رزنامة غير مرتبة .. لحملة مبادرة نفير

مزمل الباقر

الحوار المتمدن-العدد: 4212 - 2013 / 9 / 11 - 14:08
المحور: المجتمع المدني
    

رزنامة غير مرتبة .. لحملة مبادرة نفير



-" انتو من الحلة هنا؟ " سؤال لبائع في خريف العمر يبيع الخضروات بسوق المربع الثالث
-" لا نحنا ما من هنا ! " جاوبه احدي متطوعي نفير الذي كان يحمل بقفاذيه بعضاً من الأوساخ ليودعها في كيس القمامة.
-" طيب انتو من المنطقة دي؟" بائع الخضروات يعاود استفساره.
-" نحنا ما من هنا ياعمو !.. نحنا شباب اتطوعنا برانا عشان ننطف معاكم" جواب احدى المتطوعات بعد ان توقفت عن النظافة لتوضيح ما التبس على بائع الخضروات الذي دعى لنا بالخير والبركة وانصرف إلى عمله. وانصرفنا لعملنا التطوعي في يومنا
الصحي بمنطقة دار السلام بامدرمان.


نهار الأثنين 19 أغسطس 2013م:

في الطريق إلى إحدى المناطق التي تضررت بالسيول والأمطار اجتمع قائد مجموعة العمل بأفراد مجموعته وأوصى وصيته الأخيرة بأن: ( لا تلقي بالمعونة من فوق العربة للأرض حتى لا يضطر المتضرر لأن ينحني لأخذها حتى لا تنال من كرامته دون قصد، ولكن سلمها يد بيد .. وإذا أشار لك شخص ما انه يحتاج لكيس مواد تموينية آخر فلا تترد في تسليمه فهو أدرى منك بحوجته).


عصر الاثنين19 أغسطس 2013م:

بقية المتطوعات والمتطوعين من الذين لم يتمكنوا من مرافقة عربتي العمل الميداني ينتقلون للمركز الثاني لنفير بشارع 29 بحي العمارات الخرطومي. هناك كانت مهمة فرز الملابس على حسب حالتها ( حيث ان الملابس المهترئة تستبعد) ومن ثم تصنف على حسب نوعها: ملابس اطفال، ملابس نسائية، ملابس رجالية، والجمع بين القميص والبنطال المناسب في الشكل واللون قبل ان توضع في أكياس اصغر لترتب على حسب نوعها وتوضع في صناديق فلينية عظيمة الشكل، كتب عليها باللون الأحمر أو الأزرق: اطفال، نساء، رجال.. تلك الملابس التي جاءت كتبرعات من بيوت سودانية أو التي جاءتنا من ذات البيوت عبر منظمات تطوعية شاركتنا هذا الهم مثل منظمة (صدقات) مثلاً. اثناء عملية الفرز كان بينا اطفال في مرحلة الأساس تطوعوا كما تطوعنا ولكنهم يعملون بهمة ونشاط تجاوز سقف توقعاتنا. بعد حوالي ساعتين من الفرز، أشار علينا المتطوع تاج السر، المسئول عن مقر نفير بشارع 29 أن توقف قليلاً لننضم لأستاذة ماجدة عثمان المحامي بإحدى الحجرات المجاورة لننهل من تجربتها في العمل التطوعي وتعلمنا كيفية تقديم المساعدة للمتضررين وكيفية التعامل مع الكوارث وماهية التطوع نفسه. عندما فرغنا من التدريب وعدنا لنكمل ما بدأنا فوجئنا بفريق عمل آخر من المتطوعات والمتطوعين قد ملأ الصالة وشرع في عملية الفرز في همةٍ ونشاطٍ ملحوظين.


الثلاثاء 20 أغسطس 2013م:

دخل مقر نفير، وارتقى السلم حتى جآءنا، كان قسم البلاغات منشغل بتلقي مهاتفات المتضررين لتحديد المنطقة ومن ثم مسحها قبل أن ترسل لها المعونات محمولة عن سواعد المتطوعات والمتطوعين. وكنت منشغلاً مع اللجنة الإعلامية في رصد ما كتبته صحف الخرطوم عن السيول والامطاربصورة عامة وما كتب عن نفير بصورة خاصة.
دخل علينا وهو يرتدي قميصاً اصفر اللون وبنطالاً ازرق من الجينز التركي، وقد جعل قميصه داخل بنطاله وعلى كتفه حقيبة سوداء لامعة. حيانا بتحية الإسلام عرفنا بنفسه ثم ابدى إعجابه بما تقوم به نفير ثم ادخل يده في جيب توسط حقيبته الجلدية وأخرج مجموعة قصصية تحمل عنوان: (آلام ظهر حادة) وأكمل حديثه متأثراً: ((يا جماعة معليش دي آخر نسخة عندي من مجموعتي دي، ما عندي حاجة اشارك بيها معاكم غيرا، اخدوها مني هدية وبيعوها والقروش البتجيبا دخلوها في دعم المتضررين)).
وقبل أن نفيق من دهشتنا تلك.. قبل أن تعود افواهنا إلى سيرتها الأولى، قبل أن ينجح المتطوعون في اخفاء اعينهم الدامعة وقبل ان تنكس المتطوعات رؤوسهن حتى تسيح ادمعهن بعيداً عن اعين الناظرين. أعاد يمناه مرة أخرى لحقيبته ولكن هذه المرة لجيبٍ آخر خارجي، واخرج قلم ازرق فاخر، تشي سن قلمه الرقيقة بأنه قلم للخط وليس للكتابة. فتح الصفحة الأولى من الكتاب بعد الغلاف المجلد مباشرة وكتب:

" إهداء
إلى نفير
أسعدكم الله، كما
اسعدتم أطفال ، ونساء
وبلاد حزينة ..

محبتي
أخوكم أبداً
عبد الغني كرم الله "

وزيل الإهداء بالتاريخ اعلاه وبرقم هاتفه الشخصي.


صباح الأربعاء 21 اغسطس 2013م :

بداخل اروقة مقر منظمة جسر الذي تستضيف فيه حملة مبادرة نفير تصادفك نسخة معلقة لمقال بصحيفة "المواطن" التي تصدر باللغة الإنجليزية والمقال للصحفية: حد الزين محمد الفاتح والذي سمته : ( تقديراً لنفير). وآخر باللغة الإنجليزية أيضاً للمدونة: مزن النيل ، والذي عنونته ب(نفير) كما تجد ملصقات مكتوبة بالخط الحر على ورقة بيضاء بحجم (A4) توضح في كلمات بسيطة الحوجة الآنية للجان العمل الميداني مثل: ( مطلوب مصور فيديو) ودائماً ما تكون هذا الملصقات مزيلة باسم ورقم تلفون المنسق/ة للعمل.
من بين تلك الملصقات كان هنالك ملصق منزوي على سور البلوكة، فتوجهت نحوه وقرأته عيناي:

" عزيزي المتطوع/ة
وقوفك بالقرب من السور يزعج الأسر المجاورة
وشكراً لتفهمك " ...

عندما قرأت هذه الكلمات طاف بذهني مقولة متداولة تقول بأن: حريتنا تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين.


نهار الخميس 26 اغسطس 2013م:

توقف عربة كبيرة ( لوري) بمقر حملة مبادرة نفير وترجل منه شخصين بالزي التقليدي لأواسط السودان (الجلباب) معتمرين طاقيتين تتوسط رأسيهما في رابعة النهار وكان نهاراً غائط الحر كنهارات الخرطوم في فصل الصيف يعلن تواجده كضيف ثقيل الظل غير مرغوب فيه.
لم تمضي دقائق من وصول اللوري حتى تشكل جسر من المتطوعات والمتطوعين لنقل المعونات من مخزن نفير للعربة الكبيرة ( اللوري) وبعد ان اكتمل عقد المعونات ( 200 كيس يحوي مواد تموينية وما يزيد عن المئة من الناموسيات المشبعة ومثلها من المشمعات) احكم مساعد السائق من اغلاق مؤخرة اللوري. وتسلق عدد من متطوعي نفير ظهر العربة الكبيرة التي علا صوت محركها وعبأ دخان عادمها مساحة لا بأس بها.
أما فيما يتعلق بوجهة هذه المعونات فقد كانت إحدى قرى ولاية النيل الأبيض والتي هي من أعمال مدينة الدويم، أمافيما يعتلق بالمسافة فإن الديوم تبعد عن الخرطوم العاصمة حوالي ( 190 كيلومتراً أي 118 ميلاً) وكالعادة رافق العربة عدد من المتطوعين حتى يشكل جسراً جديداً عن وصولهم من الاخاء والحميمة مع اهلنا في تلك المنطقة ليشكلوا ممراً آمنا وسط كل هذا الخضم من الأضرار التي احدثتها الطبيعة في تلك المناطق .. ممراً آمنا ينقل لهم هذه المعونات دون منٍ ولا أذى ودون شعارات براقة تذهب ادراج الرياح.


نهار الثلاثاء 27اغسطس 2013م:

عاد شباب حملة مبادرة نفير مرة أخرى لقرية ام حراز والتي هي من اعمال مدينة جبل أولياء، (يبعد خزان جبل أولياء عن الخرطوم حوالي 44 كيلو جنوب العاصمة الخرطوم) ، وسبب هذه الزيارة ان فيضان النيل الأبيض اقتلع في طريقة المتاريس التي شيدها متطوعات ومتطوعو نفير في منتصف شهر أغسطس الماضي .. فلذلك جاءوا لإصلاح المتاريس مرة أخرى وبعد ان اكتملت عملية المعالجة عادوا أدراجهم لمقر نفير كانت عقارب الساعة تقترب كثيراً من الساعة الثالثة صباحاً.


أمسية الخميس 5 سبتمبر 2013م:

بمقر نفير جلس الفنان علي السقيد ويمناه تداعب اوتار عوده وعلى يساره جلس الشاعر مدني النخلي، ليسمعنا الفنان تسجيلاً بصوته لأغنية كتبها الشاعر ومن تلحينه وغنائه هي اغنية لنفير، قبل أن يكمل السهرة مردداً عدداً من أغانيه المسموعة ويجود علينا الشاعر بقراءة لقصيدة أخرى كتبها في نفير، ويتلو على مسامعنا – بناءاً على طلبي- كلمات قصيدته: علمي عيوني السفر، التي لحنها وتغنى بها الفنان الخالد: مصطفى سيد أحمد، اسمعنا القصيدة بعد أن اوضح انه لن يذكرها كاملة لأن مصطفى سيد أحمد أكمل القصيدة بمقطعين ليغير مسارها – كما ذكر لي بعد نهاية الأمس في حديث منفرد – ليغير الفنان الراحل المقيم مسارها من أغنية عاطفية كتبها الشاعر مدني النخلي في محبوبة له عاش معها قصة حب في ثمانينيات القرن الماضي ليجعلها الفنان مصطفى سيد أحمد ذات بعدٍ سياسي بعد أن الحق بها تلك الكلمات: ( الأسى اللازمني مدة، يوم يفوت والفرحة تبدأ، ما بقول فارقني عدى .. إلخ .. الخ).
بتلك الأغنية النفيرية ( إن جاز لي التعبير) يلحق الفنان علي السقيد بالفنانين الذين تغنوا لنفير مثل الفنان: الجيلاني الواثق وينضم الشاعر مدني النخلي للشعراء الذي الهمتهم تجربة حملة مبادرة نفير فعبروا عن اعجابهم شعراً مثل ما كتبه شاعر الشعب محجوب شريف أو الشاعر محمد طه القدال ووجدته معلقاً على الحائط الفيسبوكي ( إن جاز لي التعبير) للصديق المتطوع محمد حمد.


صباح الجمعة 6 سبتمبر 2013م:

تحرك موكب حملة مبادرة نفير وهو متخم بمتطوعيه من الجنسين في طريقه لمنطقة دار السلام وبالتحديد مربعي ثلاثة وأربعة . هي منطقة في اطراف اطراف محافظة امبده بمدينة امدرمان تقع إلى الغرب من ( سوق ليبيا ) الشهير أما من جهة الشمال الجغرافي فإن جبال كرري ( التي سميت على موقعة كرري التي دارت بشمال مدينة امدرمان بين قوات الإمام المهدي والقوات الغازية للاستعمار الثنائي: البريطاني المصري)تشكل خلفية طبيعية لمنطقة دار السلام بمربعاتها .
وصلنا للمنطقة قبل ان ينتصف النهار وكما يحدث دائماً تشكل جسر من الأيدي الشابة لتنقل الأدوية والأمصال والمعدات الطبية من عربات النقل لداخل مبنى إحدى مدارس بالمربع الرابع لمنطقة دا السلام لتصبح فصول المدرسة ومكتب المدير ومكاتب المدرسات والمدرسين مركزاً صحياً علاجياً يقدم فيه الدواء والكشف الطبي مجاناً خلال هذا اليوم الصحي.
هناك بقي متطوعو نفير من الحقل الصحي ( أطباء، صيادلة، مختبرات، إلخ إلخ). بينما توزع بقية متطوعي نفير في شكل فرق عمل، على سوق المربع الثالث وشرعت في اصحاح بيئي مكثف وكما حدث في اليوم الصحي بأمبدة مربع 34 ( جبرونا) تعاون معانا اصحاب الجزارات وسيدات يبعن الخضر بالسوق ثم انضم إلينا مصطفى تلميذ مرحلة الأساس بقامته القصيرة وتحمسه للعمل ولم يفارقنا حتى مالت الشمس، وفرغنا من حملة الاصحاح البيئي بمنطقة السوق ومن ردم بركة ماء توسطت مدخل المربع، قبل ان يودعنا وموكبنا يعود ادراجه ليلتئم مع فريق عمل التثقيف الصحي الذي قصد عدداً من المنازل وفريق العمل الطبي الذي أمضى سحابة نهاره في مداواة المرضى وتقديم الأرشادات الطبية لهم.
في طريق العودة من امدرمان للخرطوم كما جرت العادة شرعنا في غناء الأغاني السودانية ذائعة الصيت التي يحفظها معظمنا وكلما مررنا بدوران أو سوق، نغني المقطع الذي وردت به كلمة نفير، من أغنية: بلاد النور التي لحنها الموسيقار عثمان النور، وغنتها الفنانة المعتزلة: حنان النيل، وكتب كلماتها المسرحي والشاعر: عماد الدين ابراهيم ( عذراً للخطأ غيرالمقصود الذي ورد في مقالي السابق عن نفير باسم الشاعر)

" صبرك لو طال ما باقي كتير.. يا بلادي
وجعتنا البيك تبقالنا نفير .. يا بلادي
من ذاتك ناخد الوفاء ونشيل
من ذات ناخد الوفاء
والشمس هدفنا وماها بعيد
يا بلاد النور، يا راس الخير
لابد يوم باكر .. يبقى أخير "

أو نردد النشيد بكل ما اوتيت حناجرنا من قوة:

" يلاك معانا نفير
نمشي ونقول تعمير
ونميد ليد الخير
وكمان نساعد الغير "

وبعد ...

رغم ان تجربة حملة مبادرة نفير لم تنتهي حيث لا زالت معالجة الأثار الجانبية للسيول والفيضانات بعمل أيام صحية في المناطق الطرفية من ولاية الخرطوم تجري على قدمٍ وساق.. كما ان فصل الخريف بالسودان يفصله عن فصل الشتاء قرابة الشهر او يزيد، ولا زالت بلد النهر العظيم تعاني من غضبه المتزايد وهو يكتسح في طريقه البيوت والاثاثات والناس والأنعام.
غير انني اود ان اوثق لبعض المشاهدات كشاهد يدلي بشهادته للتاريخ. فمن حق متطوعي نفير من الجنسين ان يفخروا بما انجزوا وما سينجزوا من مهام. ومن حق نفر من مواطني تلك المناطق المتضررة والذين شاركوا متطوعي نفير مشاركة فعلية وملموسة اثناء العمل الميداني ان يفخروا بما قاموا.
ومن حق الشعب السوداني ان يفخر بأبنائه وبناته الذين جاءت حملتهم لأخوانهم وأخواتهم المتأثرين بالسيول والفيضانات لهذا الخريف، اولئك الذين اجتمعوا في مقر حملة مبادرة نفير بشارع 37 بحي العمارات الخرطومي واجتمعوا على النفير بغض النظر عن خلفياتهم الاثنية والعرقية والسياسية وربما المذهبية التي تفرق الشعب السوداني، فكانت هذه المبادرة هي (نفير: حملة الناس للناس) وكانت هذه اليوميات التي انتزعتها من رزمانة العمل الميداني لحملة مبادرة نفير بصورة عشوائية فهي اوراق غير مرتبة زمنياً ولكنها ترتيب انسانياً ( إن جاز لي التعبير).



مزمل الباقر
الخرطوم بحري في 7 سبتمبر 2013م

#مزمل_الباقر (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات