أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - عبد الحسين شعبان - خريطة التغيير العربية: إضاءات في أطروحات مغايرة!















المزيد.....



خريطة التغيير العربية: إضاءات في أطروحات مغايرة!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 4197 - 2013 / 8 / 27 - 20:47
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


ـــــــــــــ
• مفكر وباحث عراقي في القضايا الإستراتيجية العربية والدولية، خبير في ميدان حقوق الإنسان، والقانون الدولي، له مؤلفات عديدة .
• استاذ فلسفة اللاعنف- جامعة أونور (بيروت)، مدير المركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني ومدير عام مركز الدراسات العربي- الأوروبي.
عوضاً عن المقدمة: الشرارة من تونس
بدأت حكاية الربيع العربي بإضرام الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده، صباح يوم الجمعة 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، فقد عزّت عليه نفسه إثر صفعة تلقّاها من الشرطية فادية حمدي، وسط حشد شعبي في مدينة سيدي بو زيد، لاعتراضه على منعها ومصادرتها مصدر الرزق الوحيد له ولتسعة أفواه من أسرته.
كان ردّ البوعزيزي على كرامته المجروحة إنهاء حياته احتجاجاً، لا سيّما وأن فرص حصوله على عيش كريم باءت بالفشل بسبب استشراء سوء الإدارة وفساد السلطة في جسد الدولة وجميع مرافقها، ناهيكم عن شحّ الحريات المزمن. أحضر الشاب المتعلّم وبائع الخضار عدّته وتقدّم خطوات من مبنى المحافظة الذي لم يبعد سوى بضعة أمتار عن مكان وقوف عربات باعة الخضار، وبعد أن عبر الشارع ليكون أمام باب المبنى مباشرة، صبّ الزيت على نفسه وأشعل عود الثقاب، فتوهّج جسده، ولم يدر بخلده لحظتها، أن روحه الصاعدة إلى السماء، ستكون قرباناً للثورة، التي ستبدأ من تونس وتنتقل منها إلى العالم العربي بأسره.
وقد تسنّى لكاتب السطور زيارة مكان الحدث والحادث الذي أشعل الثورة في العالم العربي كلّه، وحسب ماوتسي تونغ، "تكفي شرارة واحدة ليندلع اللهب ويشعل السهل كلّه".
كل شيء قبل هذا التاريخ بدا هادئاً، بل واعتيادياً، لكن النار كانت تضطرم تحت الرماد كما يُقال، فما أن حرّكتها ريح شديدة، حتى اشتعلت، ملتهمة كل ما حولها من أوهام القوة وجبروت الاستبداد والرفاه الزائف. ومن يرقب مسيرة تونس في السنوات العشرين ونيّف الأخيرة، ولاسيما منذ استلام زين العابدين بن علي الرئاسة سيلحظ النقيضين متجاورين: هدوء ظاهري ومستوى معيشي لا بأس به وسلطة أقرب إلى الحداثة وحقوق للمرأة مكفولة دستورياً في أحسن مستوى قانوني في الوطن العربي، وهي إنجازات تُحسب بشكل أساسي للرئيس الحبيب بورقيبة الذي قاد تونس منذ الاستقلال حتى أواخر الثمانينيات رسمياً، ولكن من جهة أخرى كان البوليس السرّي بالمرصاد لكل من يتفوّه بكلمة ضد الرئيس وحاشيته أو يعارض النظام، كما كان القمع وشحّ الحريات والفساد المالي والإداري مستشرياً لدرجة مريعة، ناهيكم عن تمركز السلطة والمؤسسات السياسية والأمنية جميعها بيد رئيس الدولة، الذي أصبح تدريجياً حاكماً متسلّطاً لا يتورّع عن القيام بأي شيء بما فيه ما يتعارض مع القيم الإنسانية المنصوص عليها في الشرائع والمواثيق الدولية، فضلاً عن مخالفته لدستور البلاد ذاته.
لم يكن إضرام البوعزيزي النار في نفسه مجرد حادث عابر، بل كان بمثابة الشرارة الأولى، التي بدأت تكبر مثل كرة الثلج، وتنتقل من حي إلى حي ومن مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد ثاني، حتى أصبحت رمزاً لثورة الشعوب المقهورة، المنقوصة الكرامة، والتي تعاني من ظلم معتّق، خصوصاً شحّ فرص العدل الاجتماعي وتفاقم الفساد بكل أشكاله وضعف الشعور بالمواطنة، بسبب نقص الحقوق والحريات وعدم التكافؤ في فرص التنمية. ومن وجهة نظر التاريخ الاجتماعي وحسب كارل ماركس، فإن عشرين عاماً من التطور العادي لا يمكن أن تساوي أكثر من يوم واحد، وأنه على العكس يمكن أن تأتي أيام يتجمّع في كل منها عشرون عاماً.
وفي شروط علم الثورات كانت تلك لحظة ثورية بامتياز، لو تأخّرت، لكان من الممكن أن تتبدّد وتضيع فرصة تاريخية، ولو تم الاستعجال بها أو تفجيرها قبل الأوان، لكان يمكن أن تذوي وتذبل وتنتحر حسب المواصفات اللينينية بشأن الانتفاضة، وهنا كانت البراعة التي تجسّدت بالاتساق التاريخي يوم اتّحدت الظروف الموضوعية المواتية بظروف ذاتية مناسبة، مع توفر أداة هي الشباب واستعداد لا محدود للتضحية. ولعلّ في ذلك الفارق بين اللحظة الثورية بعد إحراق البوعزيزي نفسه (أي الناضجة) وبين إحراق نحو ثلاثة وثلاثين شاباً عربياً أنفسهم وإضرام النار في أجسادهم، لكن اللحظة الثورية ظلّت مستعصية، حتى وإن كان هناك تشابهاً في الأوضاع السياسية والظروف الاجتماعية والقهر والحرمان وشحّ الحريات، لكن اللحظة الثورية لن تتكرر ولن تستنسخ، إلى أن تحين مواعيدها، يومها سيكون لكل حادث حديث.
كانت اللحظة التونسية بداية لثورات لم تُعرف نهايتها بعد، سداها ولحمتها شباب بعمر الورد، يشكّل كل واحد منهم وعلى طريقته الخاصة، جمرة غضب واعتراض ضد الظلم والفساد وهدر الكرامة، وإذا كانوا قد تقدّموا الصفوف دون مبالاة وبصدور عارية، فلأنهم أرادوا أن يصنعوا حياة جديدة بعد سنوات من العتمة واختلال علاقة الحاكم بالمحكوم.
لقد أراد هؤلاء الشباب صناعة ربيع عربي أخضر، فكانوا قادة الثورة وسواعدها ووقودها في الآن، متسلّحين بمعرفة وعلم جديدين بفعل الثورة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والاعلام والاتصالات والمواصلات. وإذا به يُحدث المفاجأة وتأتي هذه المرة من تونس، الأكثر رفاهاً وتعليماً ومدنية في العالم العربي، وهي بحد ذاتها ظاهرة جديدة في علم الثورات، لا بدّ من التوقف لدراستها واستخلاص الدروس والعبر منها .
"فهم" بن علي في اللحظة الأخيرة أن كل شيء قد حُسم وأن مناوراته لشق وحدة حركة الشباب لم تنجح، وأن الثورة في الأطراف وفي المركز حملت شعارات وطنية عامة وأنها كانت موحدة وسلمية ومدنية، وهنا تدخّل الجيش ليحسم الأمر، وحينها غادر بن علي إلى منفاه في المملكة العربية السعودية التي وافقت على استضافته في يوم 14 كانون الثاني (يناير) 2011، الذي أصبح تاريخاً محفوراً بالذاكرة وفي القلوب وفي الساحات والملاعب والمكتبات بحروف من نور.
ويبدو أن ثورة تونس التي كانت بطاقتها الحمراء جاهزة لا تشبه غيرها من الثورات، فهي ثورة تنمية إذا جاز التعبير، وليس هناك مظاهر جوع أو فقر مدقع، ولم تشر التقارير الدولية إلى ذلك، فضلاً عن وجود متعلمين وخريجي جامعات، وإنْ كانوا يعانون من البطالة وشحّ فرص العمل في السنوات الأخيرة، الاّ أن في ذلك سبباً مختلفاً للتغيير، ولم يعد النظام الذي حقّق نوعاً من النمو الاقتصادي ووفّر خدمات صحية وتعليمية وهياكل ارتكازية وبنية تحتية، قادراً على الاستمرار، بانسداد الأفق الذي وصل إليه، وكما يقال "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، فالكرامة والحرية أساسان للتطور الإنساني، وقيمة عليا لبني البشر، لا يمكن دونهما السير في دروب التنمية وتأمين احترام حقوق الانسان.
ومثلما حدث في ثورات أوروبا الشرقية أن تشكّلت سريعاً وخلال فترة وجيزة هيئات ومنظمات، فقد تأسست في تونس ومصر تحالفات ولجان وهيئات ناطقة باسم الشباب، ومع أنها حصلت في ليبيا وسوريا أيضاً، لكن التباسات كثيرة رافقتها، خصوصاً في ظل التداخلات الخارجية والاحترابات الداخلية، وتصاعد القمع والعنف الداخلي، أما في اليمن فقد كان دور أحزاب اللقاء المشترك مهماً في توفير البيئة السياسية، للتحرك الشعبي، لكن الشباب شكّلوا هيئاتهم وتحالفاتهم. وفي البحرين لعبت حركة الوفاق الإسلامي (الشيعية الأصول) دوراً مهماً في قيادة التحرك الاحتجاجي، خصوصاً بما تمتلك من رصيد شعبي وبرلماني (حوالي نصف أعضاء مجلس النواب الذين قدموا استقالتهم) إضافة إلى منظمات سياسية يسارية وديمقراطية ( جمعية العمل الوطني الديمقراطي والمنبر الديمقراطي) شاركت فيها، لكن التداخل الإقليمي حال دون إظهار السمات الحقيقية للمطالب الشعبية.
أما في العراق فالوضع مختلف إذْ أن غالبية القوى السياسية المنخرطة في العملية السياسية، ظلّت على اصطفافاتها، مع أنها حاولت مغازلة الشارع أحياناً، خصوصاً في ظروف نقص الخدمات الفادح، لاسيّما في الكهرباء والصحة، واستمرار تفشي البطالة واستشراء الفساد المالي والإداري، لكن الحركة الشبابية بحكم عوامل الانقسام الطائفي التي لا تزال موجودة والمحاصصات المذهبية والإثنية، لم تستطع أن تتجاوز ذلك، مع أن وجودها واستمرارها يعتبر أحد المظاهر الجديدة في المشهد السياسي العراقي.
ولكن أخطر ما تمرّ به العملية السياسية ومنذ العام 2003 ولحد الآن، هو الانقسام الجديد، خصوصاً بخروج محافظات بأكملها على الحكومة الاتحادية، حيث بدأت من الأنبار وشملت صلاح الدين والموصل وكركوك وديالى وبعض أجزاء من بغداد، ولا سيما الأعظمية، الأمر الذي قد ينذر بسيناريوهات عديدة، وربما سيكون أحلاها مرًّا فيما يتعلق بوحدة العراق وتماسك كيانه الدستوري والسياسي، لا سيّما باستمرار الانشطار العمودي والجغرافي سواء في المناطق الغربية والشمالية من العراق، أو في منطقة إقليم كردستان.
واختلفت حركات الاحتجاج في عُمان والأردن والجزائر والمغرب، فكل واحد منها سلك سبيلاً مختلفاً، ففي عُمان اتّجهت السلطات بعد محاولة منع الاحتجاجات إلى الحل الاقتصادي بزيادة المخصصات والمِنح، وهو إجراء سعودي أيضاً، لاسيما بعد عودة خادم الحرمين الملك عبدالله من رحلة العلاج، وفي الأردن احتدمت الأمور، لكنها لم تصل إلى الحدّ الذي يدعو إلى تغيير النظام، وتجمعت حزمة من المطالب الشعبية والتقطت المؤسسة الملكية المبادرة، فشكّلت لجنة للحوار الوطني من شخصيات مرموقة اتصلت بجميع الفاعليات والأنشطة السياسية المعارضة وأعدّت تعديلات على الدستور، قال عنها بمن فيهم من تحفّظ عليها أو من يعتبرها غير كافية وغير جذرية، إنها خطوات إيجابية وإنْ لم ترقَ إلى بلوغ الملكية الدستورية لكنها في الطريق إليها، ولا تزال الجزائر على قائمة التغيير على الرغم من بعض مظاهر الصدام والاحتدام، أما في المغرب فقد صدرت تعديلات دستورية جديدة لبىّ قسم منها مطالب المعارضة في خطوة استباقية لامتصاص موجة التغيير والاحتجاج، وهي مبادرة ذكّرت بمبادرة أواخر التسعينيات يوم انتقل المعارض عبد الرحمن اليوسفي من قيادة المعارضة إلى رئاسة الوزراء (الوزير الأول) بعد خطوات واصلاحات بادرت إليها المؤسسة الملكية الحاكمة والعريقة .
هكذا كانت حركة الاحتجاج تتّسع بسرعة خارقة جغرافياً لتصل إلى فئات واسعة في الأحياء والمناطق والبلدات القصيّة والنائية، مثلما هي في مراكز المدن والحواضر، حيث ينفتح الشباب ويتعايش، في ظل خيال جديد غير مألوف من قبل، ولعل مثل هذا الخيال بفضل العولمة أصبح كونياً، وبمستطاع الفرد الاطّلاع على ما يجري في العالم، فلا حدود ولا قيود لذلك، الأمر الذي زاد في اشتعال حركة الاحتجاج لتذهب متجاوزة حدود الجغرافيا، لاسيّما في ظل وعي جماهيري شبابي ورغبة في التغيير والتخلّص من واقع بائس، الأمر الذي يوحي بميلاد ملامح مستقبل جديد حتى وإن صادفته عقبات أو تعثّرات، خصوصاً إذا ما أُحسن قراءة ما حدث في ضوء تعزيز مشروع نهضوي عربي جديد كإستحقاق كوني تأخر نحو ربع قرن عن المسار العالمي.
لقد انكسر حاجز الصمت وبدت الأنظمة المنيعة والقويّة، هشّة ومنخورة من الداخل، فمن كان منّا يتصور أن يبتدئ نهاره في تونس أو مصر أو ليبيا دون أن تقع عيناه على صورة بن علي أو حسني مبارك أو معمّر القذافي، سواءً عبر التلفاز أو في صحيفة أو إعلان أو ملصق في الشارع أو غير ذلك. وإذا بهم يرحلون في غضون أيام معدودات، ليس كما يغادر البشر العاديون، مواقعهم الوظيفية أو أماكن عملهم ورزقهم، بل غادر "القادة" مكرهين، مع إشارات بالأصابع والأيادي والصوت والصورة إلى الفناء، أحدهما إلى المنفى دون عودة، والآخر نُقل محمولاً إلى قفص الاتهام في حال يُرثى لها، والثالث ظلّ مختبئاً وفارّاً من وجه العدالة ثم عثر عليه، وبين مصدّق ومكذّب تساءل من أنتم؟ فأجهزوا عليه ففارق الحياة دون أن يصل إلى المحكمة. كلمة واحدة هي التي أطاحت بهم جميعاً وربما ستطيح بآخرين هي: "إرحل".
مثلما تحوّل مسرح ليتارينا ماجيكا في براغ إلى "صانع" قرار، حيث كان يجتمع فيه قادة المعارضة وأعضاء المجتمع المدني، فقد تحوّلت بعض المقاهي ودور النشر ومقرّات بعض مؤسسات المجتمع المدني قرب ميدان التحرير إلى مركز قرار أيضاً، وكذلك المقاهي المؤدية إلى شارع الحبيب بورقيبة، مثلما هي ساحة التحرير في بنغازي .
كانت ما عُرف بواقعة الجمل يوم 30-31 كانون الثاني (يناير)2011،الشعرة التي قصمت ظهر النظام المصري، ومعها النظام العربي الرسمي ككل، وتتعلق الواقعة باستقدام النظام ما سمّي بالبلطجية وهم عسكريون أو من أجهزة الأمن أو المتعاونين معها وهم على الجمال والخيول، فاقتحموا ميدان التحرير ونشبت معركة شهيرة سمّيت بواقعة الجمل وقد استخدمت أنظمة عربية أخرى جماعات مماثلة وأنزلتها إلى الشارع بزي مدني لمواجهة المحتجين، وهو ما أطلق عليهم الشبيحة أو الأزلام أو غيرهم.
لا أستهدف من هذه المقدمة الطويلة تقديم مخطط تفصيلي للثورات العربية الناجزة وغير الناجزة، وليس في نيتي تقديم وقائع يومية للأحداث فتلك قد تكون مهمة المؤرخ التي تتلخص في جمع وقراءة الأحداث وربطها ببعضها، بما قبلها وما بعدها وبما يناظرها في هذا البلد أو ذاك، بما فيها الروايات المتباينة، فالتاريخ مراوغ وماكر في الكثير من الأحيان حسب هيغل، كما أنني لا أستهدف تدوين تاريخ اللحظة، أو لحظة "التاريخ" فتلك مهمة الإعلامي حسب البير كامو باعتباره مؤرخ اللحظة، وستكون مهمة السسيولوجي غير مكتملة لأنه لا يتنبأ، بل يعطي أحكامه وتقديراته بعد وقوع الحدث ووفقاً لمعطياته، فيستخدم أدوات التحليل ومثل هذا الأمر لا يزال في تفاعلاته الأولى، بما فيها من انتهاكات وتجاوزات بانتهاء " شرعية" كانت سائدة أو تآكلها، مع بدايات لشرعية جديدة لم يتم التوافق عليها أو لا زالت تتقاذفها تيارات شتى ولم تستقر بعد.
أما مهمة المنشغل بقضايا الفكر فتتلخص بالوصول إلى الحقائق وتحديد السمات العامة والخلاصات والدروس الضرورية التي يمكن الوصول إليها، والهدف هو تحديد المعاني والدلالات، ليس لما وقع من الأحداث، حسب بل لاستشراف أبعادها ومضامينها وآفاقها المستقبلية.
وقد استهدفت من عملية البحث والتقصي والاستنتاج، استكشاف العملية الثورية الجارية، بالتوقّف عند مقدماتها والبحث في مساراتها والسعي للتعرّف على حقيقتها وخصائصها، ومن جهة ثانية دراسة التحدّيات والخيارات الصعبة التي أثارتها إزاء المستقبل، لاسيما التباسات بعض جوانبها وتداخلاتها مع بعض العوامل الخارجية، خصوصاً المسلحة وارتباط ذلك بحصار وعقوبات، قد تطول، دون إحداث التغيير المنشود، ولعل"النموذج الليبي" على الرغم من التضحيات والخسائر التي قدّمها الشعب الاّ أن عملية الحسم لم تحدث الاّ بعد التدخل الخارجي لحلف الناتو، الأمر الذي عقّد المسألة إلى حدود غير قليلة، ليس لأوضاع الحاضر فحسب، بل فيما يتعلق بالتطور المستقبلي أيضاً.
ولا تزال "المأساة السورية" ماثلة للعيان، لا سيما تأثيراتها الخطيرة على السكان المدنيين وارتهاناتها للعامل الدولي والإقليمي، حيث يدفع الشعب الثمن باهظاً منذ ما يزيد على عامين من الاحتراب والاقتتال وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا وتدمير البنية التحتية وتخريب المرافق الحيوية والمعالم الثقافية والحضارية والآثارية.

التفاؤل المفرط والتشاؤم المحبط
إن الحكم على مسار حركة التغيير بالنجاح أو الاخفاق يتعلق بعدد من العوامل والظروف الموضوعية والذاتية، في الحاضر والمستقبل، الداخلية والخارجية، وذلك تبعاً لمصالح القوى والتيارات السياسية والاجتماعية، والأمر يحتاج إلى فترة زمنية كافية للتقويم، ولعلّ المقاربة الفكرية ذات الدلالة تحتاج إلى فحص للحدث وتحليل لعلاقته التاريخية وأبعاده الاجتماعية وسقفه الحقوقي، ولأن الحدث لم يكتمل بعد وفيه الكثير من الاحتمالات وربما المفاجآت، فإنه لا يمكن تقديم رؤية جامعة ومانعة ونهائية، الاّ إذا أخذنا خط التطور وأفقه المستقبلي دون إهمال ما قد يتعرّض له من منعرجات وتحدّيات.
وبكل الأحوال، فالأمر يحتاج إلى وقت لتقديم حكم أقرب إلى الدقة بعيداً عن التفاؤل المُفرط والتشاؤم المُحبط، وهما القراءتان اللتان سادتا بُعيد الربيع العربي منظوراً إليه بلحظته الراهنة وتداعياتها وما أعقبه من فوضى وانفلات، ناهيكم عن نشوة وشعور بالامتلاء، لاسيما بعد الإطاحة بالأنظمة التي بدت عاتية، وكأنه لا أمل في تغييرها، بعد أن تعتقت بالسلطة لسنوات، وضاعت أو تبدّدت كل فرص الإصلاح والتغيير السابقة، الأمر الذي أصيب البعض بسببه بالإحباط لدرجة القنوط واليأس أحياناً .
وإذا كانت القراءة الحقوقية مهمة، إلاّ أن هذه القراءة تحتاج إلى مزيج من السياسة وعلم الاجتماع، بما فيه علم الاجتماع السياسي، والقانون والشرائع حسب منطق مونتسكيو في كتابه " روح الشرائع" وهذه هي التي يتكوّن منها " عقل الإنسان" ووفقا لجان جاك روسو فإن العلاقة بين الحاكم والمحكوم ينبغي أن ينظمها " العقد الاجتماعي" ، لاسيّما في بحثه عن أشكال الحكم ونمط الدولة، وهكذا سيكون الوصول إلى ذلك تحليلاً ومقاربة، خصوصاً بعد أن يُنجز الحدث ويكتمل لتتم قراءته سسيولوجياً بقراءة منهجية.
وكل هذه القراءات المحتملة والمتداخلة ستكون ماثلة أمام الباحث والمفكّر، خصوصاً عند تناول موضوع لم يكتمل حتى فصله الأول ولا زال في مناطق عديدة أقرب إلى إرهاصات، حيث تستمر القوى المتصارعة بما فيها الثورية في البحث عن الطريق الصحيحة، وتسعى جاهدة للمراجعة لكي تتأكد من مواقع أقدامها فيها، خصوصاً أفقها المستقبلي، ولكن لا بدّ من تمثّل الدلالات لما حصل وما وقع وما هي أهم الاستنتاجات الراهنة من خلال قراءة الواقع.
ومثل هذه الدلالات لا تأتي من خلال الشعور بنشوة الانتصار الأولى، بل من خلال التراكم والتحقّّق والتواصل، بما فيها تجاوز المشكلات الجديدة التي قد تنشأ والتحدّيات المختلفة والمتنوّعة التي ستواجهها، لاسيما إذا كان ما قد حدث كبير جداً وجديد جداً وهو أقرب إلى زلزال هزّ الأرض وما عليها، حيث انقلبت الأمور على بعضها، واختلطت الأوراق وضاع بعضها في زمام المواجهة وحركة التغيير، علماً بأن مسارات التغيير والانتقال المتداخلة والمتفاعلة، لا زالت في بداياتها، ولهذا لم يكن المطلوب تقديم فرضية، ليتم البرهان عليها أو تقديم وعد لكي يتم تأكيد تحققّه، بقدر ما هي قراءات مفتوحة لحدث لم يكتمل، فيه اشتباك لما حصل عربياً، لكن له خصوصياته، كما فيه عوامل موضوعية قد تكون ناضجة أو بعضها ناضجاً وبعضها لم ينضج بعد، مع نقص وقصور في الأداة الذاتية التي لم تستكمل بعد، وقد تحتاج إلى وقت غير قصير وتراكم لكي تختزن التجربة، والأمر يحتاج إلى جهود غير قليلة، بما فيها الحفاظ على البيئة الجديدة، خصوصاً ما وفرته من حريات، لاسيما حرية التعبير وهو أهم عنصر من عناصر النجاح، إذ بدون حرية التعبير، التي هي حق من الحقوق الأساسية للإنسان، لا يمكن الدفاع عن الحقوق الأخرى بما فيها حق الحياة الذي هو حق مقدس وسامي ويتقدم على بقية الحقوق.
المعيار الحقيقي للتغيير لا يتم عبر الإطاحة بالأنظمة الحاكمة السابقة فحسب، بل بمدى ما يمكن إنجازه من عملية التغيير الاجتماعي- الاقتصادي، السياسي والثقافي والقانوني، ولاسيما في ميدان التنمية والرفاه الاجتماعيين، ولعل ذلك يحتاج إلى زمن طويل للحكم عليها وتقويمها إيجاباً أو سلباً ضمن مؤشرات الدخل ومعايير دولية، مع أخذ الظروف الخاصة بنظر الاعتبار، بما فيها مستوى التعليم والصحة ومياه الصرف والكهرباء والماء الصافي الصالح للشرب والبنية التحتية والهياكل الارتكازية والبطالة والفقر.
وإذا كانت حركات التغيير التي ابتدأت شرارتها الأولى في تونس وانتقلت إلى مصر ومنها إلى العالم العربي، سواءً تمكّنت من تغيير الأنظمة الحاكمة أو لم تتمكن بعد، قد رفعت شعارات الحرية والكرامة الانسانية ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، فإن هذه الشعارات تمثل مسارات طويلة الأمد بحاجة إلى تراكم وتطور تدريجي. وهو ما أوردته في كتابي .
الثورة والديمقراطية
يمكن القول: لا تولد الثورة مع الديمقراطية في يوم واحد، والثورة لكي تولد وتترعرع ويشتّد عودها وتنضج تحتاج إلى مسار طويل وتراكم يحتمل التجربة بما فيها الخطأ والصواب، وهي بذلك تحفر في الأساسات المفضية إلى الديمقراطية وإنْ كان الطريق إليها وعراً وغير سالك أحياناً، ولا بدّ أن يتسم بالآليات الديمقراطية حيث يتم حفره وتعبيده إرتباطاً باحترام حقوق الإنسان والسعي لإعلاء قيمه وحرياته الأساسية الفردية والجماعية، وعكس ذلك ستكون "الثورة" تغييراً فوقياً سرعان ما يتبخّر، لأنه نقرٌ في السطح، وليس حفراً في العمق على حد تعبير المفكر ياسين الحافظ.
وبين الثورة والديمقراطية طريق طويل وشائك ومعقد، وحتى وإنْ تعاشقا فإنهما لا ينامان في سرير واحد، وتصادف علاقاتهما، منعرجات وتضاريس وتباعدات أحياناً، ويعتمد نجاح الأولى على درجة سيرها بخط متوازي مع الثانية، أما التطابق فهو أقرب إلى الأمنيات الكبرى وحسب فريدريك إنجلز إذا استطاع التطبيق (البراكسيس) السير بخط مواز للنظرية، فذلك يعني أنه في الطريق الصحيحة، أما التطابق فيكاد يكون مستحيلاً . ويختلف مسار الثورة الديمقراطية، قرباً أو بُعداً بدرجة تطور كل بلد اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً وقانونياً، الأمر الذي يمكن أن يصل فيه بلد إلى الديمقراطية بطريق أقصر، في حين يحتاج بلد آخر للوصول إليها إلى فترات مضاعفة وبخسائر أكبر وتضحيات أعظم.
لعلّ وصول تجارب الانتقال الديمقراطي لبعض دول أوروبا الغربية كان أسرع كثيراً من بعض دول أوروبا الشرقية، بحكم البيئة الثقافية والتربوية الداخلية والتطور الاقتصادي والظروف الدولية المؤاتية، أي العمق الأوروبي الغربي، مثلما حصل في دول مثل البرتغال بعد القضاء على دكتاتورية سالازار في العام 1974، حيث توجّهت البلاد تدريجياً نحو مرحلة الانتقال الديمقراطي، بإعداد دستور دائم عبر جمعية تأسيسية وإجراء انتخابات ديمقراطية، وهكذا سهّل قيام مؤسسات ديمقراطية، وحصل ذلك بفعل تطور المجتمع المدني ودرجة استعداده ليتحوّل إلى قوة اعتراض ورصد ورقابة، وفي الوقت نفسه قوة اقتراح وشراكة.
وحصل الأمر ذاته في إسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو، الذي حكمها ثلاثة عقود وثماني سنوات بالحديد والنار، وحصل التوافق الشعبي للانتقال والتحوّل الديمقراطي بتأسيس جمعية وطنية وإعداد دستور دائم وقانون انتخابات ديمقراطي وإجراء انتخابات في ظل ملكية دستورية، وانفتاح وحريات.
وعلى الرغم من أن التجربة اليونانية، كانت أكثر صعوبة وتعقيداً بحكم الانقلابات العسكرية وظروف التخلف، لكنه تم وضع حد لهذا المسار الدرامي، بالاتفاق على التحوّل والانتقال الديمقراطي واختيار جمعية تأسيسية وطنية لإعداد الدستور وإجراء انتخابات.
أما في أوروبا الشرقية فقد ساهمت ظروف داخلية وأخرى خارجية في إنضاج حركة التغيير ابتداء من حركة البريسترويكا " التجديد وإعادة البناء" التي هيأت الأجواء المناسبة لحلحلة الستار الحديدي للكتلة الاشتراكية من الداخل، وصولاً إلى الظروف الدولية المناسبة والمشجّعة.
وقد تحاقبت فترة التغيير في أوروبا الشرقية، وتساوقت مع التغييرات التي حصلت في عدد من دول أمريكا اللاتينية، التي اتخذت مساراً طويلاً تعزّز من خلال شعار " الثورة في صندوق الاقتراع"
يمكن مقاربة بعض التجارب العربية، ولا سيّما في تونس ومصر (خصوصاً في مساراتها الأولى، وبغضّ النظر عن العنف الذي اندلع لاحقاً) بالنموذج البولوني- المجري أو بالنموذج التشيكوسلوفاكي - الألماني، وإن كان في هذا الأخير تغلّب فقه القطيعة، في حين تزاوجت في النماذج الأولى، فقه التواصل وفقه القطيعة، وإنْ كان هناك منزلة بين المنزلتين كما يُقال، وإذا كان العامل الخارجي إيجابياً في إيجاد تسوية في اليمن على سبيل المثال، لاسيما من جانب مجلس التعاون الخليجي ومبادرته للانتقال السلس للسلطة وتخلّي علي عبدالله صالح (الرئيس اليمني) عن صلاحياته إلى نائبه، فإنها كان أكثر إيلاماً وتعقيداً في الوضع الليبي، خصوصاً وأنها زادت من معاناة السكان المدنيين، بل أن بعضهم سقط بأسباب عدم التزام قوات حلف الناتو بمعايير القانون الدولي الانساني واتفاقيات جنيف لحماية المدنيين لعام 1949 وملحقيها البروتوكولين الخاصّين بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، وحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
ولا يزال الوضع السوري شديد التعقيد والتداخل بفعل استمرار آلة القمع وأعمال العنف، لاسيّما وقد أصبحت المجابهة المسلحة إحدى الوسائل الأساسية التي رافقته، منذ مطلع العام 2012، فقد كان الطابع العام للاحتجاجات هو الطابع السلمي ولكنه جوبه بقمع شديد أو كم كان بالامكان اختصار الطريق وتجنيب سوريا والمنطقة الكثير من الخسائر المادية والمعنوية، ولا سيما البشرية، بالاتفاق على انتقال سلس وسلمي للسلطة نحو الديمقراطية وبإشراف عربي ودولي، علماً بأن المبادرات العربية والدولية، بما فيها مبادرة كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة، واتفاق جنيف لم تحرزا النجاح المطلوب وواجهاتهما تحديات كبرى، لاسيما باستمرار مسلسل القمع واستخدام القوة والعنف ضد المدنيين ومن جانب المسلحين أيضاً. ثم جاءت مبادرة الأخضر الإبراهيمي بتكليف عربي ودولي من جانب جامعة الدول العربية والأمم المتحدة .
وإذا كانت الأزمة السورية قد تم تدويلها، فإن حلّها اليوم لن يكون بمعزل عن توافق دولي أمريكي روسي، ولكنه إذا نجح سيكون حلاًّ سياسياً يسهم في الحفاظ على ما تبقى من سوريا ويمهّد الأرضية للانتقال السلمي وإجراء انتخابات بإشراف دولي وتهيئة مستلزمات تحوّل في طبيعة السلطة السياسية.
إذا كانت التجربتان التونسية والمصرية قد سارتا بسلاسة وحُسمتا بسرعة فائقة، على الرغم من التضحيات، فإن ذلك انعكس على مسارهما لاحقاً، فاستطاعتا إنجاز قيام جمعية تأسيسية وإجراء انتخابات برلمانية في تونس وبرلمانية ورئاسية في مصر، ولعل في ذلك نجاح كبير في عملية التحوّل الأولى، بنقل السلطة إلى مؤسسات والتحضير لوضع دستور دائم وإجراء انتخابات شاملة واختيار من يمثل الشعب، وإذا كان الدستور المصري قد أثار ردود فعل حادة ضدّه، فإن ذلك جزء من مسار طويل للتوجّه نحو الديمقراطية، وسيعتمد نجاحهما أكثر فأكثر على بناء العدالة الانتقالية التي تقوم على كشف الحقيقية كاملة ومساءلة المرتكبين وتعويض الضحايا وجبر الضرر وإجراء إصلاحات جذرية للنظام القانوني والقضائي والأمني لمنع تكرار ما حصل بعيداً عن الكراهية والانتقام والثأر.
وبذلك ستكون هذه التجارب قد وضعت قدميها على الطريق الصحيح، وإنْ احتاج الأمر إلى زمن غير قصير، لاسيما وأن الاستبداد والفساد اللذان حكما البلاد كانا قد استشريا إلى حدود كبيرة جداً. وإذا كانت التجربتان قد مرّتا بإنسيابية في تونس ومصر، فبحكم العامل الثقافي ودور النخبة، فضلاً عن التربية والتعليم، ولاسيما في تونس، قياساً بليبيا، التي ستكون فيها العملية أكثر تعقيداً، خصوصاً تداخلها مع بعض العوامل العشائرية والجهوية والعادات والتقاليد القاسية، وضعف البيئة الثقافية والمعرفية، وغياب المجتمع المدني، الذي كان له دور مهم في تونس ومصر، وإلى درجة أقل في اليمن التي فيها الكثير من عوامل الاحتراب الداخلي، مثل تداخل الديني بالسياسي والجهوي بالوطني والطائفي بالإقليمي، وهكذا تبرز أمام البحث مشكلة الجنوب وقضية الحوثيين والحروب الستة التي استهدفتهم ومشكلة القبائل ودور بعض الجماعات المسلحة بما فيها تنظيمات القاعدة الارهابية.
إن أهم أسباب النجاح في التجربتين التونسية والمصرية تعود بتقديري إلى تمكّن كلتاهما من اجتياز المرحلة الأصعب والأخطر، وهي الحفاظ على الدولة وتدريجياً إستعادة هيبتها والحفاظ على مؤسساتها والعمل على تشغيل أجهزتها بما يساعد على حفظ النظام والأمن العام من جهة، وحماية أرواح وممتلكات الناس من جهة أخرى وتلكم الوظيفتان هما المهمتان الأساسيتان لأية دولة، ودونها تصبح الدولة لا معنى لها، بل تكفّ عن تصبح دولة. وإذا بقي جهاز الدولة متماسكاً في اليمن حتى الآن على الرغم من التصدّعات الذي أصابته، فإنه في الوقت نفسه جنّب البلاد شرور التشطير والانقسام والتشظي، كما أن الإسراع في إعادة بناء أجهزة الدولة هو الذي سيكون كفيلاً بالتخلص من تأثير الميليشيات وانتشار السلاح والتمترسات القبلية والجهوية، خصوصاً لوجود تراكمات واحتقانات طائفية ومذهبية وإثنية، ومثل هذا القلق يتعاظم في سوريا لوجود تراكمات واحتقانات طائفية ومذهبية وإثنية، ودينية وجهوية كثيرة، الأمر الذي ينذر بعواقب وخيمة قد تمتد إلى دول المنطقة.
وقد ساهم الجيش والقوات المسلحة في تونس ومصر، في حسم مسار التطور في اللحظة الحاسمة لانتصار الثورة، وفيما بعد في حماية أمن وسلم الوطن والمجتمع، وبالتالي الحفاظ على انسيابية المرحلة الانتقالية وحماية التدافع الاجتماعي والتصارع الفئوي من الإنفلات، وهو أمر في غاية الأهمية وإذا استطاعت الدولة أن تؤمن المسار اللاحق نحو الديمقراطية، وخصوصاً من خلال استعادة حكم القانون وإعادة النظر في طبيعة ودور القضاء وجهاز الأمن والإعلام وكل ما يتعلق بحق التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم الحزبي والنقابي وحق المشاركة باعتبارها حقوق أساسية ولا غنى عنها لبقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإنها تكون قد اختصرت طريق الانتقال إلى الديمقراطية وجنّبت البلاد من احتمالات الانفلات والتقهقر.
أما أسباب الفشل أو الإخفاق، فقد يعود قسم منها إلى احتمال انفراد تيار سياسي واحد بالحكم أو الإصرار على قيام دولة دينية، حتى وإن جاء هذا عن طريق صندوق الاقتراع، لاسيما إذا ساهم في عزل أو تهميش التيارات الأخرى، مستبعداً مبدأ المشاركة والتوافق، خصوصاً في المرحلة الانتقالية وإزاء القضايا الكبرى والحاسمة التي تؤثر على مسار البلاد ككل: مثل الدستور وقانون الانتخابات وإقرار التعددية والتنوّع وحقوق الأقليات " التنوّع الثقافي" وحقوق المرأة، إضافة الى حكم القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات.
كما أن إهمال قضية العدالة الاجتماعية سيعود بالمجتمع إلى العهود السابقة التي إتّسمت بالتفاوت الطبقي والاجتماعي وعدم تكافؤ الفرص، حيث ازدادت الطبقات الغنية تخمة وغنى وازدادات الطبقات الفقيرة جوعاً وفقراً، وإذا ما استمر الفساد الإداري والمالي ونهب المال العام أو التهاون إزاء هدره، فإن المجتمع ككل سيصاب بالإحباط وستعود عوامل اليأس تنخر به، ناهيكم عن التشاؤم الذي يدفع إلى القنوط وربما إلى اليأس، ولهذا فإن وضع العدالة الاجتماعية كهدف من أهدافه تسعى إلى تحقيقه عن طريق التنمية الشاملة، لاسيما ترافقه مع مسألة الديمقراطية، يعيد إلى الثورة حيويتها ويجدد شبابها.
إن هيمنة التيارات الدينية ونزعات الإقصاء والإلغاء والتسيّد قد تدفع أكثر فأكثر إلى التمترس الديني والطائفي والإثني في بعض المجتمعات، وهذا يقودها إلى الإنقسام والتشظي ويكون عاملاً معرقلاً لقضية التقدم الاجتماعي وتحقيق الكرامة الإنسانية وتلبية الحقوق، ولاسيما الحق في العدالة الاجتماعية.
وإذا استطاعت الثورة المضادة بفعل أخطاء وانقسام حركة التغيير العودة إلى الواجهة، فذلك سيشكل إحباطاً جديداً للربيع العربي، بل يُشعر الناس بإخفاقه وربما بعدم جدواه فيما إذا عاد القديم إلى قدمه، وهو ما كانت قوى الثورة المضادة في فرنسا بعد الثورة العام 1789 تسعى إليه وتمكّنت منه لحين، كما تمكنت في بلدان أخرى لكن المسار العام استطاع تصحيح نفسه، ولعل حصول أحمد شفيق في مصر في انتخابات الرئاسة على نسبة موازية تقريباً لأصوات مرشح الأخوان(أحمد مرسي) هو دليل خطر وناقوس إنذار لذلك.
سأكون معنياً في هذا البحث بالمعنى والدلالة بالدرجة الأساسية، لأنهما يراكمان المعرفة ويمنحان الفرصة لقراءة التاريخ بوقائعه وأحداثه، بتضاريسه ومنعرجاته، وإذا ما توقفت عند التفاصيل فقد كان هدفي هو استنطاقها للوصول إلى المعنى والدلالة، والإحاطة بجوانب المسألة المعرفية من كل جوانبها، ومع انفتاح العالم، لاسيما في ظل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمواصلات الحديثة، فإن إعادة صياغة المتوفر منها تتم بالتراكم المعرفي، ولعل التمرّد التلقائي العفوي على الواقع البائس الذي عايشه الشباب مع وجود عوالم أخرى يمكنه الإبحار أو التحليق إليها عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، جعلت خياله يتشكّل معرفياً، الأمر الذي ساهم في إشعال نار الثورة وانتقالها، وهنا تكمن وظيفة الباحث والمعني بقضايا الفكر والمعرفة، وأقصد بذلك استخلاص المعنى من كل ما حصل خارج حدود الجغرافيا والتاريخ والسياسة، بتجاوز الواقع إلى المستقبل.
وهكذا فإن المتأمل لما حدث في العالم العربي من تغييرات جذرية عميقة ومن ثورات شعبية ووعي جماهيري هائل، يدرك أن ما حصل لم يكن أحداثاً طارئة أو تمردّات عابرة وانتفاضات تقليدية، بل إنه مخاض قد يكون طويلاً وعسيراً لولادة جديدة لعالم عربي لم يعد بالإمكان الإبقاء عليه خارج الزمن والتاريخ، ويعيش في جزر معزولة بعيداً عن التأثير، ولعلّ تلك واحدة من الاستحقاقات المؤجلة منذ نحو ربع قرن وترافقاً مع موجة أوروبا الشرقية للتغيير. ومهما حدث أو سيحدث فالأمر يتعلق بالتطور المستقبلي على الوجهة التي سيتخذها وعلى اصطفافات القوى الاجتماعية والسياسية، ودرجة الاستقطاب والصراع الذي سيحصل بين قوى إسلامية متنفذة وسيكون لها القدح المعلاّ، وبين قوى شبه علمانية (يسارية وعروبية)، شبه ليبرالية، شبه ديمقراطية تريد تلمّس طريقها في ظل تجاذبات حادة.

إذا كان الربيع العربي قد أطاح بنظم استبدادية، سلطوية وهيّأ المستلزمات الأولية لإحداث تغييرات في العالم العربي إنْ عاجلاً أم آجلاً، فإنه في الوقت نفسه أسقط بعض المقولات والأفكار التي سادت في العقدين الأخيرين أو برهن على بطلانها وهزالها حتى وإنْ ظلّ البعض يتشبث بها، ولعبت تلك الأفكار والمزاعم دوراً كبيراً في إطالة عمر بعض الأنظمة، بل ساهمت أيضاً في التأثير سلبياً على وعي بعض النخب الفكرية والسياسية وحتى تخديرها، على الرغم من معاناة السكان وتوقهم إلى التغيير والتحوّل الديمقراطيين، ناهيكم عن حالات اليأس أو القنوط التي سببتها سواءً بوضع كوابح داخلية أو خارجية، لاسيما في جانبها النظري أو العملي .
وسنحاول أن نرصد بعض هذه الأطروحات، التي كادت أن تصبح مسلّمات لدى بعض القوى والفاعليات السياسية، والتي لم تكن بعيدة عن ترويج الأنظمة الحاكمة لها، فضلاً عن سدنتها من الآيديولوجيين والمثقفين، بمن فيهم الذين يتحدثون عن التغيير، بل يدعون إليه ولكن على نحو " تجريدي" أحياناً أو فيما يخص الغير، دون أن يصل إلى أولي الأمر أو الحكام الذين يبررون استمرارهم ووجودهم بحجة غياب البديل أو عدم نضج عملية التغيير أو يراهنون على بعض الاصلاحات.
ومثل هذه الأطروحات لم تكن حصراً على القوى الداخلية، بل أن بعضها تبنّته القوى الخارجية، لاسيما القوى الدولية المتنفّذة، والتي شكّلت عائقاً فكرياً وعملياً إزاء التغيير الديمقراطي المنشود، حتى بدت الديمقراطية أو التحول الديمقراطي وكأنها استعصاء أو "وعد" غير قابل للتحقق، في العالم العربي .

أسئلة وأطروحات: منزلة بين المنزلتين!
الأطروحة الأولى- تقول أن الصراع هو بين الإسلاميين وبين العلمانيين، وعلى الأخيرين حتى وإنْ اختلفوا مع الأنظمة الحاكمة، لكنها بكل الأحوال هي أقرب لهم من الإسلاميين، الذين يشكّلون خطراً على الديمقراطية المنشودة، لاسيّما وأن الكثير من الإسلاميين أو الإسلامويين لا يخفون مواقفهم السلبية منها، ويبرّر البعض أن أنصار الإسلام السياسي سوف لا يتورعون من الإجهاز على بعض الهوامش الديمقراطية القائمة، ويستندون في ذلك إلى ما حصل في الجزائر حين فاز الإسلاميون، فأعلنوا رغبتهم في إلغاء الديمقراطية، الأمر الذي "اضطر" العسكر في " إجراء غير ديمقراطي"، الدفاع عن الديمقراطية، كما زعموا، فكان تدخل الجيش بمبرر حماية الديمقراطية، وراح الإسلاميون ضحية مواقفهم وآرائهم، في حين أن الديمقراطية هي من نقلتهم إلى السلطة، وتلك إحدى المفارقات السياسية في مطلع التسعينيات.
هذه الأطروحة راجت أيضاً عشية وخلال وبُعيد الانتفاضات العربية ومفادها أن الإسلاميين وحدهم، هم القوى المنظمة الكبيرة، وبالتالي سيشكّلون البديل المحتمل والأكثر رجحاناً بعد التغيير، لدرجة أحياناً يتم التبرير بشكل مباشر، وغالباً غير مباشر، لبقاء الأنظمة التسلطية والاستبدادية، ولعلّ بعضهم يستدلّ على نشاط بعض الجماعات الأصولية والسلفية من جهة، وعلى إعلان بعض الإسلاميين سواءً كان كبيراً أو صغيراً رغبتهم في قيام دولة إسلامية، وهو ما شهده ميدان التحرير في القاهرة في جمعة رمضانية (2011) وفيما بعد إصرار الإسلاميين على الذهاب بالدستور الجديد إلى الاستفتاء الشعبي حتى بعد انسحاب القوى غير الإسلامية من الجمعية التأسيسية، وحصل لهم ما أرادوا حيث حازوا على أغلبية 63.8 في الاستفتاء (كانون الاول /ديسمبر 2012)، وكذلك ما فتحته الثورة التونسية من نقاشات ساخنة بين حزب النهضة الإسلامي وجماعات إسلامية أخرى من جهة وبين قوى علمانية ماركسية وقومية وليبرالية من جهة ثانية، وهو الأمر الذي ينسحب على ليبيا واليمن، وإنْ كان الأمر محدوداً، لكنه سيكون ساخناً وحاداً فيما يتعلق بسوريا لاحقاً.
وكان نجاح ثورتي تونس ومصر بتدخل الجيش ومبادرته وفيما بعد حسم نجاح الثورة الليبية بمساعدة خارجية وإنْ كان لها تأثيراتها السلبية واضطرار الرئيس علي عبدالله صالح في اليمن على التنحّي بحكم مبادرة مجلس التعاون الخليجي، قد ساهم في تطويق دائرة العنف والسعي لعدم انفلاته بعد اللجوء إليه، لكن استمرار الحراك الشعبي في سوريا، ومواجهته بعنف متزايد، من جانب السلطات الحاكمة، وردود فعل من جانب الجماعات المسلّحة، دفع البلاد في أتون حرب أهلية برافعات إقليمية ودولية، وزاد من خطورة المشهد السياسي العربي، خصوصاً باحتمالات امتداده، لا سيما ما ستتركه الأزمة السورية من تداعيات.
وإذا كان الاعتقاد بترجيح هيمنة الإسلاميين واكتساحهم للشارع ولأية انتخابات قادمة، فإن المسألة ليست خياراً دائمياً، بل هو إجراء مؤقت يتعلق باصطفافات القوى أولاً ولأسباب تاريخية تتعلق بممارسات أنظمة الحكم السابقة ثانياً، وثالثاً فإن المسألة تتعلق بموازين القوى الراهنة موضوعياً وتاريخياً، فضلاً عن ردود فعل لسياسات الماضي، فبقدر قمعها للتيار الإسلامي منحته فرصة لاحقة، زادت على ما يمتلكه من جماهيرية ورصيد شعبي، وهو ما سيجعلهم القوة الأكبر والأولى في جميع بلدان التغيير بحكم عوامل مختلفة، لكن هذه "الشرعية" المؤقتة حسب ظني ستتصدع قريباً، خصوصاً وأن الآخرين سينتفعون من أخطاء التيار الإسلامي، الذي حسبما يبدو أنه لم يتعلّم من أخطاء الذين سبقوه.
ومع كل ذلك فيمكنني القول أن عملية التغيير بما حملته من ديناميكية أدّت إلى انتعاش الإفكار الديمقراطية لا سيّما المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وهو ما سيضع خريطة طريق جديدة لكل بلد وفي بلدان المنطقة بشكل عام من خلال لوحة الصراع السياسي التي ستأخذ وقتاً ليس بالقصير، خصوصاً عندما يكون الإسلام السياسي في الواجهة خلال العقد أو العقدين القادمين، وربما ذلك واحداً من الاستحقاقات لما بعد التغيير.
لهذه الأسباب فإن الحديث عن إقصاء الإسلاميين أو الانتقاص من مشاركتهم في عملية التغيير أو ما بعده، إنما هو حديث غير واقعي، فضلاً عن أن ليس من حق أحد أن يقوم بذلك، ناهيكم وأنه يتعارض مع قواعد الديمقراطية، خصوصاً وأن العزل السياسي إجراء غير مقبول، فضلاً عن تداعياته السياسية والاجتماعية، ومثلما هي رغبة غير واقعية وغير ممكنة، إقصاء أو عزل الإسلاميين، فهي كذلك إذا استهدفت غير الإسلاميين، علمانيين أو شبه علمانيين وشبه ليبراليين وديمقراطيين، مهما كان حجمهم وقوتهم، لأنهم جزء أصيل من حركة المجتمع والثقافة والتقدم!
ومثلما في السابق، ففي الحاضر أيضاً تجري محاولات للتهويل من دور الإسلاميين وافتراض كونهم البديل الوحيد عن الأنظمة القائمة، الأمر الذي سيعني تبرير بقاء هذه الأنظمة، التي يعتبرها البعض أفضل من أي بديل إسلامي آيديولوجي، ولعلّ هذا ما ترغب به وما تريده الأنظمة ذاتها، وبعض الجماعات المحافظة ، بل بعضها يبدي ندمه من عملية التغيير، وهو وما حاولت أن تنشره وتروّج له على نطاق واسع في السابق والحاضر.
وبالعودة إلى هذه الأطروحة التي تفترض أن الصراع الأساسي هو بين الإسلاميين والعلمانيين، فإن ثمت اجتهادات وتوجّهات مغايرة، ولعلّها الأكثر واقعية والأكثر راهنية، خصوصاً تلك التي تقول أن الصراع ضد الاستبداد الداخلي هو في جوهره صراع ضد الطغيان الخارجي، وفي الوقت ذاته صراع ضد التطرّف والتعصّب وإقصاء الآخر لدرجة لا يمكن فصله عن بعضه، لا سيّما وأن هناك ترابطاً أحياناً بين الطغاة والغزاة والغلاة، الأمر الذي نحن بحاجة إلى إعادة قراءة المعادلة على نحو صحيح، خصوصاً وأن العالم العربي يعاني من احتلال وعدوان منذ نحو ستة عقود ونصف من الزمان من جانب اسرائيل، ناهيكم عن محاولات فرض الهيمنة والاستتباع، وهذا يتطلب تعاون الكتل والتيارات السياسية اليسارية، الماركسية والقومية، والإسلامية لانجاز مرحلة التحرر من جهة، ومن جهة ثانية السير في طريق الديمقراطية والتنمية.
الأطروحة الثانية تقول إن وجود أنظمة تسلطية تحمي الأمن والاستقرار هو أفضل من الفوضى التي قد تسود بعد التغيير، ولعلّ هذا ما روّجت إليه الأنظمة المستبدّة أيضاً، حين زعمت أنها هي وحدها القادرة على ضبط الأمن والاستقرار، وتختزن تجربة طويلة لعقود من الزمان في هذا الميدان، بدلاً من الإتيان بنظام غير مضمون وقد يؤدي إلى انفتاح البلد على موجات من الفوضى والارهاب والعنف غير محسوبة النتائج، ناهيكم من إحتمال صعود تنظيم القاعدة والمنظمات الإرهابية وجماعات التكفير.
ولعلّ من الطبيعي أن يخلف أية ثورة أو انتفاضة نوع من الفوضى، لاسيّما وأن الأنظمة السابقة هي التي قوّضت حكم القانون وتغوّلت على القضاء وداست على كرامة المواطن، ولهذا فإن مجرد الشعور العام بتقويض هذه الأنظمة سيدفع إلى الواجهة بعض أعمال التمرد والفوضى بعد التدمير المنهجي المنظم لعقود من الزمان لمبادئ الدولة القانونية، لكن ذلك لا ينبغي أن يحول دون عملية التغيير التي أصبحت حاجة ماسة لا يمكن الاستغناء عنها أو حتى تأجيلها، كما أن بعض الحوادث الفردية والانفلات الأمني المحدود الذي أعقب عمليات التغيير، ينبغي أن يُقرأ ضمن هذا المنظور، وأن يتم التعامل معه تاريخياً وستراتيجياً بما له علاقة بقضايا التقدّم وصيرورة العملية التاريخية.
وإذا كان من فوضى ستحدث أو حدثت فإن الأنظمة السابقة كانت قد زرعت هي بنفسها بذورها ورعتها لسنوات، وذلك للوقوف ضد أي عملية تغيير أو إصلاح مهما كانت متواضعة، بزعم أن الفوضى ستعقبها، وكذلك عبر إنشاء ميليشيات أو جماعات مسلحة غير قانونية تابعة للنظام أو لأجهزته الخاصة، وتحت مسمّيات مختلفة لقمع أية بادرة للإحتجاج بحجة مقاومة الفوضى وأعمال الشغب والتدخل الخارجي والأصابع الأجنبية، وغيرها من المبررات والمزاعم، وإذا كان الكثير من الشكوك يحوم حول ذلك فقد انكشفت تصرفات بعض الأجهزة التي سعت للاصطدام بالتظاهرات أو الاندساس بين صفوفها لإحداث التخريب المنشود، وهكذا شاعت مصطلحات جديدة ارتبطت بالربيع العربي وانتفاضاته مثل: البلطجية أو الشبيحة أو الموالاة أو غيرهم.
وعلى العكس من التصوّر السائد في هذه الأطروحة، فإن انهيار نظامي تونس ومصر دفع الشباب الثائر للتمسّك أكثر فأكثر بمظاهر وأسس الوحدة الوطنية، على الرغم من بعض أعمال العنف والارهاب التي شهدتها مصر بما فيها استهداف الأقباط وكنائسهم والمجابهات بين الحكومة والمعارضة، حيث سقط عدد من الشهداء والقتلى والجرحى سواء في القاهرة أو بور سعيد مؤخراً أو غيرها، وقد حصل مؤخراً في تونس صدامات توّجت باغتيال الشخصية اليسارية شكري بلعيد، لكن الحرص على وحدة البلاد وحمايتها من العنف والفتنة والوقوف بوجه بعض أعمال الفوضى التي برزت بعد التغيير كانت السمة الغالبة، بل الحاسمة، ولعلّ هذا الواقع بدّد الأطروحة السابقة بشأن الأمن الزائف، وبرهن على أنها لا تستهدف سوى الإبقاء على القديم وحمايته والدفاع عن الأنظمة، ناهيكم عن أن الأمن ينبغي أن يقترن بالكرامة ولا يتعارض معها ومع حماية الحقوق الانسانية.
وحتى أعمال الفوضى والشغب المحدودة التي شهدتها بعض البلدان ما بعد التغيير مثل ليبيا واليمن، فهي يمكن إدراجها في إطار التركة الثقيلة للماضي والكبت المزمن والمعتق للحريات، ولا شكّ أن عملية الانتقال من سلطة استبدادية إلى سلطة ذات توجّه ديمقراطي، سيحتاج إلى فترة تستقر وتترسخ فيها "الشرعية" الجديدة، فبلدان التغيير كلّها لا زالت تعيش في مرحلة انتقالية لم تستكمل بعد توجهها وتتحدد صلاحياتها واختصاصاتها، بما فيها التنازع حول الاستمرارية القانونية والتعامل مع الماضي، وبين القطيعة وعدم التواصل، في إطار توجّه جديد لم تتحدد معالمه كاملة حتى الآن، والأمر يحتاج إلى تجاوز المرحلة الأولى من عملية الانتقال بإجراء انتخابات ديمقراطية، وحرّة ونزيهة، وتشريع قانون انتخابات ديمقراطي وصياغة مبادئ تستند إلى القيم الديمقراطية، ما فوق الدستورية أحياناً، وإدراج بعضها كقواعد قانونية في دستور جديد يضمن ضرورة واستمرارية العملية الديمقراطية. ومثل هذا الأمر يحتاج على الأقل ما بين عقد وعقدين من الزمان.
الأطروحة الثالثة: تقول إن الثورات والانتفاضات التي اندلعت العام 2011 ما كان لها أن تنجح أو تستمر لولا الدعم الخارجي، بل إن البعض يتهمها صراحة أو ضمناً بالعلاقة مع الغرب، أو أن أصابعه ليست بعيدة عنها، وهكذا يجري التهويل من خطر "التدخل الخارجي" تحت مبرر وزعم "المؤامرة" التي تحيكها الدوائر الغربية، وهو الأمر الذي تتعارض فيه الرؤى حد التخوين أحياناً بخصوص سوريا. وإذا كان الغرب ليس بعيداً عن المؤامرات والمشاريع التي تضمن مصالحه، فإن ضغط العامل الموضوعي أجبره هو أيضاً على الحديث عن إصلاح وتغيير ديمقراطي وتحول سياسي- اجتماعي لأنظمة مغلقة أو محافظة أو استبدادية أو ثوروية متسلطة، حتى وإن كان بعضها صديقاً له.
وإذا كان الغرب لاعباً مهماً في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات، لكن الوضع الداخلي وتطورات الأحداث، ناهيكم عن البيئة التي خلقتها حركة غورباتشوف التي سميت "بالبريسترويكا والغلاسنوست " (إعادة البناء والشفافية) كانت قد هيأت التربة الدولية المناسبة لعملية التغيير، والتي إلتقت موضوعياً مع التوجهات الغربية في إطار الصراع الآيديولوجي وسيل الدعاية الذي كان سائداً بين الشرق والغرب في ظل الحرب الباردة، لكن الأمر مختلف في العالم العربي، بوجود "إسرائيل" من جهة والنفط من جهة أخرى، فضلاً عن تيار إسلامي أو إسلاموي مناقض كلياً للغرب وتوجهاته، فليس من السهولة حساب عملية التغيير بطريقة تقليدية على الغرب وتوجهاته ومؤامراته.
وعلى الرغم من المواقف ذات البُعد المصلحي والتوظيف السياسي والذرائعية البرغماتية غير المبدئية التي حاولت بعض الحكومات الغربية الوقوف عند أبوابها عشية وبُعيد عمليات التغيير في العالم العربي، فإن الأمر إنكشف على نحو صارخ بين الافتراض والواقع، لاسيما التناقض والتعارض الحاد بين الادعاء بدعم الديمقراطية والتغيير الديمقراطي، وبين التلكؤ في دعم تغيير أنظمة معادية للديمقراطية وقامعة لشعوبها، لكن ضغط الرأي العام الداخلي في هذه البلدان ووجود مؤسسات وبرلمانات منتخبة وفي إطار مساءلة وشفافية، أعاد ترتيب أولوياتها وأوراقها لتتخذ مواقف لصالح عمليات التغيير، حتى وإن أدّى إلى تدخلها عسكرياً، وهي التي أحجمت في البداية على "التدخل الانساني"، ولا سيّما حينما شعرت أن ذلك يخدم مصالحها، كما حصل في ليبيا على سبيل المثال، فبعد تردّد الرئيس الفرنسي ساركوزي على دعم التغيير التونسي، اندفع للتدخل العسكري في إطار الناتو في ليبيا، بعد أن تعرضت سياسته إلى انتقادات حادة قد تؤثر على مستقبله السياسي.
وهو الأمر الذي دفع فرنسا لاحقاً للمبالغة في موضوع الإطاحة بالنظام السوري حتى بعد مجيء الرئيس هولاند الاشتراكي، وهو ما ورّطها بالتدخل العسكري في مالي بحجة الوقوف بوجه الخطر الإسلامي. وعلى الرغم من أن واشنطن تريد تغيير النظام السوري، لكنها لا تزال مترددة، بل غير مقتنعة بالتدخل العسكري المباشر وهو الأمر الذي يقترب من موقف الاتحاد الأوروبي، ولعلّ الغرب لا زال مكتفياً حتى الآن بالتدخل الخليجي، لا سيّما من جانب قطر وبالتنسيق مع تركيا، وقد ارتفعت لهجة الحديث عن حلّ سياسي للأزمة في إطار توافق بين السلطة والمعارضة، وهو ما تسعى إليه روسيا أيضاً، وفي حين تشدد واشنطن على رحيل الرئيس بشار الأسد كأفق للحل ، تحاول روسيا أن يكون الحل مع بقائه على أمل إجراء انتخابات في العام 2014 وذلك تمهيداً للانتقال الديمقراطي.
وقد برهنت ثورات العام 2011 أن عملية التغيير هي داخلية بالأساس وأن دور الخارج فيها محدود جداً، وأن هذا الخارج يستثمر تعنّت الأنظمة ورفضها إجراء التغيير المنشود واللجوء إلى القمع والعنف وارتكاب أعمال منافية لحقوق الانسان، وعندها يكون من واجب العالم بما فيه الأمم المتحدة – "التدخل الإنساني" لوقف المجازر بحق السكان المدنيين في إطار قواعد القانون الدولي الانساني، ولا ينسى الغرب في هذه الحالة استثمار ذلك لمصالحه الخاصة، سواءً في عمليات التدمير أو إعادة البناء لاحقاً، وبالدرجة الأساسية للنفوذ السياسي والعسكري.
الاطروحة الرابعة التي تقول أن العرب لا يحتاجون إلى الديمقراطية بقدر حاجتهم إلى التنمية، وإذا أردنا إعادة تركيب هذه الأطروحة فقد تصل إلى تبرير عنصري ينطوي على استصغار حاجة العرب إلى تأمين الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، وهي حاجات انسانية لبني البشر جميعاً. صحيح أن العرب بحاجة إلى الغذاء والدواء والعمل والصحة والتعليم والسكن كأولويات لا غنى عنها، ولكن من قال أن الإنسان يحيا بالخبز وحده؟ ومن قال أن بالامكان تأمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية دون تأمين الحقوق المدنية والسياسية والمساواة أمام القانون وبين الرجال والنساء والمواطنة والحق في انتخابات دورية وتغيير الحاكم عبر صندوق اقتراع والحق في المساءلة في إطار سيادة القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء، وغير ذلك من عناصر الديمقراطية التداولية السلمية للإدارة والمسؤولية؟
وقد أثار هذا الأمر بعض نشطاء حقوق الإنسان ردّاً على الرئيس الفرنسي جاك شيراك في العام 2003 عند زيارته إلى تونس التي حاول فيها تزيين صورتها في مجال حقوق الإنسان بزعم تأمينها الغذاء والعمل والسكن لمواطنيها، ونسي هدر الحقوق والحريات والكرامة الانسانية.
وقد ركّزت ثورة تونس وبعدها مصر وكذلك ليبيا واليمن وحركة الاحتجاج الواسعة في سوريا والبحرين مثلما كان الحراك الشعبي في الجزائر والاردن والمغرب وعُمان وبعض دول الخليج وغيرها على الحريات والحقوق والكرامة ومحاربة الفساد، الأمر الذي يدحض أطروحة عدم الحاجة إلى الديمقراطية، وهي نظرة استصغارية طالما تصدر من فكر استشراقي، وحتى الحكومات التي لجأت إلى الحلول الأمنية أو العسكرية أو الاقتصادية، فإنها أدركت ضرورة إجراء تغييرات ولو محدودة وتقديم وعود بتوسيع دائرة الحقوق الديمقراطية.
الأطروحة الخامسة تقول أن الدين الإسلامي يحضّ على العنف والارهاب وهو دين غير متسامح وتتعارض تعاليمه مع الديمقراطية ومع الشرعة الدولية لحقوق الانسان، وبالتالي فسيكون الاستنتاج المنطقي انه غير مؤهل لحكم الديمقراطي أو لسيادة القانون أو احترام حقوق الانسان، ولعلّ مثل هذه الفرضية تستند أيضاً إلى مرجعية عنصرية تستخف بحضارات الأمم والشعوب وثقافاتها ودياناتها، وعلى الرغم من أن الإسلام دين غالبية سكان المنطقة العربية، فإنه دين شعوب غير عربية أيضاً، ولعلّ عدد المسلمين في العالم اليوم يقارب مليار ونصف المليار انسان، فهل سنلغي هذا الرقم الهائل من قائمة الدول الديمقراطية؟
وإذا كان الكثير اليوم في الغرب يتحدث عن تركيا دولة مدنية بخلفية إسلامية، خصوصاً وهي في حضن حلف الناتو، أو يتكلم عن الإسلام المعتدل والمنفتح، فهل تركيا أو غيرها بعيدة عن دين غالبية السكان المسلمين. وإذا كانت قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان شاملة وعالمية وكونية، فإن لها خصوصيات تبعاً للثقافات والحضارات والتاريخ، وهي جزء لا يتجزأ من كيانية كل أمة أو شعب، ويمكن أن تغتني القواعد ذات الطبيعة العامة والالزامية الشمولية الكونية بالقدر نفسه، من حضارات وثقافات الشعوب بما فيها الإسلامية.
وإذا كان للعرب أو للمسلمين بعض التجاذبات أو الاجتهادات الفكرية أو الثقافية التي تمثل خصائص لشعوب أو أمم وجزء من تراثها وتاريخها وثقافتها، فإنها خاضعة للنقاش والجدل، والأخذ والرد، داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية ومع الغرب ذاته، مثلما توجد الكثير من الحقوق والحريات معرض جدل في الغرب ذاته وفيما بيننا أيضاً، لكن الفارق الوحيد بيننا وبينهم، هو وجود مؤسسات راسخة حامية للديمقراطية توطّدت عبر عقود من الزمان وشهدت تطورات تدريجية لا نزال نحن عند بواباتها، ونفتقد لمثل هذه المؤسسات، لاسيما الرقابية التي تحاسب وتسائل وفقاً لحكم القانون ومبادئ الشفافية.
ولعلّ وجود مثل هذه المؤسسات لا يتعلق بالدين بقدر تعلّقه بدرجة تطور المجتمع واختياره طريق التنمية الشاملة بمعناها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني ومساهمة المجتمع المدني وتحقيق مبادئ المشاركة، فدولة مثل الهند فيها تعدد ديني وتنوّع قومي وإثني، وأديان مختلفة ولغات متعددة، وعلى الرغم من وجود كل ذلك، فقد إختارت الطريق الديمقراطي، كدولة نامية، ونجحت فيها الديمقراطية إلى حدود كبيرة، وعلى الرغم من ظروف التفاوت الطبقي والاجتماعي، الاّ أنها استطاعت بناء قاعدة حقوقية وقانونية سليمة لتطوير الديمقراطية واحترام حقوق الانسان. وتركيا الإسلامية نموذجاً آخر، وماليزيا التي يحتل المسلمون فيها نسبة كبيرة وأساسية من السكان أقامت شكلا من الحكم التداولي والديمقراطي وسيادة القانون، دون أن يقف الدين عائقاً.
الأطروحة السادسة تقول أن الثورات العربية لم تطرح قضية فلسطين" القضية المركزية" في الصدارة وان أولوياتها ليبرالية، في حين أن الصراع مع العدو الصهيوني ينبغي أن يشكّل محور عملية التغيير، ويذهب أصحاب هذه الفرضية إلى أنه لم يتم التحرّش باتفاقية كامب ديفيد في الثورة المصرية، وأن غياب أنظمة ممانعة كما هي سوريا، مثلاً سيؤدي إلى اختلال موازين القوى لصالح الدولة المغتصبة، وهو استنتاج ذهب اليه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بتبرّم عندما تحدث عن الربيع العربي، ناهيكم عن فاعليات وأنشطة سياسية ودينية معظمها في الاطارات القومية والإسلامية التقليدية.
وإذا كان ثمت صحّة في نصف الاستنتاج الأول، فإن النصف الثاني يجيب ويكمّل الاستنتاج الأول، وقد واجهت الثورات مسائل ملحّة كيانياً تتعلق بالحرية والكرامة ومحاربة الفساد واحترام حقوق الانسان، ولعلّه لا يمكن الحديث عن مجابهة مع العدو، دون توفر الحدّ الأدنى من الحريات التي غابت عن عالمنا العربي بفضل أنظمة الاستبداد والدكتاتورية، والحرّية هي المدخل لأي مجابهة وأي تغيير، وحتى حق الحياة لا يمكن الدفاع عنه دون توفّر الحد الأدنى من حرية التعبير، ناهيكم عن حق الاعتقاد وحق التنظيم وحق المشاركة وهي أركان أساسية وهياكل ارتكازية للحريات والحقوق الأخرى.
إن ردّ الفعل الصهيوني إزاء التغييرات الحاصلة في البلدان العربية يفضح مدى تخوّف "اسرائيل" من موضوع الستراتيجية العربية إزاء الاتفاقيات المبرمة معها أو إزاء أفق الصراع ومستقبله، وإذا كان هذا الموقف من تونس البعيدة عن دائرة الصراع، وهذا البلد الصغير بسكانه وإمكاناته، لاسيما العسكرية، فما بالك عندما حصل التغيير في مصر؟.
وكان من أولى نتائج التغيير إعادة اللحمة الوطنية الفلسطينية، بالاتفاق بين حماس وفتح، الذي رفضته "اسرائيل" رفضاً قاطعاً، بل أن الولايات المتحدة اشترطت لإعادة عملية بناء السلام،التخلي عن الاتفاق من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية مع حماس.
كما أن رد الفعل المصري إزاء قتل عسكريين مصريين من جانب "إسرائيل"، والغضب الشعبي الذي أعقب ذلك واضطرار المجلس العسكري المصري إلى اتخاذ اجراءات مشددة وغير مألوفة بالنسبة "لإسرائيل" طيلة ثلاث عقود من الزمان، بما فيها التهديد بطرد السفير الاسرائيلي وغيرها من المطالب الشعبية السريعة والملحة مما يمكن للربيع العربي إنجازه، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الاسرائيلي إلى الاعتذار عن الخطأ غير المقصود، في حين أن مطلب تركيا الأساسي كان الاعتذار إزاء قتل 9 من مواطنيها على ظهر سفينة مرمرة التي كانت تنقل المساعدات الإنسانية من الغذاء والدواء إلى سكان غزة المحاصرة، لكن اسرائيل الذي قتلت المدنيين العزّل بدم بارد في المياه الدولية رفضت الاعتذار، على الرغم من علاقات تركيا الوطيدة مع إسرائيل منذ اعترافها بها العام 1949 وتوقيع اتفاقيات أمنية وعسكرية معها مستمرة حتى الآن ومنذ سنوات الستينيات.
كما كانت التحركات الشعبية العربية، أردنياً ولبنانياً وسورياً بمناسبة يوم "النكبة" العام 1948 وذكرى "النكسة" العام 1967، ومحاولة التوجّه إلى الحدود "الاسرائيلية" لإلفات نظر العالم حول حق العودة، ردّاً على ارتكابات "اسرائيل" واستمرار احتلالها للاراضي العربية، الاّ مثالاً على تجاوز المطالب الشعبية، للاتفاقات الرسمية بين البلدان العربية و"إسرائيل"، وكذلك موضوع تجميد الصراع مع "إسرائيل" وبالطبع فإن ذلك لا يعني سوى النكوص عن المجابهة مع العدو الاسرائيلي، الذي تريده الشعوب العربية وهو ما حاولت هذه الأطروحة ترويجه ، بل أن التمرد الشعبي الجديد دفاعاً عن حقوقها الثابتة والعادلة والمشروعة وغير القابلة للتصرّف، لاسيما حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين وتعويضهم عما لحق بهم من غبن واضرار، يصبّ في الاتجاه المعاكس .
لقد حرّكت الثورات العربية حالة الجمود التي وصلت إليها أوضاع الصراع العربي الاسرائيلي، خصوصاً بعد أن أصبحت جميع الطرق غير سالكة ولم تجد نفعاً اتفاقيات أوسلو لاحقاً أو واي ريفر أو أية خريطة طريق، فقد وصلت جميعها إلى طريق مسدود أو غير سالك. ولعل مهاجمة السفارة الاسرائيلية واضطرار السفير الاسرائيلي وأركان السفارة إلى الهرب بطائرة خاصة هو واحد من التطورات الجديدة في المشهد السياسي لا ينبغي إغفالها إطلاقاً.
ولعلّ أية ديمقراطية أو تغيير أو تحوّل نحو الديمقراطية، ستؤدي بالضرورة إلى صالح قضية الشعب الفلسطيني وستصبّ فيها وليس العكس، وهذا بحدّ ذاته يتطلب إعادة النظر في الستراتيجيات الجيوبوليتيكية لعموم دول المنطقة، الأمر الذي سيعني إعادة صعود القضية المركزية إلى الواجهة، وذلك بفضل الثورات العربية، وهكذا سيكون حل القضية الفلسطينية محور عملية التغيير وليس العكس.
الأطروحة السابعة تقول بأن اندلاع الثورات العربية، سيؤدي إلى تصدّع الهوّية الجامعة والمانعة للشعوب العربية، لاسيما بصعود هوّيات إثنية وطائفية وعشائرية، في حالة من التشظي والتشطير، ويستدلون على ذلك بمحاولة إحياء نوع من العشائرية في تونس التي لا تعرف تقاليدها مثل هذه الظاهرة، وإذكاء نار الصراع القبطي – الإسلامي في مصر، وإشعال فتيل المشكلة الجنوبية في اليمن التي ازدادت تعقيداً في السنوات الأخيرة، إضافة إلى مشكلة الحوثيين (الجاهزة) وبعض ذيولها المذهبية، وتعميق المشكلة الطائفية في سوريا، لاسيما بين السنة والعلويين، ومحاولة تسعير نار الصراع المسيحي- الإسلامي، فضلاً عن انعاش المشاعر القومية الكردية المطالبة بحقوقها السياسية والثقافية والقومية، ولاسيّما حق المواطنة والمساواة وعدم التمييز، ناهيكم عن الحق في الجنسية، وكذلك تغذية المشكلة العشائرية والقبلية والمناطقية في ليبيا، وكذلك في موريتانيا، وفي الاردن وغيرها، إضافة إلى المشكلة الأمازيغية في المغرب والجزائر، والمشكلة الطائفية والمذهبية في البحرين والمملكة العربية السعودية، فضلاً عن ذيولها في بعض دول الخليج، ناهيكم عن التشظي الذي عرفه الوضع العراقي بسبب صيغة بول بريمر حول "المحاصصة الطائفية والإثنية" بعد الاحتلال العام 2003..
وإذا كان الأمر صحيحاً إلى حدود غير قليلة، لكن ثمت أسباب موضوعية لذلك وكان لا بدّ لها أن تظهر على نحو عاجل أو مؤجل، فالنار كانت تستعر تحت الرماد كما يقال، حيث غذّت غالبية الأنظمة العربية، الانقسام المجتمعي، تارة لأسباب دينية وأخرى طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو جهوية أو إثنية أو غيرها، بهدف الإبقاء على سلطة الحكام بأي ثمن.
ولعلّ من الطبيعي أن تظهر كل هذه النزعات بعد أي عملية تغيير، فقد ساهم النظام العراقي السابق الذي حكم البلاد بالحديد والنار في إضرام نار التعصب الطائفي والمذهبي بتهجير مئات الالاف من العراقيين إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية، واضطهاد الكرد واستخدام أشد الأساليب ضدهم بما فيها الأسلحة الكيماوية المحرّمة دوليا، كما حصل في حلبجة وغيرها، وكذلك لما يُعرف بعمليات الأنفال التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المواطنين الكرد، وما أن حصل التغيير حتى صعدت الهوّيات الفرعية لتحتل مكانة الهوّية العامة الجامعة التي كانت تشكل الوطنية العراقية سداها ولحمتها مع هوّياتها الخصوصية، ولكن أسباب الاضطهاد والتمييز دفعت الجهات المتطرفة وغير المتطرفة في ظل صراعات واحتدامات إلى التمسك بالهوّيات الفرعية، المذهبية والإثنية وغيرها على حساب الهوّية العراقية الموحّدة، خصوصاً وقد عانت الهوّيات الفرعية من التنكّر والاجحاف والتهميش.
ولو كانت السلطات الحاكمة على مدى تاريخها منذ تأسيس الدولة العراقية العام 1921 سعت لاحترام الهويات الفرعية في إطار مواطنة متكافئة ومساواة تامة، لما لجأت التيارات الأشد تعصباً للتنكر إلى الهوّية الجامعة، مع حقها في التمسك بخصوصيتها وهوّيتها الفرعية والأمر إلى هذه الدرجة بل أشدّ منها هو ما حصل في جنوب السودان ، بعد استفتاء نال بموجبه الجنوبيون الذين يطالبون بالانفصال على أكثر من 98% من الأصوات .
وإذا كانت مشكلة الأقليات في الغرب هي من تراث الماضي، لأن الأنظمة الديمقراطية في الغرب لا أعداء لها من الجيران... ولا تخشى فيه الدولة من الأقلية القومية أو جماعة السكان الأصليين في أن تتعاون أو تتواطأ مع عدد مجاور أو معتد محتمل، حسب ويل كيميليكا، لأن ذلك لا وجود له، ولعل السبب في ذلك أن الغرب حلّ موضوع " الأقليات " بإعادة التعددية الثقافية إلى جذرها الداخلي وقطع إلى حدود كبيرة خيط التدخل الخارجي ولو تمكّنا من إقرار مواطنة متساوية وغير ناقصة أو مبتورة وفي إطار حق تقرير المصير للتنوع الثقافي، لاسيما القومي وطبقاً للخيار الديمقراطي، فإن مثل هذا التشظي الذي خلفته الأنظمة السلطوية الحاكمة لم يكن يترك أية هواجس أو مخاوف .
الأطروحة الثامنة تقول أن قضية التغيير الديمقراطي بحاجة إلى ثقافة لا تزال الشعوب العربية من أقصاها إلى أقصاها تفتقر لها، وحتى تتأهل هذه الشعوب فهي تحتاج إلى زمن ليس بالقصير، الأمر الذي يتطلب الإهتمام بالتربية والتعليم، لاسيما وأن هناك أكثر من 70 مليون أمي عربي، غالبيتهم الساحقة من النساء، وأنهن لا زلن بعيدات عن سوق العمل والتأثير، ناهيكم عن تمكينهن ناهيكم عن تفشي البطالة وبشكل خاص لدى عنصر الشباب المتخرّج من الجامعات وتخبّط الأرياف العربية بحالات الفقر الشديد، حيث أن متوسط دخل الفرد في الأرياف العربية لا يتعدى الـ 300 دولار في السنة، ونسبة عالية من هجرة الكفاءات العربية وتركّز الثروات والمداخيل بشكل كبير لدى فئة قليلة من رجال الأعمال وبعض المسؤولين الحكوميين وغياب أي إبداع في الانتاج السلعي والخدماتي، الأمر الذي يبرز مساوئ الطابع الريعي للاقتصادات العربية الذي يشلّ قدرات مجتمعاتها الكبيرة ويحول دون دخولها النهضة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية المطلوبة ، وعلى النشطاء والمعنيين الذين لا يزالون يتوجهوا إلى النخب المعزولة والمحدودة، التفكير بالغالبية الساحقة من الناس الذين هم بعيدون عن فهم أوليات الديمقراطية، ناهيكم عن ثقافتها، بحكم الموروث والعادات والتقاليد، وأحياناً بسبب التربية الدينية الخاطئة التي تجعل من الديمقراطية استيراداً غريباً أو اختراعاً مشبوهاً.
يضاف إلى ذلك استغلال الحكومات بعض الأطروحات ذات الطابع الطفولي لدمغ بعض دعاة ونشطاء حقوق الإنسان والمطالبين بالديمقراطية باعتبارها صناعة خارجية، لاسيما بعض الاستفزازات للوجدان العام أو العقل الجمعي، خصوصاً وقد دخل التمويل على بعض منظمات المجتمع المدني،التي لم تكن بعيدة عن أصابع بعض الأجندات الغربية.
وعلى الرغم من محاولات التشويه والإساءة وبعض التصرّفات الخاطئة من بعض العاملين في إطار المجتمع المدني، الاّ أن هذه المنظمات لعبت دوراً مشهوداً على امتداد الوطن العربي كلّه، فبعد أن كان العاملون بضع عشرات أو مئات، من المنخرطين في إطارات المجتمع المدني مع استمرار ظاهرة المنع أو عدم الترخيص القانوني أو وضع الكوابح والعقبات في طريقها أو ملاحقة النشطاء وزجّهم في السجون أو اضطرارهم الذهاب إلى المنافي فقد أصبحوا يعدّون بعشرات الآلاف.
لقد أثبتت منظمات المجتمع المدني أنها عملت بجد وإخلاص في تبنّي المطالب الشعبية، لاسيّما قضايا الحرّيات وسجناء الرأي والتعذيب وحقوق المرأة واللاجئين والمهمشين، وساهمت في نشر الوعي الحقوقي وفي التربية على حقوق الانسان، ودرّبت عشرات الآلاف في مختلف الميادين من البيئة إلى الصحة والعمل والتربية والتعليم والاعلام والبرلمانات وأجهزة القضاء والشرطة، إضافة إلى الأكاديميين ومؤسسات المجتمع المدني ذاتها، ناهيكم عن أطراف الحركة السياسية ونشطائها من الفاعلين السياسيين.
ولعلّ مثل هذه المساهمة المتعدّدة والواسعة والمتراكمة، جاءت لحظتها يوم اندلاع شرارة الثورة، فتحركت الجماهير لتضع حداً لمعاناتها وآلامها، تلك التي وصلت مع الأنظمة السابقة إلى نقطة اللاعودة، فلم يكن بدّ من التغيير، وإنْ اتّخذ مسارات مختلفة، لكن هدفه كان واحداً، هو التحوّل إلى الديمقراطية بدلاً من الاستبداد.
الأطروحة التاسعة- تقول بعدم وجود حامل اجتماعي لعملية التحوّل الديمقراطي، فالقوى الديمقراطية واليسارية الماركسية والقومية والليبرالية الأقرب إلى المشروع " التحرري" ضعيفة ومشتتة وتعاني من مشكلات مزمنة وإخفاقات مستمرة لدرجة الاحباط واليأس أحياناً، فضلاً عن ضعف ثقتها بنفسها بسبب ما تعرّضت له من قمع وملاحقة. أما الإسلاميون فهم يريدون دولة إسلامية ، وربما غير معنيين كثيراً بالتحوّل الديمقراطي، وأن ما يطرحونه عن الديمقراطية، هو مجرد زيادة بعض الهوامش في ظل الدولة الاستبدادية القائمة، تتيح لهم فرصة التحرك والكسب وتخفف عنهم الملاحقة والتضييق.
ولم يتوقف الكثير من المتابعين عند بعض التطوّرات التي حصلت لدى التيار الإسلامي في مصر أو في سوريا أو في العراق أو في لبنان أو في فلسطين أو في السودان أو في البحرين أو المغرب أو تونس أو الجزائر و إلى حدود كبيرة في تركيا وإيران، بخصوص العلاقة مع الآخر، إضطراراً أو اختياراً، ذلك إن مسألة الانفراد وإدعاء " العمصة" أو الأفضليات لم تعد تُطرح جهاراً على أقل تقدير، بل أن بعض القوى الإسلام ي ة ضمّنت في برامجها مسألة التحوّل الديمقراطي وقبلت بآلياته سواءً تحت باب الإنتخابات أو الشورى أو التوافق أو غيرها.
وتدريجياً أخذ بعضها "يعترف بوجود الآخر" ويتعاطى معه على أساس سياسي وضمن مشتركات ومطالب سياسية وطبقاً لسياسة الأمر الواقع، وهي الحالة التي لا تلغي الخلاف الآيديولوجي، بل تؤجله، لاسيما موضوع الصراع على قيم السماء، طالما هناك إمكانية للعمل المشترك أو للتوافق على بعض مطالب الأرض، خصوصاً المتعلقة بالفقر والفساد والرشا واحترام الكرامة الإنسانية وغيرها.
وهذا الأمر أيضاً يلتقي به التيار العلماني – المدني ، مع التيار الديني، وهناك مساحات مشتركة للتوافق، أما الخلافات الآيديولوجية، فلن تتقدم على طبق السياسة، وكلّما كان الطرف العلماني والمدني، قوياً ومؤثراً تتوفر فرصاً أوسع للتعاطي والتعاون مع الطرف الإسلامي ، لاسيما إذا لم يحاول الانفراد والعزل .
الأطروحة العاشرة تقول بأن الشباب حتى وإنْ فجّر الثورات وقادها، الاّ أنه غير مؤهل لإدارة الدولة، لأنه لا يمتلك الخبرات الكافية، الأمر الذي يتطلّب الوقوف على هذه الخبرة من مصادرها وليس ذلك سوى القوى السياسية التقليدية، التي تتمتع بالنضج والحكمة وبُعد النظر، ناهيكم عن التأني والتبصّر وعدم الاندفاع. ولعل في ذلك محاولة لمصادرة حق الشباب في قيادة التحوّل الديمقراطي. وإذا كان جزء من الأطروحة صحيحاً وهو ما يحتاج الشباب للاستعانة به، لاسيما للعقول والأدمغة المفكرة، فضلاً عن التجارب والخِبَر المتراكمة في الادارة والاقتصاد والاجتماع والقانون والسياسة. لكنه لا ينبغي النظر إلى الشباب باستصغار، أو من فوق، ففي ذلك نظرة " أبوية- بطرياركية" لجيل الشباب الذي قاد الربيع العربي على نحو شجاع وحاسم.
ومثل هذه النظرة التشكيكية الاستصغارية للشباب، تبدأ من أنهم ليسوا وحدهم من قاد التغيير، بل أن كل كيانات المجتمع قد شاركت فيه، فضلاً عن ذلك أن القوى السياسية التقليدية ساهمت في حرث الارض للتغيير عبر نضالات طويلة الأمد وقدّمت فيها تضحيات جمّة، ناهيكم عن دور المجتمع المدني في رفد حركة التغيير بعناصر وأدوات من الشباب ساهمت في إنجاز التغيير لاحقاً. وإذا كان كل ذلك صحيحاً، لكنه في الوقت نفسه لا يعني مصادرة إرادة الشباب التي فجّرت وقادت حركة التغيير وكانت فعلياً وقودها، ومحاولة فرض نوع من الوصاية أو الأبوية عليهم.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تكلفة العدالة الانتقالية !!
- عنصرا اليقظة: الحرّية والقانون
- المبدع في حضوره وغيابه
- وجها الإرهاب: القاعدة ونظام المحاصصة!
- الجامعة وهجرة العقول!
- تصادمت السياسات فانفجر الدم
- مثقف اليوم
- العراق ومشاريع التقسيم!
- آفة التمييز العنصري: هل من علاج؟
- لاهاي وهاجس العدالة!
- نشيد موطني والأَخوَان فليفل
- 45 مليون لاجئ يؤرقون العالم
- مكبّ النفايات الأمريكية
- العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!
- العدالة الانتقالية: عفو مستتر أم آلة انتقام؟
- شرنقة الفصل السابع
- دبلوماسية حقوق الإنسان
- النهضة والمشروع النقدي
- الزيوغانيفية ولعبة الكراسي
- الاختفاء القسري قضية إنسانية


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - عبد الحسين شعبان - خريطة التغيير العربية: إضاءات في أطروحات مغايرة!