أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار البلشي - سالم















المزيد.....

سالم


عبد الستار البلشي

الحوار المتمدن-العدد: 4181 - 2013 / 8 / 11 - 00:03
المحور: الادب والفن
    


لم نكد ننته من الغداء حتى ربت محمد على كتف سالم وهو يقول: قم يا روح أمك اغسل المواعين.
أخذتنا المباغتة وأعربنا عن استنكارنا الكامل لجلافة محمد، وعقدنا النية على مصارحته ـ لاحقا ـ بأنه حيوان. لأن ما يجوز مع الواحد منا لا يجوز مع سالم، خصوصا وأن هذا هو غداءه الأول معنا. و كونه شاركنا السكن بدءا من اليوم، لا يغير من الأمر شيئا. فلازال له ـ شرعاـ حق الضيافة المجردة عن أى مساهمة منه فى شغل البيت لثلاثة أيام على الأقل.

( بدا فارعا وسيما رياضى الجسم أنيقا بما لا يقاس مع أى منا، عندما دخل علينا أول مرة برفقة محمد. بادرنا بتقديم نفسه، وأكمل محمد: بأن سالم يرغب فى السكنى معنا. بالطبع لم نرفض فقد كنا فى حاجة لساكن إضافى يخفف عنا بعض أعباء الإيجار المرتفع، وسعدنا أن يكون خامسنا شاب مثله.. ابن ناس.. حسن التربية. لن يكون ـ كما يبدوا ـ مصدرا لأى متاعب ).

كنا أربعة حملتنا الغربة من ثلاث محافظات مختلفة فى مصر إلى هذا البلد
الخليجى الصغير. وبقدر ما كانت الغربة تثقلنا بقدر ما كنا نسعى جاهدين إلى تقصيرها، بتقليص النفقات إلى أقصى حد ممكن. كانت حياتنا متقشفة شديدة الجفاف، ليس بها ما يغرى شخصا مثل سالم ليعيشها، ناهيك عن دفع ثمنها ـ بغير داع ـ إيجارا وأكلا، من راتب لم يكن متميزا عن رواتبنا. بدا لنا شخصا يدفع مقابل عذابه، خصوصا وقد علمنا أن أسرته تعيش فى فيلا أنيقة خصصتها الجامعة لوالده كأحد أعضاء هيئة التدريس. وأن له فى هذه الفيلا غرفة مؤسسة تأسيسا فاخرا وتكاد تفوق شقتنا فى الاتساع.

*****

لم نتوقف كثيرا أمام السبب الذى دفعه للسكنى معنا بدلا من الحياة المرفهة مع أهله. بل سرعان ما رددنا الأمر لخلافات مستحكمة بينه وبين أسرته، وربما على الأرجح بينه وبين أبيه. حتى حمل إلينا محمد دعوة كريمة منه للعشاء فى بيتهم يوم الخميس، وأضاف أنه يؤكدا علينا بضرورة الحضور لأن هذه الدعوة موجهة من أبيه شخصيا.
التفتنا إلى محمد وقد عقد التساؤل وجوهنا، وطلبنا منه التفسير. فأوضح لنا أن علاقة سالم بأهله أكثر من ممتازة وأنه اضطر للانتقال للسكنى معنا ـ بنصيحة من طبيبه المعالج ـ من باب تغيير الجو وتجربة حياة جديدة وأناس
آخرين، بعد تعرضه لأزمة نفسية حادة.
حل الاهتمام محل الدهشة ونحن نسأل عن طبيعة هذه الأزمة وحدودها. فضحك قائلا: لا داعى للقلق، المسألة لا تخرج عن قليل من الاضطرابات وحالة من الأرق المتصل نتيجة للملل والرتابة.

*****

رغم أن معرفتنا بالأزمة النفسية لسالم لم تمر علينا كأن لم تكن، فإن معاملتنا له لم تتغير. كنا نتعامل معه كما نتعامل مع بعضنا البعض. فقط كنا معه أكثر أدبا. لا نوجه إليه ما نتبادله من شتائم تطال الأب والأم، أو نكثر فى حضوره من النكات الفاحشة أو ما يحتمل التجديف من ألفاظ.
الوحيد الذى كان يكسر كل ذلك محمد. وكان مبرره، بعد اضطراره لكشف أزمة سالم: أن سالم وجد هنا لكى يرى دنيا أخرى وأشخاص مختلفين لا لكى نعيد عليه أناشيد البراءة ونتعامل معه بالشوكة والسكين. ثم واجهنا بفجاجة: السلوكيات الراقية لا تليق بكم يا تربية الزرائب. تصرفوا بتلقائية حتى لا تنكثوا للرجل غزله.


لا شك أن كلام محمد كان منطقيا إلى حد كبير، لكنه كثيرا ما كان يتجاوز
وجهة نظره هذه إلى ممارسة الكثير من سلطة الكبير على سالم، مستغلا فارق السن البسيط بينهما. وكان يرد على استنكارنا لمثل هذه السلوكيات منه بأنه المسئول عن سالم فى مقامه بيننا بتوصية من والد سالم نفسه. لذا أعطى لنفسه سلطة توجيهه إلى ما ينبغى وما لا ينبغى، كما كان يشتمه ـ ضاحكا أو حتى غاضبا ـ بالأم والأب. وعندما كان سالم يرد عليه بالمثل كان يرمقه باستنكار مفتعل. فيرتبك سالم ويحمر وجهه، حتى يدركه أحدنا بتأكيد الشتائم فى حق أم محمد وأبيه وكل من خلفوه. فيستعيد بعض رباطة جأشه ويحاول مجددا مجاراتنا.


كانت النقلة كبيرة عليه كما يبدو. حتى إنه كان يحتار كثيرا متى يجوز له التبسط ومتى لا يجوز. وما هو مداه فى ذلك؟ وكم كان مداه محدودا رغم جهوده الملحوظة ومحاولاته الصادقة للتواؤم مع جو السكن.
من جانبنا كنا متفهمين ذلك تماما وكنا مدركين لصعوبته بعد أن علمنا أنه لم يكن متروكا لشأنه كأحدنا، بل كان محل انشغال أهله ورعايتهم، وأن نصيبه من هذا الاهتمام كان يتجاوز ما حظينا به جميعا على مدار أعمارنا. كما أن حياته فضلا عن ذلك، كانت أشبه بالمعسكر. تسير كل تفاصيلها وفق جداول صارمة. فلكل شئ فيها ميعاد ومدة: النوم، الأكل، الشرب، الكلام، القراءة، السينما، ممارسة الرياضة ،الصلاة، وكوب اللبن الذى يشربه قبل النوم ..الخ. ولم يكن فى كل ذلك على سجيته أو مستسلما لحكم العادة، بل كان يمارسه بوعى من سيسأل عن عمره فيما أفناه. وعن شبابه فيما ضيعه. وإن كان يقينا لن يسأل عن ماله فيما أنفقه. أو أن هذا ما وقر فى قلوبنا، عندما تأكد
لنا أن ما أنفقه سالم من أموال فى سنوات دراسته الجامعية كان يكفى الواحد منا لتجنب مؤونة السفر والغربة.


مع الوقت تناغم سالم معنا إلى حد كبير، لكنه لم يصبح أبدا كواحد منا. بل ظلت هناك مسافة لا حيلة له ولا لنا فيها، تكون أكثر وضوحا عند يخلو إلى نفسه أو يلفنا الصمت. حيث ينأى عنا إلى عوالم بعيدة، أو يمعن فى الانكفاء على نفسه. أو كما حدث، عندما دخلت الشقة وليس فيها غيره فسمعت صوت موسيقى صاخبة صادرة عن المسجل، ووجدته مستغرقا فى رقصة عنيفة لم يفق منها إلا بعد فترة من دخولى بل وجلوسى فى مرمى بصره. عندما انتبه لوجودى كف عن الرقص ووقف فى منتصف الغرفة يتصبب عرقا، وهو يحاول تنظيم لهاثه. وأخيرا جلس على الكرسى المجاور دون أن ينطق بحرف.


*****


قربت الأيام الأخيرة بينى وبين سالم إلى حد كبير، وكثيرا ما كان يجمعنا ـ أنا وهو فقط ـ السهر لليال ممتدة ولوقت متأخر من الليل. عرفت منه الكثير من التفاصيل عن حياته التى أكملت الصورة التى يعرفها الجميع دون أن
تضيف إليها جديدا. وفى واحدة من هذه الليالى كنت وسالم فى الصالة وحدنا بعد أن نام الجميع. الكلام بيننا كان قليلا. هو كثير الشرود فى ملكوته. وأنا مستغرق فى أحداث الليلة الماضية بكل تفاصيلها. كانت ليلة حافلة مارسنا فيها الكثير من اللهو. وكان سالم يتوهج فيها تألقا وحضور بديهة. فى الورق جربنا كلنا الخسارة ولم يجرب هو غير الكسب. وعندما لعبنا "عروستى" كان أكثرنا مهارة فى إعطاء الأوصاف الأدق للعروس المختارة، والأسرع فى الإجابة عندما يأتى عليه الدور للرد عن ماهية هذه العروس. وأخيرا حق له أن يتوج سلطان الليلة بلا منازع، عندما حملنا الحديث إلى دنيا النساء ومغامرتنا فيها. كنا جميعا على يقين من بياض صفحته فى هذا العالم، وأنه آن الأوان ليعود إلى كرسى التلميذ مرة أخرى، وكفاه ما أحرز من سبق فى اللعب والألغاز. لكنه بضربة واحدة أزال هذا الوهم وأسقط معه الكثير من دواعى التحفظ بيننا وبينه، عندما حكى عن تجربة له مع بائعة هوى فى واحدة من أجازاته فى القاهرة. كانت تجربة عابرة، لا تكشف عن باع طويل له. لكن وقعها كان مباغتا مباغتة حدوث المستحيل وما يتعذر تصوره. كان فاتنا مبهرا لا حدود لقدرته على الإدهاش.


ابتسمت وأنا أستعيد كل ذلك وأستعيد معه جدية سالم وحرصه على التأكيد على نديته وقدرته على الفعل، بل والقبض على زمام انفعالاتنا. ثم انقبضت قليلا عندما تذكرت الآن فقط أن وجهه كان مجردا عن أى مظهر للفرح رغم ما يحققه من مكاسب.



ـ هل تستطيع أن تكون كوزا ؟

أفقت على هذا السؤال موجها من سالم إلى بعربية فصيحة لم تهمل التنوين
فى الكلمة الأخيرة. التفت إليه وقد علت وجهى ابتسامة واسعة توشك أن تصير قهقهة، وأنا أمنى نفسى بامتداد باهر لليلة أمس أنفرد به وحدى. وعندما التقت عيناى بعينيه تجمدت ابتسامتى.. لم يكن هناك أى أثر للسخرية أو العبث فى سؤاله. كان جادا.. جادا ومثقلا بشكل مروع وحزينا إلى أقصى حدود الحزن. تيبس لسانى، وتجمدت فى وضعية ثابتة، وأنا أرنو إليه فى ذهول. كان يمعن فى الغياب، وأنا أمعن فى العجز، تملؤنى الرهبة والأسى. والمسافة بينى وبينه تتسع ببطء وثبات. ثم لم تلبث قليلا حتى تحولت إلى بحر لجى زاخر، أقف على شاطئ منه، بينما يقف سالم قصيا صغيرا ضبابى الملامح على الشاطئ الآخر.



#عبد_الستار_البلشي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العرس
- مطاردة
- حكاية الرجل و النمر الذى تحول كلبا
- صباح باللبن


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار البلشي - سالم