أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم عبد مهلهل - قيامة إبراهيم















المزيد.....


قيامة إبراهيم


نعيم عبد مهلهل

الحوار المتمدن-العدد: 1204 - 2005 / 5 / 21 - 09:52
المحور: الادب والفن
    


الأرض الخضراء التي يسيل منها الخمر لعاباً من فم الآلهة هي الأرض التي أتحدث عنها‏هكذا بدأ كاتب
اللوح مدونته، ثم برع في الوصف عن الأشياء التي ندركها بأرواحنا فسنجد لها‏أشياء كما الأطياف تسبح في ذاكرة عارية، وتقربنا من أنو، من الوردة، من صدر امرأة لم‏تكتشف بعد فستان الزفاف، وقال الكاتب وقد ذيل نهاية اللوح باسمه أود- ماري- بأنها أرض‏تضيء كما النجوم في أمسيات عزف القيثارات، حيث أرى عشتار ترتدي ثوباً من العشب،‏وبرز نهداها مثل كرتي البلور وقد ركبت سيارة فورد فارهة بيضاء ومسكت ناظوراً لتشاهد‏سباق الخيول السومرية في الواحات الصافية والواقعة جنوباً في الأرض المباركة التي خطط‏أنو بقلمه المدبب ليضعها ويرسم مدنها الفخارية، أور، أريدو، لكش، لارسا أوروك، مدن‏أخرى، ولكن دلمون كما قال الكاتب لن تفتح أبوابها إلا للقادمين من أور حيث يسمح لمن‏يجعل من ننار ملهمة أن يدخل الجنة دون تأشيرة ويرى رجل شرطة بواباتها الحدودية، وأول‏القادمين كما روت الأسفار الأولى كان أبراهام وقد ترك وراءه عمرا بمئات السنين ليدخل هذا‏الفردوس المزدحم بالألوان، لكن ثمة كآبة ما لازمت الشيخ، وقال وهو يحن لعصاه التي أخذت‏منه حيث لا تتقوس ظهور من يعيشون هنا. أن هذا الفردوس مثل القفص، جنة بلا مدن لا‏أحبها، ودلمون دون صحارى لا تطيب لها نفسي، لكن أحداً لم يسمع أول الداخلين وحين سأل‏وأين جدي آدم؟ ألم تكن دلمون مثواه؟ كان الرد: أن آدم اختار وبمحض إرادته بيئة متروكة‏فوق قمة الثلج في هندرين.‏قال إبراهيم: أنا عكس رغبات جدي. ينبغي أن يكون فردوسي جنوبياً، أن كان هذا العالم‏الأخضر المليء بالطواويس تسمونه الجنة، وبعيداً عن حزن الشيخ استمر أود- ماري –‏يصف الموجودات السحرية لهذا العالم، وكتب: أن الموجودات التي فكرت الآلهة بصنعها‏عجنت من ضوء وعشب وموسيقى، فالجميع هنا يعزف بعذوبة ومهارة، حتى الفراشة‏الصغيرة تستطيع أن تصفر بفمها المدبب لحناً أوبرالياً كالذي عزف يوم فتحت قناة السويس‏حتى بات الجميع لا يصدق بقدرة عصا موسى على شق البحر.‏تغرد الطيور في هذه الأرض بشدو طلسمي، لا تفهم معناه سوى الآلهة التي يمنعها‏غرورها وكبرياؤها أن تفسر ما تنطق به الكائنات الأخرى، ولهذا ظل أبراهام صامتاً لا ينطق‏سوى بما تعلمه من أسواق أور ومدارسها، وعندما فكر بأن يجعل لغة سومر هي لغة الآلهة.‏اعترض الجميع، وفضلوا الإشارة المبهمة والنظرات العميقة لتكون اللغة المدرسية وهي ذاتها‏التي تطبعها الآلة بسبابتها على ألواح الاسترحام التي يقدمها ساكنو دلمون عندما ينقطع ضوء‏مصابيح القراءة عن البيوت بسبب عطل فني وفسر السبب أن أنو كان يطارد واحدة من‏حوريات الفرات ليفعل بها ما يشاء فعثر بالكيبل الرئيسي وقطعه فمن يجرأ كي يعيد ربط سلك‏عثر به كبير الآلهة؟ وبقي دلمون مائة عام من دون ضوء، وكان ليلها، ليلا للشموع والنجوم.‏وفي المائة عام هذه أنجبت ملايين الشعراء وكتاب الألواح والقديسين كل هذا كان يحزن‏أبراهام، ولكن ما العمل؟ أن دلمون المثوى الأخير لكل قديس، ورغم هذا ففي دلمون لغة‏واحدة، والكلمات التي تقرأها مدونة على أوراق الشجر أو على الجدران الرخامية لقصور‏الصفوة الميتين من البشر تحمل في معانيها حمداً لا ينتهي للرجل الذي ألبس الهدهد ربطة‏عنق وعلمه نقل التحايا الخاصة من سليمان إلى بلقيس، وهو ذات الرجل الذي اكتشف طريقة‏إضافة الماء البارد إلى الطحين كي يمنع سقوط الخبز من تنانير أمهاتنا النحيفات اللائى تركن‏أزواجهن في حيرة الحجابات ومارسنا النواح والغناء عادة مزدوجة لقضاء الليل بدون رجل،‏وغير هذا فالمكان يتسع لكل ما يقال، حتى الصمت يحسب هنا على أنه صراخ من أجل شيء‏نريده، مزيداً من الحلوى مزيداً من الخمر، مزيداً من الخبز، مزيداً من النساء، لكن أحدهم‏خالف هذه النداءات المعتادة وصرخ: مزيداً من الحزن. في ذات الوقت كان أبراهام جالساً‏تحت سدرة المنتهى يذرف دمعاً زجاجياً نقياً كالذي يصنع منه قلائد الماس المزيف.‏قال: وقد وصف المدون بكاءه على أنه تناغم أشياء ساحرة. أصوات مثل هديل الحمام‏يقاطعها صوت قطرات المطر على معدن أملس. بكاء بحجم اللوح الذي أكتب فيه إليكم يا‏أجيال أور القادمة ليصل إلى آخر بيوت المدن السومرية.‏-وأنت يا من ترغب بحزن، ما الذي فعلته بدنياك؟ تساءل إبراهيم.‏-لقد قضيت كل حياتي مبتسماً، لأن أنامل الجواري الزنجيات والأرمنيات يدغدغن‏خاصرتي في كل حين، وكانت أمي تسقط حبات العنب في فمي المفتوح من بعد ثلاثة أمتار،‏وأنا مستلق دون حراك. أدخلوني هنا لأني السعيد الوحيد في أور، وكل الذين تستقبلهما دلمون‏يحملون على أكتافهم أحلام الحروب، وبعضهم تم تصليح الثقوب التي فتحت في صدورهم من‏شظايا تلقوها في حرب مع أيلام أو مع جيوش الروم حينما اندهش الفرس السومري من‏طائر الحديد الذي يطير فوق رأسه، فقد كان يرمي ويختفي ورغم هذا ثبتت خيول سومر في‏الميدان وأهدت على نساء أور وأريدو والمدن المتمتعة بحب الآلهة رغبة بالبقاء خالدين هنا‏في دلمون أو على أسطح البيوت الجنوبية للمدن التي عرف الله كيف يضعها في صدر‏الخارطة الكونية حتى تتألم ومن ثم تستطيع أن تبدع.‏وقال المدون: أن السعيد الذي طلب مزيداً من الحزن كان يرتدي سترة موشاة بخيوط من‏ذهب لامع وقمص فان هاوزن وفي معصمه ساعة سويسرية. سأله أبراهام عن الوقت؟ رد‏السعيد السومري. حسب التوقيت الصيفي لساعة بيغ بن هي الثامنة إلا ربعاً حيث تطلق‏المغنيات رتابتهن من المذياع فيدمدم سواق السيارات في الطريق الإسفلتي بين أور وأكد‏عندما يمنعهم جنود السيطرات الباحثين عن الشطب المتعمد في دفاتر الخدمة من السماع‏ويرغمونهم على جلب أشرطة الساهر واحد لمتعة المسافرين وآخر لمتعة آمر السيطرة.‏ابتسم إبراهيم تذكر الوقت في سفره الأسطوري بين أور وحران. لم تكن هناك ساعات‏رادو. كان منشغلاً بصوت جبرائيل وهو يحثه على التجوال الدائم وعندما أضاع في واحدة‏من جولاته دفتر خدمته احتجزه فرعون مصر مائة عام ولم تخرجه سوى رؤيا صادقة كان قد‏أخذها من يوسف الذي سيأتي بعده بمئات الأعوام، فأطلق سراحه وعاد إلى تجواله الأزلي‏يرفع اسم (الله) وسط كفيه فتضاء سماوات وسماوات فيستغني عن الطاقة التي كان أنو يولدها‏لتضيء حياة البشر فلم تعد حاجة لإصلاح الكيبل الذي تعطل بعثرته فما دام أبراهام حل هنا،‏فالنور معه أينما حل وارتحل، ونحن معنا التأمل:‏كتب المدون حيث راح مرة أخرى يبدي اندهاشه من هذه الموجودات المنتظمة بتراص‏متقن حيث البيوت تستقيم مع نظرات العيون وتلغي زوايا النظر، الكل واضح أمامك، وعندما‏ترغب أيها الساكن بممارسة طقس توحد أو الكتابة فليس المعبد هو من تأوي إليه، لقد ألغيت‏فكرة أن يكون هناك مكان تقترب منه إلى الصرح العلي وعوض عنه بظل النخلة، ذلك الظل‏البارد الذي افترش عليه أبراهام عباءته ووزع حصاه وقرأ بخته أولاً: ومرة أخرى أطلق‏دمعتين من مقلتيه، ولا أدري لماذا يبكي رجل في الفردوس وقد اكتمل كل شيء هنا وتعلم‏أصول الحياة بأبهتها؟ كانت هناك دروس عن كيفية مصاحبة النمور في النزهة، أو ارتداء‏ملابس السهرة والرقص الكلاسيكي، الرسم بدون ريشة، ودروس التجميل والعناية بالأظفار‏عندما رغب إبراهيم بتعلم صلوات الناسك المنعزل.‏أجابوه برد قاس: أترك الأشياء الأرضية، أنها لا تصلح نمطا لحياة دلمون، قال: إذن لقد‏فقدت الفردوس الحقيقي. ومرة أخرى رمى الأحجار على القماش الخشن، فلم يجد بختاً‏يخلصه من رتابة القديسين عندما يحالون على التقاعد، ففضل موتاً آخر، لكن من يدخل دلمون‏كما قالت اللوحة الضوئية الهائلة: لن يموت مرة أخرى، ويبدو أن أبراهام أيقن أن الموت‏الآخر هو ولادة أخرى وبهذا اليقين كما يقول المدون: اجتمع مجلس الآلهة لهذا الحدث الخطير،‏فالرجل بعصاه، وبرفضه ارتداء ملابس السهرة يحاول أن يخرق الأنظمة ويولد إحساساً لدى‏الساكنين برتابة ما يسكنون. وقالت عشتار وقد انتهت للتو من مداعبة أفخاذ واحد من حراس‏أبيها: أن أبراهام وإن سكن الفردوس فنحن لم نخلقه حتى نستطيع أن نغير مداركه والخطأ‏ينبغي أن يتحمله من أذن له بالمجيء. انظروا إلى آدم ونوح. لقد اختاروا أمكنة غير دلمون‏لأنهما يعيان ما سيحدث وهو ما حدث لنا مع إبراهيم، أقترح أن تزال دلمون عن الوجود،‏ومن توده الآلهة من البشر وينتهي قدره الزمني. نسكنه في حانة وسط حديقة أرضية لا يراه‏فيها أحد. نعم نسكنهم منفردين حتى لو كلفنا ملايين الحانات فوجود أبراهام في هذا الفردوس‏مع الحشد الهائل من الذين قدموا لأور الخدمات الجليلة يعني أن ثمة نفساً متحمساً صوب‏التغير.‏قال: أنو وقد ملأه الغيظ والكبرياء: ما الذي يريده أبراهام غير هذه الحياة السعيدة اسألوه‏إن كانت أورشليم وأريحا وبطائح الجزيرة قدمت لـه فطوراً من أجبان لافاش- كريه وعسل‏النحل الملونة. اسألوه هل ارتدى في ترحاله إلى مصر بنطلون جينز أو انتقل من بيته إلى‏بابل بسيارة بورش سوداء هنا نوفر له ما حرم منه بالأرض فليحمدنا وبصمت.‏لكن أبراهام لم يصمت. ظل يردد أنه يرغب أن يعود حافياً وقد رسمت له الطرقات وحدة‏الهاجس والتكوين الذي أشار إليه أود- ادد- با ووصفه بأنه الضياء الذي يكسونا الرغبة‏ويمنحنا الرؤى ويأخذنا بعيداً إلى عالم أكثر صمتاً من قبر قديم. هذه الصورة التي وضع‏ليوناردو وولي تحتها خطا أحمر يوم اكتشف اللوح ضمن ما وجده في المقبرة الملكية بأور.‏وكأن المدون كان يعلم بتساؤلاتنا فأضاف إلى المعنى رؤيا مقنعة وتحدث عن قبر قديم لم‏يلتفت إليه أحد في الأرض ففضلت الآلهة أن تخلد من سكنه فحملته بتحدبه وتابوته إلى‏دلمون، وليتأمل ساكنوها الرفاة الصامت ويتذكروا الهدوء الخالد لحياتهم الثانية حيث أمر أنو‏هذا الصباح بخلط الحليب بالكاكاو في وجبة الفطور وأن يقدم الديك الرومي مشوياً بعدما كان‏الفطور عصافيراً صغيرة تجلب من الأرض بحجة أنها ستخلد في دلمون، لا يغريك فيها سوى‏ريشها الملون ودموعها المضيئة في الصحون المقدمة على الموائد.‏أمام هذا القبر وقف إبراهيم فلقد كان يعرف ساكنه. إنه السومري الأول الذي تحدى‏جلجامش يوم أراد أن يتخذ من حبيبته خليلة له، فكان أن هوى على رقبته سيف الملك القاسي،‏وبعد لحظات كانت هي تمزق شرايين معصمها بشفرة حلاقة نوع جولييت وعندما سمع‏جلجامش طلب أن يحلق ذقنه بذات الشفرة التي قطعت فيها شرايينها. تلك حكاية القبر والموت‏الأسطوري لأول عاشقين من الجنوب وتلك هي حكاية القبر القديم فد لمون مليئة بالحكايات وهي‏لا ترغب بمن ليس لديه حكاية. أن قيمة الحياة فيها تكمن في حدث ما لأي من ساكنيها، ولهذا‏ترى ليلها مليئاً بالمسامرات وبين حكاية وأخرى هناك مجرى لدموع الجالسين، فسرت على‏أنها دموع فرح يستفاد منها بعد تعبئتها في قنان بلاستيكية وتصدر إلى الأرض مياهاً معدنية‏مباركة، وحدها دموع أبراهام كانت تجمع في أوان من ذهب، وتباع على الحضرة البابوية‏بالعملة الصعبة فالآلهة عرفت كيف تغزو السوق، ولهذا قرر إبراهام أن لا يبكي لكنه لم‏يستطع، فكل حكاية في دلمون تدفعك إلى البكاء، فمن حكاية القبر القديم إلى ذلك الذي وجد‏من يشارك زوجته فراشها، إلى الذي احترق حقله وبعضهم دفع ظلماً إلى سراديب مظلمة‏لانتمائه إلى حزب الخضر والحفاظ على البيئة. بعضهم بحكاية غامضة لكن الوضوح يبان‏عندما يأتي ذكر امرأة ما، فكل شيء في دلمون يعود إلى امرأة ما، حتى إبراهيم في جلسة‏الظل هذه كانت تنتصب فيه أشياء تصور أنها خمدت مع تقادم العمر، لكن دلمون تمنح البدن‏الفتي ولهذا ينبغي لك أن تفعل هذا بعد كل وجبة طعام، وكل حورية تقدم إليه كان يدعوها‏لتعزف له وتغني وبعد هذا يقول شبعت. الآلهة طلبت منه يوماً ما أن يتوسط هذا الصدر‏العاجي الذي اعتنت بتكويره نهديه عشتار عناية خاصة طمعاً في ذرية جديدة.‏قال لقد: جعلت ذريتي في الأرض، لأن أشواقي لم تكن يقظة في ذاكرة الآخرين، ولكنه‏على كل حال ليس خطأ أن تنشأ مدينة وبشر يولد بين الألف من أبنائها شاعر واحد، وهذا‏يكفي، فلا أريد أن أمتحن مرة أخرى وأقرب نصل السكين من رقبة ولدي، دعوني، قال‏المدون فتركوه، بقي أبراهام مائة عام منشغلاً بصوت الحورية الساحرة وفجأة، وفي ليلة‏عاصفة لم تشهد لها دلمون مثيلاً، وكان سببها شجار سكر بين الآلهة.‏قال أبراهام وبصوت خجول ومتردد: اقتربي إلي فقد انتصب فيَّ ما يدعوني على إنجاب‏ملة أخرى، فهذا الشجار بدأ يقلق خلوتي، ونامت من تفننت في خلقها عشتار، وفي الصباح‏وقد انطوت في ليلة واحدة تسعة شهور خرج إلى عالم دلمون طفل يضيء كقمر صاخب وقد‏نمت تحت أجفانه أنواع الزهور الغريبة، وعندما حرك أصابعه تحركت أفلاك عشرة ورقصت‏قرب رأسه وقيل أن مذنب هالي أهداه ضوءه كي يحميه من الخلف أينما ارتحل. إنها الولادة‏الأولى في هذا الفردوس الذي لا يتوالد الناس فيه، فكيف حدث هذا؟ فعندما طلبت الآلهة ذلك‏من أبراهام كانت تمازحه، فالظن أن شيخا بعمره لا ينجب أبداً حتى لو كان بدنه بدن شاب في‏العشرين، فكانت هذه الولادة كارثة الكوارث.‏فغدا ينتهي كل شيء في دلمون وتعود الحياة أرضية كما حلمت بها أجيالنا يوم أرادوا أن‏يخلقوا لعالمهم السومري حياة مفعمة بالحب والاشتياق إلى الأفعال النرجسية، تلك التي نحسب‏بها أننا نمتلك جنوباً أجمل من لوحات رسامي عصر النهضة. الارتباك الذي أحدثته ولادة‏الطفل جعل الآلهة تكف عن الشجار وتعيد ترتيب أوراقها بهدوء لتقرر ما يجب عمله.‏قال أبسو: ننزله إلى الأرض ونرميه في الفرات ليصبح القاع قبراً له، لأنه لا يملك‏حكاية.‏قال ننار: أرميه على سطح قمري حيث لا هواء فيختنق.‏قالت عشتار: أرضعه من ثديي فيعشقني وأعشقه، وسرعان ما أمله مثل الآخرين فأدس‏له السم في واحدة من قبلات السرير فيموت.‏قال أنو: كلكم تفكرون بالموت طريقة للتخلص من الرضيع، ماذا لو كان فارساً قوياً مثل‏أنكيدو؟ ما العمل؟ ستقولون: سيبارزه جنود الآلهة ويهزمونه، في ذلك مهزلة بالنسبة لنا كآلهة،‏اتركوه ينمو ولتكن المسألة تحديا، سيكبر في كنف والده وسيعلمه الحكمة وهي ليس لها فعل‏السيف وتسرق عروشكم. سوف أرسل إليه في هذا الصباح آنية مليئة بالحليب الطازج من‏ضروع جواميسي المقدسة حتى ينمو سريعاً ولنراه ماذا سيفعل؟‏قال المدون: أطرقت الآلهة رؤوسها مذعنة لرغبة كبيرها وفي أفئدتها شعور ما، أن هذا‏الطفولة سيبقي على كل شيء وبعيداً عن سني الطفلة القادمة، راح المدون يسجل في سياحته‏مشاهدات ساحرة، فالرؤى هنا تكمل بصورة حسية فكل ما نراه يختفي في لحظة، ولكنه بعد‏ثوان يعود بصورة أجمل. أن دلمون تعي قدرتها على سلب اندهاشنا فهي تعني جمالاً يسعد‏القلب ومن ثم يمنح الجسد قدرة على التحرك في الاتجاهات التي ترغب بها الآلهة، فالحياة هنا‏تبدأ في منتصف الليل عندما يكتمل تجمهر النجوم فوق رؤوسنا، وعندما يضرب الوتر أغنيته‏المفضلة فتنساب الأضواء على الأجفان حبالا من حسرة ووجع إلى الشيء نرغب به فدلمون‏لا تعطي كل ما نريد إنها وإن كانت تسقينا الخمر واللبن، لكنها تمنعنا عن بعض ما نحتاجه.‏الورق والحبر مثلا لأن هذا يعني أفكاراً جديدة، وحتى أبراهام كان يدون على جدار قلبه‏ويحفظه غيباً. وحده الطفل خط بأنامله الصغيرة على الرمل ما رأته الآلهة أمراً مخيفاً. لقد‏كتب كلمات حمد ولكن ليست لانو الذي أرضعه من حليب جواميسه المقدسة ومما دونه نقرأ:‏(أيتها الرؤى وحدي مع الرمل قواك وابعثي إلى أور الإشارة ثمة أضواء علينا أن‏نخمدها وأن نقترب منها وأنتم أيها المفرطون بحساسية الغناء الصلوات من أجلكم معجزة‏والحنين إلى جنتكم فراغ. الذي يأتي ينبغي أن يعود في الذاكرة طيبة يكون خلوده رائعاً الحمد‏لمن قال أنني أولد لأصل. الحمد لمن مسك الموجة. وصنع منها شراع الحمد، لمن وفق‏بالجمع بين الحلم والوسادة، وأثمر ليلة حبا أزلياً يشارك الأرغفة حنينها إلى الجوع. وما هذا‏الزبد والعسل والزيتون إلا خديعة توهمناً ببطلان الولادة، فالإنسان يولد كي يولد من جديد‏وليس يولد كي يموت في دلمون خالدا.‏أيتها الرؤى أقيمي مجد الرمل على صفحة الماء والشمس ودعي مجدك يرتقي إلى منصة‏الروح. أقيموا الصلوات لمن يموت بجرح، لا لمن يموت بكاس. ضعوا دلمون وراءكم،‏أضيفوا إلى الجنوب جنوباً آخر ليكتمل العد التنازلي لاكتمال وجه أور القمري، وليفتح الضوء‏على أجفانكم قارة أخرى تستقبل من سومر ضياء الكلمة البهي، ولنقدس إبراهيم عندما يعيش‏في واحدة من بيوتنا. لا تتركوه في المنفى وحيداً. إن الحياة التي اكتسبها هي حياة ناقصة إذ‏حرم عليه أن يسمع غناء الصيادين ونواح أمهاتكم آلائي فقدن أنصاف قلوبهن في الحرب‏الأخيرة لأميرنا الجميل أور نمو.‏أيها الرمل هي قيامة إبراهيم فقف بذرات من ضوء وعجين، واسكب على أقداح نذور‏المائدة الملكية ماء الوجه. أطرد من مخيلتك صورة الآلهة المتغطرسة، واشكر من حرك‏الريح على مثوى الكلمة وجعلها تنمو مثل السنبلة. القمح لمن يأتي معي والدمع لمن يبقى).‏إبراهام ذاته ارتعب من ذلك الخطاب الخطير ولكنه عاد وشعر بسعادة. لقد حقق في نقطة‏واحدة ما لم يحققه مع الملايين الهائلة على وجه الأرض. نهض وغادر ظله الأبدي ليتأمل في‏الرمل وهج الكلمات الرافضة.‏قال المدون: الوقت في دلمون تتداخل فيه الأضواء، والليل والنهار لا يتعاقبان. إنهما‏متداخلان في زمن واحد، ولكي ترى في الليل لن تشعل شمعة، ولكي تنام في الظهيرة لا‏تطفئ مصباحاً. إنك ترى دائماً، وها هو إبراهيم يعطي ظهره للآلهة، يمد سلما خشبياً من أول‏حرف دوّنه الطفل على الرمل ويبدأ بالنزول مفردة.. ومفردة.. وإلى أن يصل إلى آخر‏الخطاب يكون قد ودع دلمون نهائياً ونزل الأرض.‏الركام الفخاري للزقورة الشاهقة.‏"لقد منحت أور الملوكية لكنها لم تمنح حكماً أزلياً.. فمنذ قديم الزمان- منذ أن وجدت‏الأرض وحتى تكاثر الناس- من رأى قط ملوكية دامت في الحكم إلى الأبد؟"‏ابتسمت الآلهة، وتشفت بالنبي الذي ترك الفردوس وعاد إلى مدينته ليجدها محترقة، وقال‏آنو: هذا درس لإبراهيم.‏قالت: عشتار الطفل هنا لنلقنه درساً أيضاً، نعيده إلى أور.‏قال: آنو وهو لم يولد في أرض حتى يعاد إليها وفي ذلك مصيبة. خذوا هذا الخنجر‏واجتمعوا سوية واغرزوه في صدره الصغير. إبراهيم بكى على صغيره، وندم على نزوله،‏لكن صوتاً ما.. هتف. قال المدون: وهو صوت ملاك خارج من طاعة الآلهة.‏-لقد أخطأت وتركت دلمون.. لتجد مدينة محترقة وتترك ولدك تحت رحمة المؤامرة. هم‏يتقدمون الآن صوبه.‏كانت خطا أقدامهم الهائلة تسمع في أرجاء الأرض كلها. ظن البعض أن زلزالاً هائلاً‏ضرب الأرض، لكن الصورة انكشفت لهم من سقف سماء واسعة بدت مثل أكبر شاشات‏العرض السينمائي. وبدون لمسات إخراجية متقنة تقدم الممثلون لينفذوا مشهد قتل ولد إبراهيم‏وعندما دنا الخنجر من صدره، شملته العناية الإلهية فتحول الجميع إلى حجر.‏ابتسم إبراهيم وصلى ركعتين لنجاة ولده مرة أخرى وعاد يصعد سلم الزقورة ليتطلع إلى أور‏المحترقة ويفكر ببنائها من جديد.‏



#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجندي الأيطالي والمتحف السومري
- تكاليف دفن الشاعر السومري
- جدلية الحلم في قلب الكاهن المندائي
- عقيل علي..موت ثمرة الفراولة
- أيروتيكا قيروانية ..خيمياء سومرية
- هل هبط أهل سومر من المريخ؟؟؟؟
- صبر أيوب عولمة من الألم ..أم ألم من العولمة؟
- للقلب دموع وللبصل ايضا
- امراة تتحدث مع وردة
- الذكورة والأنوثة بين الثقافة التقليدية والعولمة ...رؤى مؤسطر ...
- معزوفة ليل تحت جفن أمراة
- أتحاد أدباء العراق الصامت كحجر
- حمامة بيكاسو وحمامة كاظم ابو زواغي
- الحرب وأجنحة الفراشات ..فصل من مذكرات العريف كاستون باشلار
- عقيل علي طائر لن يتوارى وآدم باق في جنائنه
- مارواه الطبري عن العشق السومري
- ماركيز يكتب عن شاكيرا وأنا أكتب عن ماركيز وشاكيرا
- الأصول الأرضية والسماوية للطائفة المندائية
- الحرب بين تهديم الذاكرة وبناءها
- البيت المندائي أشعل قلب الوردة بالحب


المزيد.....




- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم عبد مهلهل - قيامة إبراهيم