أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يوسف محسن - اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال الرمزي او الهيمنة على تأويل الخطاب (حوارات في جهود المفكر الديني الاصلاحي يحيى محمد الفلسفية والمنهاجية ) 16















المزيد.....


اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال الرمزي او الهيمنة على تأويل الخطاب (حوارات في جهود المفكر الديني الاصلاحي يحيى محمد الفلسفية والمنهاجية ) 16


يوسف محسن

الحوار المتمدن-العدد: 4212 - 2013 / 9 / 11 - 10:41
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


اثريات
نقض احتكار الراسمال الرمزي او الهيمنة على تأويل الخطاب
(حوارات في جهود المفكر الديني الاصلاحي يحيى محمد الفلسفية والمنهاجية )


جدلية الخطاب والواقع (النظام الواقعي وفهم الإسلام)
16

يعد كتاب جدلية الخطاب والواقع الحلقة الاولى من مشروع (النظام الواقعي وفهم الإسلام) ، الكتاب يقوم اساسا على التنظير لنظام جديد من التفكير المنهجي في قبال ما تعارف من نُظم الفكر الإسلامي التي أثبت ‹‹الواقع›› خللها، وهي عبارة عن نظامين معرفيين أساسيين سبق أن أطلقنا عليهما النظام الوجودي (الفلسفة والتصوف) والنظام المعياري (كما في علوم المتشرعة من الفقه والكلام وغيرهما).
يرى يحيى محمد: ان الخطوة الاولى في هذا المسار تصحح الخطوات التي أقبل عليها سلفنا من قبل، وذلك بتسليط الضوء على الطابع المنهجي الذي امتازت به طريقتهم وتحديد نقاط الضعف فيها ومن ثم العمل على بناء الطريقة المناسبة التي تتفق مع مقتضيات كل من الخطاب الديني والواقع. فاتفاقها مع مقتضى الخطاب يجعلها تتمسك بطابعها الإسلامي، كما أن إتساقها مع الواقع يجنبها نكران حقائق الخلق والتكوين. والعملية ليست جمعاً بين ما يعرف اليوم بالتراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة. فالخطاب الديني ليس من التراث، بل من أبرز مكوناته. كما أن الواقع لا يمكن حصره وتضييقه بمجرد (الحداثة) والمعاصرة، بل أن هذه المفاهيم لا تخلو من المضامين الآيديولوجية. ‬-;-فالعصرنة والمعاصرة والتحديث والحداثة والأصالة والتراث كلها اصطلاحات تستبطن مفاهيم جديدة‮-;- ‹‹معصرنة››‮-;- ‬-;-ظهرت حديثاً لارتباطها بعصر ما‮-;- ‬-;-يسمى بالنهضة الحديثة وما لابسها من احتكاك واصطدام بالواقع الغربي‮-;-. وهي عادة ما تقف حائلاً دون التقويم العلمي للمعرفة، وهو التقويم الذي يفترض فيه تجنب الانزلاق والرضوخ سلفاً للمصالح الذاتية والزمنية، كتلك التي تقوم على منطق المنفعة العصرية. فالأمر لا يحسم إلا من خلال النظر إلى الواقع في جميع أبعاده وتشكيلاته، بما في ذلك الواقع الإستشرافي الخاص بما لم يتم تحققه بعد.

البناء المنهاجي
يحيى محمد يبين دور الواقع في فهم القضايا الإسلامية على نحوين مختلفين؛ يتمثل أحدهما بالحقيقة الموضوعية الدالة على أن لتحولات الواقع وتجدداته تأثيراً كبيراً على تغيرات فهم النص الديني، وهو أمر لا يستند إلى منهج محدد، بإعتباره يمثل حقيقة خارجة عن الإرادة التصورية لذهن الباحث، وقد عده من السنن الموضوعية. أما الدور الآخر فيتمثل بتوظيف حركة الواقع ومضامينه باتجاه فهم النص، ومن ذلك الأخذ بعين الإعتبار العلاقة التي تشدّهما ببعض منذ أن إلتقيا في عصر الرسالة أو تنزيل الخطاب الديني. وعليه فهذا الدور يستند إلى منهج محدد يقوم على الرصد والوعي والمتابعة.
والغرض من هذا البحث هو إعادة ترتيب العلاقة بين النص والواقع وسوقها في الطريق السليم، وذلك بقلب التصور التقليدي الذي يجعل من ‹‹النص›› أصلاً يُلجأ إليه لمعرفة الواقع وحل معضلاته، إلى تصور آخر مضاد يكون فيه الواقع مرجعاً يُحتكم إليه في فهم النص وحل إشكالياته. ولعل هذين التصورين المتغايرين يعبّر كل منهما بطريقته الخاصة عن شكل الأزمة وطريقة علاجها. إذ تتمثل الأزمة بحسب التصور الأول بالواقع دون أن يكون للنص فيها دور أو دخالة، على عكس التصور الآخر الذي يذهب إلى أنها محددة - من حيث الأساس - بفهم النص ومن ثم أفضت إلى أزمة واقعية

هيكلية الكتاب
يحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام لكل منها عدد من الفصول. القسم الأول ممهد لما بعده، في الفصل الاول ثلاث مقدمات تأسيسية هي بمثابة العمود الفقري ، الإتجاهات الحديثة وتوظيف الواقع ، النص.. الواقع.. العقل ، بين التفكيرالماهوي والوقائعي ويتضمن القسم الثالث الفصلين ، البعد الحضاري وفهم النص والتعارضات الإطلاقية وفهم النص اما القسم الاخير يحتوى على الفصول الأربعة ، النسخ في الخطاب ، التشريع الديني ومغايراته ، التغيير الفقهي وأنماطه ، إشكالية تغيير الأحكام
يقول يحيى محمد : سنتناول في هذا الكتاب علاقة الواقع بالنص أو الخطاب الديني عبر محاور أساسية متعددة. فقد تتخذ هذه العلاقة نوعاً من السنن الموضوعية، كما قد تتخذ شكل القواعد الإجرائية التي نتبناها ضمن النظام الواقعي للتطبيق. فالمحاور التي سنتحدث عنها، بعضها يندرج ضمن السنن الموضوعية، كما في المحورين الأولين، وبعضها الآخر يندرج ضمن القواعد الإجرائية المتخذة للتطبيق ، كما هو الحال مع بقية المحاور، كالتالي:
الأول: إبراز أن للواقع تأثيراً هاماً على فهم النص والخطاب الديني. صحيح أنه في القبال يكون للنص تأثير على فهم الواقع، لكن الدور المناط بالأخير كبير مقارنة مع النص، إلى درجة يمكن تقرير أنه كلما تغيّر الواقع وزادت تطوراته، كلما أثّر ذلك على تغيّر فهم النص. وبالتالي يصبح فهم النص مناطاً بالتغيرات والتحولات الحاصلة في الواقع. أما تغيّر فهم الأخير فهو ليس مناطاً بتغير فهمنا للأول. فالعلاقة التغيرية بينهما كعلاقة التغير بين السبب والمسبب، فكلما تغيّر السبب تغيّر المسبب دون عكس.
الثاني: إيضاح أن للواقع علاقة جدلية مع الخطاب الديني أو النص، فلكل منهما أثره على الآخر. وإذا كان من المعلوم تأثير الخطاب على الواقع الخاص بالتنزيل، كقلب واقع الكفر والشرك إلى الإيمان، وتحويل واقع الدعوة في مكة المكرمة إلى دولة إسلامية في المدينة، وغير ذلك من الوقائع التي أثّر فيها الخطاب الديني على الواقع، ومثلها تأثير النص المدوّن على الأخير إلى يومنا هذا، إلا أن ما لم يبيّن بشكل واضح هو تأثير الواقع على الخطاب وأحكام النص، وهو ما سنوليه أهمية خاصة؛ إلى حد جعلنا نهمل التأثير الأول لكونه معروفاً لا يحتاج إلى تأكيد.
الثالث: إن هذه الجدلية لا تتنافى مع ما سنقرره من حاكمية الواقع على النص. فمثلما هناك جدلية بين الطرفين، فهناك حاكمية لأحدهما على الآخر، وأبرز تجلياتها عندما يتولد بينهما بعض أنواع التعارض، حيث يرجح الواقع على النص عندما يكون متن الأخير أو ظاهره في معارضة صريحة مع حقائق الواقع الموضوعية.
الرابع: لا تشمل الحاكمية أو الترجيح المشار اليهما في الفقرة السابقة – بإطلاق - حالة التعارض القائمة بين حكم النص وإعتبارات الواقع القيمية من المصالح والمفاسد. إذ لا يحق العمل بمثل هذه الحاكمية ما لم تتقيد بضوابط محددة، وهي أن تكون إعتبارات الواقع القيمية خاضعة لحاكمية المقاصد الكلية والموجهات الفطرية العامة. بمعنى أن من الجائز أن تكون الحاكمية لمصالح الواقع وترجيحها على حكم النص طالما دلّت على هذه المقاصد. فالتعارض الحقيقي قائم – هنا – بين المقاصد وحكم النص، وبذلك تكون الحاكمية بعيدة عن تبرير الواقع الفاسد. لذلك من الجائز أيضاً أن تكون الحاكمية للنص على الواقع، عندما يتفق حكم النص مع المقاصد. وبالتالي فالعبرة بالمقاصد ذاتها، وليس للواقع أو النص حاكمية على الآخر بإطلاق، بل أن ذلك مقيد بمصالح الواقع ومفاسده، فعند المصالح تترجح كفة الواقع، أما عند المفاسد فالمعالجة تخضع إلى ما يتطلبه العمل بالمقاصد لأجل إصلاح هذا الواقع، سواء كان الإعتماد في ذلك على حكم النص، أو على صيغة أخرى تتسق مع المقاصد.وبلحاظ كل من المحور الأول الخاص بتأثير تغيّر الواقع على فهم النص، ومحور جدلية الخطاب مع الواقع، وإعتبارات العمل بالمقاصد، فإنه يمكن إستنتاج بعض القواعد المهمة لعلاقة الواقع بأحكام النص. وما نستخلصه من المحاور السابقة، هو أن للواقع أدواراً متعددة في العلاقة مع النص والخطاب الديني. فهو يؤثر في تغيير فهم النص. كما له علاقة جدلية مع النص والخطاب الديني، فقد تأثرت أحكام الأخير به منذ لحظة التنزيل القرآني وحتى يومنا هذا، وبشكل أدق أن كلاً منهما قد مارس التأثير على الآخر طوال هذه المدة، والمستقبل أمامهما مفتوح. كما أن للواقع حاكمية على النص عند تعارض دلالاتهما الإخبارية أو الخاصة بالحقائق الكونية والموضوعية عموماً. يضاف إلى أن للواقع القيمي المتعلق بالمصالح والمفاسد حاكميته على النص، شرط أن تكون الحاكمية منضبطة بضوابط المقاصد العامة دون إتخاذ صورة تبرير الواقع الفاسد. وأخيراً فإن للواقع الفضل في الكشف عن حجية النص وإثبات المسألة الدينية برمتها، لا العكس، بمعنى أنه لولا الواقع لتعذّر معرفة كونه حجة، ولتعذّر الإلزام بأحكامه، كما سنعرف.

مشاريع متعددة
يبين يحيى محمد : في العالم الاسلامي هناك ثلاثة عناوين كثيراً ما ترفع بين الحين والآخر من قبل العلماء والمثقفين الإسلاميين وهم بصدد البحث حول الفكر الإسلامي. والعناوين تتقاطع في نقاط معينة من مدلولاتها. فالإحياء يبحث عن المساحة المعرفية المغمورة من تراثنا الفكري ليعيد إظهارها من جديد. فهو يبحث عما هو موجود ليستخلصه من وسط الركام، دون أن يضيف إليه شيئاً جديداً معتداً به. اما التجديد فيبحث عما هو جديد ليلبّس به الفكر الإسلامي دون أن يكتفي بإخراج المغمور من المعرفة المطلوبة وسط الركام كما يفعل الإحياء، وإنما يضيف إلى ذلك محاولات التوفيق ليفسّر بها القضايا المستحدثة دون أن يغير شيئاً من صيغة الجهاز المعرفي المتوارث عن السلف. فهو بالتالي يطمح لإظهار اللياقة الفكرية لتناسب العصر وما يترتب عليها من إبراز الحلل الجديدة. هذا إذا ما استثنينا النزعات التي ترفع شعار التجديد وقصدها العلمنة أو التغريب.
في حين أن الإصلاح أمر مختلف. إذ يفترض وجود خطأ أساس في الفكر الإسلامي (التقليدي) لا بد من تسليط الضوء عليه لكشفه ومعالجته، أو العمل على إصلاحه عبر ذات الأداة الإسلامية، فيفترق بذلك عن الإحياء والتجديد. وبالتالي فهو لا يخرج عن دائرة ما يبحث فيه، رغم كونه بديلاً عن غيره، طالما أن آليات الفكر الإسلامي هي آليات إجتهادية غرضها بالدرجة الرئيسة فهم النص أو الإنشغال بفهمه.
يحيى محمد يقدم مشروعه ضمن المشاريع التي تدعو الى الاصلاح ، حيث يبين طبيعة المعادلة التي تدفعه بهذا الاتجاه عبر العملية المنطقية التالية:
إما أن الفكر الإسلامي التقليدي صحيح منهجياً أو لا؟..لكن إنْ كان صحيحاً فلا أقلّ من أن تكون أجهزته التوليدية وممارساته المعرفية متفقة مع الواقع ومتسقة معه. وحيث أنها ليست على إتفاق وإتساق مع الواقع، لذا لا بد من أن تشتمل على خطأ جذري يصيب قلب لحمتها المنهجية.
تمايز النظام الواقعي
وأهم ما يميز النظام الواقعي كما يقول يحيى محمد عن النظامين الوجودي والمعياري، هو أن هذين النظامين قائمان على دعاوى خاصة غير مشتركة، فهي دعاوى تحتاج في حد ذاتها إلى تحقيق؛ إن كانت تُقبل أو لا تُقبل؟ ولمّا كانت هذه الدعاوى مؤسسة على قضايا قبلية دون أن يكون لها مساس بالعقل البعدي؛ لذا كان التحقيق فيها إما غير ممكن لتجردها عن الواقع، أو أنها رهينة التحقيق الواقعي، وهو المعيار الذي يستند إليه النظام الواقعي. فالتمييز بين هذا النظام وغيره هو أنه يعتمد على العقل البعدي، ويتقوم بالقبليات المشتركة التي يقرّها الوجدان الفطري، ومن ذلك ما يتعلق بمنطق الإستقراء والإحتمال ، الأمر الذي يجعله قابلاً للتجديد والتطوير والإثراء؛ لإتكائه على الواقع الثري بالمعاني.وبحسب هذا النظام فإن علاقة الواقع بفهم النص تتخذ إعتبارات متعددة كالتالي:
فإبتداءاً أننا نعي بأن للواقع أثره الحاسم في تغيير آرائنا وتوجهاتنا على مختلف الصُعد المعرفية؛ بما فيها العلوم الإسلامية وعلى رأسها علم الفقه. فحركة الواقع أشبه بكتاب تتفتح صفحاته لتظهر الحقائق بالتدريج شيئاً فشيئاً. لذلك يمكن الإستفادة من هذه الظاهرة المتفتحة بتحويل الواقع إلى منطق عام يوظف لكسب المزيد من المعرفة وتقييم صور فهم النص المختلفة. فنحن نواجه – في هذه الحالة - صورتين مختلفتين لعلاقة الواقع بفهم النص. إذ نعمل بحسب الصورة الأولى على مراقبة جريان الواقع وعلاقته بالنص وفهمه، دون أن يكون لنا دور في هذه العلاقة الخارجية، وسواء كنّا على وعي أو على غير وعي بذلك؛ فإن للواقع حكمه وسلطته في رسم العلاقة التي يؤثر فيها على فهم النص، فهي سلطة قوية وإن بدت خافية على أصحاب الفهم المنشدين إليها عفوياً. وهي من السنن الموضوعية، ويمكن تحديدها كالتالي: كلما تغيّر الواقع؛ كلما أدى ذلك إلى تغيّر الفهم معه بإضطراد. وعلى هذه الوتيرة كلما اشتد تغيّر الأول كلما أفضى ذلك إلى زيادة تغيّر الثاني بالتبع . أكثر من هذا نقول بأن المفاهيم الأولية للذهن البشري لما كانت تُنتزع عن الواقع، وأن النص من حيث الأساس يستعين بلغة الواقع دون التعالي عليه، وإلا كان رموزاً بلا معنى محصل، فستكون النتيجة في النهاية بأن فهم النص لا يمكن أن يتقدم على فهم الواقع، بل سيصبح الأول مستبطناً للفهم الأخير. وهذا يعني أن جميع الدوائر المعرفية للفهم ستكون مسبوقة بالقبليات المتعلقة بإدراك الواقع ومفاهيمه. فإدراك الواقع هو ما يتيح لنا الفهم حتى وإن لم نتعقله، فنفهم ونفكّر به وإن لم نفكّر فيه. وحتى الدائرة البيانية لا يسعها فعل شيء من غير التسلح بمفاهيم هذا الواقع إبتداء، كالذي يُطلق عليه الفهم العرفي للنص والذي تعوّل عليه هذه الدائرة كأصل مولّد للفهم، حيث تتخذ منه إطاراً كلياً ومنطقاً عاماً لتسقطه على مختلف الأحوال والظروف ضمن ما أسميناه المنطق الماهوي للفهم، من دون مراعاة ما يحمله ‹‹الواقع الآخر›› الذي يوازي الواقع الخاص بالتنزيل.
وبعبارة أخرى، إن النظام الواقعي لا يلغي خصوصية ما يقوم به المنهج البياني، بل يضيف إليه ما لم يأخذه بعين الإعتبار. والحق أنه يحوّل الدلالة النصية الظاهرة من دلالة مفصلة الى دلالة مجملة تحتاج إلى عناصر أخرى كاشفة وعلى رأسها الواقع. فالبيان الذي تتحدث عنه الدائرة البيانية هو بيان مفصل، في حين أنه لدى النظام الواقعي بيان مجمل يحتاج إلى ما يحوله إلى تفصيل.
أما بحسب الصورة الثانية فنحن نعمل على انتزاع بعض المبادئ من الواقع، أثر استكشافنا للنتائج المتمخضة عن صيرورته المشار إليها في الحالة الأولى، وبذلك يُحوّل ما هو موضوعي إلى حالة معرفية يقصد منها - إبتداءاً - تقييم الأمور وتحقيقها، ومن ثم استخلاص بعض المبادئ التي تساعد على ضبط العلاقة بين الواقع والنص، بغية تحقيق ما نطمح إليه من مقاصد وأهداف.

الواقع والكشف المعرفي
ومن الناحية المبدئية يتقدم الواقع على غيره من مصادر الكشف المعرفي، ويتميز بكونه يساعد على التحقيق في أصول العقائد، كما أنه يساعد على معرفة ما يتضمنه النص من معنى، سيما أن الأخير لم يتجرد في تنزيله عن الواقع الخاص، بل ظهر بينهما جدل تجلى بأشكال عديدة كما سنعرف، وبالتالي فما لم يؤخذ الواقع الخاص بالإعتبار؛ فلا يمكن التعرف على دلالة النص.
يضاف إلى أن الواقع يساعد على الكشف عن طاقة النص وإمكاناته للتطبيق، مثلما يساعد على معرفة ما يتضمنه الأخير من مصداقية دينية أو تزوير، كالحال مع نصوص الحديث التي يمكن تعريض الكثير منها للكشف الواقعي والتجريبي. كذلك تبرز أهمية الواقع عند الإعتماد عليه كمعيار لترجيح النظريات الدينية وأنساق الفهم، ومن الناحية الابستمولوجية تعود أهمية الواقع مقارنة بالنص، إلى أن الأخير ثابت لا يقبل التغيير والإفصاح عن نفسه بأكثر مما جرى فيه الأمر إبتداءاً، فهو يحمل نظاماً مغلقاً لا يسمح بإضافة المزيد، ناهيك عن كونه يعمّق ظاهرة الإبهام وعدم الوضوح كلما طال الزمن، خلافاً للواقع بإعتباره يملك نظاماً مفتوحاً يتقبل الإضافة دون إنقطاع، وهو بهذه الإضافة يكون أكثر وضوحاً كلما طال الزمن، مما يجعله مفتوحاً على المراجعة والتصحيح، أكثر فأكثر، كلما طرأ عليه شيء جديد. وهنا تبرز أهليته لأن يكون مرجعاً أساسياً للتصحيح. فهو يستقل بميزة القابلية على الإنفتاح الدائم، ومن ثم الكشف والتحقيق لتقييم النظريات، سواء تلك التي تُستخلص منه كالنظريات العلمية، أو تلك التي ترتبط معه بشيء من العلاقة، كالنظريات الفلسفية والدينية.
عموماً فإن أهم العناصر المعتمدة في هذا النظام أربعة، هي: الواقع والوجدان والمقاصد والفهم المجمل للنص، فالواقع بمثابة المولد المعرفي، أما الوجدان والمقاصد والفهم المجمل فهي تعمل كموجهات للفهم. وهناك العديد من النتائج التي يمكن استثمارها عبر هذا النظام، منها ما يلي:
طبقاً لهذا النظام يمكن نسف القاعدة القائلة (لا إجتهاد مع وجود النص الصريح). فالمعطيات التي قدمناها تثبت أن النص يحتاج إلى الواقع في ضبط مقصده ومعناه، وبدونه فإنه ينغلق على ذاته ويتعارض لا فقط مع الواقع، وإنما مع المقاصد التي لولاها ما كان للنص من معنى. والتسليم بتلك القاعدة سيتصادم بالتأكيد مع كل من المقاصد والواقع؛ إذ لا يمكن فهم النص فهماً متسقاً بمعزل عن الواقع، سيما الواقع الخاص بالتنزيل، ومن ذلك أنه لا يمكن تحديد الأحكام الأمرية إن كانت أحكاماً فورية أو متراخية، وإن كانت تفيد التكرار أو المرة الواحدة، وكذا الإستحباب أو الوجوب أو الإرشاد، أو غير ذلك، من غير لحاظ سياقاتها الحالية والإجتماعية والظرفية، والحال ذاته ينطبق على حكم النص المعلوم – حسب الصيغ السابقة - في علاقته الخاصة بظرف التنزيل. يبقى أن من الصحيح تماماً مفاد القاعدة الأصولية القائلة (لا إجتهاد في قبال النص)، وذلك حينما يتضمن المعنى الإعتراض على حكم النص إعتراضاً مطلقاً، لا المعنى الذي تفيده قاعدة (لا إجتهاد مع وجود النص) كالذي يعوّل عليه الأصوليون.

البحث عن شكل جديد من الاجتهاد
إذاً نحن بحاجة إلى إيجاد شكل من الإجتهاد كما يقول يحيى ، يختلف جذراً عما ساد في العصور الماضية، تعويلاً على علاقة الواقع بالنص، مع الأخذ بالإعتبار مبدأ الفهم المجمل والمقاصد. وعليه لا بد من تغيير خارطة مصادر التشريع كما وضعها الفقهاء والتي تغفل ما للواقع من قوة كشفية تضاهي سائر المصادر الأخرى، بل وتتفوق عليها عند المعارضة التامة. فبدون هذا الإعتبار سوف ندور في ذات الفلك من المصادمة المتوقعة مع الواقع، أو إضفاء التبريرات الواهية لأجل تغطية ما يحدث من تصادم.
وعموماً يعاني الفكر الإسلامي من مشكلتين، إحداهما تتحدد بغياب الواقع، إما لعدم إدراك أهميته وجدواه، أو نتيجة الوهم القائل بأنه ليس من الطرق الشرعية الموصى بها. فسواء لهذا السبب أو ذاك فإن العلماء لم يفكروا في الإفادة من المبادئ التي يمكن انتزاعها من الكشف الواقعي والتي تحل لهم أزمة الصدام بين النص والواقع كلما تغيّر الأخير. أما المشكلة الأخرى فهي غياب البحث المنهجي للفهم. فلو كان هذا البحث حاضراً لأضحت العلاقة بين النص والواقع غير ما عهدناه في تراثنا المعرفي. وعليه فالفكر الإسلامي يعاني من مشكلة مزدوجة، لكن تظل المشكلة المباشرة التي يعانيها هذا الفكر تتمثل بالواقع بالذات.
وتأتي أهمية الواقع بالنسبة للفقه من العلاقة المباشرة التي تربطهما معاً. فهدف الفقه هو علاج مشكلة الواقع الإعتباري بالذات، أي واقع القيم ومنها تلك المتعلقة بالمصالح والمضار. وبالتالي فما لم يتغير حال العلاقة التي تربطهما من موقع إسقاط النص والفتوى كما اعتادت عليه الطريقة التقليدية؛ إلى موقع كشف الواقع عن الفتوى المناسبة بما يتسق مع المقاصد المستهدفة، فإن الحال سيظل على ما هو عليه من الصدام الدائم بين النص والواقع. بل وسيستمر الخلاف المعهود بين الفقهاء حول تحديد الفهم والفتوى. فمن الواضح أن الطريقة التقليدية المتبعة تعجز عن أن تعالج هاتين المشكلتين، سيما أنها تعاني من مشاكل مزمنة لها علاقة بالنص سنداً ودلالة. في حين أن التعويل على الواقع والمقاصد يمكن أن يحل مشكلة الصدام المشار إليها سلفاً، كما يمكنه علاج الخلاف الدائر بين الفقهاء. وسبق للطوفي الحنبلي أن أدرك (خلال القرن الثامن للهجرة) قيمة الواقع ومقاصد المصلحة لتجنب كثرة الخلاف بين الفقهاء، فهو في بعض أدلته التي قدمها لتبرير تقديم المصلحة على النص والإجماع اعتبر أن سبب الخلاف المذموم شرعاً في الأحكام هو وجود النصوص المختلفة المتعارضة، في حين أن رعاية المصالح هي أمر حقيقي لا يُختلف فيه، فهي بالتالي مورد الإتفاق المطلوب شرعاً، لذا فالأولى إتّباعه، وكما قال تعالى: ((واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا)) ، وقال: ((إنّ الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لسْتَ منهم في شيء إنما أمرهم إلى اللّه ثمّ ينبّئهم بما كانوا يفعلون)) . وذكر الطوفي شواهد عديدة لما حدث من عداء وتنافر بين المذاهب الفقهية وما وظفوه من نصوص وأحاديث موضوعة، ثم أنه قال: ‹‹إن بعض أهل الذمة ربما أراد الإسلام فيمنعه كثرة الخلاف وتعدد الآراء ظناً منه أنهم يخطئون.. لهذا قال الله تعالى: ((الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً)) ، أي يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً.. ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) على ما تقرر؛ لإتحد طريق الحكم وانتهى الخلاف، فلم يكن ذلك شبهة في إمتناع من أراد الإسلام من أهل الذمة وغيرهم›› . ومعلوم أن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) قد كتب حولها العديد من الفقهاء سنة وشيعة. لكن لم يوظفها أحد من الفقهاء توظيفاً واسعاً مثلما فعل الطوفي ليثبت من خلالها وجوب الأخذ بالمصلحة وأنها المقصودة في النظر الشرعي إلى الدرجة التي تكون راجحة على حكم النص.

الكلام الالهي والواقع

فإن علاقة الكلام الإلهي بالواقع تتردد بين عدد من الفرضيات على ما سيتضح كالتالي:
1ـ أن يقال بأن الكلام الإلهي يعمل على تحديد مسار الواقع والتحكم في مصيره، أو ما يقرب عن هذه الحتمية القبلية بما يتسق ومقالة قِدم الكلام، كما سنفصل ذلك عما قريب.
2ـ أن يقال بأن الأمر متبادل التأثير، فمثلما أن للكلام أو النص دوراً في تغيير الواقع وتحديد مساره، فإن للواقع أيضاً تأثيره غير المنكر على مسار الكلام، وذلك بعد التسليم بما يمتاز به هذا الكلام من فاعلية واستقلالية نسبية. فالنص مشكَّل بما يتناسب وطبيعة الخصوصيات التي تمتاز بها حوادث الواقع، ولولا هذه الخصوصيات ما كان للنص أن يتخذ الشكل الذي اتخذه في التعبير. كذلك فإن تغيّر الواقع وتنوّعه قد عملا - ولا شك - على إحداث أشكال متغايرة للصور التي تضمنها النص، كالذي يعرف بالنسخ والنسأ وكذا التدرج في الأحكام والمفاهيم والتعليمات. الأمر الذي يتسق ومقالة إحداث الكلام.
3ـ كما قد يقال أنه لا علاقة لأحدهما بالآخر. فالكلام ليس مؤثراً ولا متأثراً بالواقع بأي نحو كان. والعلاقة بينهما هي علاقة اتفاقية يشكل فيها النص القرآني رموزاً ليست معنية بما يجري من أحداث. فالنصوص التي تتحدث عن سيرة الأنبياء وقصص الأمم الغابرة وكذا الأحكام والمفاهيم؛ كلها لا يفهم منها أنها معنية بالواقع كما هو الظاهر، وإنما هي محض رموز صادف أن اقترنت بوجود تلك الوقائع أو رُكّبت عليها، مثلما تحاول الإتجاهات الباطنية المغالية التركيز على هذا المعنى؛ موظفة النص للقيام بمثل هذا الدور، رغم أن بطلانه بيّن بما لا يحتاج إلى دليل.
وعليه فالتنافس محصور بين الفرضين الأولين. لكن المشكلة ترتبط بالكيفية التي عليها الفرض الأول عندما يعتبر الكلام حاكماً ومحدداً لمسار الواقع بالإطار الذي نصّ عليه الكلام بالذكر. فبحسب هذا الفرض يمكن تصوير الكلام القديم، كصفة ذاتية، بايقاع مسجل تتردد فيه الكلمات النفسية بثبات وتواصل، أزلاً وأبداً. لكن مع أخذ إعتبار أن هذا التردد لا يتخذ صورة التدافع في الكلمات بحيث تتقلب وجوداً وعدماً، أو حضوراً وزوالاً، كما أن بعضه لا يتقدم على البعض الآخر. وهو من هذه الجهات يساوق العلم الإلهي الثابت. وبالتالي فهو ليس ككلامنا نحن الذي يدفع بعضه البعض الآخر ويتقدم عليه



#يوسف_محسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال الرمزي او الهيمنة عل ...
- ثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال الرمزي او الهيمنة عل ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة ع ...
- مجلة ثقافتنا ...... مشروع لدمج الثقافة العراقية بالحراك الفك ...
- القاتل التخيلي
- صديقي الودود انا شيوعي رغم التاريخ
- الحزب الاسلامي العراقي : الارث التاريخي ، صدام الهويات الاصو ...
- الاميركيون يسعون دوما الى عسكرة الحلول السياسية في العراق


المزيد.....




- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يوسف محسن - اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال الرمزي او الهيمنة على تأويل الخطاب (حوارات في جهود المفكر الديني الاصلاحي يحيى محمد الفلسفية والمنهاجية ) 16