أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الرحيم العطري - جينيالوجيا العقاب السجني : تاريخ التطويع القمعي للإنسان















المزيد.....


جينيالوجيا العقاب السجني : تاريخ التطويع القمعي للإنسان


عبد الرحيم العطري

الحوار المتمدن-العدد: 1195 - 2005 / 5 / 12 - 11:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


جينيالوجيا العقاب السجني
تاريخ التطويع القمعي للإنسان
عبد الرحيم العطري
باحث في علم الاجتماع من المغرب
في بداية الأربعينات من القرن الفائت، انطلقت في الدول الأنجلوساكسونية أولى الأبحاث حول السجن والعقاب، وتواصلت المواضيع/ المفاتيح حول مجتمع السجن ونتائج العقاب السجني، وبالقدر الذي ساهمت فيه هذه الأبحاث في إثارة الانتباه لموضوع حيوي يتقاطع مع مختلف المؤسسات المجتمعية، بالقدر الذي لاحت فيه الحاجة القصوى إلى توسيع دوائر النقاش المعرفي حول المؤسسة العقابية وتحديدا حول وظيفتها المركزية التي تتجاوز ما أشار إليه كوفمان وهو يبين بأن السجن يندرج في إطار المؤسسات الكليانية، باعتباره مكانا للإقامة والعمل الجبري يعيش في كنفه عدد من الأفراد حياة مراقبة ومحكومة بالقواعد والمنع . فهل نرتكن إلى التعريف الذي اقترحه فوكو للمؤسسة السجنية معتبرا إياها مؤسسة تهذيبية سامية تجمع بين الهدف الاجتماعي والإصلاحي ؟ أم ننقلب عليه ونعتبر وظيفتها المركزية محددة بقوة في إعادة إنتاج الجنوح؟
قبل الإجابة الصارمة عن مثل هذه التساؤلات يجدر بنا بدءا أن نقوم – وفاء لروح اشتغال فوكو – بالحفر الأركيولوجي في سؤال العقاب والسجن، من خلال قراءة تضاريس المؤسسة العقابية على المستويين العالمي والمغربي، من أجل مزيد من الفهم والتفسير.فالعقاب كآلية مركزية في اشتغال مالكي وسائل الإنتاج و الإكراه ، و كملمح رئيسي من ملامح السلطة يستوجب مزيدا من الحـفر و التفكيك بهدف فهم تمظهراتـه و حضوريته في تاريخ البشرية منذ البدء ، ذلك أن الإنسان أبدع و تفنن منذ الأزل في العقاب و تقليم أظافر الخارجين عن طوع السائد و معايير العقل الجمعي ، و على طول هذا الإبداع ظهرت اتجاهات و " فنون " عقابية تتوجه إلى الفاعل الإنساني بأكثر الأساليب وحشية و إيذاء في سبيل التطويع و التدجين ، و الحد من الجنوح و الخروج عما ترتضيه الجماعة . إنه مسار معجون بالدم و النار ...
منذ البدء و التاريخ الإنساني يتأرجح بين السواء والاختلال، و تتنازعه قوى متناقضة توازي معايير عقله الجمعي تارة وتخرج عليه تارة أخرى، وبين المسايرة والامتثال، والانحراف والجنوح، تلوح المظاهر المرضية التي تستوجب الإصلاح والتقويم. وفي إطار عملية الضبط الاجتماعي ومقاومة الاختلال والجنوح سيظهر العقاب كرد فعل ضد ارتكاب مخالفة أو جنحة أو جناية بالمفهوم القانوني.
فالعقاب في حقيقته وكنهه جزاء قانوني ينطبق على الجاني بسبب ارتكابه للجريمة – وقيام مسؤوليته عنها – ويمسه في إحدى جوانب حياته العامة، أو في أكثر منها وذلك كالجانب الجسماني له أو حريته أو حقوقه أو ماله فالعقاب جزاء تقويمي وضعه المشرع لمرتكب الجريمة إذا كان أهلا لتحمل المسؤولية الجنائية، ينطوي على إهدار أو إنقاص لحق أو مصلحة من حقوق مرتكب الجريمة أو مصالحه ويتولى القضاء توقيعه ، و لقد اختلف النظر إلى العقاب باختلاف التوجهات الفكرية للمنشغلين به ، فهناك من يعتبر أن غايته هي الانتقام من المجرم ـ، في حين يرى آخرون بأن الهدف منه هو زجر و ردع المجرم ، و بالمقابل يرى فريق آخر بأن غاية العقاب هي إصلاح المجرم3 ، و هذه الغايات الثلاث للعقاب تعبر عما أسـماه البعض باسم The 3 Re، و هي على الترتيب : الانتقام :Retalition و القمع :Répression و الإصلاح : Reformation و عليه يمكن القول بأن العقاب كجزاء لا يتجزأ من القانون، وكأحد أساسياته يهدف إلى واحد أو أكثر من التصورات التالية :
o العقاب من أجل تحقيق المنفعة (الردع)
o العقاب من أجل العقاب (الانتقام أو القصاص)
o العقاب من أجل الإصلاح والتأهيل والعلاج
ويتعلق العقاب الهادف إلى المنفعة بمبدأ الردع وينقسم بدوره إلى قسمين: الردع الخاص(بعد حصول الفعل) والردع العام (قبل حصول الفعل). ويقصد بالأول ردع الجاني بمعاقبته وإيلامه أو حبس حريته، جزاءا على ما فعل لكي يتفادى مستقبلا ارتكاب الفعل نفسه، أو غيره من الأفعال المخالفة لأوامر المجتمع ونواهيه، أما الثاني فيقصد به معاقبة الجاني، لا من أجل الجاني، بل من أجل البقية الباقية من أفراد المجتمع لما يقوموا بمخالفة القوانين، وهكذا ينص القانون على العقــــاب و وضع الجاني وراء قضبان السجن كمثال لعامة المواطنين4.
لكن وقبل أن تصل الإنسانية إلى العقاب السجني لمواجهة الجنوح، فقد عرفت مسارا ومخاضا طويلا من ألوان العقاب والتعذيب الذي كان وحشيا وحاطا بالكرامة الإنسانية في العصور السابقة، وهكذا فقد تفاوتت الأنظمة العقابية من جميع زواياها بحسب تفاوت العصور والمجتمعات، بحيث خضع تنويع العقوبات وكيفية تنفيذها للمبادئ السياسية والفلسفية السائدة، والقيم الخلقية والاجتماعية التي تحدد للعقاب وسائله وأهدافه .
فالبحث في جينيالوجيا العقاب سيفضي بنا لا محالة إلى مسار دموي كان هدفه المركزي هو تطويع الجسد والتحكم فيه أكثر كما يقول ميشيل فوكو، وما العقاب السجني إلا مرحلة متأخرة في هذا المسار المسبوق بتقنيات فظيعة للنيل ممن يخرج عن معايير الجماعة وأحكامها. فقد كان العقاب في العصور القديمة يختزل في التعذيب بالدرجة الأولى للاقتصاص من الجناة وتقديم العبرة لغيرهم من الأفراد، ولهذا السبب فقد كان العقاب يرافق بطقوس احتفالية فرجوية، مثلما يحدث مع تعليق الرؤوس المقطوعة عند مداخل المدن، والمقصلة والشنق والحرق في الساحات العمومية والتشهير بالجثت، وما إلى ذلك من الممارسات التي تساهم في إشاعة العقاب وتجذيره في المشهد المجتمعي.
وخلال هذا المسار العقابي كانت المراهنة دوما على الاستعمال الوحشي للقوة الجسدية والنار والماء فضلا عن ألوان أخرى من العقاب تتخذ أشكالا متنوعة بدءا من استعمال لسع الحشرات والزواحف، أو الضرب بالعصا والجلد، إلى جانب الأساليب النفسية المتعددة ويمكن تقسيم استعمال القوة الجسدية لعقاب الآخرين إلى فئات فرعية تشمل الضرب بأدوات حادة أو ضرب الجسد حتى ينزف منه الدم أو الوخز بأداة حادة أو لف الأطراف الجسدية بشكل مؤلم أو الضغط على الجسد أو البتر والتشويه .
ولقد كان أسلوب العقاب بالحرارة والنار هو الأسلوب المعتمد في أوربا خلال القرون الوسطى، ولم تكن العقوبة لارتكاب جرائم أقل درجة من القتل هي الإعدام، بل كانت العقوبة الكافية هي الكي بالنار، كما كانت تستعمل أساليب عقابية أكثر فـظاظـة و وحشية تستند إلى الحرارة في العقاب كاستعمال الشموع والماء أو الزيت أو الشحم الحيواني المغلي أو الرصاص المصهور3.
لقد عرف العقاب تطورات فظيعة في اتجاه تطويع الجسد الإنساني وإنزال أقصى العقوبات به، وقد لامست هذه التطورات تقنيات وأدوات العقاب وطقوسه. فكل الحضارات عرفت العقاب وساهمت في مأسسته وتطويره سواء في اتجاه التعذيب والتنكيل أو الأنسنة والحد من الممارسات الحاطة بالكرامة.
وهكذا فقد تطورت تقنيات العقاب من مستوى المشنقة والمقصلة والرمي في حفر الأفاعي والحيوانات المفترسة إلى غرفة الغاز والكرسي الكهربائي وحبة الموت الرحيم اتصالا بعقوبة الإعدام، ومن الأعمال الشاقة والمهينة والسجن الانفرادي المظلم إلى السجون المفتوحة ونظام الحرية المحروسة والبرامج التأهيلية والتدابير الاحترازية بالنسبة للعقوبات السالبة للحرية.
لقد اعتبر ميشيل فوكو بأن السجن أو العقاب السجني بدا في بعض المراحل التاريخية بمثابة خطوة متقدمة باتجاه النزعة الإنسانية، بل وكان مطلبا من أجل التخلص من "المقصلة" التي كانت تمثل قمة البربرية، على اعتبار أن قانون العقوبات ينبغي أن يسمح فقط بإصلاح الضرر الواقع على المجتمع، الشيء يستوجب صياغته بطريقة تزول معها آثار الأضرار التي يسببها الفرد للمجتمع، وإن بمحو الأضرار أو بمنع تكرار حدوث مثل نفس الشرور ضد الجسد الاجتماعي.
إن ميشيل فوكو و هو يشتغل على مؤسسة السجن في تاريخيتها وامتدادها، قد أدخل بعدا جديدا لمسألة العقاب عبر تحليله لمكانة السجون في المنظومات الاجتماعية، ولهذا فهو يقول: "لقد أحببت أن أناقــش نفـــس المســــألة – السجون – ولكن من زاوية أخرى، وهي أن أحدد مدى تأثير خطاب يزعم بأنه علمي – الخطابات الطبية والنفسانية والاجتماعية – على مجمل ممارسات منظومة العقاب". وبهذا المعنى لم يكن الاهتمام الرئيسي لفوكو هو كتابة تاريخ السجون، وإنما بالأحرى كتابة تاريخ ممارسات العقاب عبر السجن، وليؤكد أن فكرة السجن تشكل إجمالا الوسيلة الأفضل والأكثر فعالية وعقلانية من أجل فرض العقاب على خروقات النظام في مجتمع ما . فالعقاب السجني يعد مرحلة متقدمة من مراحل تطور العقاب، وهو بدوره كمؤسسة عقابية تعرض لمجموعة من التطورات والتقلبات التي همت الوظيفة وآليات الاشتغال بدرجة عالية.
وهكذا فقد تطورت السجون كمؤسسات للردع والضبط الاجتماعي من مؤسسات للانتقام والإيذاء الوحشي إلى فضاءات للإصلاح والتأهيل بفضل الانتقادات التي وجهها فلاسفة عصر الأنوار لوظيفتها السابقة، لتستمر المناداة والمطالبة دوما من قبل السجناء أنفسهم وذويهم وغيرهم من المهتمين بحقوق الإنسان، بضرورة أنسنة الفضاء السجني وتحويله إلى فضاء "للعقاب الإصلاحي"، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن جدوى العقاب وعن غاياته القصوى؟ فلماذا أبدع البشر العقاب؟ ولماذا تفننوا فيه على طول الزمن؟ ولماذا حاربوه أيضا ؟
ترى المدرسة التقليدية لعلم الإجرام والتي يتزعمها سيزاري بيكاريا Cesare Beccaria و جيرمي بنثام Germey Bentham بأن الجدوى من العقاب تنحصر أساسا في أنها ستؤدي إلى تفادي ارتكاب الأفعال المخالفة ، في حين يرى سمنر Simner بأن العقاب يكون ذا فعالية كبرى عندما يساهم في التأثير على باقي الأفراد بحثهم على تفادي هذه الأفعال و اتباع أنماط السلوك المطلوبة اجتماعيا، أما إميل دوركهايم Durkheim فيرى بأن العقاب تتوزع آثاره على المجتمع .
لقد كان لكتابات عصر النهضة دور حيوي في إعادة التفكير في مسألة العقاب، وقد ساهمت النقاشات الملتهبة حول العقد الاجتماعي والقانون الطبيعي، وعن علاقة الفرد بالمجتمع والمجتمع بالفرد، وعلاقة كليهما بالسلطة الحاكمة، ساهمت كلها بحق في تفكيك العقاب لأجل مقاومة الجريمة الآخذة في الارتفاع، وحسب المدرسة التقليدية في علم الإجرام، فالعقاب حتمي واجب النفاذ لضمان منع الأفراد من القيام بما من شأنه أن يؤدي إلى تعطيل حياتهم الجماعية المنظمة، ومع ذلك فإن بكاريا يحذر من أن أي عقاب لا ضرورة له ولا جدوى تتحقق من ورائه يعتبر استبدادا وطغيانا، إذ يجب استخدام العقاب فقط للدفاع عن، وحماية، حريات وحقوق المجتمع بأكمله . وفي إطار تحديد العقاب وقيمته الردعية نجد جيرمي بنثام يرى أنه من الضروري أن نتفق على نوع وكم العقاب المطلوب تطبيقه ضد المخالفين لقوانين المجتمع حتى تكون هناك قناعة وجدوى من تطبيقه، ليصير ذا فعالية في مكافحة الجريمة والوقاية منها، مشيرا إلى أن هناك العديد من الموانع والزواجر، غير تطبيق العقاب للوقاية من الجريمة كالمعتقدات السياسية والأخلاقية والدينية .
فالعقاب سيتخذ بعدا آخر مع انبلاج عصر الأنوار وتنامي الحركات الإنسية، بحيث سيغدو ملازما للدفاع الاجتماعي لتحقيق الأسس والسلم الاجتماعيين، فلكي لا يتكرر ما وقع من جرائم، يكون العقاب المؤسسي بالمرصاد لمرتكبي هذه الجرائم، وفي هذا الصدد فإن إنريكو فيري (Enrico Ferri) ينظر إلى فلسفة العقاب باعتباره وسيلة يمكن بها اعتبار المجرم مسؤولا عن جريمته، وبالتالي استحقاقه لعقوبة تتناسب مع ما لديه من نوازع عدوانية، وذلك للتأكيد على أن الغاية من العقاب من أجل العقاب فقط، أي ليس من أجل الانتقام أو التشفي ولا من أجل إصلاح الضرر الناتج عن فعله .
وعن الحاجة إلى العقاب والمؤسسة العقابية يقول دوركهايم بأنه لابد من وجود الجريمة وتطبيق العقاب على المخالفين، حتى تشعر الغالبية ممن لم تعاقب بعد، بالفخر والزهو، وبذلك تحاول جاهدة أن تبقى مبتعدة عن مخالفة القانون، مما يحقق مبادئ التضامن والتكافل أكثر فأكثر، ويستمر المجتمع.
وإذا كان هناك من المفكرين من يشترط الجدوى العقابية لإعمال العقاب ويعتبرها ضرورة للتوازن المجتمعي، فهناك منهم من يرى بأن العقاب يجب أن يكون لمجرد العقاب، ككانط الذي يعتبر أن عقاب الجاني يمثل أو يحقق العدالة ويعتبر إيفاء لدين المجني عليه، دون انتظار أن يكون لذلك أي جدوى أو فائدة للجاني (مثل تطهير النفس) أو للمجتمع كالردع مثلا ، و على درب العقاب من أجل العقاب والانتقام ينادي جيمس ستيفنJames Steven – وهو من أكثر المتطرفين دفاعا عن فكرة الانتقام – بضرورة تنفيذ العقوبة بحجة أنها تعتبر صمام الأمان لعواطف المجتمع الثائر، وتضميدا منظما للجروح التي قد تعاني منها مشاعره من جراء ارتكاب الأفعال المخالفة – وخاصة الجرائم العنيفة -، أو تلك المثيرة للعواطف كجرائم القتل والاعتداء الجنسي وكذلك جرائم السرقة وخلافه .
ويعتبر العقاب من أجل الإصلاح ثالثة الأثافي في الأفكار الفلسفية التي تناولته بالدرس والتحليل، وهو في النهاية يعد محصلة لمجموع النقاشات التي أثيرت بصدده منذ زمن بعيد. إذ تتحدد الغاية من معاقبة الجاني في إصلاحه وضمان إعادة إدماجه من جديد في دائرة السواء الاجتماعي، وذلك باعتماد تدابير إصلاحية وتأهيلية خلال فترة العقوبة وعبر أنظمة مؤسسة العقاب، وهو ما يعني أن المؤسسة العقابية وفقا لهذا التصور تغدو مؤسسة إصلاحية بالدرجة الأولى متخصصة في التهذيب والتأهيل الاجتماعي للخارجين على معايير العقل الاجتماعي.
إن مواجهة الجريمة ينبغي أن تكون مسبوقة بروح الإصلاح لا الردع والانتقام، لأن المجتمع مسؤول عن الجريمة بمقدار مسؤولية الفرد، وربما بما يتجاوزها، وقد أمست هذه الحقيقة من أولى البديهيات في علوم الإجرام والعقاب والاجتماع والسياسة الجنائية و الطب النفسي... و أي تطرف من المجتمع في مساءلة الفرد، هو عبارة عن إساءة من المجتمع إلى الفرد، لا تقل في أضرارها عن إساءة الفرد إلى المجتمع، وهذا التطرف في مساءلة الفرد قاست منه الإنسانية طويلا وفي جميع أرجاء العالم ولا يمكن أن تبرره وظيفة الردع العام، لأنه من الضروري عدم المغالاة في تقدير وظيفة الردع، وضرورة عدم تنصل المجتمع من واجباته إزاء الفرد بحجة تحقيق هذه الوظيفة .
لكن السؤال الذي نواجهه آنا وبإلحاح شديد، هو هل تتوكأ مختلف الأنظمة العقابية على مبدأ الإصلاح؟ وهل تجعل من البعد الإصلاحي شرطا وجوديا لاشتغالها وتعاطيها مع الجنوح؟ أم أن الإصلاح يظل خطابا لا ينتقل إلى مستوى الممارسة الإجرائية؟ ذلكم ما تريد هذه الدراسة الإجابة عنه من خلال شقها الميداني الآتي بعده. وفي انتظار الإجابة الصارمة والميدانية عن هذه الأسئلة يتوجب علينا تفكيك الفعل العقابي وقراءة تضاريسه و أن نعمد إلى تشريح خصائصه ومتطلباته في إطار الرصد الواقعي لمختلف أبعاده التاريخية والإنسانية والقانونية.
فبالرغم من اختلاف نماذج العقاب وصوره وأدواته وبشاعته أيضا من مجتمع لآخر ومن عصر لآخر، فإن هناك خصائص مشتركة للعقاب أصبحت تراعيها الشرائع الحديثة بوجه عام، بصرف النظر عن ظروفها الخاصة والتي قد توجه التشريع العقابي في وضعه أو في تطبيقه. ويمكن إيجاز خصائص العقاب فيما يلي:
o قانونية العقاب: و يعني أن العقاب لا يكون إلا بنص، وهذا ما نادت به المدرسة التقليدية في علم الإجرام وما ناضل من أجله الكثير من المفكرين.
o شخصية العقاب: بحيث ينبغي أن يكون العقاب شخصيا، فلا يوقع على غير الجاني مهما قربت صلته به، فالمسؤولية الجنائية لا تكون أبدا عن فعل الغير.
o تفريد العقاب: فالعقوبة ينبغي أن تكون معروفة مقدما حتى وإن كانت تتراوح من جهة نوعها ومقدارها في النص فلم تعد هناك عقوبات ثابتة متساوية للجناة جميعا بل يظهر بالتدريج نظام تفريد العقاب أي تنويعه حتى يلائم مدى خطورة الجرائم من جهة ومدى خطورة الجناة من جهة ثانية.
o المساواة في العقاب: ينبغي أن تكون هناك مساواة بين كافة الأفراد حيال العقاب، مما سيتتبع توقيعه على كل من يقترف الجريمة بغض النظر عن مركزه الاجتماعي والسياسي.
o العقاب الإدماجي: بمعنى أن العقاب لا يجب أن يحول دون إمكان اندماج الفرد من جديد في المجتمع مهما طالت مدة العقوبة.
o قابلية العقاب للمحو: أي أن العقوبة تكون قابلة للمحو والإلغاء إذا اعتراها الخطأ ولو بعد الحكم النهائي.
o العقاب والكرامة: حيث لا يؤدي العقاب إلى الحط من كرامة الإنسان وإهدار إنسانيته، فالعقاب في البدء والختام يجب أن يكون إنسانيا.
o عدالة العقاب: بمعنى أنه ينبغي أن يدخل في الاعتبار فداحة الذنب موضوعيا، وتتناسب أيضا مع العوامل الأخرى التي تلعب دورا مهما في إنضاج وتفريخ الظاهرة الإجرامية. ومن المقتضيات اللازمة لعدالة العقاب ألا يوقع إلا على الشخص الذي يستحقه.
وإذا كانت كل هذه الخصائص المار ذكرها هي ما يبصم العقاب، فلماذا تفشل المؤسسة العقابية في الحد من الجريمة؟ ولماذا تعجز أنظمة العقاب بكل تطوراتها وأجهزتها في المجتمع البشري عن إصلاح الجانحين والانتهاء من مخالفاتهم؟ فهل لكون الجنوح ملازم أبدا للمجتمع البشري؟ أم لأن المؤسسة العقابية لم تلعب بعد دورها الإصلاحي الحيوي، وما زالت تعمل بمنطق العقاب الردعي والانتقامي؟
إن العقاب كآلية مجتمعية ظل ملازما للتطور البشري، وخاضعا بالضرورة للتوجهات العامة التي تطبع عصرا من العصور أو حضارة من الحضارات، ولهذا فقد تباينت أشكاله وتقنياته، مثلما تباينت المواقف منه والآراء بصدده، لكنه ظل على مدى تعاقب العصور تقنية للضبط الاجتماعي وتطويع الجسد وخلق أجواء المسايرة والامتثال لقيم العقل الجمعي، فالوظيفة الردعية ظلت حاضرة بقوة في تاريخ العقاب ومساراته المكتوبة بالحديد والنار والدم، واستهداف الجسد ظل أيضا رهانا مركزيا للعقاب عبر الإيذاء الوحشي الذي يتصل بصلم الأذن وبتر اللسان وفقأ العين أو الجلد والشنق والحرق أو تشويه الجثت وتعليق الرؤوس وصلب الأحياء... وأخيرا عبر سلب الحرية والمنع الجنسي وما إلى ذلك من وظائف التحكم في الجسد، والتي صارت تؤديها السجون في عصرنا هذا.
وعلى طول المسار العقابي الموسوم تارة ببعد الإصلاح والتهذيب والمسكون كثيرا بالإيلام والردع، سيتأكد لنا قويا ما ذهب إليه فوكو وهو يعمق النقاش حول المؤسسة العقابية حيث يقول: "عندما تطرقت لمؤسسات الطب النفسي ومؤسسات العقاب بالسجن، ألم أفترض بنفس الوقت بأنه يمكن الخروج منها عبر البرهان على أنها تمثل أشكالا تاريخية قد تكونت في ظرف معين، وفي سياق معين، وعلى أن مثل هذه الممارسات يمكن أن تصبح في سياق آخر تعسفية وغير فاعلية" ولهذا نقول بأن تاريخ العقاب هو تاريخ الألم والتعسف، وهو قبلا تاريخ التمكن من الجسد الإنساني وتطويعه إلى أقصى الحدود، وأنه أيضا السؤال المفتوح على علاقة الفرد بالمجتمع، وبضرورات الانصياع لقوانين هذا المجتمع ونتائج الخروج عليه، ولهذا فإن العقاب بقي على الدوام جزاء مجتمعيا يقتص به المجتمع ممن يقترف فعلة الخروج عليه.



#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشهد الحزبي المغربي و مآزق الإفلاس
- دار الشباب المغربية :إشكالية التأطير و هاجس الفرملة
- ظاهرة الهجرة السرية : قطران الوطن أم عسل الضفة الأخرى
- السجون المغربية : إعادة الإدماج أم إعادة إنتاج الجنوح
- انتخابات 2007 بالمغرب: المخزن و القبائل الحزبية أمام الامتحا ...
- المؤسسة العقابية و إعادة إنتاج الجنوح
- المجتمع المدني بالمغرب : جنينية المفهوم و تشوهات الفعل
- اعتصامات المعطلين بالمغرب : نجاح الحركات الاحتجاجية أم إفلاس ...
- الشباب المغربي و المؤسسة الحزبية : جدل التهميش و الإدماج
- الشباب و المؤسسة الحزبية : جدل التهميش و الإدماج


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الرحيم العطري - جينيالوجيا العقاب السجني : تاريخ التطويع القمعي للإنسان