أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شوقي إبراهيم قسيس - أبو العلاء المعرّي (973 – 1058)















المزيد.....



أبو العلاء المعرّي (973 – 1058)


شوقي إبراهيم قسيس

الحوار المتمدن-العدد: 4177 - 2013 / 8 / 7 - 10:52
المحور: الادب والفن
    


تنويه:

ظهر مؤخّراً مقالٌ قيِّم للصّديق سميح مسعود عن أبي العلاء المعرّي في صحيفة الاتحاد الحيفاوية (تجدونه على هذا الرابط: http://www.aljabha.org/index.asp?i=78645 )، وذلك في أعقاب تحطيم رأس تمثال أبي العلاء الّذي قام به بعضُ الأوباش السلفيين في سورية. قرأتُ المقال وأعجبني، فتذكّرتُ فصلاً عن المعري كنت قد كتبتُه في سلسلة كتب من سبعة مجلّدات أُعدُّها للنشر تحت عنوان "إعرفْ جذورَك أيّها العربيّ"، ورأيت أن أُطلعَ قرّاء "الحوار المتمدّن" عليه لإكمال المعلومات عن هذا الشاعر والفيلسوف العظيم. وقد أضفتُ إلى ما كتبتُه بعضَ الجمل الّتي اقتبستها من مقال الأخ سميح دونَ استئذانِه، فأرجو أنْ يعذرَني. آمل أنْ تعيدَ الدولةُ السورية العلمانية الاعتبارَ لهذا الرجل العظيم بإقامة تمثالٍ أكبر له في المعرّة، وذلك بعد أنْ تستكملَ القضاء على هؤلاء المرتزقة من سلفيين ووهابيين وغيرهم من خفافيش الظلام.


حياته:

هو أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد التّنوخي. ولد في معرّة النّعمان بين حمص وحلب(1)، وتوفي فيها في شهر آذار سنة 1058، وقبره موجود حتّى اليوم في بلدة المعرّة، وبجانبه تمثال له. كان المعرّي قصيرَ القامة، نحيفَ الجسم، مشوّهَ الوجه بالجُدَري؛ فقد أُصيبَ وهو في الرّابعة من عمرَه بالجُدَري وفقد أوّلاً بصرَ عينِه اليسرى وغشِيَ اليمنى بياضٌ، والمرجَّح أنّه لم يفقدْ بصرَه كليّاً في كلتا عينَيْه إلاّ بعدَ بضع سنوات من مرضِه. على أنّ فقدَه لبصرِه عوّض عنه بحدّةِ بصيرتِه، فكان شديدَ الذّكاء وقويَّ الحافظة، ولمؤرِّخي حياتِه قصصٌ ورواياتٌ كثيرة عن ذلك. ولم يمنعْه العمى من تحصيلِ ثقافةٍ واسعة، فأخذَ عن أبيه مبادئ العلوم، ثم راحَ يطوفُ بلادَ الشّام والعراق باحثاً منقِّباً، مختلفاً إلى المكتباتِ ودورِ العلم، متردِّداً على العلماء والرّهبان، جائلاً في كلِّ فنٍّ وفي كلِّ فرعٍ من فروع المعرفة. عاش فترةً من شبابِه في بغداد، وعاشرَ فيها كبارَ رجالِ الأدب والثقافة، وأثارَ إعجابَ المعجبين وحسدَ الحاسدين.

لكنّ الأمورَ في بغداد لم تجرِ كما كان يشتهي، وضاقت به الحال، فرجع قاصداً المعرّة، وفي الطّريق جاءه خبرُ وفاةِ والدتِه فجزِعَ عليها، وكان لوفاتِها أَثرٌ عميق في نفسه زادَه تشاؤماً وحمله على الزّهد واعتزال الدنيا. فلزم بيته في المعرّة وسمّى نفسَه رهينَ المحبسين، البيت والعمى، وامتنع عن أكلِ اللّحوم ومنتجاتِ الألبان، واكتفى بالعدس والفول والتّين، وذلك لقلّة ذاتِ اليد ولتأثُّرِه بفلسفة بَراهِمةِ الهند. كذلك حرّم على نفسِه شربَ الخمرة، وذَكَرَ ذلك في أشعارِه. جمع أشعارَه في ديوان سقط الزند، وأكبَّ على المطالعة ونظمِ الشعر والكتابة وهو ملتزمٌ بيتَه في المعرّة، فنظم ديوانَه الفلسفيّ الذي سمّاه أللّزوميات أو لزوم ما لا يلزم، ووضع رسالة الغفران، فطار صيتُه في العالم العربي كلّه، وأصبح مطمحَ الأنظار يقصدُه القاصي والدّاني ليسمعَ أقوالَه ويغرفَ من بحرِه. وحين توفِيَ سنةَ 1058 ضجّت لوفاتِه البلاد ورثى الشعراءُ من كان ولا يزالُ فيلسوفَ الشعراء وشاعرَ الفلاسفة.

والمعرّي من بيت علم ورئاسة، فأبوه من العلماء، وتولّى جدُّه وأبو جدّه وجدُّ جدّه قضاءَ المعرّة. وبقي القضاء في بني أخيه إلى أن دخل الروم المعرّة بعد أكثرَ من نصفِ قرنٍ من وفاة أبي العلاء. ونجدُ من آلِ سليمان عدداً كبيراً من العلماء والشعراء والفقهاء وأصحاب الفتاوى. وبقيت الفتاوى فيهم على المذهب الشافعي لأكثرَ من قرنين من الزمن.


قيمته ومنزلته:

أبو العلاء شاعرٌ مجيد، وناقدٌ جريء لأشعارِ وشعراءِ العرب، وذوّاقة للشعر والأدب، ومفكِّر من الطّراز الأول، وفيلسوف وثائر وجريء في طرح أفكارِه وفي ثورتِه، وأديبٌ وكاتب ومؤرخ . في الواقع يصعبُ الفصلُ بين أشعار أبي العلاء وبين كتاباتِه النّثريّة، إذ تجدُ عناصرَ قدُراتِه المتعدِّدة في كليهما، حيث تلتحمُ الفلسفة بنسيجه الشعري والنثري. كذلك يصعبُ في هذه العجالة إيفاءُ الرّجلِ حقَّه، وقد ظهرتْ دراساتٌ عديدة وعلى مرِّ العصور عن أدبِه، وتُجمع هذه الدراسات على امتلاكِه موهبةً استثنائيّة ونزعةً تنويريّة عقلانيّة، فقد قدَّم العقلَ طيلةَ حياتِه على كلِّ شيء، وحَكّمهُ في كلِّ شيء، وجعله أساسَ منهجِه النّقديّ المليء بالسّخرية والتّشاؤم والشّك والتّساؤلات. عُرف عنهُ إلمامُه بكلِّ ألوان الفلسفات الشّرقية، وتعمّقُه بمعرفة الأديان والمذاهب والفرق الدّينيّة المختلفة. وقد اعتُبر إنتاجُه الشعريّ والنثريّ بمثابة تأمّلاتٍ فلسفيّة نادرة في مجال الدّين والدّنيا والحياة الآخرة. بحثَ بمنهجٍ فكريّ عقلانيّ متنوِّر، استباح به انتقادَ كلِّ شيء (لا خطوط حمراء ولا محرَّمات)، وقدّم على أساسِه رأيَه وفكرَه في مسائلَ كثيرةٍ تتعلّقُ بالأدب والشّعر والفلسفة والتّصوف والتّاريخ والفقه والنّحو وأمور الدين والخلق، كما ناقش بمنهجِه هذا الفلاسفةَ والشعراء والأدباء والفقهاء، ودافع بكثيرٍ من الحماس عن خياراتِه الفكريّة العقلانيّة بكلّ تجليّاتِها، دون إخفاءٍ لشكوكِه ومعتقداتِه ومناهضتِه للموروث التّراثي المُكبِّلِ للأذهان بقيود الجهل والخرافات. اختلف عن معاصريه من الأدباء والشّعراء برفضِه الارتماء تحت أقدام الحُكام، والتكالب على طلب المال. ترك كلَّ شيء ولزم بيتَه وهو في ريعانِ الشباب. وقد عاش منعزلاً بعينين مطفأتين زهاءَ أربعين عاماً في بيتٍ صغير مظلم يخلو من مقوِّمات الحياة الأساسيّة، لبِسَ أخشنَ الملابس، وامتنعَ عن أكل اللّحم طوال حياته رفقاً منه بالحيوان.


أبو العلاء الشاعر:

لأبي العلاء مقامٌ فريد بين شعراء العرب، وذلك من حيثُ أسلوبِه وفنِّه، ومن حيثُ أفكارِه ونظرتِه إلى الدّنيا والدّين. ويمكنُ أنْ نُقسِّم حياتَه الشعرية (والفكرية أيضاً) إلى طورَين: الأول، منذُ بدء عهده بالنظم إلى اعتزالِه، ودوَّن لنا أشعارَه هذه في ديوان "سقط الزند". والطّور الثّاني، شعر العزلة والّذي دوّنه في "اللّزوميات".


سقط الزند:

يحوي أكثر من ستين قصيدة طويلة جرى في معظمِها مجرى الأقدمين من حيث السبك والموضوعات. فنراه يكثر في ذكر ووصف النّوق والمطايا والرّواحل على النّسق البدوي ويجيدُ في ذلك. وكثيراً ما نلمسُ في قصائد "سقط الزند" روحَ أبي تمّام وروح أبي الطيب المتنبّي، خاصةً في فخرِه وفي ولعِه بغريبِ الألفاظ وبأنواعِ البديع. ونجدُ في أكثرَ من نصفِ هذه القصائد مقدماتٍ يصف فيها المطايا، أو يتكلَّف الغزل على الطّريقة القديمة دونَ أن يُوفَّقَ كثيراً فيه. وفي هذا الطَّوْر من حياتِه نراه شديدَ الشّعورِ بأهميّة نفسِه كثيرَ التّفاخرِ بها. ومن جيِّدِ شعرِ شبابِه في "سقط الزند" لاميّتُه الشّهيرة الّتي نلمسُ فيها روحَ شعراء الفخر السّابقين أمثال امرئ القيس والفرزدق والأخطل وأبي تمام وأبي الطيب وغيرهم. اسمعه يقول في تضاعيفها:

أَعِنْدي وَقَدْ مـارَسْتُ كُـلَّ خَـفِيّةٍ
يُـصَدَّقُ واشٍ أو يُخَيّبُ سائِـلُ

كَأَنّي إذا طُلْتُ الـزَّمـانَ وَأَهْـلَـهُ
رَجَعْتُ وَعِنْدي لِلأَنـامِ طَـوائِلُ

وَقَدْ سارَ ذِكري في الْبِلادِ فَمَـنْ لَهُمْ
بِإخفاءِ شَمْسٍ ضَوْؤُها مُتَكامِـلُ

يَهِمُّ اللَّيالي بَعْضُ مـا أَنا مُضْمِــرٌ
وَيُثْقِلُ رَضْوى دونَ ما أَنا حامِلُ

وَإنّي وَإنْ كُنْتُ الأَخيرَ زَمانُـــهُ
لآتٍ بِما لَمْ تَسْتَطِعْـهُ الأَوائِـلُ

وَأَغْدو وَلَـوْ أَنَّ الصَّباحَ صَـوارِمٌ
وَأَسْري وَلَوْ أَنَّ الظَّـلامَ جَحافِلُ

وَإنّي جَـوادٌ لَـمْ يُحَلَّ لِـجـامُـهُ
وَسَيْفُ يَمـانٍ أَغْفَلَتْهُ الصَّياقِـلُ

وَلَمّـا رَأَيْتُ الْجَهْلَ في النّاسِ فاشِياً
تَجاهَلْتُ حَتّى ظُنَّ أَنّي جـاهِـلُ

فَـوا عَجَباً كَـمْ يَدَّعي الْفَضْلَ ناقِصٌ
وَوا أَسَفا كَمْ يُظْهِرُ النَّقْصَ فاضِلُ

يُنافِسُ يَوْمـي فِيَّ أَمْـسي تَشَرُّفـاً
وتَـحْسِدُ أَسْحاري عَلَيَّ الأَصائِلُ

وَطـالَ اعْتِرافي بِالزَّمـانِ وَصَرْفِـهِ
فَلَسْتُ أُبالي مَـنْ تَغولُ الْغَـوائِلُ

إذا وَصَفَ الـطّائيَّ بِالْبُخْـلِ مـادرٌ
وَعَيَّــرَ قِسّاً بِالْبلاهةِ باقِــلُ

وَقـالَ السُّهى للشَّمْسِ أَنْتِ ضَئيلـةٌ
وَقالَ الدُّجى: يا صُبْحُ لَوْنُكَ حائِلُ

وَطـاوَلَتِ الأَرْضُ السَّماءَ سَفاهـةً
وَعَيّرَتِ الشُّـهْبَ الْحَصا وَالْجَنادِلُ

فَيا مَوْتُ زُرْ إنَّ الْحَياةَ ذَميمــةٌ
ويا نَفْسُ جِدّي إنَّ دَهْـرَكِ هـازِلُ


ومِن جميل فخرِه نذكرُ بيتين:

تَعاطوا مَكاني وَقَد فُتُّهُمْ
فَما أَدْرَكوا غَيْرَ لَمْحِ الْبَصَرِ

وَقَدْ نَبَحوني وَما هِجْتُهُم
كَما نَبَحَ الْكَلْبَ ضَوْءُ الْقَمَرِ


ومِن أمثلة وصفِه للمطايا قولُه يذكرُ سَرْيَها في الليل:

وَأَسْوَدَ لَمْ تَعْرِفْ لَهُ الأُنْسُ والِداً
كَساني مِنْهُ حِلّةً وَخِمارا

سَرَتْ بي فيهِ ناجِياتٌ مِياهُها
تَجِمُّ إذا ماءُ الرَّكائِبِ غارا

فَخَرَّقْنَ ثَوْبَ اللَّيْلِ حَتّى كَأَنَّني
أَطَرْتُ بِها في جانِبَيْهِ شَرارا

إذا قُيِّدَتْ في مَنْزِلٍ بِتَنوفةٍ
حَسِبْتَ مُناخاً أَوْطَنَتْهُ مَثارا

تَظُنُّ غَطيطَ النَّوْمِ نَهْمةَ زاجِرٍ
فَتُفْزِعُ سِرْباً أَوْ تَروعُ صُوارا

وَلَسْتَ تَحِسُّ الأَرْضَ مَنْها بِوَطْأَةٍ
فَتَقْطَعُ قَيْداً أَوْ تَبُثُّ هِجارا

تَدوسُ أَفاحيصَ الْقَطا وَهُوَ هاجِدٌ
فَتَمْضي وَلَمْ تَقْطَعْ عَلَيْهِ غِرارا


وممّا يلازمُ ذكرَ المطايا والحبيب ذكرُ السّيف والرّمح والدّروع، وله في ذلك أقوالٌ كثيرة في عددٍ من القصائد سمّوها "الدّرعيات". وليس واضحاً لماذا يصرفُ رجلٌ كأبي العلاء جهداً كبيراً لوصف الدّروع، وليس لها أقلُّ علاقة بنفسِه أو حياتِه. كذلك أكثرَ من ذكرِ الضّواري والطّيور، وله أوصافٌ مفصَّلة للذّئب والضّبع والأسد والأرقم والقطا والحمام والنّعام والنّسر والوعل والغراب. ومثلُ ذلك أيضاً كثرةُ ذكرِه للنّجوم والأفلاك والصّباح والظّلام. وله في كلِّ ذلك ما يدلُّ على مهارته اللّغوية في الوصف.

ومما يلاحَظُ في شعر المعرّي بشكل عامّ، وفي سقط الزّند على وجه الخصوص، كثرةُ استشهادِه بحوادث التّاريخ ورجاله؛ ففي سقط الزّند مثلاً نجد نحو ثلاثين شاهداً من هذا القبيل.

والعديد من مطولّاته في سقط الزّند، والتي يبدأها بوصف الرّواحل وبعضٍ من النّسيب، نظمها بهدف المديح أو الفخر. وهو في مدائحِه ليس متكسِّباً، بل إنّه يهدف الثّناء على من يراهم يستحقّون ثناءَه عليهم. وله في هذا الدّيوان عددٌ من المراثي، لعلَّ أشهرَها مرثيّتان، ألأولى: "يا دهرُ يا مُنجزَ إيعاده" الّتي أنشأها في رثاء جعفر بن علي بن المهذّب، والثّانية: "غيرُ مُجدٍ في مِلَّتي واعتقادي" الّتي أنشأها في رثاء الفقيه أبي حمزة الحنفي. وقد ضمّن افتتاحيّة كلٍّ من المرثيتَين أفكاراً فلسفية وتأمُّلات في الحياة والموت وبعضاً من الحكم. اسمعه يقول في الأولى:

أَحْسَنُ بِالْواجِدِ مِنْ وِجْدِهِ
صَبْرٌ يُعيدُ النّارَ في زِنْدِهِ

يا دَهْرُ يا مُنْجِزَ إيعادِهِ
وَمُخْلِفَ الْمَأْمولِ مِنْ وِعْدِهِ

أِيُّ جَديدٍ لَكَ لَمْ تُبْلِهِ
وَأَيُّ أَقْرانِكَ لَمْ تُرْدِهِ

أَرى ذوي الْفَضْلِ وَأَضّادَهُمْ
يَجْمَعُهُمْ سَيْلُكَ في مَدِّهِ

تَجْرِبةُ الدُّنْيا وَأَفْعالُها
حَثَّتْ أَخا الزُّهْدِ عَلى زُهْدِهِ

إنَّ زَماني بِرَزاياهُ لي
صَيَّرَني أَمْرَحُ في قَدِّهِ

كَأَنّنا في كَفِّهِ مالُهُ
يُنْفِقُ ما يَخْتارُ مِنْ نَقْدِهِ

لو عَرَفَ الإنسانُ مِقْدارَهُ
لَمْ يَفْخَرِ الْمَوْلى عَلى عَبْدِهِ

أمسِ الذي مَرَّ عَلى قُرْبِهِ
يَعْجَزُ أَهْلُ الأرْضِ عَنْ رَدِّهِ

وَمَجْدُهُ أَفْعالُهُ لا الّذي
مِنْ قَبْلِهِ كانَ وَلا بَعْدِهِ

تَشْتاقُ أَيّارَ نُفوسُ الْوِرى
وَإنَّما الشَّوْقُ إلى وَرْدِهِ

كَمْ صائِنٍ عَنْ قُبْلةٍ خَدَّهُ
سُلِّطَتِ الأرْضُ عَلى خَدِّهِ

وَحامِلٍ ثِقَلَ الثَّرى جيدُهُ
وَكانَ يَشْكو الضَّعْفَ مِنْ عِقْدِهِ

وَرُبَّ ظَمْآنَ على مَوْرِدٍ
وَالْمَوْتُ لَوْ يَعْلَمُ في وِرْدِهِ


أمّا الداليّة فنجد فيها هذه الأبيات الذائعة الصيت:

غَـيْرُ مُجْدٍ فـي مِلّتي وَاعْتِقادي
نَـوْحُ بـاكٍ وَلا تَـرَنُّمُ شـادي

وَشَـبيـهٌ صَـوْتُ النَّعِيِّ إذا قيـ
ـسَ بِصَوْتَ الْبَشيرِ في كُلِّ وادِ

صاحِ، هـذي قُبورُنا تَمْلأُ الرَّحِـ
ـبَ، فَأَيْنَ الْقُبورُ مِنْ عَهْدِ عادِ

خَفِّفِ الْوَطْءَ، مـا أَظُنُّ أَديـمَ الأَرْ
ضِ إلاّ مِــنْ هـذِهِ الأَجْسـاد

سِرْ إنِ اسْطَعْتَ في الْـهَواءِ رُوَيْداً
لا اخْتِيـالاً عَـلى رُفـاتِ الْعِبادِ

رُبَّ لَحْدٍ قَـدْ صارَ لَحْـداً مِـراراً
ضاحِكٍ مِـنْ تَزاحُـمِ الأّضْـدادِ

بـانَ أَمْـرُ الإلـهِ، وَاخْتَلَـفَ النّا
سُ، فَداعٍ إلـى ضَـلالٍ وَهـادِ

وَالَّــذي حــارَتِ الْبَرِيّـةُ فيـهِ
حَـيَوانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِـنْ جَمـادِ

واللَّبيبُ اللَّبيـبُ مَـنْ لَيْسَ يَـغْـتَرُّ
بِكَــوْنٍ مَصـيرُهُ لِلْفَســـادِ


أللّزوميات:

أو لزوم ما لا يلزم. وتنفرد بخلوِّها من أبواب الشعر المطروقة، كالمديح والرّثاء والفخر وما إليها، وانصرافِ ناظمِها إلى الفلسفة وإلى نقد الحياة. وتشملُ القصائد الطّويلة، وعدداً كبيراً من المقطوعات القصيرة والتي لا يتعدّى بعضُها البيتين من الشّعر. ينفردُ كتابُ اللّزوميات بمكانة خاصّة في الشّعر العربيّ كديوان فلسفيّ وحيد في اللّغة العربية، ويؤكِّد طه حسين على "أنّ اللّزوميات فنٌّ جديد في الشّعر العربيّ"، وأنّ أبا العلاء أحدث فنّاً في الشّعر لم يعرفْه النّاسُ من قبلُ، وهو الشّعر الفلسفيّ. ويقول يوحنا قمير(2):

"أللّزوميات هي بَعدُ فنٌّ جديدٌ في الفكر العربيّ، فنُّ الشّعر الفلسفيّ. هي صدى حالات نفسيّة انتابت صاحبَها، فكوَّنت فلسفةً اصطبغتْ بالشّعر، وكثرت فيه المراجعات. إنّها قبلَ كلِّ شيء صدى روحٍ فكَّرتْ كثيراً وشعرت كثيراً وشقيت كثيراً. وبهذا يكون أبو العلاء شاعراً وفيلسوفاً في نفس الوقت، ولهذا استحقَّ بجدارة لقب شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء".

وقد التزم المعرّي في الكثير لزومياته قافيةً ذاتَ رَوِيّ واحد، واضطرَّ في بعضِها إلى استعمال القوافي الغريبة والألفاظ الغامضة، فقيَّد نفسه بلزوم ما لا يلزم. وتجد في لزومياته المقطوعات والقصائد السّلسة والعذبة، وهذا الضّرب هو الغالب على اللّزوميات، وسنأتي بعدة أمثلة. لكنّك تجدُه أحيانا يُغرقُ في الغرائب اللّفظية، ويأتي بمعانٍ فيها الكثير من التّكلّف والتّعسُّف.

نظم المعرّي لزومياتِه كلَّها بعد رجوعِه من بغداد ولزومِه المعرّة. لذا فهي تمثِّلُ نضجَ نظراتِه الفلسفيّة في الكون وفي الحياة، وتتناولُ منشأَ الإنسان ومصيرَه وما بينهما. ولأبي العلاء فيها موقفان رئيسيّان: اتّجاه الغيبيّات (الله والبعث والحياة الآخرة)، واتجاه الإنسان والمجتمع. وهو في كلَيْهما هو رجلُ الثورة الفكرية.

فبالنّسبة للغيبيات، يرى أبو العلاء أنّ النّفسَ والجسد تتشابهان من حيثُ المصدر والمصير، وأنّ العقل إمام ونبيّ، وأنّ الله موجِدُ الكونِ وخالقُه. يظنُّ البعضُ أنَّ في تفكير أبي العلاء حيرةً وتناقضاً واضطراباً، وأنا أرى غيرَ ذلك؛ أرى فيه نادرةً من نوادر الزمان: ذكاءً متوقِّداً، حافظةً عجيبة، روحاً ساخرة، ثقافة واسعة، شعوراً ملتهباً، عقلاً غوّاصاً في كلِّ عمق، وشكّاً في أمور الدّنيا والدّين. فهو غيرُ مطمئنٍّ إلى بعضِ المعتقدات، غيرُ وَجِلٍ من شكِّه فيها، ويميلُ إلى اختيارِ الإيمان بعقلِه وعلى طريقتِه، لا كما يختارُه عامّةُ النّاس من حولِه. وما رآه البعضُ من تناقضٍ واضطراب ليس إلاّ ما استوعبه عقلُه الثّاقب من أنّه لا يمكنُ للعقلِ البشريّ أن يضعَ المطلَق (نحو وجود قوة خالقة) في إطار المعتقدات الدينية الّتي لا تصوِّرُ حقيقةَ الكون بل حقيقةَ عقلنِا المتدنّي. فالمعرّي رفض الكثيرَ من الطّقوس والممارسات الدّينية، لكنّه لم يرفضْ وجودَ قوّةٍ خالقة اتُّفِق على تسميتها (الله):

فَلَكٌ يَدورُ بِحِكْمةٍ
وَلَهُ، لا رَيْبَ، مُديرُ


عَجَبي للطَّبيبِ يُلْحِدُ في الْخالِقِ
مِنْ بَعْدِ دَرْسِهِ التَّشْريحا


وقد أصرَّ على وجودِ هذه القوّة الخالقة، وذكر اسمَ (الله) في الكثير من أشعار اللّزوميات، فعلى سبيل المثال:

وَاللهُ حَقٌّ وَابْنُ آدَمَ جاهِلٌ
مِنْ شَأْنِهِ التَّفْريطُ وَالتَّكْذيبُ


أللهُ لا رَيْبَ فيهِ وَهُوَ مُحْتَجِبٌ
بادٍ، وَكُلٌّ إلى طَبْعٍ لَهُ جَذَبا


لكنّه شكّك – وبحق – في بعضِ أنواع الإيمان الغيبيّ، فنراه يرفضُ كلّ ما يُلصقُه الدّين بالله من صفات هي من إنتاج العقل البشريّ المتدنّي، ويلخِّص ذلك قولُه:

قُلْتُمْ لَنا خالِقٌ حَكيمُ
قُلْنا صَدَقْتُمْ كَذا نَقولُ

زَعَمْتُموهُ بِلا مَكانٍ
وَلا زَمانٍ أَلا فَقولوا

هذا كَلامُ فيه خَبيءٌ
مَعْناهُ لَيْسَتْ لَنا عُقولُ


وهو أحياناً يرفضُ فكرةَ الحشر والحياة الآخرة، كما في قوله الشهير:

ضَحِكْنا وَكانَ الضَّحْكُ مِنّا سَفاهةً
وَحَقُّ لِسُكّانِ الْبَسيطةِ أَنْ يَبْكوا

يُحَطِّمُنا صَرْفُ الزَّمانِ كَأَنَّنا
زُجاجٌ وَلكِنْ لا يُعادُ لَهُ سَبْكُ


وله عددٌ آخرُ من الأبيات والمقطوعات يرفضُ فيها فكرةَ الحشر والآخرة رفضاً كلّيّاً، وله عددٌ آخر نراه فيها (لا يدري، egnostic)، وهذه الأبياتٌ المختارة من اللزوميات هي خيرُ ما يعبِّرُ عن هذه "اللاأدرية":

أَمّا الْجُسومُ فَللتُّرابِ مَآلُها
وَعَييتُ بِالأَرْواحِ أَنّى تَسْلُكُ


دَفَنّاهُمُ في الأَرْضِ دَفْنَ تَيَقُّنٍ
وَلا عِلْمَ بِالأَرْواحِ غَيْرُ ظُنونِ

وَرَوْمُ الْفَتى ما قَدْ طَوى اللهُ عِلْمَهُ
يُعَدُّ جُنوناً أَوْ شَبيهَ جُنونِ


قَدْ قيلَ أَنَّ الرّوحَ تَأْسَفُ بَعْدَما
تَنْأى عَنِ الْجَسَدِ الَّذي غَنِيَتْ بِهِ

إنْ كانَ يَصْحَبُها الْحِجى فَلَعَلَّها
تَدْري وَتَأْبَهُ للزَّمانِ وَغَيْبِهِ

أَوْ لا، فَكَمْ هَذَيانِ قَوْمٍ غابِرٍ
في الْكُتْبِ ضاعَ مَدادُهُ في كُتْبِهِ


أَمّا الْيَقينُ فَلا يَقينٌ وَإنَّما
أَقْصى اجْتِهادي أَنْ أَظُنَّ وَأَحْدِسا


ونراه أحياناً أخرى يميلُ إلى الاعتقاد بأنّه ربما يوجدُ هناك حشر أو آخرة، كما في قوله الشهير:

قالَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبيبُ كِلاهُما
لا تُحْشَرُ الأَجْسادُ، قُلْتُ: إلَيْكُما!

إنْ صَحَّ قَوْلُكُما فَلَسْتُ بِخاسِرٍ
أَو صَحَّ قَوْلي فَالْخَسارُ عَلَيْكُما


وهما بيتان من ثمانية أبيات قالها في نفس المعنى. كذلك قوله:

إذا كُنْتَ مِنْ فَرْطِ السَّفاهِ مُعَطَّلاً
فَيا جاحِدُ اشْهَدْ أَنَّني غَيْرُ جاحِدِ

أَخافُ مِنَ اللهِ الْعُقوبةَ آجِلاً
وَأَزْعَمُ أَنَّ الأَمْرَ في يَدِ واحِدِ


ونرى أنّ فلسفةَ أبي العلاء في هذا المجال تنحصرُ في مسار "من الشّك إلى اليقين"، فهو يتّخذُ طريقَ الشّك محاولاً الوصولَ إلى اليقين. ومجملُ القول إنّه لم تكن صورةُ الله في عقلِه كصورتِه عند المؤمنِ العاديّ، وقد أدرك بعقله الثاقب أنّ العقلَ البشريّ المتدنّي لا يقدرُ على إدراك "ما وراء الطبيعة" وسبرِ أغوارِه، فكان موقفُه موقفاً (لا أدريّاً) متأثِّراً بالإسلام.

أمّا من حيثُ نظرتِه إلى الحياة والمجتمعات البشرية، فله في اللّزوميات مواقفُ واضحة وثابتة ولا يتراجعُ عنها، وتتلخَّصُ في ثلاثة محاور: (1) ألأديان ورجالها. (2) ألشعب والزعماء. (3) ألإنسان وطبيعته وعقله.

بشكلٍ عامّ يظهر أبو العلاء في لزومياته مفضِّلاً الدّين الإسلامي على باقي الأديان، وله أشعار كثيرة يتعرض فيها للفرق الإسلامية المختلفة وللنّصارى ولليهود. وحين ينظرُ إلى الأديان بشكل عام – بما فيها الدين الإسلامي - ، نراه يحملُ حملةً شعواء على هيكل الدّين، بما في ذلك: المعتقدات والفروض، والدّين كمؤسسة تشمل رجال الدين. وهو يحذِّرُ أن السُّننَ والمذاهب ما هي إلاّ أداةٌ يستعملُها الرّؤساء لجذب الدّنيا إليهم:

إنَّما هذِهِ الْمَـذاهِبُ أَسْــبابٌ
لِجَذْبِ الدُّنْيا إلى الرُّؤَساءِ


والسّلطة الدّينية هي مجموعة أضاليل، وما الدّين الحقّ إلاّ الفضائلُ وأعمالُ الخير. ورغم استهتارِه بالخرافات والأوهام المذهبيّة نراه يعظِّمُ الرّوحَ الدّينية التي يُراد بها التّنزّهَ عن الشّهوات والجشع والظّلم، وبذلك يشاركُ المصلحين الدّينيين في كلِّ زمانٍ ومكان. إسمعه يقول:

ما الْخَيْرُ صَومٌ يَذوب الصّائمونَ لَهُ
وَلا صلاةٌ وَلا صوفٌ عَلى الجَسَدِ

وَإنَّما هُوَ تَرْكُ الشَّرِّ مُطَّرِحاً
وَنَفْضُكَ الصَّدْرَ مِنْ غِلٍّ وَمِنْ حَسَدِ


ويقول متهكِّماً:

تَوَهَّمْتَ يا مَغْرورُ أَنَّكَ دَيِّنٌ
عَلَيَّ يَمينُ اللهِ ما لَكَ دينُ

تَسيرُ إلى الْبَيْتِ الْحَرامِ تَنَسُّكاً
وَيَشْكوكَ جارٌ بائِسٌ وَخَدينُ


سَبِّحْ وَصَلِّ وَطُفْ بِمَكَّةَ زائِراً
سَبْعينَ لا سَبْعاً فَلَسْتَ بِناسِكِ

جَهِلَ الدِّيانةَ مَنْ إذا عَرَضَتْ لَهُ
أَطْماعُهُ لَمْ يُلْفَ بِالْمُتَماسِكِ


أمّا السّلطة المدنيّة فهي فاسدة لأنّها قائمة على المكر والرّشوة، ويتّهمُ الزّعماءَ والحكّام بالجهل والجشع والاستبداد. ومن أمثلة ذلك:

مُلَّ الْمُقامُ فَكَمْ أُعاشِرُ أُمّةً
أَمَرَتْ بِغَيْرِ صَلاحِها أُمَراؤُها

ظَلَموا الرَّعِيّةَ وَأسْتَجازوا كَيْدَها
وَعَدَوْا مَصالِحَها وَهُمْ أُجَراؤُها


والموقفُ الثّوريُّ واضحٌ في قولِه إنّ أمراءَ الرّعيّة هم أجراؤها. وهو لا يكتفي بالأمراء والملوك بل يشملُ أيضاً الولاةَ والأئمّة:

فَشَأْنُ مُلوكِهِمْ عَزْفٌ وَنَزْفُ
وَأَصْحابُ الأَمورِ جُباةُ خَرْجِ


ساسَ الأَنامُ شَياطينٌ مُسَلَّطةٌ
في كُلِّ مِصْرٍ مِنَ الْوالينَ شَيْطانُ

مَتى يَقومُ إمامٌ يَسْتَقيدُ لَنا
فَتعْرِفُ الْعَدْلَ أَجْيالٌ وَغيطانُ


رُوَيْدَكَ قَدْ خُدِعْتَ وَأَنْتَ حُرٌّ
بِصاحِبِ حيلةٍ يَعِظُ النِّساءَ

يُحَرِّمُ فيكُمُ الصَّهباءَ صُبْحـاً
وَيَشْرَبُها عَلى عَمَدٍ مَسـاءَ

يَقولُ لَكُمْ غَدَوْتُ بِـلا كِساءٍ
وَفي لَذّاتِها رَهَنَ الْكِسـاءَ

إذا فَعَلَ الْفَتى مـا عَنْهُ يَنْهى
فَمِنْ جِهَتَيْنِ لا جِهةٍ أَسـاءَ


وهو أحياناً يرى الفسادَ العامّ متفشيّاً في المجتمع وفي الشّعب برمّتِه:

قَدْ فاضَتِ الدُّنْيا بِأَدْناسِها
عَلى بَراياها وأَجْناسِها

وَكُلُّ حَيٍّ فَوْقَها ظالِمٌ
وَما بِها أَظْلَمُ مِنْ ناسِها


وعندَه أنّ الطّبيعة البشريّة فاسدة ولا أمل بإصلاحها، والإنسان مدفوع بقوتين، قوة داخلية هي الغريزة الوحشية غير القابلة للتهذيب:

وَاللُّبُّ حاوَلَ أَنْ يُهَذِّبَ أَهْلَهُ
فَإذا الْبَرِيّةُ ما لَها تَهْذيبُ


لَمْ يَقْدِرِ اللهُ تَهذيباً لِعالَمِنا
فَلا تَرومَنَّ لِلأَقْوامِ تَهْذيبا

وَلا تَصَدِّقْ بِما الْبُرْهانُ يُبْطِلُهُ
فَتَسْتَفيدَ مِنَ التِّصْديقِ تَكْذيبا


والقوّة الثانية خارجيّة، وهي القضاء الّذي يتحكَّمُ في مصائر البشر، ولا أحدَ يمكنُه الوقوف في وجهه. ولم يوفَّقْ المعرّي في فلسفتِه في أنْ يطرحَ بنضوج إشكاليةَ الجمعِ بين "حكمة الله" كما أشارَ إليها في أشعارِه وبين جبروت القضاء، بل ترك المسألةَ مفتوحةً وخاضعة لما يشعرُ هو به كحكيمٍ ومفكر. وكنوعٍ من التّعويض عن عدم التّوضيح وعدم القدرة على حلِّ التّناقضِ اندفعَ بتأثير التّأمُّلِ الفلسفيّ إلى تقديس العقل، وجَعَلَ منه حَكَماً يبثُّ في كلِّ الأمور المستعصية على الإدراك:

يَرْتَجـي النّـاسُ أَنْ يَقومَ إمامٌ
ناطِقٌ في الْكَتيبةِ الْخَرْساءِ

كَذِبَ الظَّنُّ، لا إمامَ سِوى الْعَقْلِ
مُشيراً في صَبْحِهِ وَالْمَساءِ

فَـإذا مـا أَطَعْتَهُ جَلَبَ الرَّحْمةَ
عِنْــدَ الْمَسيرِ وَالإرْساءِ


هَفَتِ الْحَنيفةُ وَالنَّصارى ما اهْتَدَتْ
وَيَهودُ حارَتْ وَالْمُجوسُ مُضَلَّلةْ

إثْنانِ أَهْلُ الأَرْضِ: ذو عَقْـلٍ بِلا
ديـنٍ، وَآخَرُ دَيِّنٌ لا عَقْلَ لـهْ


تَسَتَّروا بِأُمورٍ في دِيانَتِهِمْ
وَإنَّما دينُهُمْ دينُ الزَّناديق

نُكَذِّبُ الْعَقْلَ في تَصْديقِ كاذِبِهِمْ
وَالْعَقْلُ أَوْلى بِإكرامٍ وتَصْديقِ


بالمقابل رفض الشرائع ونسب إليها أسباب الفتن والاضطراب:

إنَّ الشَّرائِعَ أَلْقَتْ بَيْنَنا إحَناً
وَأَوْدَعَتْنا أَفانينَ الْعَداواتِ


إذا رَجَعَ الْحَصيفُ إلى حِجاهُ
تَهاوَنَ بِالشَّرائِعِ وَازْدَراها


ونراه في فلسفته وحِكَمِه مختلفاً عن أبي الطيب الذي نتجت حِكَمُه عن نفس رجل خاض غمرات الحياة ساعياً وراء مكاسبها، بينما المعرّي المفكِّر عرف الحياة بذهنه فزهدها. والمعرّي في زهدِه مختلفٌ كثيراً عن أبي العتاهية، فله من دِقّة التأمُّل وصدقِ التّضحية وعمقِ المعرفة في الكون ما لم يكنْ لأبي العتاهية، شاعرِ القبور وواعظِ الموت. فالمتنبي حكيم الحياة، وأبو العتاهية واعظ الموت، أما المعري فهو حكيم الحياة والموت.

وقد أثارتْ عبقريّةُ المعرّي حسدَ الحاسدين فمنهم من زعم أنّه قرمطيّ، وآخرون قالوا إنّه ملحد وزنديق، ولفَّقَ له بعضُهم أبياتاً من الشّعر لم يقلها، منها أبيات "في اللّاذقية ضجةٌ ما بينَ أحمدَ والمسيح" المعروفة، ووصيتُه بأنْ يُكتبَ على قبرِه "هذا جناهُ أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد". كذلك حرّفوا بعضَ أبياتِه ليلصقوا به تهمة الإلحاد، مثل قوله:

قَد تَرامَتْ إلى الْفَسادِ الْبَرايا
وَنَهَتْنا، لَوْ نَنْتَهي، الأَديانُ

فمنهم من روى عجز البيت: "وَاسْتَوَتْ في الضَّلالةِ الأَدْيانُ".

وأشعار أبي العلاء تشيرُ إلى أنّ الرواية الأولى هي الصحيحة، وقد رواها "البطليوسي" الذي توفي بعد أبي العلاء بسبعين سنة فقط. غير أنّ من الأدباء والعلماء من وقفوا على حقيقة عقيدته وأثبتوا أن ما قيل من شعر يدل على إلحاده وطعنه في الديانات إنما دُسّ عليه وأُلحق بديوانِه. وممّن وقف على صدق نيته وسلامة عقيدته كان كمال الدين ابن العديم(3)، فقد ألف كتاباً أسماه: "العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري"، وفيه يقول عن حسّاد أبي العلاء:

"فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنَه عيوباً وحسناتِه ذنوباً وعقلَه حمقاً وزهدَه فسقاً، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرّفوا كلامه عن مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه".

لعلّ أهمَّ دفاعٍ عن المعري قدَّمه الإمام الذهبي(4) المتوفى عام 1346، وتتلخص شهادته بقوله:

"كان المعري في الجملة من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب، وله في التوحيد واثبات النبوة، وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة".

أمّا طه حسين فهو أكثر من دافع عن المعرّي في العصر الحديث، وقد كرّس له رسالتَه لنيل أوّل شهادة دكتوراة تُعطى من الجامعة المصرية في عام 1914، وخصّه أيضاً بكتابين آخرين، وكان يتحدث عنه في مجالسه دون توقف، ويعلن دوماً أنّه يعيشُ آلامَ نفس المعري المتقشِّفة، يتحسّسُ مرارتَها ويتقمَّصُها في بعض اللّحظات. وتعرَّضَ في كتاباتِه عنه إلى الجانب الدّيني بقوله:

"أبو العلاء صادق فيما يقول فهو إنما ألف الكلم يبتغي بها رضا الله ويتقي سخطه، كُتبه نوع من أنواع التقرب إلى الله، ولون من ألوان العبادة له والإمعان في تسبيحه والثناء عليه، ولكنّ أبا العلاء يعبد الله ويتقرب إليه كما يريد هو ويختار، لا كما يريد الناس ويختارون".

أطلق مارون عبود على أبي العلاء لقب زوبعة الدهور، ويشير عبود – وإن لم يصرح بذلك - إلى أنّ فكر المعري يشكل ركيزة مهمة من ركائز المعتقد الديني لدى الموحدين الدروز(5).
لقد درس على أبي العلاء كثيرٌ من طلّاب العلم ممّن علا شأنهم في العلم والأدب، ومنهم ابن حزم الأندلسي(6)، وأبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التّبريزي(7)، وقد أثنى جميعهم على علم المعرّي وفضله، وأُعجبوا بشدّة فطنته وقوة حافظته، واعترفوا بحسن عقيدته وصدق إيمانه.

ختاماً، أرى نقطةً سوداء في لزوميّات أبي العلاء، وهي موقفه من المرأة. فهو أحياناً يُهاجمُ النساءَ وينعتُهنّ بالضّعف والخيانة والمكر، وله قصيدة في اللّزوميات تربو على التّسعين بيتاً يحقِّر في كل بيت منها شأنَ المرأة ويذمُّها. ولا أرى له عذراً في ذلك، خاصّةً وأنّه عطف على الأمّهات وأوصى بهنّ خيراً.


رسالة الغفران:

هذا الكتاب هو أجمل ما كُتب في النّثر على الإطلاق، وتنبع أهميّتُه في كونِه سَبَقَ جميعَ كُتّاب العالم ومفكِّريه بالكتابة عن الآخرة بطابعٍ روائيّ تمكَّنَ فيه من وصفِ الجنّة ونعيمِها والجحيم بخيالٍ أدبيٍّ جامح.

وضعَ أبو العلاء رسالة الغفران سنة 1032 م، وهي قسمان: رواية الغفران، والردُّ على رسالة وجّهها إليه أحدُ معاصريه واسمُه "علي بن منصور بن طالب الحلبي" واشتهر بكنية "ابن القارح". أمّا الرواية فقصّةٌ خياليّة طاف خلالَها بابنِ القارح في عالمَي الجنّةِ والنّار، ويتخلَّلُها حوادثُ أدبيّةٌ ولغويّة، ونقدٌ لا يخلو من سخر وتهكُّم. وأمّا الردّ فيتضمّن تحليلاً لبِدَعِ العصر ومذاهبِه. فالرّسالة هي مزيجٌ من قصص ووصف ونقد وعلم وفلسفة وتاريخ ودين.

لقد سبق المعرّي في "رسالة الغفران" دانتي الإيطالي في "الكوميديا الإلهية"، وسبق غوته و"شيطانه"، وسبق ميلتون الشاعر الإنجليزي الأعمى في ملحمته "الفردوس المفقود"، وسبق الكاتب الإنجليزي الشهير فنسون أديسون في قصّتِه "الحياة الأزليّة" الّتي يصفُ فيها الآخرة بشيء من السّخرية والنّقد والتّندُّر. وثمّةَ مراجعُ كثيرة عالميّة تشيرُ إلى أنّ الأفكارّ والخيال في كلِّ هذه الأعمال الغربيّة قد اقتبستْ عن رسالة الغفران الّتي عرفها الأوروبيّون مبكِّراً، فقد وصلت إلى الأندلس، وترجمها الطبيبُ اليهوديّ إبراهيم الحكيم إلى اللّغة القشتاليّة عام 1264 قبل مولد دانتي بعام واحد، ومنها تُرجمَت إلى اللّاتينية والفرنسيّة القديمة، وإلى لغات أوروبيّة أخرى، وجرى تداولُها في أوروبا. وقد قال المستشرق الإسباني الشهير ميجيل أَسين بلاثيوس (Miguel Asin Palacious, 1871 -1944): "إنّ رسالةَ الغفران للمعرّي قد كوَّنتْ أسسَ الكوميديا الإلهية لدانتي"، ولم يقلْ ذلك إلاّ بعدَ أنْ قامَ بدراسةٍ استغرقت ربعَ قرن، عرضَها في كتاب من 405 صفحات من القطع الكبير، نشرَه بمناسبة تعيينه عضواً في الأكاديميّة الملكيّة الإسبانيّة عام 1919، عنوانه "الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية". وقد أجرى في كتابه هذا مقارنةً مركَّزة بين نصوص رسالة الغفران ونصوص الكوميديا الإلهيّة، وحدَّد على أساسِها دلائلَ التّشابه بينهما. كذلك أورد دلائلَ أخرى كثيرة تؤكِّدُ على تأثُّر دانتي بأبي العلاء، وعلى أنه قلَّد رسالتَه وأخذ عنها. وقد أثار كتاب بلاثيوس هذا "ثورة كبرى" (كما قال عبد الرحمن بدوي) في مختلف الأوساط الأدبيّة في العالم كلِّه. والمستشرقون بوجه عامّ يشتركون في تقدير المعرّي، ويضعونه في مقام عالٍ بين شعراء العربية، من حيث أسلوبه ونظرته إلى الحياة والوجود، ويعدّونه شاعرا للإنسانية جمعاء سبق زمانَه بعلمِه وتفكيرِه وآرائِه العقلانيّة.


أبو العلاء الكاتب والناقد:

للمعرّي تصانيفُ كثيرة تجاوزت السّبعين، منها كتاب "الأيك والغصون" المعروف بلقب "الهمزة والرّدف"، وهو في مائة مجلد ذهبت جميعها ولم يبقَ منه ألا المجلّدُ الأوّل. وله كتاب "الفصول والغايات"، وهو كتاب في العظات والزهد. ولعلّ أهمَّ مؤلفاته النثرية خارج "رسالة الغفران" هي شروحُه لدواوين الشعراء، أبي تمام والمتنبي والبحتري. وقد دعا شرحَه لديوان أبي تمام "ديوان حبيب"، ودعا شرحَه لديوان المتنبي "معجز أحمد"، وتناول البحتري بالنقد ودعا شرحَه لديوانِه "عبث الوليد". وهو في هذه المؤلَّفات ليس جامعاً وشارحاً فحسب، بل ناقداً من الطراز الأول وصاحبَ ذوقٍ أدبيٍّ رفيع. وهو أيضاً جريءٌ في نقدِه، لا يواربُ ولا يسايرُ أحداً. مما يُذكر له قولُه في الشّاعر ابن هانئ الأندلسي (وكان أحد معاصريه):

"ما أُشَّبِهُ أشعارَه إلا برحىً تطحن قروناً، لأجل القعقعة التي في ألفاظه".

ورغم كثرة مصنفات أبي العلاء وشهرتها إلا أنّه كان متواضعاً، فهو الذي قال:

وما أَنا إلاّ قَطْرةٌ مِنْ سَحابةٍ
وَلَوْ أَنَّني أَلَّفْتُ أَلْفَ كِتابِ


ختاماً، لا بدَّ من ذكر علاقة أبي العلاء بالمتنبي وأشعاره. معروفٌ أنّ المعرّي كان عاشقاً بلا حدود لأشعار أبي الطيب ومتعصّباً له، وقد شرح أشعارَه وعلّق عليها في كتابِه الشهير "معجز أحمد"، وفي كتاب آخر سمّاه "شرح ديوان أبي الطيب". ومّما يروى عن ذلك أنّ المعرّي كلّما سمع بيت المتنبي "أنا الّذي نَظَرَ الأَعمى إلى أَدَبي..." كان يقول: "أنا هو الأَعْمى الَّذي قَصَدَهُ المتنبّي". كذلك يروون هذه الحادثة عن أبي العلاء وتعصّبِه للمتنبي:

كان أبو العلاء حاضراً في مجلسٍ أدبيٍّ للخليفة العبّاسي في بغداد، وكان هذا الخليفة حاقداً لسببٍ ما على أبي الطيب ويُنقِصُه حقَّه من الإجادة في القول، فكلّما ذكروا بيتاً من الشعر لأبي الطيب كان الخليفة يطعن فيه محاولاً أن يجدَ فيه عيباً أو أن يجدَ مَن سبقه إلى ذلك المعنى. لم يُطِقْ أبو العلاء صبراً، فوقف وقال: "لو لم يكن للمتنبي إلاّ قصيدتُه الّتي مطلعُها [لَكِ يا مَنازِلُ في الْقُلوبِ مَنازِلُ // أَقْفَرْتِ أَنْتِ وَهُنَّ مِنْكِ أَواهِلُ] لَكفاهُ فخراً". فغضب الخليفة وقال لرجالِه: "إسحبوا هذا الأعمى من يديه ورجليه وارموه خارجاً!". وحين سألوا الخليفة عمّا أغضبه في قول أبي العلاء، أجاب: لم يقصدْ هذا اللعين من القصيدة إلاّ البيتَ الّذي يقول: "وإذا أَتَتْكَ مَذَمَّتي مِنْ ناقِصٍ // فَهِيَ الشَّهادةُ لي بِأَنّي كامِلُ".


هوامش:

(1) تقع مدينة المعرة بين وادي نهر العاصي في الغرب وبادية الشام في الشرق. وتبعد عن حلب 73 كم إلى الجنوب، وعن حماة 55 كم إلى الشمال. وهي مدينة مغرقة في القدم، ويعود تاريخها إلى أوائل الألفية الثانية ق. م. لعلّ الاسم هو لفظة آرامية تعني المغارة، لكثرة المغاور والكهوف حولها. ويعتقد أنّ نسبتها إلى النعمان تعود إلى "النعمان بن بشير الأنصاري"، الصحابي الذي كان والياً على حمص، وأقام في المعرة فترة حزناً على ولده الذي توفي شاباً. كان اسمها في العصر العباسي "العواصم". وفي ذلك قال أبو العلاء في لاميّته: متى ساءلتَ بغدادَ عني وأهلَها // فإني عن أهلِ العواصم سائلُ. يقع القبر وسط شارع "أبو العلاء المعري"، وقد أقيم حوله في أربعينات القرن الماضي مركزاً ثقافياً يضم متحفاً فيه مجموعة ضخمة من الكتب الأدبية القديمة والقيمة. وضريح المعري وسط البناء هو متواضع وخال من الزخرفة. (وقد قمت بزيارة للضريح عام 2008، واطلعت على بعض الكتب المعروضة في المركز).

(2) ألأب يوحنا قمير (1910 – 2006): كاتب وأديب لبناني وُلد في بلدة تنورين، ودرس في جامعة القديس يوسف، ثمّ درَّس فيها الفلسفة والأدب. ألّف عدداً من الكتب أشهرها يدور حول الفلسفة العربية والعالمية، منها "أصول الفلسفة العربية"، "ألفلسفة العربية في كبرى قضاياها"، "فلاسفة العرب"، و "جبران ونيتشه".

(3) كمال الدين بن العديم (1192 – 1262): هو عمر بن أحمد بن هبة الله بن جرادة العُقَيْلي المعروف باسم كمال الدين بن العديم. مؤرّخ وكاتب ومُحدِّث وُلد في حلب، ورحل إلى دمشق وفلسطين والحجاز والعراق، وتوفي في القاهرة. ألف عدّة كتب منها كتاب "دفع الظلم عن المعري" المذكور أعلاه.

(4) ألإمام الذهبي (1274 – 1348): هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، شمس الدين، أبو عبد الله، الذهبي. مؤرِّخ وإمام وفقيه، وُلد في دمشق لأسرة تركمانية الأصل. عمِلَ والدُه في صناعة الذّهب، ومن هنا لقبُه. قام منذ شبابه المبكِّر بعدة رحلات في بلاد الشام، وزار القدس، ثمّ رحل إلى مصر وأقام فيها ردحاً من الزمن، ذهب بعدها إلى الحجاز لأداء فريضة الحجّ، وأقام هناك بعض الوقت، وتعرّف في مكة على علماء الحديث، ومنهم ابن تيمية (ت. 1338) والقاسم البرزالي (ت. 1339). عاد بعد ذلك إلى دمشق، وأقام في قرية "كفر بطنا" في الغوطة، وتولى فيها الخطابة والتدريس، وفيها كتب معظم وأهمّ مؤلّفاته. والإمام الذهبي هو واحد من أغزر المؤلفين العرب على مرّ العصور، إذ زادت مؤلفاته عن 200 كتاباً، منها مائة وخمسين كتاباً في التاريخ، ومن هنا لقبه الّذي اشتهر به، وهو الحافظ الذهبي. من أشهر مؤلّفاته وأضخمها كتاب "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام" وكتاب "سِيَر أعلام النّبلاء". كذلك اختصر وشرح عدداً كبيراً من أمهات كتب التاريخ العربي، منها "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، "تاريخ دمشق" لابن عساكر، "تاريخ نيسابور" للحاكم النيسابوري، "تاريخ مصر" لابن يونس، و "أسد الغابة" لابن الأثير. وقد حصروا الكتب الّتي اختصرها الذهبي في أكثر من 360 كتاباً.

(5) كتاب "زوبعة الدّهور"، تأليف مارون عبود، دار الثّقافة للطباعة والنشر والتوزيع (دار مارون عبود)، بيروت، 1980.

(6) هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب... الأندلسي القرطبي. كان جدُّه الأعلى مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان الأموي. وابن حزم هو صاحب كتاب "طوق الحمامة" الذائع الصيت. ولد في 7 تشرين ثاني، سنة 994 في قرطبة، وتوفي في 15 آب، سنة 1064. هو أكبر علماء العرب والإسلام تصنيفًا وتأليفًا بعد الطبري. وهو إمام حافظ، فقيه ظاهري، متكلم، أديب، شاعر، ناقد، محلل. وقد أثنى على ذكائه وسعة علمه وحسن أسلوبه وكثرة مؤلفاته وأهميتها عدد كبير من العلماء المعروفين كالغزالي وابن تيمية وابن خلكان والسيوطي وغيرهم. كان والده، أحمد بن سعيد، وزيراً لدى المنصور بن أبى عامر، فنشأ ابن حزم في القصر، ثمّ ولِيَ في شبابه الوزارة لعدد من حكام وملوك الأندلس، ثم ما لبث أن أعرض عن الرياسة وتفرغ للعلم وتحصيله. كان سليط اللسان، خاصة خلال مناظراته مع المالكية، فضربوا المثل في لسانه وقالوا: "سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان". وهذه الحدة أورثت نفوراً في قلوب كثير من العلماء عنه وعن علمه ومؤلفاته، وكثر أعداؤه في الأندلس، حتى نفوه من قرطبة. وصار ينتقل من مكان لآخر حتى مات في غربي الأندلس. أحرقت كتبه، وهو حي، في محاضر عامة بأمر من "المعتضد بن عباد" الذي أصدر قراراً بهدم دوره ومصادرة أمواله، وفرض عليه ألاّ يغادر بلدته، وألا يفتي أحداً. وقد تألم ابن حزم كثيراً من إحراق كتبه ومؤلفاته، فقال في ذلك أشعاراً كثيرة. بيد أنّ كتب ابن حزم لم تفقد جميعها، فقد كان له جماعة من تلاميذه الذين قدروا فكره وحافظوا على كتبه بنسخها ونشرها. كان ابن حزم شافعي الفقه، فانتقل إلى الظاهرية التي ترفض القياس الفقهي الذي يعتمده الفقه الإسلامي التقليدي، وتنادي بوجوب وجود دليل شرعي واضح من القرآن أو السنة لتثبيت حكم ما في الفقه. وأحياناً كاد أن يوافق الباطنية والقرامطة. له ردود كثيرة على اليهود والنصارى، وعلى الصوفية والخوارج والشيعة. اهتمّ باللغة والشعر، وله أشعار جميلة. كانت بلاغته تأخذ بمجامع القلوب وتنفذ إلى أعماق النفوس، في أسلوب سهل ممتنع رقيق يخلو من الاستطرادات، ويتسم بطول النفس وجمال النكتة وخفة الروح. كتب "طوق الحمامة" وهو في الخامسة والعشرين من عمره عندما كان في قرطبة مع أبيه وزير ابن أبي عامر أعظم حكام الأندلس. وُصفَ الكتاب بأنه أدق ما كتب العرب في دراسة الحب ومظاهره وأسبابه. ترجم إلى العديد من اللغات العالمية. يحتوي الكتاب على مجموعة من أخبار وأشعار وقصص المحبين، ويتناول بالبحث والدَّرس عاطفة الحب الإنسانية على قاعدة تعتمد على شيء من التحليل النفسي من خلال الملاحظة والتجربة. فيعالج بأسلوب قصصي هذه العاطفة من منظور إنساني تحليلي. والكتاب يُعد عملاً فريداً في بابه، ويشمل نصائح وفوائد كبيرة يوزعها في ثلاثين باباً، منها باب من أحب من نظرة واحدة، ويحذر فيه من الوقوع في الحب من أول نظرة. إضافة إلى "طوق الحمامة"، ألَّفَ ابن حزم في الفقه وأصوله، وشرح منطق أرسطو، وأعاد صياغة الكثير من المفاهيم الفلسفية. كذلك ألَّفَ في الحديث والتاريخ والأدب وغير ذلك، وبلغت مؤلفاته نحو 400 مجلداً، وصل إلينا منها نحو أربعين مجلداً.

(7) ألخطيب التبريزي (1030 – 4 كانون ثاني 1109): هو أبو زكريا يحيى بن محمد بن علي الشيباني التبريزي، أحد تلامذة المعرّي المشهورين. وُلد في تبريز، ونشأ في بغداد، ورحل إلى بلاد الشام وإلى مصر، ثمّ عاد إلى بغداد وقام على خزانة الكتب في المدرسة النظامية الّتي أسّسها وزير السلاجقة نظام الملك. له مؤلفات كثيرة أشهرها شروحه: للمفضليات، للمعلقات العشر، لديوان الحماسة لأبي تمام، لديوان سقط الزند للمعرّي، لديوان أبي الطيب المتنبي، ولقصيدة "بانت سُعادُ" لكعب بن زهير. كذلك ألَّف في علم العَروض وفي إعراب القرآن.



#شوقي_إبراهيم_قسيس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الثانية عشرة (12): ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الحادية عشرة (11) - ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة العاشرة (10) - ألمع ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة التاسعة (9) - ألمبن ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للنّاس – ألحلقة الثامنة (8) - ألحا ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة السابعة (7) - ردود ...
- تعلَّموا العربية وعلِّموها النّاس – ألحلقة السادسة (6) - أئم ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للنّاس - ألحلقة الخامسة (5) - تشكي ...
- تعلَّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الرّابعة (4): ألهم ...
- تعلَّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الثالثة (3)
- تعلَّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الثانية (2): في ال ...
- تعلَّموا العربيّة وعلِّموها للنّاس - ألحلقة الأولى (1)
- تعلّموا العربية وعلِّموها للنّاس - ألحلقة الأولى (1)


المزيد.....




- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شوقي إبراهيم قسيس - أبو العلاء المعرّي (973 – 1058)