أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - المدني في رحلته الأثيرية الى نبتون















المزيد.....



المدني في رحلته الأثيرية الى نبتون


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 4211 - 2013 / 9 / 10 - 13:14
المحور: الادب والفن
    


مقدمة:
لا احد يستطيع ان يسأل المدني لماذا وسم مجموعته القصصية بـ (الصعود الى نبتون)، او لماذا نبتون على وجه التحديد؟. فنحن امام نصوص تنتمي الى عالم الفنتازيا وأدبه المميز. هذا الأدب الذي له امتدادات قديمة جدا اختلط مع واقعية الاحداث حينا ومع الخيال العلمي احيانا اخر، سجل حضوره المميز خلال القرن العشرين حيث اتخذ شكله وقوانينه الكتابية من حيث قوة النص وتناسقه الداخلي والمزج المعقد بين الواقع والواقع المتخيل، اضافة للرمز الحر.
يواصل المدني في مجموعته رحلته الأثيرية، (الصعود الى نبتون)، بحثه عن العشق بأزمنة متخيلة مختلفة، ويتابع مصائر اكثر تعقيدا، كما سنرى، ويكشف الكثير من الإلتباس بميله لتأكيد اتجاهه الابداعي المغامر بصياغة الرؤية الأدبية على نحو فنتازي مثير. ربما يكتنف الكتاب الكثير من الغموض وهذا بحد ذاته طاقة جوهرية تعبيرية مهمة تطلق حرية الكاتب وتبعده عن اية مسؤولية محددة سواء كانت فلسفية/دينية ام مادية. فقد عكف على اختيار المكان والزمان وجعله بحكم المطلق مما منحة فرصة للولوج بجوهر الفكرة وتفكيككها من حيث قداستها اولا ومن حيث جدواها ثانيا، وهو بذلك دخل حيزه الابداعي من باب مسؤولية طريفة غير ملزمة، انما تبقى ذات طابع متخيل قادرة على العطاء الى مالانهاية، فيقودنا الى رحلة كونية طريفة، ماتعة وغير ملزمة.

الدخول الى نبتون
لعل مدخل المدني الأساسي لقصصه الخيالية، او مفتاحها، هو قصته الإلتحام التي منحته القوة لسبر جوانب أخرى من الخواص الانسانية حينما يُدخلها مخبرا خاصا في قصصه. فثيمة قصة الإلتحام هو الإلتحام ذاته وهو مبني على وحدة الحياة والموت التي لم يحاول ان يبررها الكاتب فلسفيا انما اعتمدها كوحدتين متضادتين مها ابتعدتا فهما امر واحد. ولكن بأسقاطات واقعية وسمها بالقاتل والقتيل، مع تغييب متعمد لفكرة الجزاء بشقيه السلبي والايجابي. هنا لابد من تسجيل الاعجاب الأول بتفكيك المدني للثقافة المتداولة، فهو يفتح نصه على اكثر من ارث، وما يعنيه هو المصير الغائب للإنسان وقدرته على التوالد بمصائر مختلفة. يؤكد هذا المعنى الاستاذ علي مزاحم عباس بتناوله لنص المدني الممسرح لصباح الانباري «.. فالإلتحام يتم بعد القتل ثانية على يدي قاتل يلحقه القتيل منذ اللقاء الأول..». وبذلك يدخل المدني حيز قصصه في الولادة الدائمة لبطله التي نراها على كامل مساحات قصصه. حيث بدأها «..ارتخى حبل الشنق الملتف على رقبتي.. عاد لساني إلى الداخل.. مددت يدي فأعدت عيني الجاحظتين إلى محجريهما..» ثم «.. عاد لي شعور غامر بأني أطير .. أطير حقا..». وهنا يبدأ المدني حيز بطله المتخيل بأعادة صناعة نفسه بنفسه مع اطلاق رغباته بالترحال والسفر الى الأكوان. وهو مفتاح المدني بأبعاد النص عن الرقابة وفتح باب واقع الأشياء من منظور متخيل لاتحكمه الظرفية.
هنا لابد ان اسجل ملحوظتي الأولى عن التحليق وهي صفة قديمة لأدب الفنتازيا، ارفقها بأدب من نوع آخر او جانب منه هو التصوف برحلاته الأثيرية وشطحاته المبهمة أحيانا، انما مرادها عسف القانون الأرضي مصحوبا بلوعة الروح اللآئبة وسفرها نحو (السر العجيب). وعلى الصعيد العلمي تتجلى مساهمة المدني في صناعته الكونية حتى تدخل قصصه تباعا حقل الإدراك فوق الحسي (الباراسيكولوجي) لتبرير التنقلات والافلات من الحيز الزمني والجغرافي، وتتشكل على شكل مساند ثابتة للتنقل والترحال الكثيف، بعدما اسس لها في نهاية قصته الأولى (الالتحام)، هو التشييء المادي للجسد الجديد والادراك المماثل له تمهيدا لرحلة بطله الأثيرية الذي هو مزيج من الجنسين وخليط من الضحية والقاتل وجوهر من الإله والشيطان.
يقترب المدني تباعا من الادراك المعنوي لتوصيفات المثلوجيا او الأساطير ‘‘تخفيفا’’، فيبدأ قصته الثانية (ليلة الطرد من الجنة) بتصوير كثيف مباشر عن الابراج، يوسف، ويوم القيامة، والعذاب الزمهريري، والدماء النبيلة التي هي من سلالة الأنبياء، مع مزاوجة طريفة للاحالات بين برج العقرب -البرج الوحيد الأكثر غموضاً- والكوكب العاصي (الثاني عشر) الذي لم «..ينحن ليوسف».
اراد المدني من وراء هذا التكثيف ان يتخلص من عبء ثقيل يحرره من فلسفة النص وتبريره، وبالتالي فهو يضيف الى بطله سلسلة مزايا جديدة مساعدة على نحو مرايا عاكسة تدور جميعها في فلك متخيل واحد يبدأ بالقدرة الأثيرية للخلق. حيث يمنح بطله ميزات ربوبية على نحو (ربوتي) تجعله خالقا للاستحالات رغم يأس بطله احيانا بعودته «..عادت لي قيمي ومثلي المجنونة..»، وفي جو استذكاره العذاب الزمهريري وسلسة آلامه منذ سقوطه من رحم امه «قبل مولدك الأخير بألف عام». يغلب الكاتب، بصورة بطله، اليأس على جدوى المحاولة. والمحاولة في ادب المدني هو جزئية النصوص الضامنة لإستمرار البطل بنفس السياق الفنتازي موسوما او ممزوجا بنتف الاشارات عن الباراسيكولوجي والتلباثيكية التي يصفها بـ «الخارقة» ، وهي على حد اعتقاده حلقة الوصل بين الجنون والعقل. هذا المرتكز يجعلنا نفهم بأن بطل المدني هو عاقل، انما مصاب اية اصابة نفسية، لكنها مثيرة للجدل بسبب كم الأسئلة التي تطرحها والتي تهبه سلطة الاستمرار، رغم معرفة البطل بفشل المحاولة في كل مرة.

ينقلنا المدني الى اول نقلة تطل على واقع سفره الكوني الذي مهد له وتوصل الى «..لاشيء سوى حضورها يخرجه من عذابه الأزلي.. أين هي الآن؟». بهذا السؤال اصبح مستوى بطله من حيث ادائه اكثر سرعة واشد اصرارا واعمق تفكيرا وهو «الطريد من الجنة»، فيبدو كمن ينفلت من عقدة الزمن، وجو الإلتباس الذي ادخل الكاتب بطله فيه باضافات (ربوتية) فجعل يحرره منها احيانا على أمل معاودة انسانية حسية رشيقة. اود ان استعير هنا تعبيرا قديما (قسمة ضيزى) لتوصيف حالة بطل المدني المفتون بالحب والمنفتح على كل الإحتمالات والمشحون بعدد لايحصى من التأثيرات الأرضية والكونية، بمعنى انشطاره الدائم وتوحده المكرر. هذا التحرر من الشكل هو في واقع الأمر من مزايا نص الفنتازيا، فحرية الخيال تكون محكومة به وترضخ الى حركته، يصحبه المدني أحيانا ببعض الرمزية التي هي خادمة للحركة حسب. هذا المزج الطريف بين الحسي/الانساني والربوتي المتقن المرفق بعامل كوني حاسم هو الجليد والزمهرير، هي عناصر مقاومة في شغل المدني الأدبي في سعي بطله في رحلته نحو الثيمة الكبرى، التي اصفها بـ(المحبة الأثيرية)، فكل ما يتجلد وما يتكسر، يتجدد في لحظة واحدة بأشارة حسية واحدة، كما وأن المفصل الذي يعيد الحياة ويحييها هو ومضة سحر الرغبة التي يُحار بها لكنها حاضرة في كل التنقلات.

النص الفنتازي والمثيولوجيا
في معاينتنا لنص (الزلزال) نجد عنصرا آخرا من عناصر النص الفنتازي يفرض نفسه وهو دخول النص حقل المثلوجيا والأساطير والفولكلور، يعتمده الكاتب كمدخل لقصته «ايمكن ان تنهد الصروح التي شيدها الله؟ وهل ستنهار النفوس والأرواح وتتغير الأشكال؟...» وهكذا العديد من التساؤلات، التي من خلالها يطلق الكاتب حرية خياله فيصل الى جواب محفز «من يدري»، وهذا بحد ذاته مفتاح آخر يفتح الجهد الابداعي على عناصر تتشكل على نحو افاق غير منتهية وشخصيات خادمة، بعضها ستكون ملازمة لرحلة البطل الأثيري التي تحفزها الأسئلة المكثفة، رغم علمه المبكر بأن لاجدوى لما يفعل لكنه يفعل.
ومع اطلالة بطله على عالمه الواثق وظهور (سيد البحار السماوية) التي ستتقاسم البطل رحلته، يكون المدني قد اقترب من مفاصل الشك واليقين معا بقوله «بنى الله الكون في ستة أيام.. وبنيناه في لحظة واحدة.. قلنا له «بخفقات قلوبنا واهتزاز مشاعرنا ودفق عواطفنا كن.. فكان». وبهذا يكون المدني قد استشعر مكامن العاطفة الإنسانية النبيلة وفضّلها على الرغبة بالخلق لأجل الخلق، فكل ما يخلق له سبب واحد هو الحب الأثيري المطلق والجانح نحو ما يشبهه، فتكون رحلة بطله هذه المرة مرآة عاكسة لـ«الصرح المشيد في أعماقه» حتى احتدام النيران «في حقول الذهب المتماوجة».
وما زلنا في جو المثليوجيا، البطل بانتظار (الزلزال الأكبر) كناية ليوم القيامة على الأرجح، فنرى الشطحة الإنسانية الرائعة بإستقرار الزلزال في ضفاف الشمس «(تلك الضفاف التي ذُبحت على شطآنها في وقت مضى من الوريد الى الوريد...)»، وهذا هو نوع من التناسق الداخلي لنص المدني بأعادة استقراره الى نظرة انسانية محضة مشبعة بالتوقعات الأرضية، مهما بلغ البطل سموا، فأنه يبقي على اشد الاسئلة فتكاً «اهكذا تموت إذن؟ أهذا هو الموت الذي تريد؟ ها قد حصلت عليه... فما أنت فاعل..؟». ويمكن عكس نظرته تلك بسؤال آخر لم يسأله «هذه هي الأبدية فما انت فاعل بها». ووصولا الى ثنائية تفسيرية لسيدة البحار السماوية بأخراجها علة الخلق «...هكذا أوجدتنا الطاقة الكونية الكبرى.. قال لنا الله: كونا .. فكنا ..» وصدمته المؤثرة بأمتلاكهما مفاتيحه «... فلا نتبين إلا مكامن الضوء فينا ونحن نبحر في سماواتنا التي قلنا لها: كوني فكانت..».
ينحو المدني هنا الى مزاوجة بين أدب الفنتازيا من جانب الخيال التأملي وبين الأسئلة الوجودية الكبرى التي هي شاغله الأكبر على مساحة نصوصه، لكنه لم ينتاولها فلسفيا انما منحها قيمة استدلالية معبرة عن «الطاقة الكونية» التي تبقى واعية على وفق منظوره، وبنفس الوقت لاتشغله هذه الفتنة بقدر سعي بطليه في رحلتهما الى سبر الخصواص الانسانية وقت خضعوعها الى بيانات كونية رائدة وجامحة تتشكل في مخيلتهما على نحو من الشرار المتطاير، وبتنفيذ نصي على هيئة اعادة التكوين الربوتي وقت الحاجة، بمعنى آخر انه يجابه الموت بقدرة اخرى هي اعادة التكوين الربوتي المتكرر. وهذه خاصية اخرى تضاف الى ادب المدني في كتابة الفنتازيا بأن لاوجود للموت بين ثناياها.
هذه الخاصية تتجلى بصورة خيالية بارعة في (الصعود الى نبتون) بعدما منح بطله السلطان والابتكار، حيث اسس للفعل فأصبح الآن بمقدوره ان يدخل حيز الرؤيا المزدوجة الانسانية البحتة بصفة الانفعالات والتراخي والوصف والميل الوجداني الشفيف فـ«اصابه الخدر اللذيذ...»، والحركة الضوئية المعتمة بصفة الأجناس غير الأنسانية من «الشياطين.. الجن.. الملائكة...». حتى دخوله «الفردوس الجهنمية» التي تلذذ فيها وخروجه منها بيقين ارضي إرضاءً لرغباته التي يمكن أن تقتله كذكر النحل «(ايها الكاهن الشرير.. ليس الآن.. لا أريدك أن تموت.. ليس الآن»).

حركة الاشياء المصغرة
يلاحق المدني في النصوص التالية اثر غائبه، الوجداني، بصفة بطله الذي على ما يبدو انه يئس من الحركة المصغرة للأشياء او انها لاتتسع لحركته الدائمة والدائبة «كان الوجود كله لحظتئذٍ.. هو ذلك السهم المنطلق..». لكنه اي الكاتب يستمر يتأكيد صفة اساسية لأدب الفنتازيا هو الإبقاء على مكان الحدث وزمنه من دون تحديد «لوحة الزمن لاتبدو اشاراتها واضحة». وما يهمنا هنا هو اضافات المدني المتسقة بصورة حلزونية تفسر حرية الحركة وانفتاح النص على عوالم جديدة، «..استعنت بالسهم الأبيض الهائم في الفضاءات.. حملني.. دون وعي مني.. الى عرش الملكة السماوية...»، ثم «..انطلق السهم الأبيض في دورب جديدة..»، مع ملاحظة ميزة مضافة هو التوسع الكثيف للصورة التي تهمه فيتتبع اثرها بشغف، رغم الشقاء الحسي المتكرر لبطله، انه يغرق في العينين «كان البئر يجذبني الى داخله..»، «وادركت بأني اغرق..». لكن انثاه لاتدعه يموت بمعنى اصرار الكاتب على الابقاء على الصناعة الطبيعية للحياة التي هي وحدها التي تهبها، اما الخالق فهو المنظم او المهندس حسب. ترى من خلق من؟ هذا التساؤل يفسره نزوع البطلة الى امتلاك مواصفات إلهية على وفق المنظور الأرضي «..موتك على يدي وحياتك على يدي...» في قصته تداعيات الهارب من العقل، و«..ارسلت فيض زوابعها ورعودها لتتساقط على الأشياء..» في نصه (مجرة الأقمار القزحية).

الحركة والزمن
عودة للحركة والزمن وهي احدى مواصفات النص الفتازي الذي نراه في ادب وادي الرافدين القديم ان البطل الإسطوري يستطيع قطع المسافات بصفة الهية او نصف إلاهية، وفي أدب الف ليلة وليلة، يحضر الجان للمساعدة بقطع المسافات الطويلة او خلق آلات كبساط الريح او الحصان الطائر للتنقل او اكتشاف مرهم لدهن الأرجل للمشي على الماء ونحوها من الطيور والجوارح والكواسر الخرافية والسحرة ومختلف الابتداعات الخادمة لطي المسافات واختصار الزمن. هذا الأمر ليس له جذر فيزيائي او حتى تفسير مثيلوجي انما احالة احادية نجدها في الأدب الإسلامي بـ(الاسراء والمعراج)، (طيران الدابة/البراق)، اسمح لنفسي تجاوز المقدس قليلا لأضعه في مصاف الفنتازيا المهمة والملهمة للإبداع.
هذه المفاصل وغيرها من ادب الشرق القديم والعالمي المماثل، اضحت لمساتها واضحة في ادب الفنتازيا الجديد فتعد آدابهما بمثابة الأب الروحي لإبداعه الحالي. فعلى الرغم من اطلاق العنان الى ابعد ما يتصوره الذهن البشري يبقى الحدث يدور ويحاكي القديم. ففي (سيد الخواتم) التي كتبها البريطاني ج. ر. ر. تولكينو التي تقع احداثها في ارض خيالية وازمنة خيالية كذلك، تكون مرتكزاتها الأساسية تستند على الجن والسحرة وصناعة ابطالاً مثل (سيد الظلام سورون) والقوى الخارقة، والصراع كما يحدث على الأرض، كما تكون الحركة والزمن محكومة بذهنية متوقعة موسومة (بالعصر)، والمكان بـ (الأرض الوسطى و(عفاريت جبال الضباب) وغيرها الكثير.
في ادب المدني نجد الزمن والمكان، على نحو ارقام واعداد (عام 931122)، (الطريق الرابع عشر) وبحيرة (السماء الخامسة) و(قاع الأرض الثالثة)، والكواكب مثل (هاترا)، «شمال السماء الأخيرة على خط العرض الثاني والعشرين..»... الخ. ومن حيث استحداث ابطاله المساعدة (ملكة البحر السماوية) في قصة المجنونان، وما يماثل تصور الكاتب في قصصه الأخرى، نرى مرافقة آنية لفكرة الزمن مع الفعل البطولي للشخصية. شكل هذا منظومة المدني الرقمية، وهي شفيرته الخاصة غير المحكومة بواقعية الحدث، فهو في حل من الدلالة الحرفية للرقم المتخيل، بمعنى يبقى ايحائيا صرفا، وربما يشجع القارىء على استعارة ذهنية غير مدشنة في حياته اليومية. فما هي عدد الأشجار حولك؟ وما هو عدد الأيام الماطرة منذ ولادتك، وما عدد انفاسك.. الخ من الأسئلة اللانهائية التي تجرد الرقم في حالة دخوله حيز المحاكاة الطبيعية لأية ولادة!.
لكن مايميز المكان والزمان في قصص المدني هو عنصر المفاجئة بنقل الحدث او ان شيئا ما في طريقه للحصول، «..ذلك المهاجر الذي صعد من قاع الأرض الثالثة.. نظرا اليه بدهشة..»، و«عاد بنظره المرتعب الى حافة البحيرة اللامعة». على ما يبدو ان بطلي المدني ليسا مرتحلان مستكشفان بقدر ما هما هاربان من حيث الاساس يبحثان عن بعضهما بعضا فيكونان معضّدان بقوانين المدني الرياضية/الفيزيائية الافتراضية، محصنان بقوة التخاطر، تتملكهما دهشة دائمة سببها ازدهار النص بأكتشافه عوالم لانهائية هما بصدد سبر اغوارها وكشف اسرارها مع تأكيد طرافة العشق والمحبة الأثيرية دائما. وهذه اضافة مهمة لنص المدني بأنسنة الحكاية والوقوف على جوهر الإضطراب النفسي للحالة الأنسانية. ولكن بقدر ما يكشف النص عن قوانين رياضية افتراضية يبقى مفتوحا على عدد متوقع آخر منها لا تفاجئ القاريء بسبب دوام وقوعها في زمن او مكان، بينما تكون هناك اخرى غائبة لكنها تكون كذلك متوقعة، حيث يبقى الحدث استكشافيا متوترا داخل السياق القصصي وخارجه، نقصد بـ (خارجه) كل المؤثرات التي يستحدثها النص تباعا، او يتأثر بها. نضيف هنا بأن عنصري الاكتشاف والمغامرة يدخلان بقوة بقصص المدني «أدار عينيه فيما حوله، أرسل مجساته الكهرومغناطيسية من ثنايا جسده لتمسح المكان والزمان...»، فيتشكل هذان العنصران على نحو ثيمة اساسية لقصص المدني تباعا.

غرائبية التوازن النصي
في قصته (الربوت) يتحسس المدني آلامه بصورة تقرب من (الوجودية)، «بعد إحدى عشرة ساعة من لحظة آلامه»، «..كانت الآلام تتصاعد بمعدل خمسين ميلا في الدقيقة» يقولها الكاتب على نحو نسق رياضي مفهوم يعيد التوازن النصي الى وضعه، لكنه غريب بنفس الوقت، يفسر لحظة انفصامه الذي تجسّدَ بالراوي الذي هو (هو) المخلوق الأرضي الرافض، وبين مخلوقه الصديق النقيض (ربوته) ذو العناد الدائم،«الذي لايرضيه اي شيء» و «يفند قراراتي.. يحاول استبدال اولوياتي..». هذا الربوت الذي اضاف له المدني جملة مواصافات تقنية وقليلا من الحسية «دمعت عيناه..»، هو عالم بطله بشقه الآخر. بمعنى من المعاني أن المدني حاول في هذه القصة أن يبدأ بعنصر متخيل آخر محكوم بعدم السيطرة على مخلوقه، بعدما منحه مقومات غير حسية في الغالب، انما خارقة، يتحسس من خلالها مختلف انواع الخطر الذي هو بحد ذاته غير معروف تماما، او ان ربوته لايتقن مهنته كمحارب «.. من هاجم من..؟ اي جزء دمر..؟ اي مكان تعرض للهجوم..؟».
رغم تنقلات النص بأجواء وصفية كثيرة، احيانا مقحمة بعض الشيء «.. سمع دقات قلبه.. واندفاع الدماء النبوية في اوردته وشراينه...» التي دخلت النص من دون تقديم سوى عطفها مجازا على قصص أخرى، لكن المدني يبقي على حكمة الألم الفريد «..جاء تقرير المختبر سريعاً.. سريعاً جدا.. (بكتريا الكآبة العاقلة)...». هذه الثيمة هي واحدة من مفاصل ادب المدني ولا نعرف حقا ان كان المه، أي ألم بطله، صادقا ام لا او انه يؤلمه ام لا؟ اقدر هنا انه يأنس به، ذلك لغياب اللوعة جراءه. اظن ان في داخل الكاتب اسقاطا لنظرية الألم التي لم يفصح عنها بيسر في نصوصه، انما احال امر كشفها لقارئه، سنعود لهذه الخاصية لاحقا.

مساحات النص
مساحات النص الأخرى تُظهر التقاطع الرهيب بشخصية البطل بمعنى (فصامه) كما ذكرنا، لكن على ما يبدو ان جو التناحر بدأ يأخذ بعداً آخرا في نصوص المدني وهي ثيمة اخرى مهمة، حيث ان جو الاختناق بين البطل ونصفه الربوتي بدأ يتصاعد على نحو درامي هذه المرة ليصل حد فك الارتباط وتبادل اتهامات «انت حكمت علي بالموت...»، « دعني اموت بالشكل الذي اختاره...»، افجر نفسي...». ومن جهته اي البطل «..أشعر ان من يحاول تفجير نفسه هو أنا.. وليس الربوت في داخلي». هذه الصفة هي صفة فصام انساني مثير ابتلي بها الأنسان ورد في المثولوجيات والفلسفة الوضعية وتناقله الأدب والفن، حتى اصبح المحرك الأساس للتطور من جهة ايجابية، ومن جهة سلبية تتجلى بشاعاته بمختلف انواع العسف الذي تشهده الأرض!.
السؤال هنا: هل خدم هذا العامل نصوص المدني في رحلته الأثيرية في بحثه المستديم عن شيء ولاشيء «اين هي الآن ..؟ أين؟ أين؟؟»، اسئلته تلك وغيرها المفعمة بالإضطراب «امتدت يد الموحد الأول..» «.. يقدمها الملاك الشيطان» وعلى لسان سيدة بحار السماء «قل لي أنذهب الى بيت كتّاب الأزمان السيحقة في القدم..» تقولها وكأنها تدرك جوهر المه وشدة فصامه وكآبته «أيخفف كآبتك؟ أم نترك سهمنا الأبيض يقودنا الى حتوفنا الأبدية..؟». بإعتقادي ان المدني اراد من حالة الفصام الإنساني ان تكون مشبعة بجانبها الإيجابي، بمعنى غير مَرضية لكنهاغير قاتلة. فمن حيث احساسه بالخطر يكون مهاجرا، ومن حيث وفود الموت نراه يعيد تكوينه حسب الحالة ومن حيث الاستخدام نجده بارعا باطلاق اللحظة. «..مد يده بسكين صدئة.. قطعت آخر ما علق برأسه من البكتريا اللزجة الخضراء..» كناية عن كآبته القاتلة، «..طاف السهم الأبيض -الذي هو وسيلته الرئسية للتنقل- بهما في كواكب جديدة..».

من الملفت ان المدني في قصصه ادخل على كتابتة الفنتازية عنصر المزج الروحي المشبع بالرغبة او يكون قد فعله على نحو مثير، مما يوحي بأن قصصه لها ثيمة المحبة الأثيرية التي تتأثر بالحدث، مهما حاول بطله انتزاعها من براثنها المغلقة وما يضر بعلتها، فأنها تعود الى شقاءها وسلالتها الأرضية في قصته (ساعة احتضار)، «.. أربعون ألف سنة خلت وأنت ترى بُعدها بعدٌ لروحك.... وفوران لكل أمراضك وعقدك.. ماذا دهاك...»، «.. وإن ظلامك يخترق صباحاتك.. ألم تكن هي ليلك الطويل الطويل..؟». هذا النوع من الإسقاط هو محاكاة لـ «واقعية الزمن » حسب سارتر، «..بحذف صلات الوصل بين القارئ والآراء الذاتية للشخصيات.. (عن الآداب الاجنبية العدد 1 1977). اعتمدها المدني على لسان بطله فتكون شديدة التأثير من حيث مباشرتها ومسها وجدان القارئ وتقرير مصير آلامه التي مازلنا لم نعرف ان كانت مؤلمة ام مؤنسة له، بينما يقدمها لنا تباعا على نحو (لذة دائمة) حسب وجهة النظر الأرسطية واليونانية ومرافقة صوفية واضحة محدثة. وكأنه لايرضى بغير الابقاء على شقائه المرير بأن « فكره المتعب قد قيدها بكل قيود الكون»، «اخاف عليك من النور والظلام.. والشمس والهواء والقمر»، وربما لهذا السبب منحها وصف (سيدة البحار السماوية). هذا الاعتراف يفسر قصة الحب الإثيرية للمدني، فالبطل لايرتضي الحرية المطلقة لحبيبته الكونية، لكنه «..سمح لها بفقاعة واحدة ترد لها الحياة..». مما دلّ على مواصفات نقيضة تفسر ولادة واحدة للكون ومحكومة بقانون واحد لا غير، إنما البشر هم وريثوا الم الكون العجيب وسحره معا!. فيلجأ بعد مغادرتها باستبيان منابت قلقه عليها «..من سيقوم بحراسة سيدة البحار.. من يدلها على مرادها.. ماذا ستأكل ماذا ستشرب...»؟. ونحوها من الإحالات ذات الرجع الكئيب «أين انت؟ اية ريح القت بك بعيدا عني.. ماذا تفعلين»؟.ثم بجو غيرته الأرضية «الى من تنظرين الآن؟ والى من تبتسمين؟» بتفاعل درامي مثير يوصله الى الهذيان «.. لالا.. نعم .. لماذا.. كيف.. لا.. نعم» حتى عاد الى ذروة آلامه فـ «أطلق صرخة مدوية كان يكتمها ويعتقلها .. حملت نزف جراحاته التي فتحها بيديه».

عودة الى عاملي الزمن والمكان على وفق المنظور ذاته، يؤكد المدني نظرته بنفس السياق الرقمي المشفر «اليوم ستعود سيدة البحار السماوية إلى عرشها الذي استوطنته منذ أربعة قرون..»، «الوقت يمضي ولايمضي.. المكان يتغير ولايتغير..»، مع تأكيد واضح لحالة الفصام الإنساني الذي نتبينه على نحو بيانات اخبار لم يتردد بتكرارها على مساحة نصوصه «..عرشها الذي بنته الشياطين بدمائي النبوية، خلجات قلبي ودفق أحاسيسي المتوهجة بنيران سعيرها الأزلي». وهذه النقطة تظهر بنية مثيلوجية صرفة بحيازة المخلوق العاقل على شيفرات خلق نقيضه وحتى في احسن حالاته، وكإن مشدا يجره لوئد انتصاراته، التي بدأها بزمن سابق «ابليس الذي تسري في عروقه دماء زرقاء.. هكذا قيل له...»، «من عصر آدم .. الى قيامة عيسى والمنتظر..». بهذا الخلط المهم بين الفنتازيا والرؤية المثيولوجية، يكون المدني قد تجاوز عقدة (التابو)، حاول تبريرها في نصوصه ليمنحها سلطانا قويا أثيريا يبعد صور الواقع الذي يقيده بنقده الأفكار بأن: الانسان يخلق كل شيء، طبقا لتركيبته المتناقضة، فيصبح بأمكانه هد صروحه التي بناها بنفسه، وتوليد كائناته الروحيه الملهمة على نحو يرضيه او يرضي نقيضه. فالمهم هنا هو النقلة النوعية للفعل المجرد ليصبح في نسيج الحالة الفصامية التي هو بصددها، بإستخدام العوالم (التولكينية)- نسبة الى tolkien الأب الروحي لأب الفنتازيا- الخادمة للفكرة والمانحة لحرية القول المطلق. اضافة للبعد الجمالي في التصوير العاكس الذي يدخل هنا ضمن البعد الزمني والمكاني.

خرائط المدني
هذا الأمر ينقلنا الى حيز آخر في نصوص المدني اصفه بـ: (خرائط المدني السياحية)، وطلما نحن بصدد نصوص فنتازية فهي إذن خرائط لعوالم فنتازية. احتاج المدني للوصول اليها خلق وسائل هي: السهم، المركبة، الربوت، وما منحه من سلطان لأبطاله، ثم اطلالات مركبة تأتي تباعاً في بنية السرد القصصي بأوجهه المختلفة، التي اختارها الكاتب على وفق الحالة الدرامية للحدث ودرجة اتساعه وتقادمه ومن ثم الفعل المرجو من النقلة. فتارة هو المدني وتارة الربوت، وتارة البطل، وتارة البطلة. هذه الطريقة السردية المركبة منحته سياحة نصية سهلت معالم حدود خرائطه، رغم هلاميتها فإنها احدثت نوعا من الجرأة لابطاله ونوعا من المواربة منحها للقارئ قبل دخوله الحيز المنضبط، ذلك بمنح الراوي والابطال صفة سردية ذاتية (عاكسة) حسب James Joyce. فالسرد المنضبط بمعنى المتعدد الوجوه يعطي نوعا من المصداقية لحدود الشخصية التي تعرف حركتها وعلاقاتها الذاتية فتتشجع للأبعد او الأكثر. «..خيل لي للحظة مرت بي أني اعرف معالمه من قبل وربما سرت فيه وانطبعت اقدامي على اسفلته المنصهر»، هذا توصيف أولي لخريطة واحدة لم تكتمل صورتها الا في مبنىً آخر بعدما تأخذ قصة (تداعيات المساء الأخير) حصتها من حرية النص المزدهر بالألم، الموشى بتعابير جمالية مرهقة، لا اعتقد انها مساومة بل خالصة بمرجعيتها لقاسم النصوص الاخرى، لحين «.. وهي تئن تحت سياط الترقب المفعلة ببراقع العذاب المستديم». فيدخلنا صورة الخريطة التي يكتشفها على لسان الراوي من خلال انفعالات (الحبيب الغائب)، « كانا يحلقان في أجواء لم تكتشف بعد.. يحملها موج أثيري ساخن... كانت كل ومضة من عينيها تجعل مهمة سياحية صعبة.. محفوفة بالخطر.. القاتل.. المريع..». ولكن عن اي خطر يتحدث المدني؟ سنأتي على ذلك لاحقا.
ولكن من الملاحظ ان خرائط المدني كما اسلفنا هي فنتازية وتتعامل مع عوالم غير محددة، بمعنى الابقاء على اطرافها كما ذوائب الشعر او اي نسيج حريري سائب، فهي تنصرف لاتجاهات مختلفة وبحرية مطلقة، حتى احيانا من غير وعي كامل للحركة، «أحسست بأطرافي يغزوها ثلج الكواكب الجليدية..» ثم «اندفع السهم الأبيض على غير هدى..» من دون ذكر لاحداثيات اكثر دقة، ذلك انه سعى الى الابقاء على حريته بالذهاب والرجوع، بالصعود والنزول، ومن ثم الافلات من المنظر المركب، «كان يحاول اقناع نفسه بأن الفوهة السوداء الرهيبة قد أخطأت الحساب..» بمحاولة التمهيد للخلاص من المنظر الرهيب (الفوهة تبتلع الحبيبة الغائبة، والديناصور القاتل يجرها الى حتفها).

من الملاحظ ان المدني لم يرتض بالمناظر التي يصفها بـ (الكون المكعب)، فهو لم يغريه المنظر السماوي مهما بالغ بترصيع ثناياه ووصف جماله بـ «.. عالم الخرز الملونة في كوكب (تامرا الأخضر) في قصة (مكعب الكون اللامع)، والصفائح الكريستالية، بل حتى منظر «.. رضوان .. أمين الجنة .. يرقبهما من بعيد خلسة..». فعلى ما يبدو ان بطل المدني منذور للألم والفراق والسعي، وهي علامات عدم الرضا الملهمة لأي نص ابداعي. حتى يرقى الأمر الى حد التندر، فما ان يوشك على امتلاك الشيء الذي هو بصدده حتى يفعّل نقيضه بإفساده او العكس!. «..كانت الألوان مدهشة حقا.. لم ينجذب اليها.. لم تكن تهمه لكنه حاول ان يجد في هذا الكون الملون لوناً يشبه عينيها..»، فتبقى عوالمه مهدده بنوع من الافتراضات والمسوغات التي لا يجد البطل بعدها من مناص سوى الانتقال الى خريطة سياحية فنتازية اخرى. يحدث هذا داخل كل قصة او بأختيار نقلة مكينة لبداية اخرى.
نخلص الى ان خرائط المدني وليدة لحظة شاعرية ملهمة كمن يتقصد اثرا في كل اتجاه، وهذه هي صفة اثيرية عاشقة بامتياز، يتحرر المدني فيها من نسيج الاحكام والمثلوجيا والافتراضات، فيكون نصه مفتوحا بضوابطه الخاصة، خالصا بمتعة روحانية تجعلنا نجيب بقوة ان (آلامه) هي مصدر متعته، وصورة الحبيبة تتجلى بمختلف الصور والطباق الذي يريده المدني وحده، يختار لها المصائر بينما يكون بطله منذورا لمصاب الفصام والبحث المستديم.

الخوف من النهايات
لحظة الخطر لدى المدني تتصف بالخوف من النهايات، فهو يخاف حينما يستكين، «اندفعت الى احضاني.. ابتسمت.. نصف ابتسامة.. (ألا ترى.. لاشيء قد حصل.. أنا مصرة على صراحتي أن ترى بنفسك لتتأكد)..». حالة الامساك بالحبيب هي لحظة قاسية لدى البطل فهي تقوده الى نهاية، اية نهاية!. في الوقت الذي لايرتضيها انما يجعل منها مصدر خوف دائم، فما ان يوشك على الظفر بها، حتى يستعيد رشده او ايفيق من غيبوبة حالمة، فيبدأ بمغامرة جديدة.
«اهذا ما كنت تنتظره في ركن عذابك الزمهريري؟ اهذا ما كنت تبحث عنه عبر آلام سنينك الألف..؟ اجئت الآن تبحث عن جدوى..»، في قصة (ليلة الطرد من الجنة)، «احس بالدماء تتحول الى عاصفة.. ثم الى اعصار.. اخذ جسده يهتز.. شعر بأن العصف الشديد يبدأ من داخله.. بدأ الزلزال في اعماقه..» في (قصة الزلزال)، فيتبعها بالقول وهو في عصف بحثه المستديم عن حبيبته ..«في البحار التي أبحر فيها قبل أكثر من خمسة دهور.. فلم يجد لها ساحلا.. وبقي يبحر ويبحر ولا يزيده الإبحار فيها الا احتراقا.. وتوقدا وعودة إلى الابحار من جديد..» ثم، «..وببطء فتحت عيني بفزع رهيب...». وهكذا تباعا يجعل المدني من الخوف محركاً دائم الدوران حتى في اشد اللحظات يأسا، انما يحيله باعتراف واضح اليها (الحبيبة) الغائبة/الحاضرة في قصة (تداعيات الهارب من العقل) حيث يأتي الحوار مفعما بقوة الموت الذي لن يحصل «...موتك على يدي.. وحياتك على يدي.. جنونك وألمك.. فرحك وانسحاقك.. خوفك ،كبرياؤك اللاهوتي.. هدوئك وعواصفك .. تنطلق مني...». هذه جملة من الشواهد التي تفسر خوف المدني بصفة بطله من السكون الذي يحرقه فيشده الى حالة دوران دائم وهو مصدر هيامه الدائم كذلك.

النص المركب
تتخذ هذه الحالة، اي الدوران، شكلها الجديد في محاور قصصه المختلفة/المتصلة بعضها ببعض، فتكون حاضرة بفعلها الانساني التي لايجد الكاتب من مناص لذكرها بعنفوان ملفت في (مجرة الأقمار القزحية)، الذي يقرب من خلط عجيب بين عالم الفنتازيا وموائمة سارة لمفردات اليوم (الواحد) على نحو «...الأضواء الساطعة.. والبشر.. والمركبات.. والقطط الجائعة.. والوان الواجهات.. وعيون الملائكة.. وأسلحة عسس تلك الليلة الشمسية.. وانفاس الجن...،قصائد الحب المشاكسة..».. الخ.. يأتي ذلك على نحو أسئلة ارضية مما يعزز نظرتنا لنصوص المدني كونها نصوصا مركبة تستدعي الأسئلة الواقعية على وفق منظوره الفنتازي، ذلك ان استحداث عوالم فنتازية لابد ان يرافقه مقومات أخرى من بيئته، فـ «إن الخيال الجيد هو تعلق اجتماعي مصحوبا بقصة جيدة» حسب تيري بروكس Terry Brooks وهو احد كتاب الفنتازيا المهمين. وبقدر ما يتعلق الأمر بالخيال فأن شطحته مهما بلغت من ذروة لابد لها ان تعود الى مصدرية ارضية كالخير والشر والنظرة الى القوة الأعظم وقهقة ابليس وغيرها.
لعل قصة (المجنونان) افضل مثال لتبربر ما نكتب وسنختم به، حيث المغامرة ثم الانفصام والتوحد فالالتحام، مشفوعا بالأسئلة التي تجد اثرها بابدال النقيض الذي يتلمسه (المجنونان) بصفة المركبات المضيئة و مهاجرون من قاع الارض الثالثة ومتسكعون وشعراء صامتون والقطط وقطارات السماوات. وهي اشارات تقرب من وضع السيناريو لتوصيف الحالة التي هما بصددها حتى عثور بطل المدني على ماء البحيرة المقدس الذي يمنحه الخلود، «ان من يصل الى بحيرة السماء الخامسة ويشرب من مائها.. يحصل على الخلود النهائي» وبنفس الوقت «..تبدو في تلاطم امواجها العسلية القاتلة»، فاكتشف ان الخلود ذاته هو شكل آخر للموت، وهو يمر بعالم (الشهداء) الخالدين/الميتيين الذين لم يخفوا لوعتهم في سجنهم الأبدي ذي النوافذ الذهبية من خلال صمتهم الرهيب. بينما تكون الرواية الأثيرية عن البعث (من عصر آدم .. إلى قيامة عيسى والمنتظر..) ضربا من ضروب الالتباس فهي كذلك في حالة الفصام نفسها الذي نقرأه في وصف المدني للحالة الإبليسية (الذي تسري في عروقه دماء زرقاء .. هكذا قيل له..) -الزرقاء هنا هي صفة نبيلة او ربما نبوية خالصة- كذلك الحال بالنسبة لسيدة البحار السماوية «بكل ملائكيتها النارية..» وهي صفة ابليسية واضحة، «وعنفوانها الذي يذكر بخرافات الأزمان السحيقة..». يحاول المدني هنا شرح حالة اضطراب بطله وعودته بعد تحولاته واكتشافاته الى مصدر يأسه، موته وانبعاثه وابديته اليها (هي)، عيناها التي «.. لاساحل لهما... منهما استمد جنوني المنغرس في كل مساماتي الملتهبة». فيدخل حيز خلافه مع شيطانه، كما فعلها الشيطان مع خالقه في الرواية القرإنية الكبيرة في (سورة الأعراف)، لكنه ابعدها عن الموروثات المؤسطرة، فأحالها الى عيني (حواء)، التي لم يذكرها بالأسم، فاستعاض عنها بعيني (سيدة البحار السماوية). ذلك ان المدني في جميع سياقات قصصه يضع ثيمة المحبة على رأس أولويات التكوين والبحث المستديم، فهي حالة الخلود الوحيدة. فهل ياترى ان المدني تجاوز خطوطه الحمر؟ اقول ربما! فنصه منفتح من دون تأويل وفكرته رائدة باختراقها المفاهيم، تعامل معها على نحو متخيل غير ملزم انما ثاقب.

أرى ان المدني في مجموعته الصعود الى نبتون قدم نصوصا موشاة بفرادة تجربة خاصة في سياق ادب الفنتازيا، محكومة بـ خيال تأملي بارع، لامس من خلاها عقداً مهمة. احالها الى المطلق واضفى عليها وشاحا شفافا يمكن اختراقه، وهذا بحد ذاته مساهمة رائدة بفن الفنتازيا الفريدة خصوصا فيما يتعلق بمصدرية (الإشكاليات) المحرمة والمقدسة. هنا يخضع المدني نصوصه الى التجربة من اجل معاينتها بذات الحرية التي منحها لابطاله ومن ثم لقارئه.
اجترح المدني لغة خاصة بالايصال، مركبة ومثقلة بالمعنى، وطيبة بسلاستها، ولا تشترط قواعد كتابية صارمة. فقد عكف على تجديد العبارة فجعلها متواصلة من غير فاصلة، ولعل في ذلك موائمة بين ما يكتب وبين ما تنطوي عليه رؤيته للحياة التي ستستمر بنا او من دوننا، انما هي معشّقة بثبات، محكمة الرتج، وذات مصدرية اثيرية واحدة.
اكمل ما كتبته سابقا بحق ادب المدني بأنه عاشقا اثيريا بامتياز مرغما على الحب مثلما هو مرغم على الحياة التي تتدلى مثالبها كجمرات رهيبة فتكون ملامح العشق الأثيري هي الواهبة والخالدة على الدوام، وتكون نصوصه مهاجرة تستحق اللحاق بأثرها.



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فاطمة الفلاحي: الصورة ومنجم الضوء ورحلة الألم وحداثة النص
- محاولة في فك لوازم العشق
- في نقد المشروع الديمقراطي
- كنت جميلا بما يكفي ان تغادر بصمت
- حداد
- زهرة
- سوسن ابيض للكاتب المبدع محيي الأشيقر -البحث عن زمن جديد-
- أصدقائي والخريف
- «كيفك انت» :الرسالة التي تذكرها صاحبي
- مجزرة النرويج وفكرة المواطنة لجيلنا الثاني


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - المدني في رحلته الأثيرية الى نبتون