أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزيز العصا - قراءة -مختلفة- ل -عزيز العصا- في رواية: امرأة عائدة من الموت؛ لكاتبها نافذ الرفاعي















المزيد.....


قراءة -مختلفة- ل -عزيز العصا- في رواية: امرأة عائدة من الموت؛ لكاتبها نافذ الرفاعي


عزيز العصا

الحوار المتمدن-العدد: 4159 - 2013 / 7 / 20 - 16:04
المحور: الادب والفن
    



قراءة: عزيز العصا
[email protected]
نافذ الرفاعي؛ روائي، سياسي، كاتب، ناشط اجتماعي. هذه هي اهتماماته التي عرفته بها عن قرب. ولكن فوق هذا كله أرى فيه، ومن خلاله، وحدة الدم والمشاعر والإنتماء، التي لا تنفصم عراها، بين مصر/ أم الدنيا، وفلسطين/ أرض كنعان/ أرض الشهد واللبن.. فهو مصري الأصل والفصل؛ "اسكندراني" الهوى، فلسطيني المولد والمواطنة والإنتماء والشعور؛ يحلم بفلسطين محررة، كما يحلم بمصر تقود العالم بأسره كما قادته في غابر الأزمان والعصور..
كيف لا؛ وقد ارتوت زنازين الاحتلال من جسده الغض لعدة سنوات.. فحول, كباقي جيله, فترة السجن إلى تجربة مشبعة بالفكر، والثقافة، والوعي لطبيعة الصراع.. إنه الاحتلال الذي لا يجوز أن نواجه صولجانه بالصراخ والدموع والعويل؛ بل بالقراءة والتوثيق، والمزيد من القراءة لما بين سطور التاريخ ولما فوقها وما تحتها، لنصلَ إلى نهاية النفق؛ فنزيل عقباته، ونبدد ظلمته أمام الأجيال القادمة.
ومن بين كتابات الرفاعي وإنتاجه الفكري والروائي، قُدِّر لي أن أقرأ روايته بعنوان: "امرأة عائدة من الموت"؛ من منشورات جماعة الباب الأدبية، صدرت عن مطبعة آدم/ رام الله/ فلسطين. ويربض بين جلدتي الرواية، ذات الـ (214) صفحة من القطع المتوسط، (54) عنواناً، لكل منها دلالاته. تلك العناوين التي تشكل، في مجموعها، سمفونية المرأة "العائدة من الموت".
لقد حرص الكاتب على نثر بذوره الفكرية، والمعرفية، والمعلوماتية، والتأريخية التي تتآلف، معاً، لتصيغ للقارئ ثقافة يحتاجها عندما تُذكر فلسطين، وعندما يُذكر أغرب وأبشع احتلال تذكره البشرية جمعاء، وعندما تُذكر انتفاضات الشعب الفلسطيني في وجه الظلم، بأشكاله وألوانه كافة.
لذلك؛ تجد في رواية "امرأة عائدة من الموت" الكثير من القضايا والمفاهيم والرؤى والفلسفات التي هي نتاج التناقضات بين: الألم والأمل، الحب والحرب، الخوف والطمأنينة، الإنسانية المتسامحة والكراهية على خلفية قومية... الخ.
وعليه؛ فقد ارتأيت أن أتكامل في قراءتي لهذه الرواية مع من قرأها قبلي من الناقدين والمفكرين الذين أعتز بهم. فقمت برصد المحاور التي تشكل، في مجموعها، البذور الموصوفة أعلاه التي حرص الكاتب على نثرها على طرقات قارئي هذه الرواية، تتلخص فيما يلي:
أولاً: فلسفات الأبطال، ورؤاهم، ونظراتهم المختلفة للحياة؛ بين تفاؤلٍ وتشاؤمٍ:
فالطالبة-الفنانة الفلسطينية "سمر" تحلم بأن تملأ طرقات بلادها وجدرانها بلوحاتها؛ لتكون أهم من بيكاسو وأعظم من دافينشي. علماً بأنها تعاني من زمهرير برد روسيا الذي جعلها تبحث عن الدفء في وجوه زملائها. كما أنها ذات نظرة ناقدة-ثاقبة عندما لاحظت مدى حاجتنا للتوثيق، باللوحات والرسومات ذات المعنى، لما يجري على أرضنا من أحداث، فتقول: الغرب مكتنز باللوحات، وأما الشرق فممتلئ بالأحداث وتنقصه اللوحات.
تستعرض الرسامة "سمر" النساء عبر التاريخ، دون أن تنسى العربيات والمسلمات منهن، حتى تصل إلى ليلى خالد ودلال المغربي. ولم تنسَ الإشارة إلى أن هناك مناضلات رائعات لا يرى فيهن السياسيين سوى الانوثة. أما "فتاة القبعة الحمراء" فتكشف عن فلسفتها وتعريفها للمرأة، بقولها: "المرأة تمتلك السم القاتل والترياق الشافي"، كما تعتبر أن "التأخير؛ عادة نسانية". وفتاة الفنون تكره نوعان من الرجال: من يملك ومن يطغى.
في فلسفة الجنون (!!)، يرى الرفاعي أن المثقف القدوة: "تمثال رائع لا اثر له".. أما "المجنون" فإنه يفرض على الناس ما يريد بقوة الجنون.
يعتبر الرفاعي المقهى موطن الحكايات، وفي نظرته للكتاب والفنانين: "للكتاب عوالم غامضة، وأحلام مجنونة وأخرى عاقلة. وهم متقلبوا المزاج؛ يجيبون على أعقد الأسئلة ويتحرجون من أتفهها، و"الرسامون" يحملون متاهة الكون. ثم يسرد علينا قصة الفنان سليمان منصور عندما وثق من خلال لوحته الشهيرة "جمل المحامل" للفلسطينيين الذين حملوا القدس التاريخية على أكتافهم، وبنوا القدس الحديثة بأجسادهم، وحملوها أمانة بين أضلعهم؛ والأمانة تنوء منها الجبال.. فكان لمشهد العتال الثمانيني، القادم من الخليل ضمن حملة الحاج أمين الحسيني لإشغال المنازل الشاغرة في القدس، الفضل على منصور في رسم لوحته تلك، التي يظهر فيها الحبل، المتكئ على جسد الفلسطيني، يطوق القدس لحمايتها.
كما يرى الرفاعي أننا كلما اقتربنا من اليأس اقتربنا من النصر أكثر. ويدعو إلى عدم الخلط بين المفاهيم والمصطلحات، ووضع الفواصل الدقيقة بينها، مثل: المغامر والمقامر والمغوار والفدائي والمحارب والمرتزق... إلخ.
ثانياً: بطلة الرواية (مرام): فتاة فلسطينية الهوى والهوية والانتماء والشعور، ذات سمات وخصائص ترقى بها إلى مستوى البطلة فعلاً؛ فهي تعبر عن شخصية متعددة الأبعاد، منها:
1) تتمتع بجمالٍ أخّاذ يفوق الموناليزا؛ فالموناليزا جميلة اما مرام فإنها تتقد جمالاً، أم لطفلة إسمها ديانا؛ تعشق جمال الكون وتحب الحياة، وهي المتخصصة في تجميل عرائس المدينة.
2) تمتشق القوة إلى جانب الجمال الموصوف؛ فتتميز عن النساء الأخريات، بأنها "في ظلالها كثير من الرجال، في حين أن معظم النساء في ظلال الرجال". هامدة مفعمة بكمية من الورد والدم؛ فمن سينتصر فيهما؟
3) شخصية "مرام" تحمل في داخلها ثنائيات الحب والحرب، والعنف والحنان، القسوة والأمومة... الخ، فعانت الصراع بين الحياة والموت وهي تنظر الى نقيضها الهش في المرآة، وأخذت تبلع ريقها لعلها تغسل غصة في حلقها. ولكل وجه سلبي في تلك الثنائيات، لدى مرام أو غيرها من أبناء جيلها، يكمن الاحتلال الذي عاشت بشاعته في كل تفاصيل حياتها. ومن المشاهد التي جعلت "مرام" تفكر في الانتقام:
• الشهداء، من مختلف الأعمار ومن الجنسين: فقد اغتالت طائرة أباتشي احتلالية على ناشط وعجوزين وأربعة مصابين وقتلت ابنة الجيران التي كانت دائمة اللعب مع ابنتها ديانا. كما دمرت صواريخ الاحتلال وجهه "عريس عائشة" الذي جهز كل شئ للعرس، وعائشة هذه كانت دائمة الحلم بيومها الموعود، ودائمة الرجاء للمُزَيِّنة مرام أن تجعلها أجمل عروس. واستشهاد قارع الأجراس ذلك المسيحي الذي لم يقترف ذنباً سوى أنه كان يحتضن محاصري كنيسة المهد من الثائرين في وجه الاحتلال. والشهداء الأطفال: إيمان حجو؛ التي جاءتها قذيفة الموت وهي نائمة في حضن أمها، وفارس عودة الذي واجه الماركافاة بحجر فقتله الاحتلال؛ لكي يمسح اسمه من قاموس الفروسية. استشهاد الطفلة سارة التي لم تبلغ من العمر سوى عامين.
• الأسلحة المستخدمة في هذا كله: كانت من الأنواع الفتاكة؛ فالطائرة "الزنانة" التي ارتبط اسمها بالفتك بشباب فلسطين حتى يتحولوا إلى أشلاء؛ يصعب جمعها، ودبابة "الماركفاه" المخيفة المدمرة لكل شئ يعترضها، والجنود المدربون على كل أنواع القتل؛ من قناصة وغيرهم. كما شهدت تفاصيل الاجتياح الذي داهم بيت لحم من كل الجهات، والتهم قدسيتها وحرمة المكان والإنسان فيها.
• الاجتياح وحصار كنيسة المهد، التي اطلق عليها الرفاعي "حرب الشعب" التي تقوم على قواعد غير كلاسيكية؛ اقترب واهرب, اضرب وانسحب.. ليس لها قوانين، يقوم بها مجموعات صغيرة من المقاتلين بعتاد خفيف أمام أعتى أنواع الأسلحة.
• في حصار الكنيسة؛ يترك الاحتلال للمحاصرين، منفذاً، لكي يقنصهم عند الهرب، أو كلما أطل الواحد منهم برأسه، لأي سبب كان. فاستشهد نضال، ذلك النموذج "القديس" نضالياً؛ لا يتشدق في السياسة، ولا يدعي أنه مطارد من العدو فاستشهد عندما خرج يلتهم بعض الأعشاب لكي لا يثقل على الرهبان. ثم يُبعد هؤلاء المقاتلون، عنوة إلى غزة وأوروبا ويحرمون من العيش الهانئ مع أبنائهم وأسرهم.
• تراءى لـ "مرام" كيف يشن الاحتلال حرباً، مبنية على التطهير، ضد شعبها الأعزل؛ الذي لا يملك إلا جسداً وغضباً وسخطاً ولا يحميه في هذا العالم أحد. ويسمح لأطفاله بالكتابة على الصواريخ الموجهة إلى أطفال شعبها.
• وفي مشاهد يومية؛ ما أن ينقضي ليل، ويشرق الصباح حتى يعد الفلسطينيون الضحايا وتجوب الجنازات المدينة, وتكتظ المستشفيات بالجرحى والضحايا؛ من اطفال ونساء بعضهم في عمر "طفلة مرام". وما أن يحضر الجنود إلى أي مكان فلا ينسحبوا منه قبل أن يعتقلوا أقارب "مرام" ويُسكِنوا الرعب في كل حارة وزقاق. إضافة إلى ما يقوم به المستعربون؛ وهم فرقة من جيش الاحتلال يتظاهرون أنهم عرب؛ ليغتالو الشباب الفلسطينيين.
• مرام" وأهلها محاصرون، معظم الوقت، جوعى؛ ومن شدة الجوع وألم الحصار أصبحوا يلتهمون الخبز الذي أضحى مراً يصعب ازدراده؛ فلا ريق يسهل نزوله إلى أجوافهم، وذلك في أجواء أخبار الشهداء الذين يتوالى سقوطهم، وتحت أصوات أحذية الجنود وقرقعة البنادق وخلع الأبواب في أداء شيطاني؛ يزرع في رأس "مرام" السواد.
• تراقب "مرام"، عن كثب، ما جرى لأبي يوسف (صديق والدها)؛ اللاجئ الفلسطيني للمرة السابعة من "زمارين"؛ كيف هَدَمَ الاحتلال بيته. فأبو يوسف، الذي لم يبكِ في حياته إلا على هدم بيته، رفض التشرد مرة أخرى؛ فمات وهو جالس على أنقاضه.. فاستذكرت "راشيل" التي لو كانت موجودة لقضت قبل أن يصل البلدوزر إلى بيت أبي يوسف.
• أصبحت "مرام" مسكونة بصور دموية ومشاهد مرعبة؛ أصابتها بالهلع الذي حرمها طعم النوم؛ فهذه الحرب تنثر الدم على وجهها وشعرها وملابسها.
• هناك نماذج سبقت "مرام" في مواجهة الاحتلال بأجسادهم، مثل: 1) الكاميكاز؛ الطيارون اليابنيون الانتحاريون الذين قرروا حسم الحرب العالمية الثانية باجسادهم. 2) رشيل خوري التي وضعت جسدها تحت البلدوزر الاسرائيلي. 3) المحامية الفلسطينية "هنادي" التي استشهدت "متزنرة بحزام ناسف"؛ ثأراً لأخيها الشهيد على أيدي الاحتلال، وانتقاماً من المدينة التي لم يستقبل مستشفاها والدها/ "الأسير السابق" المصاب بالسرطان.
• هكذا؛ أصبحت "مرام" تعاني من صداعٍ ألمٍ مستشري في ثالوث مسخ: الحب والعاطفة والامومة. فقررت ملاقاة الموت قبل أن يداهمها هي على حين غفلة، وتريد حماية طفلتها من الموت بالذهاب إليه.
• في أجواء قصف المقاطعة في بيت لحم، وحين استهدف طيران الاحتلال طبيباً ألمانياً متزوج من فلسطينية، تزنرت "مرام" بالحزام الناسف، واتجهت إلى القدس.
• كانت "مرام" على وشك التنفيذ، إلا أن طفلة لجندي احتلالي (يقتل اطفال فلسطين) ابتسمت لها؛ فأوقفت الضغط على المفجر. وينتهي دور "مرام" باحتضان سارة، وديانا والطفلة ابنة الجندي الاحتلالي، لتحقق مقولة الراوي بـ "التفوق الأخلاقي على الاحتلال".
ثالثاً: القدس و/أو بيت لحم حاضرتان في جميع المشاهد:
يقول "الرفاعي": كل حجر في هذه الأرض له تاريخ داسته شخصية تاريخية مهمة .. وهذا المكان هو قلب العالم الحديث والقديم. وعليه؛ فلم تغب القدس وبيت لحم، وجدار الفصل العنصري الذي يفصلهما، عن خيال الكاتب؛ فقد احتضنتا جميع المشاهد، والمقولات التاريخية؛ التي تثبت الحق الفلسطيني في مدينة القدس، التي تستحق من الشباب الفلسطينيين "التسلل" إليها؛ لحد المغامرة بحياتهم، عبر سلمٍ يتأرجح على ارتفاع سبعة أمتار، أو بالاختباء بين الخضار، لحد الاختناق، أو باللجوء إلى المجاري للاختباء في مواسيرها المشبعة بالقاذورات..
يدخل الشباب إلى القدس، بالرغم من ملاحقة الجنود المتيقظين القابضين على الزناد؛ المتجهزين للقتل بدون سابق إنذار، من أجل أن تكتحل عيونهم بما تختزن "قدسهم" من حضارات تعاقبت عليها، ولكي يعيدوا لها التوازن لوضعها الديموغرافي الذي أصبح ينذر بالخطر. فالمقدسيين يموتون ولا نعرف عنهم؛ لقد انشطر الوطن.
ففي القدس تتجلى "سباعيات الرفاعي"، فيقول بأن القدس غُزيت ست سباعيات من المرات (42 مرة)، وهدمت عن بكرة أبيها "ثلاث سباعيات" من المرات، وأصيبت بالزلزال سبع مرات. والقدس تمثل الشرق، مهد الحضارات.
وفي القدس شعب، من مختلف المشارب القومية، توحده القدس التي تحتضن مساجده (على رأسها المسجد الأقصى) وكنائسه (على رأسها كنيسة القيامة). وبانسياب رائع وصف الرفاعي الممارسة الطبيعية للأخوة الاسلامية المسيحية؛ عندما أنار قنديلاً في زاوية صوفية للنقشبندين واوقد شمعة في دير صغير. وفي مساهمة منه؛ اختار الكاتب الأرمن ليصف لنا معجناتهم وأكلاتهم الأرمنية التي يُلزِمون فتياتهم بتعلمها. ويرى الرفاعي أن التعمق في الحضارة ضرباً من التمازج العجيب ما بين الديانات السماوية وأحيانا الإرث الوثني.
ثم عرج الرفاعي على القدس، أكثر من مرة، وهو يصف آثارها ومنتجاتها السياحية وأماكنها، المقدسة وغير المقدسة، التي يتجلى فيها جمال المكان، المتميز بزحام المارة والسياح، ويفوح بعبق التاريخ الإنساني الخالي من الحقد، والكراهية، والخوف، والرعب الذي يحاول الاحتلال وجنوده إشاعتها في المكان، والذي أدى إلى وجود أوكار المخدرات واللصوص والدعارة، إلى جانب زوايا المتصوفين ونساك المسيحيين؛ فيجتمع الفسق والخداع مع نقيضيهما؛ الإيمان والنسك.
في أكثر من مناسبة؛ وصف الكاتب بيت لحم، توأمة القدس، بمهدها، ومغارتها، وبشعبها الذي تتناغم مكوناته بما يشكل سيمفونية جميلة تشكل رمزاً للتعايش بين الأديان والطوائف. هذه المدينة التي قام ثيودوروس؛ خليفة صفرونيوس بتسليم مفاتيحها إلى ياسر عرفات؛ خليفة عمر بن الخطاب. لافتاً النظر إلى أن مسجد عمر، ووفق رأي مدير اليونسكو، يعتبر سوقاً؛ وليس نسخة عن المسجد القديم الذي كان تحفة معمارية.
أما التعايش بين الديانتين وتعاضدهما في مواجهة الاحتلال وشراسته؛ فقد كان له نصيب رائع في الرواية، فبالإضافة إلى قصة حصار المقاتلين والرهبان في كنيسة المهد، هناك قصة اختباء "الراوي" ومن معه في دير وفر لهم وسائل الراحة التامة لمدة أسبوع كاملٍ.
كما يذكرنا الرفاعي بما تعرضت له "بيت لحم" عبر التاريخ؛ من غزوات واحتلالات واجتياحات كان آخرها اجتياح العام 2002، الذي تجسدت فيه روح التآخي بين أبناء الشعب الواحد في مواجهة الاحتلال وممارساته.
وللجدار العنصري الفاصل بين المدينتين المقدستين نصيب في رواية الرفاعي هذه؛ فهو حاجز قاتل-مخيف؛ لا يمكن تجاوزه إلا بمخاطرة مميتة؛ سواء أمام الجدار أو خلفه، حتى أضحى له تجارته التي يستغلها "سكناجي" في تهريب الداخلين إلى القدس بمبالغ مالية باهظة، وما يلاقونه من مهانة، لا يحتمله آدمي، أثناء نقل المتسلل أو عند القبض عليه؛ فقد يفحصون ملابسه ببساطيرهم القذرة، أو يضطر للاختباء في مناهل المجاري حتى الفجر خوفاً من رصاص قناص متحفز للقتل.
رابعاً: تتزاوج الثورات العالمية مع ثورة الفلسطينيين:
فقبعة "فتاة القبعة الحمراء" تذكره بكوفية ياسر عرفات، وقميصها الذي يزدان بصورة رجل يدخن السيجار الكوبي، تذكره بجيفارا الثائر الأممي الكوبي.. والمشترك بين عرفات وجيفارا أنهما قائدين ثوريين لم يستكينا للظلم ولا للظالمين؛ بل قضيا على درب المبادئ ليشكلا رمزين دائمين للأجيال المتعاقبة. أما الراوي و"فتاة القبعة الحمراء" فلا تجمعهما السياسة؛ فهي كارهة لها وهو يحب كل أنواع الثوار ما داموا يثورون على الظلم والاضطهاد، ويعتبر الإنسان قضية. وفي النهاية تتفهم "فتاة القبعة الحمراء" موقفه وتوجهاته عندما تقول: "نحن الوحيدون الذين لم تنتصر ثورتهم".
وهكذا؛ تدخل "فتاة القبعة الحمراء" في المشهد لتبقى فيه حتى النهاية، وهي في كل مرة "تمتشق" دوراً تتقنه أروع إتقان. فقد شكلت درعاً واقياً للراوي، الباحث عن الخيط الذي يصل الضوء بالضوء، حيث "الرعب الأمني ينشب أظافره بالمكان". وهو المتسلل من فتحة في جدار الفصل العنصري المحاط بالجنود الضاغطون على الزناد؛ ولا تأخذهم فيه رحمة.
خامساً: تتحطم هيبة "قوة الاحتلال":
• فيبدو الراوي؛ غير آبهٍ بالاحتلال وجنوده بعد نجاحه في التسلل؛ عندما شرب سبعة أكواب من الشاي، وهو ينتظر "فتاة القبعة الحمراء"، التي ضحكت بعمق وهو يقص عليها قصة تسلله الى القدس. ثم يصف لنا كيف استطاعت المرأة البدوية "شيخة" تهريب السلاح على حمارها، ونجحت في ذلك حتى قام أحد الجواسيس بالوشاية عنها لجيش الاحتلال.
• وهناك طالبان فلسطينيان، هما: الديسي والتلحمي؛ يخترقان المنظومة الالكترونية للقمر الصناعي الاسرائيلي "أوفك-2"، الأمر الذي يثير استهجان "أتباع جابوتنسكي": كيف يستطيع الأغيار السقاؤون والحطابون الدخول إلى هذه المنظومة. وعواد؛ عاملٌ فلسطيني رفض التعامل مع الاحتلال فقرر الانضمام للثوار، وبقي يقاتل إلى أن استشهد حراً كريماً.
• من جانبٍ آخر؛ تنظر فتيات فلسطين بإعجاب شديد للمقاتلين الأبطال الذين يذودون عن الوطن. فبالرغم من علم "القناة السابعة"، المخطوبة لإبن عمها، بما سيؤول إليه مصير أحد المقاتلين؛ بأن يقضي شهيداً أو أسيراً، إلا أنها تحلم بالارتباط به.
سادساً: معلومات ثقافية: لم يبخل الرفاعي علينا في روايته بما لديه من "قفشات" ومعلومات تم تمريرها بانسيابية لبقة لنكتسبها ثقافة ومعرفة نتزود بها، مثل:
- زنوبيا/ ملكة تدمر، التي قرر والدها دفنها لئلا تجلب له العار؛ امتازت بالفروسية والشجاعة. وهي صاحبة المقولة البطولية الشهيرة: "بيدي لا بيد عمرو"؛ عندما قررت أن تضع حداً لحياتها خوف أن يذلها خصمها إن هو أَسَرَها.
- يعرفنا بمجموعة من الحيوانات، فالدبعي نوع من الكلاب البرية (ما بين الذئب والكلب)، والنيص ذو شوك يحميه (ولحمه ذي رطوبة عالية)؛ لأنه حيوان ليلي لا يرى الشمس، ويتم اصطياده باستخدام حبات البطاطا. ثم يغرق في وصف الصقر, والعقاب وكيف تهاجم الصقور بني البشر.
- يعرفنا بمجوعة من الروائيين، وكأنه يشير علينا بالقراءة لهم، كنجيب محفوظ، والطيب صالح، وعبد الرحمن منيف، ويدعونا إلى أن نفعل ما لم يفعله رجال في الشمس لغسان كنفاني؛ بأن ندق جدران الخزان.
- كما يبلغنا بأن هناك ما يسمى "الصدمة العلاجية" التي تشفي زوجة عبد المجيد من مرض تكسر صفائح الدم. وأن "المهفوف" لا يعالج بالسحر؛ بل هدأت ثورته بعد أن وخزوه بإبرة وتناول أدوية ومهدئة وعقاقير طبية.
التعقيب والخاتمة
لقد قرأت هذه الرواية؛ بعمق، وعلى مدى بضعة أيام، رغبة مني في سبر غورها كوثيقة لحقبة زمنية مر بها الشعب الفلسطيني في مواجهة مباشرة مع الاحتلال، عندما هب شباب انتفاضة الأقصى، بأسلحتهم الخفيفة؛ بل أخف الخفيف منها يدافعون عن وطنهم وكرامة شعبهم في وجه جيش مدربٍ على كل أنواع الحروب، يمتلك أسلحة ثقيلة؛ بل أثقل الثقيل منها.
وكان من بين أساليب تلك الحرب، غير المتكافئة، العمليات الاستشهادية التي قام بها شباب وشابات في زهرة أعمارهم، متزوجون وعزاباً. فكان اختياره لقصة "مرام" التي رأى فيها "المرأة العائدة من الموت"، عندما كانت طفلة جندي-احتلالي الرادع لها عن الثأر، لتنتهي سجينة وسجانتها، هي كذلك ضحية الاحتلال؛ فقد فقدت أخاها في عملية تفجيرية.
لقد أعلن الرفاعي في روايته هذه معارضته لـ "عسكرة الانتفاضة"، ورفضه لمبدأ "الموت المرغوب فيه"؛ الذي يرى فيه "رد فعل" وليس فعل في مواجهة الاحتلال، ويحث على المقاومة من أجل تحقيق النصر وليس من اجل الموت، لكي تتحقق قناعته بـ "التفوق الأخلاقي للثوار على الاحتلال".
كما كانت الرواية مليئة بالمشاهد والشخصيات التي حبكها الكاتب ليخرج علينا بنسيج جميل؛ تظهر فيه الخيوط والخطوط والألوان بنسق يعبر عن الظواهر، والأحداث، وأنماط الحياة اليومية للشعب الفلسطيني لمرحلة الانتفاضة، وما قبلها وما بعدها.
فقد سلط الكاتب الضوء على الأحداث العسكرية والمظاهر الاحتلالية؛ المتعلقة بالإجتياحات والمداهمات واستهداف المقاومين وممارسات جنوده داخل القدس وخارجها؛ المتأهبين ويدهم على الزناد. كما رسم لوحة جميلة لمدينة القدس بجغرافيتها الجميلة، وما تكتنز من نتاج الحضارات التي مرت عليها عبر آلاف السنين، وما يعيشه سكانها وزائروها من أجواء الحرب التي يفرضها جنود الاحتلال، وأجواء الحب والرغبة في الحياة الحرة-الكريمة-الهانئة.
وفي ختام روايته؛ يدعو الرفاعي إلى أن نغني على الناي بلا تطرف، أو حزبية، أو عنصرية، أو عنصرية؛ لديانة أو لون أو لجنسية. ويدعو الجميع إلى أن يصرخو بأعلى أصواتهم: الحياة.. الحياة.. الحياة!
بقي القول: صحيح أن كأس هذه الرواية يحتوي ما أراد الكاتب أن يبثه في القارئ، إلا أن الجزء الفارغ من كأسها يتمثل في أخطاءٍ لغوية، وأخطاءٍ مطبعية، وخللاً في الشكل والتنظيم، إضافة إلى إقحام بعض الشخصيات في الرواية بدون مقدمات وبشكل مفاجئ. الأمر الذي يدفعني إلى أن أتوجه للروائي، بأن يخطط لإعادة طباعة روايته هذه لتغدو بحلة جديدة تراعي تلك الأخطاء؛ لتبقى وثيقة رائعة للأجيال القادمة؛ من حيث المضمون والمحتوى والشكل، آملاً من المطبعة القادمة أن تصمم للرواية "فهرساً" يريح القارئ ويسهل عليه متابعة القراءة والتواصل مع أحداثها.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية



#عزيز_العصا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التاريخ السري لفارس الغبار للشاعر إياد شماسنة: ديوانٌ.. لا ي ...
- مَلحَمةُ -كَفْر توُتْ-: وَثيقَةٌ تَارِيخِيَّةٌ.. بِنَكْهَةٍ ...
- مراوغة الجدران.. للكاتبة -نَسَب حُسَيْن- صورٌ حيّة لحبٍ -لا ...


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزيز العصا - قراءة -مختلفة- ل -عزيز العصا- في رواية: امرأة عائدة من الموت؛ لكاتبها نافذ الرفاعي