أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - -الصمت حين يلهو- لخولة الرومي















المزيد.....

-الصمت حين يلهو- لخولة الرومي


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 4206 - 2013 / 9 / 5 - 16:41
المحور: الادب والفن
    


محاولة لاستنطاق الواقع العراقي خلال نصف قرن

قبل الخوض في تفاصيل رواية "الصمت حين يلهو" للكاتبة العراقية د. خولة الرومي لا بد من الإشارة إلى أننا أمام عمل روائي فاذ يكشف عن القدرة السردية لخالقة النص ومبدعته. فهي متمكِّنة من أدواتها الفنيّة، ومسيطرة على سير الأحداث على الرغم من احتدامها وتوترها الدرامي العالي في عدد غير قليل من الوقائع التي لا يستطيع فيها القارئ أن يلتقط أنفاسه، إضافة إلى التحدي اللغوي الكامن في التنوّع السردي حيث تنتقل الروائية بسلاسة غير معهودة من اللغة العربية الفصيحة إلى المحكيّة العراقية الدارجة التي لا أظنّها مستغلقة أمام القارئ العربي إلاّ في حالات استثنائية محدودة كان على الكاتبة أن تفردَ لها مسرداً خاصاً ببعض الكلمات والعبارات المكتوبة باللهجة العراقية التي قد تقف حائلاً أمام فهم القارئ العربي لها. ولكي نلج في متاهة هذا النص "الملحمي" الواسع لا بد لنا من تفحص الأبعاد الرئيسة التي تشكِّل الهيكل العام لهذه الرواية المزدانة بعدد كبير من الأفكار والثيمات التي عالجتها الكاتبة حيث اعتمدت على تقنية الاستعادة الذهنية تارة، وتقنية الروي بضمير المتكلم تارة أخرى.

البُعد الزمكاني
تغطي الرواية مساحة زمنية واسعة تمتد منذ عام 1948 حتى الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط النظام السابق عام 2003. وقد حاولت خولة الرومي أن تتوقف عند المنعطفات الحادة في تاريخ العراق بدءاً بالعهد الملكي الذي شهِد نوعاً من الانفتاح والتعددية الحزبية وممارسة الحق الدستوري، مروراً بالانقلابات العسكرية التي دشّنها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، وانتهاء بمرحلة الحكم الاستبدادي الذي يرتبط بمجيء البعث إلى السلطة في 8 شباط عام 1963، وغيابه عن المشهد السياسي بعد تسعة أشهر، ثم هيمنته الثانية لثلاثة عقود ونصف العقد التي انتهت بإطاحة رئيسه السابق من قبل القوات- الأنكلو-أميركية عام 2003. أما المكان في هذا النص الروائي فقد اتخذ من قرية "أم السِعِدْ" التابعة لمحافظة البصرة بؤرة لانطلاق أحداثه التي توسعت لتشمل مدينة البصرة، ومنطقة الأهوار القريبة منها حيث تسكن قبائل المنتفك في سوق الشيوخ ومدينة الناصرية. وعلى الرغم من تركز مجمل الأحداث في القرية المُشار إليها سلفا إلاّ أن تشظياتها تمتد إلى بغداد وحلبجة والحدود العراقية التركية والأردن وأميركا مع إشارات مقتضبة إلى إيران وأندونيسيا وأستراليا. ومن هنا يمكن اعتبار المكان في هذه الرواية مكاناً قروياً شديد المحلية من ناحية، وكوزموبوليتانياً منفتحاً من ناحية أخرى.

البُعد الواقعي
يهيمن البُعد الواقعي على مساحة واسعة من هذه الرواية، ولهذا السبب فيمكن إدراجها ضمن تيار الرواية الواقعية بامتياز على الرغم من توفرها على عناصر فنتازية سنتحدث عنها لاحقاً ضمن البُعد الأسطوري. تنطلق الرواية زمكانياً من قرية "أم السِعِدْ" وتحديداً قبيل منتصف ليلة شتائية موحشة تشبه تماماً تلك الليلة العاصفة من ليالي شتاء عام 1948 حيث يسترجعها أبو رند عبر تقنية الاستعادة الذهنية ليخبرنا ما حلّ بوالده الشيخ شعلان الذي فرّ من مطاردة بعض أفراد الشرطة وأزلام الإقطاعيين الذين كانوا يتلاعبون بمصائر الفلاحين. وقد أفلحت الروائية خولة الرومي في أن تزاوج ما بين حدثين كلاهما أشدّ وحشية من الآخر. فالأول هو مطاردة الشيخ شعلان وزوجته من قبل الذئاب البشرية التابعة للإقطاعي وللسلطة الرجعية التي تؤازره. وحينما قبضوا عليهما حاولوا الاعتداء على زوجته، لكنها سارعت إلى الفانوس، ودلقت النفط على جسدها فاشتعلت مثل كرة متوهجة حتى لفظت أنفاسها الأخيرة وسط الصرخات الحادة والأنين الموجع الذي بدأ يتلاشى ويذوي في تلك الليلة الموحشة. أما الحدث الوحشي الثاني فهو هجوم الذئاب الحقيقية في تلك الليلة الشتوية العاصفة التي أربكت سكّان القرية جميعاً، وجرحت البعض منهم فيما أصابت البعض الآخر بهلع شديد، وخاصة النسوة اللواتي احتمين بالفوانيس والنيران التي أوقدنها هنا وهناك لإبعاد الذئاب الجائعة في تلك الليلة المحفورة في ذاكرة أبناء القرية المنسية. فكلا الحدثين درامي يتجاوز حدود الفجيعة، لكنه يشي في نهاية المطاف ببصيص أمل في عودة الأمور إلى نصابها الصحيح. إن الفصل الأول بما ينطوي عليه من مهيمنات واقعية ورمزية يكشف عن الرؤى الفنية والفكرية العميقة التي تدور في ذهن خولة الرومي المتوهج أبداً لأنها حاولت أن تختزل أغلب هموم الوطن في هذه النماذج الروائية التي انتقتها بعناية شديدة. وقد نجحت في احتواء ثلاثة أطراف كبيرة متنازعة في المشهد السياسي العراقي وهم البعثيون والشيوعيون والأكراد، غير أن هذا التركيز لا يُفقِد الأحزاب الأخرى، أو الشرائح الاجتماعية المستقلة، أهميتها أو دورها في الحراك السياسي للعراق على مدى خمسة عقود ونصف العقد تماماً. إن الوصف الدرامي لمداهمة الذئاب لقرية "أم السِعِدْ" يكشف بالدليل القاطع عن تمكّن الروائية خولة الرومي من فن السرد، وقدرتها على تصعيد الحدث الدرامي إلى ذروته، وقد يُخيّل للقارئ أحياناً أنها تتجاوز حدود الذروة، وخصوصاً في الحالات التي ينتقل فيها الخوف من الشخصية الروائية مثل رند وعمّتها إلى القارئ الموضوعي الذي ينسجم مع الحدث ويتماهى فيه. إن المشهد الدرامي لموت زوجة الشيخ شعلان يكشف عن الجوانب النفسية والسياسية والفكرية التي تتخلل سياق النص الروائي، كما أنها تكشف عن طبيعة القسوة الوحشية لبعض العراقيين، هذه القسوة التي تتجاوز حدود الجريمة. وإلاّ كيف نفسّر شهوة الانتقام من زوجة الشيخ شعلان، وتشفّيهم بهذا الموت المروّع. فحينما تمزّق ثوبها وهي تركض بين أغصان الأشجار في تلك الليلة الممطرة والعاصفة بانت أجزاء من جسدها البض فأخذ أحد أفراد الشرطة يتحسس بياضها، ويلامس نهديها النافرين غير أنها كامرأة قروية لم تتحمل هذه الإهانة القاسية، بالمفهوم القروي، فأقدمت على حرق نفسها تفادياً للعار الذي قد يلحق بالأسرة إذا ما اغتصبها واحد من المُطارِدين. كما أنّ صرخات شعلان قد كشفت للقارئ بأنه منتمٍ للحزب الشيوعي ولذلك فقد جاء ردّه سريعاً إن أسكت "لا تذكر اسم الله، ملحد ابن كلب. هذا درس لك ولأمثالك" (ص11). ثم اتُهِمت المرأة بأنها هي التي أحرقت نفسها من دون الإشارة إلى تحرّشاتهم الجنسية الوقحة ومحاولتهم الاعتداء عليها، وأُقتيد هو إلى المعتقل بتهمة الانتماء إلى حزب محظور والتحريض على الدولة. لقد انطلقت أحداث هذا العمل الروائي من ذكرى مستعادة كشفت لنا مسار النص بشكل عام، لكنها خبّأت التفاصيل وهي طريقة ذكية في المحافظة على إدامة زخم الترقّب والتشويق لدى القارئ وهذا يعني أن الأسّ الذي انطلقت منه هو أسّ سياسي تقدّمي يثور في الأقل على النظام الرجعي وأذنابه من الإقطاعيين والانتهازيين والوصوليين وقد انتقلت هذه البذرة الفكرية "المؤدلجة" إلى أبي رند الذي وقف هو الآخر ضد مختلف أشكال القمع الذي مثّله البعثيون القائلون بنظرية الحزب الواحد. ثم تنتقل هذه الروح الوطنية إلى ابنه الذي ولد إثر علاقة حُب لم تنتهِ بالزواج، لكنه سوف يتعرّف على والده الحقيقي الذي يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.

الشخصيات المستديرة
لا بد من الاعتراف بأن خولة الرومي روائية كبيرة تمسك بزمام الأحداث وسير الشخصيات، ولا تفلت منها حتى التفاصيل الصغيرة. ولهذا فليس غريباً أن تختار شخصيات مستديرة مركّبة، وهو خيار فني ينطوي على قدر كبير من التحدي، خصوصاً وأن نصها الروائي هو نص طويل ويحتاج إلى مقدرة فائقة في متابعة رسم الأحداث، وملاحقة الشخصيات في حراكها على الصعيدين الواقعي والفنتازي. دعنا نبدأ من أبي رند الذي كشفنا خلفيته السياسية، وما سبّبه له هذا الانتماء الفكري من خسائر فادحة على الصعد الشخصية والاجتماعية والنفسية وما إلى ذلك، لكنه أصرّ على مواصلة الرحلة، ولم يُهزم على الرغم من أنه التجأ إلى منطقة الأهوار في أثناء انقلاب 8 شباط عام 1963، ولاذ بمخابئها، وقضى ردحاً من الزمن بين أناسها الأصليين أو "اللابدين" هناك بحسب توصيفات أهل الأهوار. وهناك تعلّق بذكرى فتاة من أهل الهور، وهام بها حُباً غير أنه لم يستطع أن يكبح جماحه، فذهبت علاقته الحميمة إلى أقصى مداها على أمل أن يطلب يدها من أبيها في اليوم الثاني، لكن القوات الحكومية دهمت منطقة الأهوار ففرّ المتمردون إلى المدن القريبة من الأهوار والمحاذية لها. وحينما انكشف أمرها قرّر والدها أن يحرقها أمام الملأ "غسلاً للعار" الذي ألحقته بالأسرة. وضمن مشهد الحرق الدرامي نكتشف فعل القسوة والسادية من خلال تكديس أكوام من الحطب حولها وإحاطتها بالأدغال والأعشاب الجافة وإيقاد النار فيها، غير أن ابن خالتها "سريع" اندسّ بين ألسنة النيران، وفكّ رباطها، ثم وضعها داخل زورقه وفرّ بها إلى البصرة حيث تلاشت في تلك المدينة الكبيرة. وهناك أنجبت ابنها الوحيد عادل الذي سيصبح طبيباً تطارده السلطة هو الآخر لأنه حضر حفلة مريبة لم يعرف تفاصيلها جيداً. ثم تتطور هذه الشخصية المستديرة إثر وقوعه في حب "ثروة"، وهي زميلته في كلية الطب، لكن أباها لم يوافق على زواجه منها على رغم الوعود التي قطعها إليه. وحينما يختفي الدكتور عادل عن الأنظار تقوده المصادفات إلى بستان أبي رند عن طريق ساهر ابن عم رند وفي نهاية المطاف يتعرّف الدكتور عادل على أبيه الحقيقي الذي يسهّل عملية سفره إلى خارج الحدود عن طريق أحد المهرّبين الأكراد. أما ثروة فتصبح ضحية حيث تتعرّض للتعذيب في مديرية أمن البصرة. ومما يعمِّق درامية الأحداث وفجائعيتها أن أمها تنتحر إثر سفر زوجها الذي ضاعت أخباره بين الأردن وأندونيسيا وأستراليا. وضمن هذا الجو الأسري تظهر رند وهي شخصية محببة تخفف من وطأة الأحداث من خلال علاقتها العاطفية الحميمة بابن عمها ساهر، فهي طالبة متألقة تطمح في أن تدخل كلية الطب. وقد تعرضت خلال حياتها إلى هزّات عنيفة بسبب المخاطر التي ألمّت بأسرتها خلال هيمنة حقبة الحزب الواحد. وحري بنا القول إن هذه الشخصية قد أوشكت أن تقع في الحب المحرّم مع أخيها المجهول د. عادل الذي منحها اهتماماً كبيراً غير أن الكاتبة تفادت تطوير هذه العلاقات الوديّة إلى ما لا تُحمد عقباه. أما صارم فهو الشخص الأكثر إشكالية على مدار النص الروائي والنموذج السلبي للشخصية الانتهازية التي تصعد على أكتاف الناس من أجل تحقيق طموحاتها ومآربها الشخصية. لقد مرّ صارم بمنعطفات ومواقف خطيرة لكنه كان قادراً على تطويعها وتكييفها لمصلحته الشخصية. فالغاية بالنسبة إليه تبرر الوسيلة، وغالباً ما تكون الوسائل التي يتبِّعها دنيئة وقذرة ومنحطّة ولا تتناسب مع القيم القروية السائدة في مضاربه. كان صارم متجبّراً بسبب انتمائه لفكر البعث الشوفيني الذي أقصى الأحزاب السياسية العراقية كلها وأبعد القوميات والأقليات الأخرى عن دائرة اهتمامه. كما كان مبتزاً لأقربائه وأصدقائه وأبناء جلدته. وقد حاول أكثر من مرة السيطرة على بساتين الأخوين أبي رند وأبي ساهر. كان صارم لا يتورّع عن القيام بأي عمل من أجل كسب المال، ويكفي أنه قبِل بفكرة تهريب الآثار العراقية إلى أميركا وبيعها هناك من أجل الإثراء السريع. كما أنه كان متهماً بتخريب الاقتصاد الوطني سواء بسبب ترويج البضاعة الأجنبية أو التعامل مع المهرّبين وما إلى ذلك من طرق ملتوية تدرّ عليه أرباحاً وفيرة. يُعدّ صارم من الشخصيات المستديرة في النص لأنه مستخذٍ وذليل من جهة حينما كان مراسلاً عند العقيد أبو سراب، وهو متغطرس ومتجبِّر على أبناء قريته من جهة أخرى، وقد سامَ ملاذ وتعبان سوء العذاب. كما كانت له علاقات جنسية مع مومسات كثيرات مثل ليان ونجوى وغيرهن. وقد فضّ بكارة نجوى واغتصب ملاذ، وكان ينوي الاقتران برند، فهي من وجهة نظره الفتاة المناسبة له. كما كان السبب المباشر في قتل ملاذ بطريقة بربرية لم يألفها المجتمع العراقي من قبل، إذ طرحوها أرضاً، وضربوها ببلطة حادة على قفا عنقها، وفصلوا رأسها عن جسدها نهائياً. وقرّر والدها "تعبان" الذي اختفى بعد الحادث مباشرة أن يأخذ بثأرها وينتقم من صارم الذي اغتصبها. الغريب أن صارماً نفسه قد اختفى، لكنه وُجد مقتولاً في داخل سيارته في البصرة. وحسناً فعلت خولة الرومي حينما تركت القاتل مجهولاً، لأنها ستمنح القارئ العضوي فرصة المشاركة في الحدث، وإعمال الذهن في البحث عن القاتل أو توقعه في الأقل. فربما يكون القاتل فرداً من عصابة تهريب الآثار العراقية إلى أميركا لأنه طالب بحصة كبيرة من العملية. وربما يكون القاتل "تعبان" الذي انتقم لشرف ابنته التي ماتت بطريقة بشعة وغير مألوفة، كما يمكن أن يكون القاتل واحداً من التابعين للمومس نجوى التي ظهرت أنها قريبة لعائلة العقيد أبي سراب. كما يظل باب التوقع مفتوحاً على شخصيات أخرى تحركت على مدار النص، وكانت متضررة من وجود صارم بين ظهرانيها. أما الشخصيتان الأخريان فهما "تعبان" وهو الاسم الذي أغدقه صارم على "سردار" وهو شخص كردي رُحِّل من حلبجة إثر تعرّضها للغازات الكيمياوية السامة. أما "ملاذ" فهي ابنته الوحيدة المتبقية على قيد الحياة وقد منحها صارم هذا الاسم في حين أن اسمها الحقيقي هو "ﭬ-;-يان" وقد استقر بهما المطاف في قرية "أم السِعِدْ" حيث يخدمان صارم وعائلته المتسلطة على رقاب أبناء القرية. وحينما كبرت ملاذ وأصبحت شابة يافعة وجميلة أحبّت ساهراً، غير أن هذا الأخير كان موزعاً بينها وبين ابنة عمه رند. وفي نهاية المطاف يغتصبها صارم أكثر من مرة ثم يوشي بها إلى الشرطة حيث تُقتاد وتُعدَم بطريقة وحشية مُقززة. أما الأب فيرجّح أنه انتقم من صارم، وربما يكون قد عاد من دياره في شمالي العراق. هناك شخصيات أخرى كثيرة أثثت سياق النص لكن المجال لا يتسع هنا للتوقف عندها جميعاً.

البُعد الأسطوري
ربما تكون الواقعة الفنتازية الوحيدة هي ظهور السيدة "زينب" شقيقة الحسين "ع" عند أحد الآبار المحفورة في قرية "أم السِعِدْ" من جهة كربلاء هي مدار البُعد الأسطوري في هذا النص. فقد أرادت الكاتبة أن تتعاطى مع الشخصيات الإنسانية البسيطة التي تؤمن بالغيب، ولا تجد حرجاً في أن تقول إنها رأت السيدة زينب بأم عينيها وهي تخرج من البئر. ومن بين هذه الشخصيات يمكن أن نذكر أم كاصد التي فقدت ابنها في الحرب. وملاذ التي رُحِّلت من مدينتها قسراً إلى قرية "أم السِعِدْ" ولو تتبعنا الطريقة التي غاب بها كاصد سنجد أنها مثيرة فعلاً، حيث أُقتيد من البصرة ومنها إلى جبهة القتال. ثم وقع في الأسر، وأُخلي سبيله بعد الحرب، لكنه فضّل الذهاب إلى الكويت على أمل أن يُقبل لاجئاً في إحدى البلدان الأوروبية. وأمه لا تمتلك سوى أن تذهب بين أوانٍ وآخر إلى البئر الذي ظهرت منه السيدة زينب وتتوسل إليها أن تعيد لها ابنها المفقود. أما ملاذ فيُعتقد أنها تذهب إلى هناك لأكثر من سبب، ربما يكون الأول متعلقاً بمدينتها حلبجة، ورغبتها في العودة إلى هناك، أما الثاني فهو الأهم، بحسب تفسير أم كاصد، لأنها تذهب إلى البئر لكي تطلب مرادها من السيدة زينب في أن تحفِّز ساهر على الزواج منها. خلاصة القول إن أغلب نساء القرية وفتياتها يذهبن إلى تلك البئر لأسباب عاطفية لها علاقة بالحب والزواج أو عودة الغائبين من منافيهم القسرية البعيدة.

البُعد الترميزي
لم تبدأ خولة الرومي روايتها "الصمت حين يلهو" بفصل الذئاب اعتباطاً، ويكفي إحالة القارئ إلى الفصل الأول ليعرف مدى الخوف والهلع الذي بثّته الذئاب في قلوب الناس، فهي رمز للتربّص والشر والمباغتة. وقد نجحت الرومي في الاستحواذ على ذهن القارئ من خلال هذا الفصل الاستهلالي. وما إن نمضي في قراءة النص الروائي حتى نكتشف أن الذئاب البشرية هي أشدّ فتكاً من الذئاب الحقيقية، ولعل الجرائم العديدة التي حصلت في متن النص هي دليل دامغ لما نذهب إليه، لعل أبرزها مشهد احتراق زوجة الشيخ شعلان من دون أن يبادر أحد إلى إطفائها. ومشهد إحراق نجوى التي أنقذها ابن خالها سريع في اللحظات الأخيرة، ومشهد جدع رأس ملاذ أمام الملأ وما إلى ذلك من مواقف مؤسية لن تغادر ذاكرة القارئ بسهولة. حاولت خولة الرومي أن توظِّف كل الأحداث الجسام التي مرّت بالعراق وإن جاء التركيز على المنعطفات الحادة في تاريخ العراق. وقد نجحت في أن تلتقط بعينها السينمائية مظاهر المقاومة العراقية المسلّحة ضد الحكومات الدكتاتورية التي تعاقبت على حكم العراق. كما أنها رصدت بشكل دقيق جوانب من الحرب العراقية- الإيرانية وما رافقها من هجرة قسرية داخلية وخارجية. وحينما نُخِر جسد العراق من الداخل، وأصبح مثل جذع نخلة خاوية ينتظر الدفعة الأخيرة أنهت خولة الرومي روايتها بجملة ختامية ذكية ترجمها السائق الكردي الذي كان يصغي إلى المذياع حيث قال:"أميركا تهدد بضرب العراق لحيازته على أسلحة الدمار الشامل" (ص432). وختاماً لا بد من التنويه إلى أهمية هذا النص الروائي الكبير الذي يشكِّل إضافة حقيقية إلى الرواية العراقية الجادة التي تقرأ الواقع بعين محايدة. سبق للكاتبة أن نشرت رواية مهمة بعنوان "رقصة الرمال" نتمنى على النقاد العراقيين أن ينتبهوا لأهمية هذين العملين الروائيين وأن يُنصفوا روائية من هذا الطراز الثقيل مثل الدكتورة خولة الرومي.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخصخصة وتأثيرها على الاقتصاد العراقي
- قصيدة للشاعر صلاح نيازي في العدد التاسع من مجلة -Long Poem- ...
- المعيار المنهجي للناقد عبد الرضا علي في النقد والتقويم
- تقنيات الخط العربي وأشكاله الجمالية
- قراءة نقدية في المجموعة الشعرية الثالثة لسلام سرحان
- مدينة كاردِف تحتضن أمسية ثقافية عراقية منوعة
- بدايات المنهج العلمي ومراحلة منذ عصر النهضة وحتى الوقت الراه ...
- الطاقة في جسم الإنسان
- بغداد عاصمة الثقافية العربية بعيون أبنائها المغتربين
- البصمة الذاتية والصوت الخاص للفنان أمين شاتي
- أمل بورتر في ندوة في -بيت السلام- بلندن
- مشاكل المرأة العراقية في المملكة المتحدة
- احتفاءً بالمنجز الأدبي للشاعر الراحل عبد السلام إبراهيم ناجي
- تاريخ عربستان وثقافتها
- الثابت والمتغير في واقع ما بعد الثورة في تونس
- همسات مقدّسة في المركز الثقافي العراقي بلندن
- في أمسية بالمركز الثقافي العراقي بلندن (ج4)
- أمل بورتر: حينما أدخل في مناخ الكتابة الروائية أعاني، وأبكي، ...
- خالد القشطيني . . الضاحك الباكي (ج2)
- المركز الثقافي العراقي بلندن يستضيف خالد القشطيني(1)


المزيد.....




- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - -الصمت حين يلهو- لخولة الرومي