس الإنسانية بشئ مبهم، الحقائق فى صورتها المجردة، حين تنزع عنها قشورها وما نضفيه عليها من تصورات ذهنية تخصنا نحن ولا تمثل الضرورة بها، فتصير رخوة تحتمل إعادة التشكيل مراراً، التشكيل الذى تهيمن عليه نسبية رؤيتنا للأشياء.
وقد نتساءل الآن بدهشة : ما هو الأفق الشعري الذي يمكن أن يقدمه الشاعر أشرف عامر في تجربته القادمة بعد انجازه الفني في ديوانيه الأخيرين " هو تقريبًا متأكد" و "كأنه يعيش".



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كم من حق سلبتمونا......
- أليات بناء المشهد في رواية - ليالي البانجو- للروائي يوسف أبو ...
- بينية السرد بين الواقع والأوهام في رواية - بلد المحبوب - للر ...
- سرد التصوف ..ولغته في ديوان الملحقات للروائي -عبد الحكيم قاس ...
- الرمز الشفيف في رواية - روح محبات- للروائي -فؤاد قنديل-
- أيهما أشعل القمر..
- المادة الثانية... مادة حاكمة
- غلظة الصحراء
- ليال....تتحدي النقاب
- تسألني الأماكن ..عنك
- الثقافة المصرية بعقلية رجل أمن
- غرابة الأدب..غرابة العالم وغربة الروح دراسة في كتاب الأدب وا ...
- البورترية في النص الروائي عند خيري شلبي -موال البيات والنوم ...
- أسطاسية أسطورة عدل موازية للروائي الكبير خيري شلبي
- الأنترنيت وأليات السرد في نص -في كل أسبوع يوم جمعة-للروائي إ ...
- التماهي بين الموجودات في أدب خيري شلبي
- الإنسان والفن..والوحوش
- البناء الروائي في -عاشق تراب الأرض-للروائي :أحمد الشيخ
- الحدود في الأسلام والمعاصرة
- أشياء برع فيها الأخوان المسلمون


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - تراجيديا الوجود في ديوان -كأنه يعيش- للشاعر أشرف عامر