أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود جلبوط - شعر....وبالذاكرة نقاوم















المزيد.....

شعر....وبالذاكرة نقاوم


محمود جلبوط

الحوار المتمدن-العدد: 1190 - 2005 / 5 / 7 - 10:10
المحور: الادب والفن
    


عندما تسلل عبر القيد أروقة العالم السفلي عرّاه الجلاد من كل الاحزمة خشية الانتحار...

نزع ملابسه

وخلع صوته,

شلح قدميه

عينيه,

وأودع في غرفة الأمانات أعضائه التناسلية...

ولما اقتربوا من ذاكرته وخياله قاوم

أدرك منذ الكابل الأول أن الماضي والحاضر صاروا ذاكرة و تبدلوا خيالا ...

عض على ذاكرته وخياله بالنواجز

قال للجلاد:خذ كل أحزمتي

صادر كل أشيائي

ولكن لا.. ذاكرتي لا..خيالي لا..

عندما أودعه الجلاد جوف الزنزانة تمتم هازءا:ستستنزف الزنزانة معظم ذاكرتك وكل خيالك...

كان يدرك أن لا فائدة هنا للصوت فالغناء في عالمهم السفلي ممنوع....

لا فائدة للقدمين لأن المشي ممنوع

فلقد صادروا الشوارع

و ملؤوا طرق المدينة نصب خشبية وبرونزية مستوردة للقائد

وفي حواريها القديمة فرضوا حظر التجول...

لا فائدة للقلب ولا للأعضاء التناسلية, فإن جرحا ينشف يكف عن الصراخ و يتخشب...

لا جدوى للحلم

للأمل

للعصافير

للفراشات

للضفدع

فلقد اعتقلوا الفضاء والغابة وحتى القبور والمستنقع

وتم قتل الأشجار لبناء المزيد من السجون ومراكز التحقيق...

تكفيه الذاكرة ويكفيه الخيال...

كيف كان يمكنه مقاومة الزنزانة دون خيال ودون ذاكرة...؟

كيف كان له أن يتعرف صديقه القابع في إحدى زوايا المنفى يصارع مرضه

عندما يتقيأه السجن إلى المنفى...؟

كيف كان سيقابل الشمس تشرق من جديد..؟

كيف كان سيبوح من ذاكرة معتقل سابق....

هناك ,في العالم السفلي, يحتاج المرء الذاكرة ليستحضر وجوه الأحبة

فيجترها

لتخفف كثافة الرطوبة واللون الشاحب...

هناك ,في العالم السفلي, يحتاج المرء الخيال

ليكّون من الوجوه هيئات جديدة وأحداث جديدة تحرك الزمن الساكن

ليرسم للوجوه ابتسامات

و تكشيرات

لينطقها كلمات

ليفّوح منها رائحة

ثم ينفخ فيها من روحه فيزول من زنزانته السكون المؤبد

فتصير الأيام شيئا مختلفا ولا يعود الإنتظار جنرال المكان...

كان يفتح صنبور الخيال على الوجوه كلما حاولت الرطوبة واللون الشاحب تجفيف الذاكرة

فتسود الحياة ويسير الزمن الراكد فلا يعود سكونا

ويتحول لحالة من الاستغراق

من الحلم

من الابتسام

فيصنع منها مشروع مقاومة...

كان الوقت يعلن عن نفسه بوجبات الطعام أو أوقات الصلوات

و عندما تعلن الوجبة الثالثة أفول النهار

يضطرب الخيال ويتقلص الزمن يوما

ويعود إلى الأمكنة البعيدة التي كان فيها...

وعندما تختلط الأصوات

والشتائم بالغناء والصراخ بالبكاء يعلن عن نفسه النهار فيتمدد الزمن...

هناك ,في منتصف الزمن,شارف حد الجنون أو حد الإنهيار أو حد التهور...

عندما كان الجلاد يطل من نافذة زنزانته, يتكور كجرذ في إحدى الزوايا ويحدّق إليه

يرتعد الجلاد فزعا من ذاكرته تحفظ صورته..

كيف يخشى سجان سجينه وأقدامه مدججة بالسلاسل؟؟

يرتعب الجلاد من النظرات الجذلى..

يرعبه الوجه الأليف المتورد الوجنات

ترعبه ذاكرته..

يسمع السجين نبض السجان قرع طبول في أذنيه

لقد هزمته نظراته

ابتسامته

وسحقته ذاكرته...

كيف لهذا الجرذ أن يحافظ على الحياة فيه وقد أودعناه مقبرة؟؟

لقد أشرع حبه بوجه القتل

وابتسامته بوجه القبح

وذاكرته بوجه الظلام فأشرق شمسا تحت الأرض...

منذ القبلة الأولى لأمه على جبينه تعلم أن الحب يهزم كل الأحقاد...

منذ الصرخة الأولى

والنظرة الأولى

أدرك أهمية الذاكرة....

بالذاكرة وحدها سيحمل الصور التي هاجمته لكي لا تهرب في عاصفة المنفى...

هناك,في العالم السفلي, تندر الحياة إلى حد قملة في الرأس أو ذبابة أو نملة أو فراشة, وأحيانا دودة..

عندما كان يحل أحدها عليه ضيفا يتعذر عليه أن ينام من توتر الفرح..

كانت تنتابه رغبة للغناء..

رغبة جامحة للرقص على إيقاع طنينها أو دبيبها...

حتى قطرات الماء المنحدرة من حنفية الماء تتحول في صمت الزنزانة أغنية...

تتداوله رغبة للرقص

للغناء

للبكاء

للإصغاء

فيمر الوقت

ويتحرك الخيال وتشتعل الذاكرة..

عندما كان الليل يسدل على المكان هذيانه

ويسود الصمت المقبرة ....يدرك أن الحياة نزوة

وأنها اختبار لانفجار الكراهية

يسعى الجميع حتى الهذيان إلى الوصمة ذاتها...

يدرك أنه في مواجهة الزنزانة تحترق الذاكرة ويتلبد الخيال

يتردد في صدره خوف: ما أبشع أن تموت الذاكرة محترقة...

كان كلما اختنق الخيال لديه تأتيه أمه

ترفعه وتجلسه في حرجها,تضع راحتيها على جبينه,تمسح دماءه وترجوه ألا ينسى...

فيلجأ للصمت فيصير الصمت دويا ...

أماه, يا أماه, إن للذاكرة أسنان حادة..

أماه, يا أماه, إن للذاكرة المتقدة في العالم السفلي مخاطر

وأسرّ لها أنه يخشى إن رؤوه بها متلبسا يقتادوه للمحرقة

فيعترف بكل الأسماء والمعلومات المتقدة فيها فيصير للذاكرة أنيابا فتمزق روحه

وتصير له عدوا

ورجاها أن لا تتردد إليه كثيرا حتى تخبو الذاكرة...

تصمت أمه

تمسد يدها الحانية جبينه فتعم جسده الرعشة...

يسمع صدى صوتها في ذاكرته يردد:(أنا أنتظرك يمّا وستأتي إلي, كن رجلا يمّا, واعلم أن موت الرجال عندنا تغني له الصبايا والنساء تزغرد,ويطأطيء الرجال له الرؤوس, ويتذكره الصغار لآخر أيام عمرهم,وسألقاك يمّا وسط الغناء والزغاريد,وما أقوى أن تكون ذكرى في قلوبهم يمّا)....

فتتقد الذاكرة

ويسود اللون اللازوردي الزاهي

وحين يجيء الجلادون تنهض الذاكرة, تتحداهم , تزرع الخوف فيهم....

كانوا يضربون ذاكرته لكي تتقيأ بما يبغون

يصيح صوت أمه من الذاكرة : إما حياة تسر الصديق, وإما ممات يكيد العدى....

حينما تقيأه السجن للشمس ثانية كانت مفرداته قد ازدادت

فأدرك أن تجربة الإعتقال أضاءت ذاكرته

وما عاد يحتاج لمن يؤرخه ...

تلقفه المنفى فاختلطت حدود الوطن فيه ملاحقة

سجنا

منفى

وتحول اسمه من ملاحق

إلى سجين

إلى لاجيء...

في المنفى, أسر له صديق احترف المنفى:(يمكنك أن تصنع الآن قصصا وشعرا جميلا من ذاكرتك الحزنى)

وذكّره أن روائع ونّوس وعدوان ومنيف كانت في ظل الحزن, وسرد له مثلا رتلا من الشعراء: السياب ودرويش والنوّاب, وذكّره إن كان لم يسمع بالشاعر الوعل رياض الحسين و بروائع بتهوفن في مرحلة الطرش

ثم أردف : من عمق الحزن تولد الروعة....

والسعداء يا رفيقي؟؟

ألا ينتج السعداء شعرا و موسيقى ؟؟

ألا يؤلفون قصصا أو ينتجون روعة؟؟

هل حقا أن السعداء ينامون ملء أشداقهم فلا ينتجون سوى البلاهة؟؟

إذا: هي سعادة ثور يساق إلى مسلخ قد سلبوا منه ذاكرته وخياله...

ما أتعس أن يموت المرء سعيدا في بلادنا ....



#محمود_جلبوط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من ذاكرة معتقل سابق 21
- زمن العولمة........زمن الكوليرا
- رسالة إلى صديق..
- حول مصافحة الأسد الابن مع رئيس الكيان الصهيوني
- قصة قصيرة - شعور الغربة والوحدة
- حوارية
- قصة قصيرة
- سفر التغريبة في ظلال الوجه الذي لم تكتمل ملامحه بعد
- المرأة في سورية والإعتقال والقهر السياسي
- رأي حول خطاب الرئيس السوري أمام ما يسمى مجلس الشعب
- رسالة تضامن مع المتحدث الرسمي لحزب الحداثة والديموقراطية لسو ...
- معلمتي الصغيرة ...دعاء الفلسطينية
- كابوس......
- قصة قصيرة جدا.......
- من ذاكرة معتقل سابق20
- يا يا يا سيزيف
- قصة قصيرة جدا..........
- قصيدة نثرية........ حبيبتي الصغيرة
- قصة قصيرة جدا.............عهر
- من ذاكرة معتقل سابق 19


المزيد.....




- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود جلبوط - شعر....وبالذاكرة نقاوم