عدنان اللبان
الحوار المتمدن-العدد: 4221 - 2013 / 9 / 20 - 16:46
المحور:
الادب والفن
يقول حمودي التقينا جميعا - وكنا معارف – في السيدة زينب احد ضواحي دمشق , وهي التي اصبحت مقر للعراقيين المتواجدين في سوريا منذ سنوات , وفي نفس الوقت مركز شركات النقل الى بغداد , والتي اصبحت اسهل الطرق بالوصول الى بغداد لكل الساكنين في المنافي , حيث لم يتأهل بعد مطار بغداد او باقي المطارات العراقية طيلة الاربعة اشهر التي مضت على ازاحة النظام الصدامي . كنا احد عشر رجلا وامرأة نستقل ثلاث سيارات ( جي. ام. سي) ننتظر انجاز تأشيرة الدخول على جوازات سفرنا الاجنبية في نقطة الحدود العراقية بعد ان عبرنا نقطة الحدود السورية في الوليد . اخرونا بعض الشئ , وظهر التذمر على بعضنا , كانت المرأة فارعة الطول , وملابسها حديثة , وتتحرك بثقة وجرأة اثارت اهتمام موظفي نقطة الحدود , وهم بين الشك واليقين من اننا وفد رسمي اجنبي حيث كانت جوازات سفرنا سويدية ودنمركية وايطالية . كانت وجوه بعض الموجودين وجلة , وأخرى تراقب وربما تنتظر جوازات سفرها ايضا . الشمس اخذت ترتفع في السماء , والشعور يتنامى بان هذا التأخير لا ضرورة له ونحن على ارض الوطن بعد غياب طال لعشرين عاما وأكثر .
صعدنا الى السيارة بعد ان استلمنا الجوازات ومررنا بمفرزة امريكية تأخذ (طبعات) عيون ولم تدقق بالجوازات الاوربية. لم تكن نقطة الحدود تعمل بإيقاع واحد , فالأمريكان يعملون لوحدهم , وموظفو الجوازات والكمرك مرتبكون , وبعض الافراد المسلحين بملابس عسكرية وأخرى مدنية يشعرون الآخرين بأنهم اعلى من الموظفين , وسائقي السيارات التي نركبها وجلون طيلة فترة انتظارنا . كنا ثلاثة في السيارة , وقدمنا سوية من مدينة يوتوبوري في السويد الى سورية , وبعكس ما كنا عليه من احاديث ذكريات عندما كنا نسير في الاراضي السورية , لفنا الصمت , والتيقظ , ونحن نتفرس في التلال الحمراء والرمادية وكأننا نراها لأول مرة , انها ارضنا , وطننا .
حمودي فنانا موسيقيا يجمع بين الغناء والتلحين والعزف على عدة آلات موسيقية ابرزها العود والإيقاع , وهو خريج الدورات الاولى لمعهد الدراسات النغمية العراقي . كان حمودي ممسوسا بالحنين الى العراق , وتتحول كل اغنية يغنيها الى لوعة عراقية , وتستطيع ان تميزه من كثافة الاحساس الطاغي على باقي المكونات الاخرى للأغنية , وقد تكون للبيئة الحسينية التي نشأ فيها سبب في ذلك . فعندما يغني المقام والابوذية والبستات وحتى المنلوج والمربع والأغاني الحديثة يتميز ادائه بالحزن العذب والشفاف , ولا يترك مجالا للاستراحة او الترهل في المشاعر . في السنوات الاخيرة وجد حمودي ملاذه في اشباع حنينه الى العراق عندما شكلت فرقة مشتركة من فنانين عراقيين وسويديين احيت حفلاتها في الكثير من المدن الاوربية , كان لا يمل من اعادة التمرين مع الاصوات النسائية السويدية لتأدية اغاني بغدادية صرفة مثل " جيه مالي والي " او " يا زارع البزرنكوش " او " واكف على المسعودي " , وغيرها من الالحان التي اذهلت الجمهور الذي تفاجأ برقة الاصوات النسائية السويدية وهي تتغنى بمفردات بغدادية لم تكن خالية تماما من اللكنة , وبمشاعر تقارب الاداء العراقي .
قبل ان تتوقف السيارة لتعبئة البنزين سألهم السائق : ما اعرف الاخوان من بغداد لو من المحافظات ؟ سأله جاسم الذي يجلس خلفه : شنو الفرق ؟!
السائق : قصدي اذا من المحافظات يمكن ان تتجمعون بوحدة من السيارات توصلكم لأهلكم بدون تعب الكَراجات والانتظار , وانتو واحدكم صاير نار على اهله .
جاسم : والله خوش فكرة .
جاسم كان مخرجا اذاعيا في اذاعة بغداد , ونتيجة الهجمة على الحزب الشيوعي عام 1979 التحق بقوات الانصار في كردستان وأصبح المذيع الاول في اذاعة الحزب الشيوعي " صوت الشعب العراقي " التي تبث من كردستان العراق , واثر هجوم الانفال حصل على اللجوء في السويد . اخبروا السائق ان جاسم من بغداد وحمودي من الحلة وثائر الذي يجلس معه في الامام من السماوة . ثائر كان من الشباب الذين تجاوزوا العشرين قليلا عند التحاقه بقوات الانصار الشيوعيين اثر هجمة البعث ايضا عام 1979 , كان طالبا في الجامعة وترك كليته ليشارك بحماس الشباب في النضال الباسل للأنصار .
توقفت السيارة امام خزان متوسط الحجم نزع من احد الشاحنات الحوضية واستقر على اربعة ركائز طابوق على جانب الطريق . وسال حمودي : هذا شنو؟ بانزين خانة ؟! السائق : اي نعم .
كان بمحاذات الخزان صريفة لا تتجاوز الاربعة امتار مربعة , معروض فيها قناني مياه وسكائر وأنواع رديئة من البسكويت . فأكمل حمودي : اكيد هذا السوبرماركت لصاحب البانزين خانة ؟ السائق : اي نعم .
لم تتأخر السيارتان بالوصول الى البانزين خانة , وفهم من السائق ان تحديد السيارة التي ستذهب الى المحافظات سيتفق عليها عند التوقف لتناول الغداء .
حمودي شربة , والشربة في الشعبي ( التُنكَه ) وهي فارسية تعني وعاء دائري من الفخار يكون عريض من الوسط , وفتحته الدائرية العليا التي يسكب منها الماء توازي نفس مساحة قاعدته المغلقة . ويستخدم لتبريد الماء سابقا , وهو من اعمال حرفة الكوازة القديمة التي تنتج ايضا , الحبانة , الحب , البستوكَه , وطبلات الايقاع ( الدنبك ). وعائلة شربة من العوائل العريقة المعروفة في منطقة الفرات الاوسط , وبالذات في منطقة النجف والحلة , وحمودي ينحدر من هذه العائلة في فرعها الحلي .
في بداية مشواره الفني شارك حمودي في تأسيس " فرقة الطريق " للأغنية السياسية بقيادة الفنان حميد البصري, وكان ذلك في بداية السبعينات من القرن الماضي , وكلنا نذكر اغاني " تل الزعتر " و " عيني يا كَمرية " و " هله بيك هله " التي تحولت الى اغنية رياضية , ثم حورها احد المغنين المرتزقة للتمجيد بصدام , والكل يعرف انها للاحتفاء بعيد ميلاد الحزب الشيوعي العراقي . حمودي شربة من النوادر التي تماثل وجودها مع دلالة اللقب المهني , ومثلما تبرد الشربة الماء الذي يوضع فيها , فهذا الحمودي الذي تجاوز الستين لا يزال يمتلك براءة الاطفال وتلقائيتهم التي لا تعرف التخطيط والانتظارات المدروسة , على امل ان يحصل على نسمة عراقية طيبة تلامس احاسيسه وتحول ماء شربته الى عذب الشراب .
غسلت دمعة كبيرة عين حمودي , انتبه جاسم وسأله عن السبب , فأجابه والعبرة تكسر كلامه : شيصير لو ابو عامر ويانه بالسيارة ؟! ابو عامر صفاء ابو طحين هو الابن البكر للفقيد يوسف ابو طحين المربي والوجه الشيوعي المعروف في كربلاء والفرات الاوسط , صفاء مواليد 1961 ترك العراق الى سوريا اثر هجمة البعث عام 1978 اي لم يتجاوز الثامنة عشر , دخل دورة عسكرية في بيروت وتوجه بعدها الى كردستان العراق . كانت مفرزة صفاء في الجهة اليسرى من الروبار ( مجرى الماء ) الصخري الذي يمر بنوزنك , وحمودي في مقر الانصار الذي يقابل المفرزة في الجهة اليمنى لمجرى الماء . كان المقر يسحب ماء الشرب ب" صوندة " تلتف على حبل وتمر فوق الروبار من الجبل المقابل , وكان على المفرزة ان تذهب الى " توجلة " – وهي ليست بعيدة – للعبور على الجسر حيث كان الربيع والمياه المتدفقة قوية وعالية . بعض الرفاق اندفع بهم الشوق فاخذوا بتحريض البعض من انصار المفرزة للعبور متشبثين بالحبل الذي يحمل الصوندة , صفاء المعروف عنه جرأته استجاب للتحريض , فعدل من وضع حقيبته على ظهره وقطر بندقيته فوقها , وتعلق بالحبل واخذ يتقدم وسط تشجيع الانصار , ورغم ان الروبار لا يتجاوز الخمسة عشر مترا الا ان ثقل جسمه وحقيبته استهلكت قواه , تباطئ في تقدمه , ظهر التشنج على اصابعه ووجهه , توقف , القلق اخذ الجميع , الصياح اشتد عليه : " وصلت لم يبق الا القليل ", حمودي يقف على الجرف مد يديه اليه , اخذ يصرخ عليه , لا يفصله عنه اكثر من ثلاثة امتار , يرى تفاصيل وجهه , يرى لحظة استسلامه وجمود نظرته - وهذه اللحظة التي لم يستطع حمودي نسيانها بعد اكثر من عشرين عاما -, سقط ويداه لا تزال مرفوعة , وأصابعه تشنجت كأنها لا تزال تمسك بالحبل . جرفته المياه بين تلك الصخور الحادة , ولأربعة ايام متتالية جرى البحث عنه على امتداد الروبار ولم يجده احد , وفي نهاية اليوم الرابع بعد ان نزلت المياه وجدت جثته عالقة بأحد فروع الاشجار الممتدة على حافة الروبار .
سرح نظر حمودي في امتداد هذه الاراضي الجرداء التي تخلو من مظاهر الحياة , ولا يوجد غيرها وغير الافق وعداد سرعة السيارة تجاوز المئة والثلاثين كيلو مترا , استعاد حمودي كيفية اضطراره لترك العراق بعد الهجمة على الشيوعيين التي وصلت ذروتها عام 1979 , وليبدأ رحلة المنافي القاسية التي امتدت لحد الان . في البداية عاد الى كردستان , وكان من بين فصيل الفنانيين الانصار , وفي تشرين الثاني عام 1982 طلب حمودي مقابلة سكرتير الحزب الرفيق عزيز محمد , واخبره انه يريد الخروج من كردستان . وسأله عزيز محمد : لماذا ؟ اجابه بكل بساطة : ضايج . ضحك عزيز محمد وسأله حمودي : لماذا تضحك رفيق ؟!
عزيز محمد : لان جميع الذين يريدون الخروج يقولون ان لديهم حساسية من العدس , او انهم مرضى وغيرها من الاعذار , انت حجيتها بصراحة . وطلب منه ان يحضر نفسه للخروج الاسبوع القادم .
يقول حمودي بعد الغداء تركنا جاسم , وانتقل مع حقيبته الى سيارة اخرى تأخذه الى بغداد , اما انا وثائر فقد بقينا في نفس السيارة التي سوف تاخذنا الى المحافظات , اتفقنا مع السائق على الاجرة بعد ان اخبرنا بالفارق البسيط بين ما يأخذه وبين الاجرة في كراج علاوي الحلة . كان لطيفا ومؤدبا معنا طيلة الطريق , وطلب منا اكثر من مرة ماذا نرغب ان نسمع من الاغاني , وقد ملأ الفلينة التي معه بقناني الماء البارد وعلب الببسي والسفن . ارتفعت الشمس , ولا تزال عمودية وقد تجاوزت الساعة الواحدة والنصف , وعلى مسافات قريبة وفي كل الاتجاهات كان السراب اشبه بالمسطحات المائية , ورغم التبريد في داخل السيارة الا ان الاحساس بالحرارة كنا نلامسه نتيجة السراب والحرارة الكثيفة التي اشبه بالبخار وقد ضببت صفاء جو الصحراء . اخذ السائق يتباطأ في سرعته , اجتازتنا احد سياراتنا الثلاث مع صوت الهورن وإشارات التحية , واستمر السائق في تباطئه , وبعد فترة قصيرة اقتربت منا سيارة وحاذتنا لمسافة قصيرة , ثم اجتازتنا , كانت مفتوحة النوافذ , ويجلس فيها اثنان مع السائق وقد سترو وجوههم بكوفياتهم ( ملثمين ) , ربما بسبب الحرارة . بعد فترة ليست بالقصيرة اجتزنا سيارة الملثمين وسائقنا حافظ على سرعته التي لم تتجاوز التسعين كيلومترا في الساعة . بعد فترة قصيرة اجتازتنا سيارة الملثمين ايضا بعد ان تباطأت قليلا عند الاجتياز وهم يتفرسون فينا , وهو ما دفع سائقنا للاتصال بشخص ما واخبره بريبته من هذه السيارة وذكر له رقمها ونوعها .
سأله حمودي : تشك بشي مو طبيعي ؟!
السائق : والله ابن عمي الله يستر , ولد الحرام هوايه , وصارت عدة حوادث هنا .
وأجاب نفسه : شيردون يسوون ؟! اكو غير يسلبونا .
يقول حمودي : لا اعرف بالضبط هل هو سأل احد في التلفون فعلا ؟ ام اراد اخبارنا بأننا في وضع خطر من قبل هؤلاء , فهو لم يكن مرتبكا , او ان نبرته في التلفون لم تدل على الاستقصاء . وعند الغداء لم يكن معنا , بل ذهب الى مكان معزول يقال انه مخصص للسائقين حيث يتناولون غدائهم مجانا على مالك المطعم لانهم يتوقفون عنده .
بعد ربع ساعة شاهدنا السيارة وكانت تسير ببطء شديد , سائقنا زاد من سرعة سيارتنا قليلا وتجاوزناها بسرعة , فأسرعت ورائنا , وبعد خمسة دقائق حاذتنا وهي تشهر رشاشتي كلاشنكوف باتجاهنا وأجبرتنا على النزول من الشارع والتوقف. انشدهنا , اخبرنا السائق ان لا نقاوم مطلقا , نزلا وهما يشهران السلاح وفتح احدهم الباب بجانبي ووضع فوهة السلاح في بطني بعد ان امرني برفع يدي وافرغ جيوبي من كل محتوياتها , وشاهدت ثائر قد وجهت فوهة السلاح الى رأسه وسلب ايضا ما كان بحوزته والكاميرا التي معه . لم تدم العملية اكثر من خمسة دقائق ,ولا اعرف اين اختفوا بعدها . في الفلوجة وجدنا جماعتنا هناك ,انصدموا بوضعنا , اخذنا منهم بعض النقود لنصل الى مدننا بعد ان تنصل السائق من اتفاقه بإيصالنا , وسجلت الحادثة في مركز الشرطة ضد مجهول .
#عدنان_اللبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟