أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي المسكيني - في انتظار دولة الفقراء















المزيد.....

في انتظار دولة الفقراء


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 4172 - 2013 / 8 / 2 - 21:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




في انتظار دولة الفقراء

بالأمس، لأوّل مرّة رأيت في ساحة باردو، نوّابا برلمانيين معتصمين، يجلسون على الرصيف، قبل آذان المغرب، محاطين بأعين المتظاهرين الفارغة من الخوف، ينتظرون بعض الأكل الحرّ من جيران ميدان الاحتجاج، حيث يتوقف الزمن الوطني، ويرفع المطالب بأفواه لا تملك من قوة غير كمّية الجسم الحيّ كوسيلة مقاومة أخيرة ضدّ عطالة الدولة.هاهنا رأيت، إذ رأيت، من يأتي كي يهدر دمه بنفسه، ومن يعلّق وظيفته السامية، ومن يعرّض بدنه الوحيد، وفي بعض الأحيان، المريض من الوطن، لخطر لا تفسير له سوى البحث عن حرية أخرى لم تصل بعد.
وإذا بأصوات، في جهة تريد أن تصبح مقابلا مناسبا لما يجري، دون نجاح واضح سوى عويل المدعوين إلى حفل لا يعرفون أهله ولا عروسته، وليس لهم من عدّة للبقاء فيه سوى انتظار موائد الحكومة، التي تحوّلت إلى برنامج شهوة لفقراء ليس لهم ما يخسرونه سوى جوعهم. كلّ من يوالي حكومة ما، مهما كانت شرعية، هو جائع ينتظر مائدة ما. كلّ صوت يشجّع الحكام على شهية الحكم يؤخّر حريته إلى إنسانية أخرى، لن يكون جزء منها.
ما الذي يدفع شعبا كريماً وقاسيا على نفسه وبسيطاً لأنْ يعلّق ثقته بمصيره، ويدخل في الاحتجاج الأخير ضدّ حكومته ؟ - القهر. إنّ شعورا بالقهر الباطن قد أصبح البديل الرسمي عن كلّ انفعالات الحرية التي أتت بها الثورة. يشعر "المواطن" (ونحن نسمّيه مواطنا بين ظفرين بشكل مقصود) بأنّه فقد وطنه، حين سلّمه إلى حكّام لهم أجندة أخرى تماما غير استحقاقات الثورة، نعني بالتحديد ثورة الفقراء حول شروط الخروج من ميتافيزيقا الفقر: الكرامة كبديل ساخط عن كل أنواع الهوية. رأس الداء ليس "شرعية" من يحكم، بل مدى نجاح الحاكم في حماية الحلم من كلّ الذين لا يؤمنون به. دولة الفقراء هي حلم سياسي قديم، ظلّ يبحث لنفسه في كل العصور عن أفق مدني يناسبه. وليست الأديان العالمية غير طرق أخلاقية واسعة النطاق لإرساء دولة الفقراء. كلّ نبي هو نبي للفقراء ومبشّر بدولة الفقراء أو هو نبي كاذب.
ما وقع منذ زمن طويل هو الاستيلاء الفقهي على حلم الفقراء بدولة الفقراء وتحويله إلى جهاز آخرة، ومعاقبة كل من لا ينصاع إلى هذا الجهاز "الفقرائي" لتدمير الحرية الحرة، باسم سلطة تريد، مثل كل سلطة أخرى، بأن تتمتع بقوة القانون النهائي، أي الشرعي بلا رجعة. وليس إنتاج الشهداء صدفة في تاريخ الفقهاء. بل هو جزء من صناعة السلطة التي يتقنونها. من دون شهداء لا يمكن لجهاز الآخرة أن يعمل. ومن دون "متشدّدين" لا يمكن لدول الفشل الهووي أن تدافع عن وجودها.
تخفي الدولة تحت جلبابها طمعا أخرويّا مقدّسا في تحويلنا إلى فقراء نسقيين لا يملكون فقرهم، بل يسلّمونه إلى حكومة منتخبة للغرض، حتى تصنع منه شرعية لا تُغتفر. ولا فرق بين أن تكون "رعية" أو "مواطنا"- في عرف الشرعيات التي تُبنى من أجل الشرعية المطلقة والنهائية، كتبرير أخير وأخرويّ للسلطة، كلّ أجسام السكان هي مساحة هووية للحكم. ولذلك لا يبدو أنّ العرب المسلمين الذين شاركوا في ثورات "الربيع" العربي، جاهزون اليوم للانتقال إلى الخطوة الثانية من إنجاز الحرية الحرة. عليهم أوّلا أن يخوضوا معركة المواطنة ضد دول الهوية. كل دولة هوية هي جهاز انتماء فارغ من أيّ التزام أخلاقي بفكرة الإنسانية. ولذلك هي لا ترى إلى السكان باعتبارهم شركاء في وطن ليس أكثر،- بل تحاسبهم وفقا لترتيبات أخلاقية لا علاقة لها بالوطن. وكلّ حديث أخرويّ عن الدولة المدنية هو خداع بصري للعميان.
وعلينا أن نسأل آخر الأمر: هل كانت دولة الإسلام الأولى، بالفعل، دولة هوية ؟ أم كانت دولة فقراء بالمعنى الدقيق للكلمة ؟ - دولة الفقراء لا تهمّها أبدا نقاشات الهوية، مهما كانت جليلة. كل نقاش هووي هو نقاش أغنياء، أي ذلك الشطر من السكان الذي ينجح في كل مرة في تأجيل سقوط الدولة عليه. والانتظار خارج السرب للراحة الأخلاقية من تعب ووطأة الوطن- هذا الجسم العاري من الشروط الحيوية للبقاء في شكل فقر نسقي ورسمي وطويل الأمد. ليس الإسلام غير طريقة الفقراء في تأجيل سقوط الدولة عليهم. وأمّا اليوم فقد تحوّل هذا الأفق الأخلاقي الرائع إلى شبح هووي يترصد الأحرار ويهدّدهم بالهراوات الفقهية لشباب فقد معنى الوطن فلم يجد من بديل وجداني عنه سوى تجارب الآخرة في دقيقة. كلّ سلفي هو آخرة في دقيقة، كتلة من الحرية التي لم تتحرر بعد. ولذلك هي تحت التصرف، ولاسيما تصرف فقهاء السلطة الذين ينجحون دوما من صدر الإسلام إلى اليوم في سرقة حلم الفقراء وتحويله إلى برنامج شرعية نهائي لسلطتهم المزعومة. كيف نحرّر الطبقة "السلفية" من مصادر أنفسنا القديمة ؟ كيف نحرر حرية الفقراء من أطماع الفقهاء الجدد، المتنكّرين في زيّ الدولة المدنية الحديثة ؟ كيف نمنع تحويل شباب سلفي يافع إلى أدوات أمنية لتبرير حكومات فاشلة ؟
ليس الدين بحدّ ذاته، إذن، هو مشكل الدولة اليومية التي وقعت علينا. بل الاستعمال الفقهي للدين كوسيلة قمع أخلاقي ضدّ الخصوم السياسيين. وكل من يتحدث عن شرعية الصناديق اليوم، في مصر وتونس، هو يتحدث عن وسيلة علمانية من وسائل الحرية الحديثة، لا يملك أفق الفهم المناسب لتأويلها. ولذلك هو يخلط بين الشرعية (القانونية) والمشروعية (الأخلاقية) للحكم. إنّ أهمية الانتخاب لا تكمن في سريته أو حرية اختياره، بل في كونه نابعا من تصوّر ميتافيزيقي حديث للإنسان بوصفه "ذاتا" مفكّرة. وحدها ذات حرة تستحق وتملك حق الانتخاب: أي اختيار النائب القانوني والأخلاقي عنها. لكنّ مجرد الشرعية، أي الحصول على أصوات الناس، ليس هو جوهر الحرية الحديثة. إنّ الحرية الحديثة هي حرية حرة، وليس مجرد رأي موافق أو رافض لحاكم ما. والأرجح أنّ الإسلاميين لدينا يفهمون "الشرعية" بالمعنى الفقهي: أي ما أثبته "الشرع" (شريعة الحكم) بشكل لا رجعة فيه. والحال أنّ الشرعية الحديثة لا علاقة لها بأيّ نص مقدّس أو أحكام لا يمكن مراجعتها لأنها جزء من شريعة يصلي بها الناس في المساجد.
وعلينا أن نذكّر بأنّ الدين هو أحد الاختراعات الفذة للفقراء في العصور القديمة. وسوف يظلّ أحد الأدوات الوجدانية لبقائهم. ولذلك كل من يتاجر بالدين هو أخطر من أيّ تاجر مخدّرات في العالم. إنّه يسرق من الفقراء ثروتهم الوجدانية ويحوّلهم إلى متسوّلي دولة. والحال أنّ الفقير يوجد أصلا خارج مسطّح الدولة. ولا يمكنه أن ينتمي إليها إلاّ عرضا.



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلاسفة و العفو ..تمارين في الغفران
- هيدغر والديمقراطية أو زعامة الرعاة
- الرهطيّون
- شكري عاد وحيدا...أو ما يبقى يؤسّسه الشهداء...
- القتل ليس وجهة نظر... أو ما هو الاغتيال الهووي ؟
- صولجان الذئاب...أو إذا متّ سأشرب وحدي
- المركزيون...أو في المواطنة المشطّة
- الأنا الأخير...في الشرق
- الكينونة تتكلم العربية أو هيدغر في زماننا
- الحاكم الهووي أو الثورة في الوقت الضائع......
- كيف يكون إيمان الأحرار ؟
- هل يحمي القانون من لا يؤمن به ؟
- نهود لامبيدوزا... تعلق في شباك الروح
- حوار خاص مع الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني
- الفلسفة استثناء تأسيسي...لوعي آخر
- إعلان تونس من أجل الفلسفة.....قبل الثورة وبعدها
- تأويلية آبل...أو الجمع الهرمينوطيقي بين هيدغر وفتغنشتاين
- استشارات كانطية : الرجاء والوهم أو كيف تكون سعيدا بوسائل بشر ...
- استشارات كانطية - التعالي الحرّ أو في -الحرية الموجبة-
- استشارات كانطية - الرجاء الديني والكرامة الإنسانية


المزيد.....




- الرد الإسرائيلي على إيران: غانتس وغالانت... من هم أعضاء مجلس ...
- بعد الأمطار الغزيرة في الإمارات.. وسيم يوسف يرد على -أهل الح ...
- لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا ...
- ما حجم الأضرار في قاعدة جوية بإيران استهدفها هجوم إسرائيلي م ...
- باحث إسرائيلي: تل أبيب حاولت شن هجوم كبير على إيران لكنها فش ...
- ستولتنبيرغ: دول الناتو وافقت على تزويد أوكرانيا بالمزيد من أ ...
- أوربان يحذر الاتحاد الأوروبي من لعب بالنار قد يقود أوروبا إل ...
- فضيحة صحية في بريطانيا: استخدام أطفال كـ-فئران تجارب- عبر تع ...
- ماذا نعرف عن منشأة نطنز النووية التي أكد مسؤولون إيرانيون سل ...
- المخابرات الأمريكية: أوكرانيا قد تخسر الحرب بحلول نهاية عام ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي المسكيني - في انتظار دولة الفقراء