أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - سرد التصوف ..ولغته في ديوان الملحقات للروائي -عبد الحكيم قاسم-















المزيد.....


سرد التصوف ..ولغته في ديوان الملحقات للروائي -عبد الحكيم قاسم-


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4224 - 2013 / 9 / 23 - 09:06
المحور: الادب والفن
    



تنطلق المجموعة القصصية ديوان الملحقات للروائى عبد الحكيم قاسم من منطقة ما بعد الفعل أو الحدث أو الفكرة، من التوابع والملحقات التى لا تترك الحدث محور القصة أو النص منغلقاً أو منتهياً، بل تركز على امتداداته وتعاقباته فى الحياة، تلك المنطقة الظنية أو الوهمية، الافتراضية، هى بؤرة اهتمام القصاص، ومرفأ إبحاره.
ولأن تلك المنطقة أهم ما يميزها أنها – حتى لحظة الكتابة – لم تحدث بالفعل، ولأنه لا يمكن أن تقع فى دائرة الحقائق واليقين، أو الآحداث وتطورها الفعلى، لذا تخير لها القصاص أن تضاف إلى مفردة "ديوان" التى هى الأقرب إلى الطبيعة الشعرية لا السردية والقصصية.
تلك المنطقة لا تهب استقراراً، وتند عن الراحة أو الأمان، وأتصور أن اختيار المبدع لهذه المناطق القلقة لا ينفصل عن رؤية تأملية تتسق مع توجهات عبد الحكيم قاسم الفكرية والإبداعية القافزة دوماً إلى ما بعد الأفق، إلى ما وراء الظواهر، يلتقط "عبد الحكيم قاسم" ما بعد شيخوخة المرأة ورضوخها إلى غريزتها مع شاب صغير فى "صاحبة النُزل"، ما بعد الانخراط فى تهدج جلسة ذكر، وبكارة تلك التجربة فى عين صبى يتفتح على الحياة، فى نصه "واحد من أهل الله"، ما يمكن أن ترثه بنتاً من أم تقع فى الخطيئة فى قصته "مطر.."، ما بعد الموت لشخصية شيخ طريقة صوفية فى قصته "السرى بالليل"، ما بعد الجروح وانتظار الموت فى أحد الحروب، بعد انتهاك الجسد فى نص "حالات الجسد".
ما بعد الأطماع البشرية ونموذج فظ من التدنى الإنسانى المجسد فى شخصية طبيب فى ما يشبه المتوالية القصصية، فى نصوصه: "الجراحة"، "إلى سجن أسيوط"، "طبيب السجن"، "فى مستشفى السجن"، "فى مستشفى أسيوط الأميرى"، "الرجوع إلى السجن".
مبدع فى استطاعته أن يقبض على الأحداث المستقبلية ويتوقعها، وكلنا لن ينسى عمله "المهدى" الذى عُدَّ صرخة تنبأ بالممارسات الفجة للجماعات المتأسلمة، ويبقى عبد الحكيم قاسم متمكنا من اللغة، يهب له المجاز بكارته وسحره، كاتب يتصدى لتلك المناطق المتوترة من التجربة البشرية ويعبر عنها فى تشكيلات فذية مقتدرة.
"عبد الحكيم قاسم" المبدع الذى صنع اسمه فى فترة زمنية غنية بالأحداث والطموحات والإخفاقات، عاش تجربة الستينيات واعتقل، ثم رحل فى ما يشبه المنفى إلى ألمانيا؛ لسخطه على كثير من الأوضاع فى مصر، لم يزل مصرياً أصيلاً كشفت كتاباته عن خصوصية حياة الريف المصرى.
تتنوع عوالم وفضاءات النصوص المتضمنة المجموعة القصصية "ديوان الملحقات" لتشمل تجارب تدلل على وعى الكاتب العميق بالطبيعة البشرية، وتنوع الخبرات المتباينة التى تتناولها نصوصه: تجارب لمعتقل سياسى، أو ضابط بالجيش فى موقف يشرف على الموت، أو شعور أنثى صغيرة حاد بأنوثتها فى علاقة ملتبسة بأم تعيش الحرمان مع زوجها، فتنزلق فى تجربة جنسية مع سائق حافلة قوى، فى قصته "مطر.." التى تحتوى مشهد سردى مركب البناء، يدلل بحق عما ينبغى أن ينهض به الفن من موازاة رمزية كاشفة للواقع يجمع المشهد فى طياته مأساة كاملة لأسرة صغيرة ينذر مستقبلها بالخطر والضياع الذى سينال الفتاة المتفتحة على الحياة.
يقول فيه حاشداً لكثير من التقنيات الفنية: "جسد الوالدين بصما مكانهما متباعدين، يفصلهما نتوء مستطيل على حاشية السرير، أى صمت عميق يعمر المسافة الفاصلة، من خلف ذلك كان صوت الأب يأتى غاضباً منذراً لكن له: رجع باك، وأم لها جواب عنيد متشبث مقهور، ترفع البنت عينيها إلى مرآة الدولاب، وفى الضوء القليل تلمح الظلال والحمرة حول عينى امها وفى عينيها أيضاً" ص39.
فى التشكيل السردى للمشهد تغيب الأم والأب للعمل، وتبقى الآثار التى تكنى عن طبيعة العلاقة بينهما، تأتى باقى مفردات المشهد من بنات خيال الفتاة تصنعه لتعى العلاقة المحرومة بين أبويها، وتعاطفها مع أمها وشعورها بأنها امتداداً لها.
تقدم البنت طواعية لأمها الفرصة لإقامة علاقة تعويضية لإدراكها الإخفاق الذى تحياه الأم، وتبقى البنت امتداداً للأم فى حاجتها لمن يحتوى جسدها، لمن يشعرها بأنوثتها، امتداداً لسعار ووحل آخر يحمله المطر، مطر الرغبات والغرائز المحرومة".
وعلى تقليدية هذه العلاقة الثالوثية التى يقدمها الروائى، إلا أن إضافة عبد الحكيم قاسم تتمثل فى التقاطه للامتدادات أو الملحقات لأحداث الحياة، وفى طبيعة البناء التشكيلى حيث احتشد المشهد فى لحظة زمنية محدودة بأزمنة متعددة الماضى، ولحظة الحاضر والمستقبل متمثلاً فى ما وعته الأم بما يمكن أن يحدث لابنتها نتيحة ما فعلته هى، المشهد مصنوع بما يشبه الطوابق الهرمية المتدرجة، حتى القمة التى تمثل مصير الفتاة، هناك طابق لعرض شخوص الحدث، يتداخل معه طابق يعبر عن حاجة الأم لهذا الدخيل - سائق الحافلة - الذى تمنت زفافها عليه، يتداخل معه طابق آخر لوعى الفتاة بالأزمة بين الأم والأب، ورضوخها إلى ما يمكن أن يسعد أمها، يتداخل مع هذا أيضاً نمو شعورها بحاجتها لمن يمتلك جسدها هى أيضاً ويضفى عليها السعادة، تتزين بأزياء أمها وتلون وجهها بأدوات زينتها، وتخرج لتقع فى الأوحال، فتعى أمها آسفة ما تكون قد هيأته لابنتها.
وتبقى عوالم التصوف وطقسها الأثيرى الغامض سحائب رمادية تملئ سماوات إبداع عبد الحكيم قاسم وتجعل لكتاباته نكهة خاصة، كما تهبها ثراءاً فكرياً وروحياً.
ومن قصتيه "السُرى بالليل"، و "واحد من أهل الله" أستطيع أن أوجز ملامح توجه صوفى فى إبداعات عبد الحكيم قاسم، يعضدها على نحو عميق عمله المبكر "أيام الإنسان السبعة" الصادر له عام 1969م، وتتجلى أول محاور هذا التوجه فى رؤيته للاتصال الوثيق الكامن بين الخلائق والموجودات، متأثراً بالتصوف الشعبى المصرى ووحدة الوجود التى تتوجه نحو الأعلى، فى جميع الجهات ثمة حياة تتوسل إلى الله، طقسها الذكر والتهدج.
يقول فى نصه "واحد من أهل الله" المرأة تميل بالدف مع الآه، وتعتدل مع الآه الأخرى، وتغمض عينيها وتضحك كالنهار، وترجع كتفيها اثنين اثنين، وترفع رأسها إلى الخلف مع الآه الثالثة الأخرى، والدق تباعاً بيدها السوداء الهائلة على قلب الدف. هل أدرى أيصل تيارها الرجل، أم يصلها الرجل بتياره؟ ص14، حتى أنه فى نص "السرى بالليل" الذى تنبأ فيه بموته، يصف مشهد خروجه على محفته يقول: "ميزت خطو الذاكرين وترتيلهم، قلت لأخى: ما الذى يقرأون فى جنازتى؟ قال دلائل الخيرات وبردة البوصيرى.. قلت له: كنت أفضل شيئاً أكثر فرحاً" ص77.
وينزوى فى تلك الرؤية للوجود القبح أو العنف أو الشر، وتفارق المخلوقات فيها طبيعتها، ويرى المريد أو الشيخ فيها أجمل ما فى الأشياء، حتى القبح يتحول إلى جمال، يقول فى نصه "السرى بالليل": "... فرحان بالبومة. وجهها ابن اخت وجه القمر، مرسوم العينين، والابتسامة مخيفة تحت قوس الأنف، والخفافيش هى فيران رقيقة هشة العظام تصر فى أذنى إذا طارت محلقة، والفراش والجراد لا يفتك الليلة بالزرع، والبومة تعفى الجرذان من صيدها.." ص69.
وتتجسد الموجودات الطبيعية، تتأنسن يقول عن القمر: "نظرت للقمر وتأملته وأحببته مزجج الحواجب مكحول العينين، مرسوم الشفين، مولع به، مشدود إليه.." ص76. كما تندمج الحواس وتصل بالمريد لحالة من الوجد والشفافية، يقول تربت عيناى على الأشياء دون تأريق البهاء البدرانى، ومن اجتماع حسى البصر والسمع ومن إرهاف جملة العصب تتولد البصيرة، تتبع خيوط الضوء الحريرية الفضية حيث تنسج قباباً وقباباً وتتدلى الشراشف وبدع الزينة،" ص70.
وحين يصل المريد المتصوف فى مجاهداته ومراتبه إلى درجاتها القصوى، تنصاع له الموجودات وتتخلله ومضات الألوهية وطاقاتها، يقول الشيخ فى السرى بالليل فى نجواه لأخيه: ".. لكننى سالم فى سراى الليلى، فكلهم كلابى هذا المساء.."، الذئاب والثعالب والتيفان والقطاط البرية والجرذان والحرباءات" ص71.
فى حالة الوصل والاتصال بالوجود والخالق يصف الشيخ المخلوقات يقول: "والثعابين هذا المساء طيبة تتمدد فى القمر، والنور ينزلق على ملوسة جلدها، تستصفى عيونها جوهر الضوء فى ماسات تخلع قلبى المشبع بحكايات كنوز سندباد" ص72.
فى حالات التصوف ومجاهداته وتأملاته تلك التى يصفها عبد الحكيم قاسم على لسان شيخ الطريقة الذى يناجى ذاته، أو أخيه، أو حامل العهد عنه، يتوسل بكل الممارسات والطقوس أو الوسائل التى قد تصل بالإنسان إلى درجة عرفانية واتصالية متعالية، فيتحدث عن البنات ويذكر أن البنت سحراً فيقول: "وهى تأخذك إلى مجاليها – تحكى لى – إذا انبهرت أخذتك قسراً إلى ما يبهرك أكثر، تهصرك إليها. تتحسس وجهك والعضل والأعضاء، مرغ فى حليب فمها فرع دافئ. تصرخ بك أن الرجال سكر" وتشرب من مشاريبك!" ص75.
عالم النساء هنا طقساً وجدانياً، وسيلة لإدخال الرجل المريد مرحلة متجددة من الإحساس، وهو عالم غير مقصود لذاته.
تستدعى رؤية عبد الحكيم قاسم للتصوف، وحديثه عن الوسائل والطقوس المتبعة للوصول إلى الترقى فى المراتب حتى حالة الوصل، رؤية أبى حيان التوحيدى للتصوف، وطرق المتصوفة لنيل تلك الحظوة من الترقى بالأحاسيس، تستدعى طقوساً ومراتب التصوف التى يذكرها القصاص فى ذاكرتى وصف التوحيدى لتجربته مع التصوف والمتصوفة، وبحثه عن جوهر ومظاهر هذه التجربة العرفانية.
وتخالط الفلسفة التجربة الصوفية عند "عبد الحكيم قاسم" وتتشابه مع تجربة التوحيدى أيضاً فى القرن الرابع الهجرى، وتصبح المعانى الباطنية والتأويل طرقاً ومسارياً للغوص فى المعانى والتعالى على الظاهرى منها، بما يصنع ملجأ للهروب من فهم العوام، يقول الشيخ: "وإذا تفلسفت أركَّب الكلمة على الكلمة وأشقق بطون المعانى لإخراج الحكمة من المعنى..!" قال: "وأنا أسألك متى الثمرة تسقط من علياء الفرع تندثر فى الرغام"؟ قلت" "أخ"، قال: "وهى حافلة بالبهاء والزينة.."؟ قلت: "إنها تضربها الآفة"؟ قال" "من رونقها لا أرى ما يعيبها"؟ "قلت: "إنك ترى الآفة فى جسمى..؟" قال لى: "نعم.. نعم.." قلت: "إنها لا تضير بى"؟ قال: أنت حافل بالبهاء والزينة" قلت له: "آه.. آه..!!" ص76.
تجاوز عبد الحكيم قاسم مشاهداته وتجربته فى صباه وشبابه مع المتصوفة الذين كانوا يحيطون به وبوالده وأسرته فى مدينة طنطا، فى مولد السيد "أحمد البدوى"، ليبدأ فى إعطاء هذه التجربة الروحانية الخالصة أعماقها الفكرية والفلسفية؛ ولذا فارقت تجربته المشاهدات ووصفه لها، تلك التى تجلت فى أول أعماله "أيام الإنسان السبعة" لتشف مع تطور تجربته الفكرية والإبداعية، إلى تجربة يصهرها الفكر والتروى، والخبرات المتعددة، تجربة يفتلها ويجدلها القراءات والتأملات، والاطلاع على الفلسفات والتجارب الإنسانية المختلفة، كما أن تجربة السجن لمدة أربع سنوات أتاحت للمبدع فترات من التأمل والقراءات العميقة المتنوعة الاتجاهات، صهرت هذه التجربة الممتدة والعميقة المتبحرة البدايات الملهمة واستوت تجربة ناضجة، اتضح نضجها أولاً فى إحاطتها الفكرية بكل جوانب التجربة الصوفية، وثانياً فى الأشكال الإبداعية التى عبر بها عن هذه التجربة الخاصة التى عايشها، ويمكننى توضيح بعض العناصر الفنية التى استطاع بها أن ينقل إلى قارئه ومريده هذه التجربة المكتملة الناضجة التى عاناها فى رحلة إبداعاته وأفكاره.
المفردة وسرد التصوف:
فى النصوص التى تقترب من الحكى عن تجربة التصوف، يختار المبدع مفردات تشى بنوع من الطاقة الخفية التى تسرى بالألفاظ، ومن ثم بالجملة، وتصبح الألفاظ المنثورة بالجمل والفقرات تباعاً، كأنها بؤر متوترة مضيئة خفية، تشع طاقة سرية، شأنها شأن التجربة ذاتها، تلك التجربة التى لا يستطيع العقل المنطقى المجرد من الحدس الروحانى أن يحيط بها على نحو صحيح، يقول فى نصه "واحد من أهل الله" وهو يصف زيارة رجل الذكر لوالده: "وحبات مسبحته تتساقط من بين أصابعه فتصك الواحدة الحبة الأخرى صكة كهربائية" ص11، ثم تتوالى تلك المفردات فى القصة لتشع فى النص طاقة خاصة، وطقس روحانى متعال كأن يقول: "يدرج نحونا، "طرت ليمة بأشواقى"، "سجاجيد لهفتى وطيبى به".
وكما تفصح المفردة واختياره لها عن تلك الطاقة، يرتقى بمجازاته وتكويناته الخيالية ليتساوق مع مفارقة وبهاء هذه التجربة، فتأتى لغته مكثفة مقتصدة لكنها منسوجة بعناية خيالية، تعلو لتصل إلى تلك المدارج والأشواق والفيوضات يقول واصفاً رجل الذكر: "هل يأتى هذا الرجل من الجهة البحرية، مخازن الريح تُبَرِدُ من حر النهار؟ أم يأتى من رطم حبات المسبحة فينعم به وجه أبى" ص12.
فى نصه "السُرى بالليل" يصنع عبد الحكيم قاسم موازاة مبدعة ومعبرة فى مجاز كلى ومُركَّب بين ماكينة الطحين والنتار الأبيض الذى يلون الأشياء والوجوه فى محيطها، وبين جلسات الترديد والذكر وما تصنعه وتبعثه من الدخول فى حالة من التعالى على الجسد والأرضية والمادية، الارتفاع مراتباً تلو مراتباً للوصول إلى حالة من الاتحاد، يقول عن فلسفة الطحين" له زئير يرج الغرفة، يرجنى حتى القلب" تنسحق الجتة فى ضجة عديمة المثال، ويطير بعضها يركد على أيدينا والوجوه.." ص73، ثم يقول: "وصفرت ماكينة الطحين على حافة المرئيات، بذلك كبست على الظلمة، وانطلق عواء الضبعة. قلت فى نفسى لنفسى: "هكذا طهرنا الأرض" من الخرافة، وبقيت هذه تعمر صحائفنا والكتب" ص79.
ويبقى الفناء والضياع والموت حقائق وعلامات حادة وذبذبات متوترة تقف لديها تجربة التصوف عند عبد الحكيم قاسم، قدم تجربة غير منساقة أعمل فيها عقله وفكره، وقلبَّها على كافة وجوهها، كما صنع التوحيدى فى معاناته الروحانية.
وكما يتشكل المجاز الجزئى والكلى فى أعمق صوره ليعبر عن تلك التجربة الصوفية الخاصة عند عبد الحكيم قاسم، يأتى المشهد ليصنع نوعاً من الغموض المقصود، نوعاً من الإغراب والإبهار فى ذات الوقت فى قصته "واحد من أهل الله" يشكل مشهداً ربما رآه فى الواقع، لكن طريقة وصفه له والفلسفة الروحانية الضافية فيه هى الإضافة الحقيقية للمبدع عبد الحكيم قاسم، يصور الاتصال الخفى بين امرأة سوداء تضرب على الدف بيد قوية ورجل مكبل بالحديد، يدخلا حلبة التهدج والرقص، ليصبحا كياناً واحداً موصولاً، ليقول فى نهاية المشهد: "والعيال الذاكرون يجوبونها بالدق، وخشيش الصدور، إذ اتخذ الرجل من حديده جنزيراً طويلاً، ثم يديره على رؤوس الناس دوراناً حاكماً باهراً، والذكر دائب مسقوف بالحديد، لحظات أبدية" ص14، وأتصور أن الحديد هنا رمزاً لكل ما يكبل الروح الإنسانية من قيود تربطها بالأرض والجسد والشئون الحياتية، فيأتى الذكر والمجاهدات الروحانية لتشف بتلك الروح وترتفع بها لتحقق الاتصال، المشهد الراقص هنا يحكى قصة مجاهدات المريد مع شئون الأرضية، ويعد الدوران السريع بموسيقى الدف مؤشراً لرحلة طويلة وممتدة ومجهدة عاناها المريد، فتنفك بعدها القيود الحديدية.
وتفيض هنا كما فى مواضع أخرى كثيرة الرتوش المحملة بخصوصية تناول القرية المصرية، وفلاحوها البسطاء التجربة الصوفية التى يصورها عبد الحكيم قاسم، فتأتى الرؤية فى "أيام الإنسان السبعة" لتؤكد بساطة حياة الفلاح الذى يحلم بالحضرة، حيث الذكر والإنشاد، والتخفف من أعباء الحياة وهمومها، والتبرك بشيوخ الطرق الصوفية، واغتسال الروح مما تراكم عليها من ذنوب، والعودة بعد أن تتجدد الأرواح، لتتطور تلك الرؤية فى الأعمال اللاحقة له لتأخذ أبعاداً فكرية ووجدانية أكثر عمقاً فى نصه "السرى بالليل" ونصوص أخرى.
اللغة فى إبداعات قاسم:
وتبقى اللغة وتكويناتها المتنوعة علامة مميزة وفاصلة فى سرد عبد الحكيم قاسم، لغة تدعو إلى التوقف النقدى طويلاً خاصة فى آخر أعماله "ديوان الملحقات"، اللغة حادة، تدعوك للتوقف مراراً، لغة لا تتسم بالإنسيابية ولا السلاسة إلا بعد القراءة الثانية أو الثالثة، وهو اختيار لم يبرز بتلك الدرجة فى نصه المبكر "أيام الإنسان السبعة" فقد كانت لغته أكثر سلاسة.
تظهر المفردات فى ديوان الملحقات فصيحة تميل إلى الغربة لخروجها النادر من المعاجم، تفصح عن عشق المبدع للغة العربية فى صورتها التراثية غير المتداولة فى بعض الجمل والفقرات، لكن استخداماته لبعض المفردات المعجمية المهجورة لا يصنع غموضاً فى المعنى، يستخدمها بالقدر الذى يظل النص فيها مفهوماً، ولا تحدث قطيعة أو جفوة بين النص ومتلقيه، ويبقى السياق عاملاً مؤثراً فى فض ندرتها فى الاستخدام، مفردات من قبيل بلاقع، أشفينا، تأريق، وغيرها كثيراً.
ينضاف إلى ذلك اختياراته للصيغ الصرفية: صيغ المبالغة والاشتقاقات أو غيرها من التكوينات الصرفية من قبيل قوله صخابون، يتخلع، أهرمها السن، زمتت، يبرجس، مع ملاحظة طبيعية النكهة الريفية التى تلون بعض تلك المفردات.
وفى ظنى أن المبدع يتعمد أن يتميز أسلوبه بذلك الاقتدار على تطويع المفردة ليدلل على قدراته اللغوية البارزة، حتى وإن صنع هذا مسافة مبدئية بين طبيعة الأسلوب ودرجة التلقى له، وفى نصه المبدع "قدر الغرف المقبضة" تتجلى قدرات لغوية فائقة لكنها تميل إلى السوداوية، قدراً متعاظماً من اليأس والقنوط من الحياة، ومن خلال هذا التنويع تتلون لغة عبد الحكيم قاسم.
فاللغة عنده لغة مزدحمة، حبلى بالأمطار الغزيرة، فهى إضافة إلى رصانتها كمفردات وهندسة الجملة ذاتها، تزخر بالتشكيلات المجازية المتجددة غير المعهودة، لمَّ حملت به نصوصه أفك القضايا الإنسانية فى صورتها الأعمق، وللبعد الصوفى الذى تحويه أعماله.
فللقاص قاسم طريقة خاصة لصياغة جمله وفقراته، وهى طريقة جبلية تدعو إلى التوقف والتأمل لأبعادها النفسية والإبداعية، نلمح حدة فى استخدامه للضمائر، وإصرار متعمد على ضرورة ذكرها، وثبتها فى أول الجمل، كأن يقول فى نص "ترديد ألمانى": فإذا رآه الأسود تحفز، وهو حدج الأسود بنظرة يتطاير فيها الشرر" ص29، أو قوله فى نص "الذبح.. والذبح أيضاً":
"هو يكبرنى بعدة سنين، لكن دماثته وطيبته تقربنى منه، هو قريبى" ص31، أو قوله فى نفس النص "تذكر أننى لم أقرئ قريبى سلام المسافرين، إننى لم يكن لى فى ذلك خيار" ص35.
فى الشواهد السابقة قد أفسر الأمر بأنه يتعلق برؤية المبدع لإبراز الاختلاف بين الجنسيات والعرقيات، وبين طبائع الشخوص برغم قرابتهم، يرصد لتحولاتهم، لذا يركز النص على الضمائر ليبرز فى ذبذبات حادة غير انسيابية هذه الاختلافات، ليشير ضمناً إلى التباين بين البشر، وأحياناً إلى جحيم الآخر.
وقد يرجع طبيعة هذا الاختيار من قبل المبدع إلى رغبته فى التميز والمغايرة، خاصة إذا اتفق هذا الأسلوب القطعى الحاد الصادم مع طبيعة المبدع ذاته، فكما يقولون "الأسلوب هو الرجل" وأتصور أن أسلوب عبد الحكيم قاسم فى تكوين جمله، واختيار مفرداته استعار من طبيعة شخصيته بعض الحدة، والتوترات العالية المصاحبة للمزاج المتقلب سريع الانفعال فى الفترة المتأخرة من حياته.
لقد تلونت جمل "عبد الحكيم قاسم" برؤيته لشخصياته ونماذجه وطبائعهم المختلفة، وأتصور أنها تضمنت حتى رؤيته لذاته وأقنعتها، وهو ما جعل جمله تميل إلى الجملة الإسمية أكثر من الجمل الفعلية – التى هى الأصل فى العربية – ويرجع هذا لتلك الرؤية التى رأى بها الآخرين من حوله، رؤيته للأفكار المتناقضة والمتعايشة التى تحيط بالإنسان وتجعله واقعاً فى ثنائية حتمية، لم يخفف من هذه الحدة فى أدبه سوى تجربته الصوفية فى الإبداع والتى أشرت إليها فى بعض أعماله، كما أن غلبة الإسمية قد ترجع إلى ميل إبداعه السردى إلى المناطق الشعرية وجوهرها وما يميزها من ذاتية وغنائية.
اتسمت الجمل عند القصاص أيضاً بالتكثيف الشديد، فجملة واحدة تدل على معانى مركبة، فمثلاً صراع الأم وخوفها على ابنتها، ما يمكن أن يعبر عنه عدد من العبارات أو فقرة كاملة يقتصد فى جملة واحدة، يقول فى نصه مطر "أمها تنظر فى أعقابها متعذبة العينين والبنت تبتسم لأمها مشجعة" لنا أن نلاحظ أن الجملة أسمية، وأنها تستهل بضمائر تدلل على منظومة من العلاقات المضطربة والحرجة، علاقات معبرة عن نماذج وشخوص مختلفى الأهواء والمشارب والغرائز والثقافات، لذا تبقى فى مواجهة دائمة، هذا فى مقابل هذا، هو نقيض أنا، أنت مغاير لنحن، وهكذا الحدود قطعية والتباينات واضحة، لكنها موجودة ومتعايشة، ويعبر عنها إبداعه المتوسل بالسرد والذى يتماس مع الغنائية وما بها من طبيعة شعرية.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرمز الشفيف في رواية - روح محبات- للروائي -فؤاد قنديل-
- أيهما أشعل القمر..
- المادة الثانية... مادة حاكمة
- غلظة الصحراء
- ليال....تتحدي النقاب
- تسألني الأماكن ..عنك
- الثقافة المصرية بعقلية رجل أمن
- غرابة الأدب..غرابة العالم وغربة الروح دراسة في كتاب الأدب وا ...
- البورترية في النص الروائي عند خيري شلبي -موال البيات والنوم ...
- أسطاسية أسطورة عدل موازية للروائي الكبير خيري شلبي
- الأنترنيت وأليات السرد في نص -في كل أسبوع يوم جمعة-للروائي إ ...
- التماهي بين الموجودات في أدب خيري شلبي
- الإنسان والفن..والوحوش
- البناء الروائي في -عاشق تراب الأرض-للروائي :أحمد الشيخ
- الحدود في الأسلام والمعاصرة
- أشياء برع فيها الأخوان المسلمون
- روضة... هندسة القاهرة
- الصمت الصاخب بالموسيقي في -تانجو وموال- للروائية -مي خالد-
- بعيدا عن إطلاق الرصاص..
- سُحقاَ للتبعية


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - سرد التصوف ..ولغته في ديوان الملحقات للروائي -عبد الحكيم قاسم-