أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - عبد الحسين شعبان - العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!















المزيد.....



العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 4147 - 2013 / 7 / 8 - 19:52
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


تمهيد
يقول هيغل في تفسير بحث الإنسان عن الحقيقة: " ... وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الإنسان ونشاطه ما بقي فيه عرق ينبض وروح تشعر..." فما بالك حين تبحث الضحية عن الحقيقة؟ لعل ذلك يختزل في الكثير من ثناياه فكرة العدالة الانتقالية ومجال اختصاصها ونطاق عملها.
ويعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم التي ما زالت غامضة أو ملتبسة خصوصاً لما يشوبه من إبهام فيما يتعلق في الجزء الثاني من المصطلح أي "الانتقالية". فهل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية المرتبطة بأحكام القضاء واللجوء إلى المحاكم بأنواعها ودرجاتها؟
وإذا كانت فكرة العدالة قيمة مطلقة ولا يمكن طمسها أو التنكّر لها أو حتى تأجيلها تحت أي سبب كان أو ذريعة أو حجة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق وإعادته إلى أصحابه وفي كشف الحقيقة وفي جبر الضرر وتعويض الضحايا، خصوصاً لما له علاقة بالقضايا السياسية والمدنية العامة.
لكن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح أو حرب أهلية إلى حالة السلم والانتقال الديمقراطي، أو من حالة انهيار النظام القانوني إلى إعادة بنائه ترافقاً مع إعادة بناء الدولة أو الانتقال من حكم تسلّطي دكتاتوري إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي، أي الانتقال من حكم منغلق بانسداد آفاق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح وإقرار بالتعددية، وهناك حالة أخرى وهي فترة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة كيانية مستقلة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الاجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة وخصوصاً ذات الأبعاد الجماعية.
قد يتبادر إلى الذهن أن اختيار طريق العدالة الانتقالية يتناقض مع طريق العدالة الجنائية سواءً على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، في حين أن اختيار الطريق الأول لا يعني استبعاد الطريق الثاني، وخصوصاً بالنسبة للضحايا، ومسألة إفلات المرتكبين من العقاب!!
ولكن مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والإنسانية، أخذ يتبلور وإنْ كان ببطئ في العديد من التجارب الدولية وفي العديد من المناطق في العالم، ولاسيما في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخصّ ضحايا النازية، وانْ كان قد شابه شيء من التسييس، وخصوصاً بعد تقسيم ألمانيا من جانب دول الحلفاء، كما اتخذ بُعداً جديداً في أمريكا اللاتينية وخاصة بعد ما حصل في تشيلي إثر الانقلاب العسكري في 11 أيلول (سبتمبر) 1973، الذي قاده الجنرال بينوشيه. ومنذ سبعينيات القرن العشرين وحتى الآن شهد العالم أكثر من 40 تجربة للعدالة الانتقالية من بين أهمها تجربة تشيلي والارجنتين والبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب افريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان، ويمكن اعتبار البرتغال وإسبانيا والدول الاشتراكية السابقة بأنها شهدت نوعاً من أنواع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، كما يمكن اعتبار تجربة لبنان ما بعد الحرب الاهلية 1975-1989 وما بعد مؤتمر الطائف بأنها شهدت شكلاً من أشكال العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وانْ لم تنطبق عليه الشروط العامة للعدالة الانتقالية كاملة، وخصوصاً كشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والاصلاح المؤسسي، الاّ أن التجربة اللبنانية على الرغم من ما عليها الاّ أنها بحاجة إلى تأمل ودراسة، ولاسيما في ظروف لبنان الراهنة والمعارك السياسية "المتكررة"، لكي لا يعيد التاريخ نفسه!!
ولا بدّ من إدراج تجربة المغرب كأحد أهم التجارب العربية والدولية في امكانية الانتقال الديمقراطي السلمي من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء ( الوزير الأول) وفتح ملفات الاختفاء القسري والتعذيب وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات .
أولاً: العدالة الانتقالية في الأدب الحقوقي والسياسي
منذ نحو ثلاثة عقود من الزمان بدأت فكرة العدالة الانتقالية تدخل الأدب الحقوقي والسياسي الحقوقي على المستوى العربي، ابتداءً من المغرب ومروراً بمصر ووصولاً إلى دول المشرق العربي، والأمر له علاقة بانتشار الثقافة الديمقراطية بشكل عام والثقافة الحقوقية بشكل خاص، لاسيما ارتباط ذلك بانبثاق العديد من مؤسسات المجتمع المدني ونشاطها وفاعليتها، وخصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وموجة التغيير التي اجتاحت أوروبا الشرقية وقادت إلى تحوّلات ديمقراطية أنهت الأنظمة الشمولية وفتحت الباب على مصراعيه لإشاعة الحريات وتعزيز دور المجتمع المدني والاعلاء من شأن الفرد وتقليص توجه الدولة التدخل بالشؤون الاقتصادية وغيرها من التوجهات الانفتاحية التي انتقلت إلى العديد من دول امريكا اللاتينية وبعض بلدان آسيا وأفريقيا، حيث اعتبرت الديمقراطية واحترام حقوق الانسان القيمة العليا، التي يقاس بموجبها تقدم أي مجتمعن وهو الأمر الذي يفترض علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم على أساس اختيار المحكومين للحكام بشكل دوري وفصل السلطات وتأكيد استقلال القضاء وإعمال مبدأ سيادة القانون ومبادئ المساواة والمواطنة.
وإذا كان مثل هذا التوجّه يرتكز على قواعد عامة مشتركة تمثل المشترك الانساني، فإن لكل بلد خصوصيته، ولا تشبه عملية انتقال ديمقراطي غيرها من العمليات نظراً لاختلاف التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتاريخي، على الرغم من المشتركات بين الأمم والشعوب.
ولعل هذه المسألة تنطبق إلى حدود كبيرة على مسألة العدالة الانتقالية المطروحة اليوم بشدة بعد انتفاضات الربيع العربي الناجحة منها أو تلك التي تنتظر إجراء تغييرات من شأنها أن تحتاج إلى الإفادة من المبادئ العامة للعدالة الانتقالية، على الرغم من أن لكل تجربة عربية نكهتها الخاصة ومذاقها المختلف، وذلك بحكم التطور التاريخي واصطفافات القوى والطبقات الاجتماعية والدينية والأثنية، وتنوّع الفاعليات والأنشطة السياسية والفكرية، فضلاً عن تراكم العديد من المشكلات .
وإذا كان هدف هذا البحث يتلخص في تسليط الضوء على تجارب دولية لمقاربتها من زاويتها الفكرية والمبادئ العامة وظروف التطبيق، فإن الغرض يتركز على الإفادة من النجاحات التي حققتها، وبالقدر نفسه التوقف عن أخطائها وثغراتها وعيوبها بهدف تلاشيها وعدم الوقوع فيها، ذلك أن أي عملية تقليد أو تكرار لنموذج ما دون الأخذ بنظر الاعتبار خصوصية كل تجربة سيكون تشويهاً للنموذج الأول، وإكراهاً للنموذج الثاني، فللأول سياقاته وظروفه، الناجحة والفاشلة، وللثاني أوضاعه الخاصة وتركيباته المختلفة، ولا يمكن زرع بذرة في بيئة غير ملائمة، مما سيؤدي إلى عدم نموها، ولو تمت فسيكون نموّها لأجل قصير، ومن بعد ذلك تذوي وتموت. وكلا الحالين ينذران بالمخاطر، مما يؤدي إلى ضياع الزمن والجهد والموارد دون طائل أو جدوى تذكر .
لكن الحاجة إلى تجارب دولية تبقى مهمة وقائمة، بهدف استلهام الدروس والعِبَر والإفادة منهما بشفافية وانفتاح، وهذه مسألة ضرورية، لتحصين التجارب الخاصة وجعلها بعيدة عن التقوقع والانغلاق من جهة، وفي الوقت نفسه ملاحظة التمايز بين التجارب بحيث لا تقود التجربة العالمية إلى استنساخ مشوه أو تقليد أعمى، الأمر الذي يحتاج إلى معرفة ودراية بظروف كل بلد لانجاز مشروع عقد جديد لتنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم، تلك التي يمكن أن يندرج فيها مبادئ وقواعد ذات طابع قيمي، حيث تتحول إلى مبادئ دستورية عليا، بما فيها ما ينطبق على العدالة الانتقالية لأن ذلك يمس جوهره التحول الديمقراطي ومحتواه اللاحق.
وبقدر احترام الخصوصيات والتمسك بها، فالأمر يحتاج إلى الاطلاع على التجارب ودراستها، لاستكمال صورة التغيير على المستوى الكوني والبحث في المشترك الانساني.

ثانياً: في معنى العدالة الانتقالية
لعل أهم وأخطر ما يواجه الثورات العربية المنتصرة اليوم، والتي ستليها فيما بعد هو موضوع العدالة الانتقالية وكيف سيتم التعامل مع الماضي، وهو السؤال الكبير الذي واجهته التجارب التي سبقتها، وخلال توقفنا لدراسة تجارب بلدان أوروبا الشرقية يمكن الإشارة إلى نموذجين أساسيين: الأول الذي دعا إلى الاستمرارية القانونية وهو الذي مثلته تجربتي بولونيا وهنغاريا، خصوصاً وإن التغيير فيها كان سلساً وسلمياً وتواصلياً وتدرجياً. أما الثاني فقد عكسته تجربتي ألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا، فقد كان التغيير ثورياً ولذلك ارتفعت دعوات القطيعة مع الماضي واستخدام العدل العقابي والتاريخي وسيلة لمعالجة جرائم النظام السابق، وإنْ كانت الثورة في تشيكوسلوفاكيا بدت "ألمانية" الملامح بالنزول إلى الشوارع والساحات، لكنها اكتسبت سمات بولونية وهنغارية عشية التغيير، لاسيما بقبول مبدأ التفاوض والانتقال السلمي للسلطة، ولعل هذا الأمر يعود إلى أن جزءًا من معسكر النظام كان متفهماً ومرناً وبدأ بعضه ينحاز إلى صالح الثورة المخملية.
أياً كانت الأسباب فقد واجهت هذه البلدان وبلدان أخرى موضوع العدالة الانتقالية وكيفية التعامل مع الماضي بالتشدّد أو بالمرونة لكن مع الحفاظ على قيم العدالة والتضامن الاجتماعي وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح النظام القانوني، وأولاً وقبل كل شيء كشف الحقيقة الكاملة والتمكّن من معرفة حجم الأضرار التي لحقت بالمجتمع والأفراد جراء سيلسة التسلط وسوء استخدام السلطة والنفوذ.
ولكن ماذا نعني بالعدالة الانتقالية؟ هل هي عدالة خاصة؟ أم عدالة للمرحلة الانتقالية تختلف عن القواعد العامة للعدالة؟ أم أنها شيء آخر؟
يمكن القول أن انهيار الأنظمة القانونية في بعض البلدان أو عدم صلاحيتها أو أهليتها لأسباب تتعلق بالحروب والنزاعات والثورات والصراعات المسلحة أو بالاحتلال يدفع إلى إيجاد شكل انتقالي جديد للعدالة وصولاً للدولة القانونية، عبر قواسم مشتركة فيما يتعلق بكشف الحقيقة وتعويض الضحايا وجبر الضرر والتأسيس لمستقبل مختلف عن الماضي، لاسيما بإصلاح أو بوضع أسس جديدة للنظام القانوني.
ومنذ منتصف القرن العشرين كانت الحروب والتمرّدات المسلحة والنزاعات العرقية والدينية والممارسات القمعية تسبب معاناة إنسانية هائلة تؤدي في الغالب إلى وفاة الملايين من الناس ومعظمهم من المدنيين. وقد اشتملت تلك الأحداث المروّعة إلى إبادة جماعية وأعمال تعذيب شنيعة واختفاء أشخاص قسرياً واغتصاب ومذابح ونزوح جماعي، وقد كان الافلات من العقاب يمارس على نحو مؤسسي يحمي مرتكبي هذه الجرائم.
وكان الرأي العام الدولي يزداد مطالبة عقب حدوث مثل تلك الانتهاكات لإيجاد نظام يستجيب لمتطلبات العدالة وصولاً للحقيقة بما يؤمن المصالحة أيضاً، لاسيما بعد المساءلة. وأحياناً كان يطلق على هذا النوع من العدالة مصطلح " عدالة ما بعد النزاعات" وعلى أساسه تم وضع مبادئ شيكاغو التي أعدّت لتحقيق عدالة ما بعد النزاعات وتلك لا تعني سوى ستراتيجيات مكافحة الافلات من العقاب أو " العدالة الانتقالية" وهي عملية متعدّدة الأوجه تتجاوز النهج القانوني الرسمي لمفهوم العدالة المعروف .
وقد عرف العالم في النصف الثاني من القرن الماضي تشكيل لجان خاصة تختص بالعدالة الانتقالية أطلق عليها لجان الحقيقة أو لجان الحقيقة والمصالحة أو الانصاف والمصالحة أو غير ذلك من المسميات وكانت الدول المبادرة لذلك هي أمريكا اللاتينية، وفيما بعد في أفريقيا، وهكذا يدخل في تاريخ الفكر السياسي والقانوني والثقافية الديمقراطية موضوع العدالة الانتقالية واللجان الخاصة، والبلد العربي الوحيد الذي أسس هيئة للعدالة الانتقالية هو المغرب بعد الاصلاحات التي شهدتها أواسط سنوات التسعينيات من القرن الماضي.
في تقرير للأمين العام السابق للأمم المتحدة يعرّف " العدالة الانتقالية" بأنها تشمل " كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفّهم وتجاوز تركة الماضي الواسعة النطاق بغية كفالته للمساءلة وإحقاق العدل وتحقيق المصالحة" وربط كوفي أنان ذلك باستراتيجيات شاملة بحيث تتضمن الاهتمام على نحو متكامل بالمحاكمات الفردية ووسائل جبر الضرر وتقصي الحقيقة والإصلاح المؤسسي أو أي شكل يدمج على نحو مدروس هذه العناصر على نحو ملائم .
ولعل الجهة المسؤولة عن موضوع العدالة الانتقالية هي مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وقد أشارت السيدة نافانيتيم بيلاي مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن مساعي العدالةالانتقالية يجب أن تقوم على حقوق الإنسان وأن تركّز بشكل متسق على حقوق واحتياجات الضحايا وأسرهم وعلى ضرورة إجراء حوار وطني، فالأشخاص الذين تضرروا من جرّاء أفعال القمع أو النزاع في الماضي يحتاجون إلى التعبير عن آرائهم بحرية يتسنى لبرنامج العدالة الانتقالية أن يراعي تجاربهم ويحدد احتياجاتهم واستحقاقاتهم .
أما مبادئ شيكاغو ما بعد النزاعات فقد حددها المشروع الذي أشرف عليه وأداره محمود شريف البسيوني وحرره دانيل روتنبرغ بالتعاون مع إيتيل هيجونيه ومايكل حنا، فتتلخص بسبعة مبادئ هي محاكمة المرتكبين واحترام الحق في الحقيقة والاعتراف بالوضع الخاص للضحايا، واعتماد سياسة التنحية (العزل) ودعم البرامج الرسمية والمبادرات الشعبية لتخليد ذكرى الضحايا، ودعم الإجراءات والوسائل التقليدية والأهلية والدينية في التعاطي مع الانتهاكات السابقة والمشاركة بالإصلاح المؤسسي لدعم سيادة القانون والحقوق الأساسية والحكم الرشيد .
أما أهم العناصر الأساسية لعدالة ما بعد النزاعات فهي ترتكز على الحقوق الإنسانية المشروعة والاعتماد على القانون الدولي الإنساني لمنع الافلات من العقاب، وذلك باعتماد المساءلة والمحاسبة على الارتكابات السابقة، وبالاستناد إلى مبادئ السلام والديمقراطية، وأخذ حقوق الضحايا بنظر الاعتبار لجبر الضرر والانصاف، وتصميم ستراتيجيات تستند إلى التطور الاجتماعي والثقافي والتاريخي السياسي المحلي، وتأكيد أن هذا البناء هو جزء من عملية معقدة ومتعددة الأوجه، تحتاج إلى رؤية واحترام طويل الأمد.
وتشمل الاستراتيجيات البينية: المحاكمات ولجان تقصّي الحقائق والفحص الدقيق والعقوبات والإجراءات الإدارية وتخليد الضحايا وإعادة تثقيف المجتمع بخطر انتهاكات حقوق الإنسان، وبناء الذاكرةالجماعية من خلال أرشيف وطني، وذلك كلّه لا بدّ أن يصب في الإصلاح المؤسسي القانوني والقضائي والأمني والإداري والسياسي وعلى جميع المستويات. ويمكن الاستفادة من التجارب الدولية على هذا الصعيد، لاسيما من خلال التعاون الدولي، سواء من جانب الدول أو المنظمات الدولية، ولا بدّ للستراتيجيات أن تكون شاملة وأن تبذل عناية خاصة للفئات الضعيفة مثل الأطفال والنساء والمجموعات الثقافية الدينية والعرقية وغيرها، كما لا بدّ لهذه الستراتيجية أن تحظى بتوافق وطني، ولا بدّ لها أيضاً من الالتزام التام بإقرار الأمن الداخلي وتحقيق بيئة آمنة وخالية نسبياً عن كل ما من شأنه يؤدي إلى عدم الإستقرار والتوتر والتهديدات والعنف.
وغالباً ما توضع فترة زمنية لتنفيذ الستراتيجيات الوطنية لعدالة ما بعد النزاعات، وصولاً للمصالحة الوطنية، من خلال المساءلة والشفافية على المستوى الفردي والمؤسسي، وعبر الاتصالات المباشرة والتشاور وإجراءات النقد والنقد الذاتي والاعتذار وغيرها.
أما جهة تنفيذ هذه المبادئ والأسس فهي المحاكم المحلية حيث الاختصاص القضائي والمحاكم الجنائية المختلطة (الدولية والمحلية) استناداً إلى القوانين المحلية والقوانين الدولية، خصوصاً إذا عجز القضاء والقانون الداخلي عن تأمين العدالة، فيمكن الاستفادة والتعاون في الإطار الدولي لتشكيل مختلطة. أما إذا كان القانون والقضاء الداخلي منهاراً أو غير قادر أو راغب على مقاضاة المتهمين بارتكاب جرائم تابعة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الانساني، فحينئذ يتم اللجوء إلى المحاكم الدولية.
وتتطلب العدالة الانتقالية إجراء المحاكمات لتأمين معايير عالية من الاستقلالية والكفاءة، وذلك للتأكد أولاً وعبر التحقيق عن صحة الادعاءات لوضع ستراتيجية مناسبة باحترام الإجراءات القانونية، وحظر المحاكمات المتعددة للجريمة ذاتها، فلا يجوز محاكمة متهم أكثر من مرّة على جريمة واحدة، كما يتطلب الأمر حماية الشهود وحماية الموظفين والإجراءات وتوعية الجمهور. فالزعم بإطاعة الأوامر غير مقبول كما أن الجرائم لا تسقط بالتقادم بخصوص المرتكبين إزاء جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب الخطيرة والجرائم ضد الإنسانية ولا يتمتع رئيس الدولة بأية حصانة ويحظر اللجوء السياسي لحماية الجناة، مع تأكيد حقوق المدعى عليهم، ولا عقوبة بأثر رجعي وفي حالة التعرض للسجب لا بدّ من حماية حقوق السجناء.
لقد تشكّلت العديد من لجان الحقيقة والمصالحة ويمكن الإشارة إليها حسب تواريخ تشكيلها وما أسست له في هذا المجال، ففي بوليفيا تأسست عام 1982 الهيئة الوطنية للتحريات حول الاختفاءات، أما الارجنتين فقد أسست الهيئة الوطنية حول اختفاء الأشخاص العام 1983 ولعبت دوراً مهماً في ميدان العدالة الانتقالية وتأسست في الفيليبين عام 1986 الهيئة الرئاسية حول حقوق الأشخاص وتبعتها تشيلي 1990-1991 تشكيل هيئتين الأولى عن الحقيقة والمصالحة والثانية عن جبر الضرر والمصالحة، وكانت السلفادور في العام 1991 قد أسست لجنة تقصير الحقائق وغواتيمالا عام 1994 بشأن انتهاكات حقوق الإنسان وبيرو العام 2001 والباراغوي العام 2003 (هيئة الحقيقة والعدالة).
وفي أفريقيا كانت هناك تجربة رواندا 1990 وجنوب أفريقيا 1995 (مفوضية الحقيقة والمصالحة) وكذلك سيراليون العام 2000. أما أحداث تيمور الشرقية فقد دفعتها إلى تأسيس هيئة التلاقي والحقيقة والمصالحة العام 2002 وفي غانا تم تشكيل مفوضية المصالحة الوطنية العام 2002 وفي صربيا انشأت في العام 2004 هيئة الحقيقة والمصالحة، وكانت المغرب في العام 2004 قد توصلت إلى تشكيل هيئة الانصاف والمصالحة ترأسها الصديق إدريس بن زكري الذي كان سجيناً لمدة 17 عاماً ، ثم أطلق سراحه، وكان عمله ينصب على كشف الحقيقة والانصاف بروح من التسامح.
جدير بالذكر أن التجربة المغربية للعدالة الانتقالية واجهتها ثلاثة تحديات كبرى، أولها أنها تستمر وتتواصل بمبادرة من ذات النظام وبوجود ذات الاجهزة التي قامت بالارتكابات. وثانيهما أن سقفها لا يصل إلى المؤسسة الملكية التي قامت هي بالمبادرة، وبالتالي فقد ظلّت خارج دائرة المساءلة، أي أنها استبعدت منها سلفاً، الصعوبة الثالثة هو طول الفترة الزمنية التي شملتها.
لقد كانت أولى شرارات التضامن الأممي مع الضحايا في تشيلي عام 1975 عندما أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة وجود ممارسات من التعذيب وسوء المعاملة والاحتجاز التعسفي، وهو الأمر الذي شغل قطاعات قانونية وحقوقية، ولاسيما من المجتمع المدني للتفكير بتطوير المفهوم الذي اتخذ مصطلح العدالة الانتقالية التي تعني كما يدلّ عليها إسمها أنها غير دائما بل هي مؤقتة وتنشأ في غمار عملية تحوّل وانتقال، أما من الحرب إلى السلم أو من حكم تسلطي إلى حكم ديمقراطي أو عقب نزاعات مسلحة دولية أو إقليمية أو محلية، وتنصب اهتماماتها على التعامل مع الماضي، لاسيما الإرتكابات وكفالة احترام حقوق الإنسان وهو ما يشير اليه الخبيران مارك فريمان وبريسيلاب هاينر من المركز الدولي للعدالة الانتقالية، حيث تساعد على إثبات الحقيقة ومحاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان وتوفير منبر للضحايا أو ذويهم والتحفيز على النقاش العام والتوصية بالتعويض والاصلاح القانوني والمؤسسي وتعزيز المصالحة الاجتماعية والمساعدة في تعزيز التحول الديمقراطي .
ولعل هذا ما ذهب اليه الأمين العام للأمم المتحدة عند معالجته سياقات " مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع" بتأكيد ترابط العدالة والسلام والديمقراطية، بما فيها لمعالجة تركة الماضي وكفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وهي تشمل إجراءات قضائية وغير قضائية ومن حيث مرجعية نظام العدالة الانتقالية واللجان المنبثقة لتحقيق المصالحة والعدالة فإنها تقوم على مرجعيات دولية أساسها القانون الدولي لحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي الإنساني، لاسيما اتفاقيات جنيف الأربعة الموقعة في 12 آب (أغسطس) 1949 وملحقيها لعام 1977 وأحكام وقرارات المحاكم الإقليمية ونتائج وخلاصات لجان الحقيقة والمصالحة والقوانين الوطنية غير المتعارضة مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وغيرها، ولذلك فإن السير في طريقها سيعكس على الضحايا إيجاباً من حيث رد الاعتبار والكرامة الإنسانية وكشف الحقيقة وجبر الضرر وكذلك واقع النهوض بحقوق الإنسان وتثقيف المجتمع بحجم وخطورة الانتهاكات المستترة أو المسكوت عنها ونشر الوعي الديمقراطي وتعزيز وتقوية المجتمع المدني ووضع أسس دولة القانون والتوجه الديمقراطي .

ثالثاً: المساءلة والحقيقة في تجارب العدالة الانتقالية!
يعتبر موضوع الإفلات من العقاب "المساءلة الجنائية" لمرتكبي جرائم الاختفاء القسري أو التعذيب أو بقية انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة، إحدى القضايا العقدية في موضوع تجارب الانتقال الديمقراطي، خصوصاً تلك التي حدثت بانتهاء نزاعات سياسية مسلحة والعودة إلى الحكم المدني أو نزاعات سياسية صاحبها نشوء حالات عنف مسلح أو تطورات من داخل السلطة السياسية بانهاء حكم تسلطي أو سلطوي والتوجه إلى حكم مدني صوب الديمقراطية، ذلك أن هذا الخيار بما فيه من نبل إلاّ أنه ظلّ ملتبساً وخاصة إزاء المآسي التي تعرض لها الضحايا سواءً خلال النزاعات المسلحة والحروب الأهلية أو الحكم العسكري أو الأنظمة السلطوية .
وإذا أردنا العودة إلى القواعد المعيارية بالنسبة للقانون الدولي الإنساني أو القانون الدولي لحقوق الإنسان فإن مساءلة المرتكبين وتقديم الجناة إلى القضاء هو الذي يمكن اللجوء اليه، فهذه هي القاعدة العامة، لكن الوقائع وضعت بعض الدلالات بشأن الإفلات من المساءلة خصوصاً بتداخل السياسي بالقانوني أحياناً.
وإذا كان الفريق العامل الخاص بالاختفاء القسري قد وضع مسطرة فيها 10 شروط لحالات الاختفاء القسري ( العام 1993- الدورة الـ50 للجنة حقوق الإنسان) بهدف عدم الإفلات من العقاب، فإن عوائق وضغوط بالغة اعترضت تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية وهي شروط سياسية وقانونية، فعلى سبيل المثال في الارجنتين ظل موضوع الافلات من العقاب هاجساً قائماً على الرغم من انتقال السلطة إلى المدنيين وتشكيل الهيئة الوطنية حول اختفاء الاشخاص 1983.
وبررت الحكومة الأرجنتينية في ردّها على تقرير الفريق الخاص المعني بالاختفاء القسري العام 1993 (مداخلتها أمام لجنة حقوق الانسان-1993) بما يلي: " واتساقاً مع نظرية أن المذنب ينبغي محاكمته، كانت الضرورة تقتضي أن يوضع عدد كبير جداً في أقفاص الاتهام من الفاعلين المباشرين وغير المباشرين، ومن يلزم من أعوانهم وشركائهم والمتواطئين معهم ومساعديهم، وفي داخل هذه الفئات كان سيتعيّن تطبيق القانون على غالبية الضباط وضبّاط الصف في القوات المسلحة وقوات الأمن، بل والمجنّدين المشاركين في أعمال غير قانونية، وفضلاً عن ذلك فإن التحقيقات كانت ستكشف عن المدى الكامل لمسؤولية آلاف الموظفين المدنيين في الحكومة المركزية والسجون وادارة البلديات والمستشفيات وجميع المؤسسات الضالعة في أعمال القمع، فضلاً عن آلاف الشركاء المدنيين، ولو أمكنت تلبية هذا الطلب لأدّى ذلك إلى تفجير حالة من الفوضى".
لعل تجربة الأرجنتين من حيث شمولها واتساعها وخاصة في موضوع المرتكبين تقترب من تجارب البلدان الاشتراكية السابقة، وكذلك من التجربة العراقية في الماضي والحاضر، وإذا كانت مسؤولية الماضي الأساسية تقع على عاتق النظام السابق وأجهزته الأمنية والحزبية سواءً عمليات الاختفاء القسري والتعذيب أو التهجير أو القمع الجماعي، لاسيما بحق الكرد بشكل عام والكرد الفيلية بشكل خاص وكذلك خلال الحملات المعروفة باسم الأنفال فضلاً عن قصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي 16-17- آذار (مارس) العام 1988 خلال الحرب العراقية- الإيرانية وما بعدها أو خلال الانتفاضات الشعبية ولاسيما في جنوب ووسط العراق وفي كردستان وفي فترة الحصار الدولي، فإن الانتهاكات الجسيمة والصارخة لكامل منظومة حقوق الإنسان تقع على عاتق قوات الاحتلال أيضاً والحكومة العراقية ما بعد الاحتلال وقد كشفت أحداث سجن أبو غريب والسجون الأمريكية، إضافة إلى سجون وزارة الداخلية حجم الانتهاكات التي تتحملها بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، ولا يعفي ذلك الجماعات المسلحة والإرهابية من مسؤوليتها هي الاخرى لما يحصل من أعمال عنف وإرهاب دون احترام القوانين والأعراف الدولية.
لذلك لو أريد فعلا تقديم جميع المرتكبين وذيولهم إلى القضاء في السابق والحاضر لإندلعت فوضى عارمة ربما أكبر بكثير مما نشهده اليوم من ارهاصات حرب أهلية وتطهير مذهبي وعرقي وتهجير سكاني.
ولهذا فإن فريق العدالة الانتقالية عبر المصالحة الوطنية هو السبيل الممكن لإيصال العراق وخصوصاً ما بعد إنسحاب القوات المحتلة إلى طريق الانتقال الديمقراطي بتحديد المسؤوليات وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإجراء إصلاح مؤسسي ضروري في الأجهزة الحكومية، إضافة إلى دور المجتمع المدني التنويري في نشر وتعميق الثقافة الديمقراطية والحقوقية، ولمنع عودة الماضي. أما التجربة الثانية فهي تجربة جنوب أفريقيا التي استبعدت خيار الملاحقة خصوصاً للفاعلين السياسيين الذين كانوا يتفاوضون حول الوضع الحساس للانتقال الديمقراطي استناداً إلى سلطة القانون واحترام حقوق الانسان.
لكن موضوع المساءلة يثير أسئلة متناقضة وحادة: فهل يمكن ملاحقة المرتكبين استناداً إلى قضاء محاكم نورنمبرغ لدولة مهزومة ارتباطاً مع أوضاع قد تؤدي إلى الانفجار وبالتالي تزيد الطين بلّة. ولعل تجربة البلدان الاشتراكية السابقة تقدم أكثر من نموذج بخصوص التواصل والاستمرارية القانونية أو القطيعة والفصل مع الماضي، وهو ما ستفرد له فقرة خاصة.
أما تشيلي فبعد مرور 10 سنوات على عودة الحكم المدني، فقد حدث تطور مفاجئ بإيداع بينوشيه رهن الاقامة الجبرية تمهيداً لمحاكمته بعد احتجازه في بريطانيا ومطالبة القضاء في إسبانيا بمحاكمته. وكان الجيش بقيادة بيوشيه قد أصدر قانوناً للعفو الذاتي، خلافاً لتجربة جنوب أفريقيا التي لم تقر مبدأ العفو وكذلك تجربة الارجنتين حين كان العفو آخر المسلسل.
لكن كشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات كان المرتكز للمصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي لاحقاً.
لقد شكل موضوع الكشف عن الحقيقة إحدى أهم التحديات الكبرى في تجارب الانتقال الديمقراطي بعد المساءلة الجنائية، ولعل الكشف عن الحقيقة يشكل احدى اختيارات صدقية رجال السياسة والقانون! ويمكن إدراج ثلاثة أصناف ومبررات للكشف عن الحقيقة.
الأول- رغبة الضحايا وعائلاتهم حين كانت الأسئلة تتواتر: لماذا تم كل ذلك؟ كيف حصل؟ من هو المسؤول؟ لماذا وقعت كل تلك الانتهاكات والتجاوزات؟ أين الحقيقة؟ أي أماكن الدفن؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المشروعة والإنسانية.
الثاني- الرغبة في عدم طمس الماضي، فالماضي أساس الحاضر والمستقبل ولا بدّ من توحيد وتوثيق الذاكرة، ولا بدّ أيضاً من معرفة تفاصيل ما حدث!! لكي لا ننسى !؟
الثالث- الرغبة في معرفة الحقيقة كاملة بكل عناصرها!؟ والسؤال: هل يمكن معرفة كل شيء؟ هل بإمكاننا إدراك ما حصل بتقادم السنين، وربما يرغب بعض صناع القرار مثل ذلك، مثلما يذهب البعض ممن أرادوا النسيان!، لكن تجارب العديد من البلدان حتى الآن لم تتوصل الاّ إلى نتائج محدودة.
لكن الحقيقة بذاتها ولذاتها تجلب قدراً من التطهّر الروحي الإنساني للفرد والمجتمع، وتشكّل عنصر ردع مستقبلي ضد الانتهاكات سواءً الإدلاء بشهادات أو روايات حتى وإن اختلطت معها أحداثاً اجتماعية أو سياسية أو قانونية، لكنها كإقرار حقوقي مهم لتشكيل مدلول قانوني يشحذ الذاكرة ويعيد الاعتبار إلى الضحايا ويسهم في تعزيز العدالة الانتقالية وبالتالي يوفر أساساً للمصالحة الوطنية وللانتقال الديمقراطي.

رابعاً: الطريق الوعر إلى الحرية: أوروبا الشرقية نموذجاً
إذا كانت عملية التغيير قد حصلت في بلدان وسط أوروبا الشرقية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، فإنها سلكت طريقين:
الأول- إجرائي وذلك حين بدأت الأسئلة تتزاحم: حول مشروع التغيير والهوية الجديدة، أي وفق أي المعايير التشريعية يمكن تأمين نموذج برغماتي (عملي) للمفاهيم المطروحة مثل: الديمقراطية والتعددية، واقتصاد السوق، وإرث الماضي. وبالمقابل فإن التشريع بقدر انطلاقه من الواقع فينبغي أن يتضمن القيم السياسية الرفيعة المتأصلة في الوجدان الإنساني مثل الكرامة والحرية وعدم التعرّض للتعذيب والاعتراف بالحقوق الإنسانية، لكي تكون أساساً في عملية تشكيل الإطار الدستوري الجديد والأنظمة التي تقوم عليه.
الثاني- معياري، يتعلق بالبحث في تشكيل الهوية الجديدة للمجتمع السياسي يكون نقيضاً للمجتمع السابق الذي انهار أو تراجع. ولهذا فإن كلا الإستراتجيتين تقومان على قيمتين مثاليتين، لكنهما مترابطتين واقعياً بشكل متكامل ووثيق
وبحكم التغيير في التوجّه الاقتصادي، خصوصاً بالانتقال من الملكية الاشتراكية (الاجتماعية) إلى مشاريع الخصخصة واقتصاد السوق، كان لا بدّ من توفّر معايير قانونية جديدة وأنظمة محددة تتيح الحرية الاقتصادية وتقلل من تدخّل الدولة وترفع الحواجز النفسية وغير ذلك، ليقوم عليها الاقتصاد الجديد الذي سينتقل من الاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد الليبرالي. وهكذا فقد كان الأمر يحتاج إلى المواءمة بين الاقتصاد والقانون، سواءً إزاء إجراءات الماضي بما فيها التأميمات وإعادة الممتلكات إلى أصحابها أو إزاء شكل النظام الاقتصادي الجديد، والإجراء الأول له علاقة بالتعويض، ناهيكم عن تصفية الحساب مع المرتكبين وإقامة نظام عدالة جديد، وكل ذلك احتاج إلى عملية انتقالية استمرت في بعض البلدان نحو من عشر سنوات أو أكثر، لكنها سارت باتجاه سالك على الرغم من العقبات والتحدّيات وحتى بعض الاخفاقات التي واجهتها.
والأمر له علاقة أيضاً بالعدالة العقابية، لاسيما وقد كانت هناك مطالبات للمساءلة من خلال "الأرشفة وتسجيل جميع ظواهر الظلم وعدم العدالة (اللاعدالة) المرتكبة من قبل النظام السياسي السابق، وكشفها أمام الواقع الشعبي المشكّل حديثاً وتنظيمها في أشكال تستفيد منها الأجيال القادمة " .
ولعل نظام العدالة الانتقالية الذي سنتحدث عنه في فقرة مستقلة ونفرد له حيّزاً مستقلاً كان مطروحاً على حركات التغيير في أوروبا الشرقية، انطلاقاً من تجارب مهمة في أمريكا اللاتينية، لاسيما الأرجنتين وتشيلي وغيرها، إضافة إلى ترافقه مع تجربة جنوب أفريقيا .
عكست تجربة أوروبا الشرقية اتجاهين متعارضين: أحدهما يميل إلى طي صفحة الماضي بعد تطبيق إجراءات العدالة العقابية على عدد محدود من القيادات المسؤولة عن الارتكابات، بالترافق مع كشف الحقيقة والسعي لإحقاق العدالة وتعويض الضحايا وجبر الضرر، والتركيز على إصلاح الأنظمة القانونية وإلغاء كل ما من شأنه إعادة عهد الدكتاتورية والاستبداد. أما الاتجاه الثاني فقد كان يميل إلى اعتماد الانتقام وتصفية الحسابات الانتقامية مع الماضي بما فيه استخدام وسائل غير قانونية.
إن أي عملية تدقيق للماضي بالطبع إما ستؤدي إلى المواجهة معه ومع نتائجه، أو تشكيل رأي عام لتجاوزه باتجاه مستقبل جديد وذلك باستخدام العدالة الانتقالية استناداً إلى معايير العدالة الجنائية (العقابية)، خصوصاً بإيجاد شكل متوازن بين الارتكابات الماضية وبين طريقة العقاب عليها بشكل عادل، أي محاولة التقريب بين الماضي والمستقبل.
وإذا كانت تجربة جنوب أفريقيا، أو تجارب عدد من دول أمريكا اللاتينية قد وضعت اتفاقية سياسية بما يشبه الإجماع بين الأحزاب والقوى الرئيسية تقضي بعدم ملاحقة المرتكبين السابقين بما يحقق المصالح والتسامح، فإن تجربة أوروبا الشرقية طبقت سياسة جزائية – وإن كانت محدودة - إزاء الجرائم السياسية، لكن هذه السياسة، لاسيما بتدقيق العديد من الحالات الفردية، بدت معقدة وأحياناً غير ممكنة تقنيّاً، لاسيما وقد أبدى بعض القضاة وممثلي الدولة عدم رغبتهم بملاحقة جرائم الماضي
ولعل تجربتي بولونيا وهنغاريا تختلفان عن تجربة ألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا، فالتجربتان البولونية والهنغارية مرّتا بسلسلة متدرجة من التغييرات السياسية والدستورية "الانتقالية" (بين السلطة السابقة والمعارضة) لاسيما من خلال مناقشات وحوارات العام 1988 و1989، في حين أن الثقة كانت معدومة بين السلطة والمعارضة في التجربتين الألمانية الديمقراطية والتشيكوسلوفاكية وشهدت تغييرات دراماتيكية راديكالية، لم يكن فيها مكان للثقة بين السلطة السابقة ومركز التغيير، الأمر الذي جعل الاستمرارية القانونية غير ممكنة، كما دفع التشريعات الجديدة للبحث في الأثر الرجعي للقوانين العقابية، لتحقيق العدالة، ولعل التبرير المقدّم على هذا الصعيد يتعلق بإعادة الثقة السياسية والديناميكية الدافعة لعملية التحوّل، وإن كانت المرحلة التشيكية الأخيرة قد اقتربت من الواقعية السياسية، لاسيما بعد رضوخ النظام القديم واستعداده لتقديم تنازلات جوهرية لصالح المعارضة.
وهكذا كانت بولونيا وهنغاريا مع الاستمرارية القانونية وعدم الملاحقة ومنع التشريع ذو الأثر الرجعي، في حين كانت ألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا مع التغيير الثوري الراديكالي، من النظام الشيوعي إلى النظام الديمقراطي الليبرالي، ولكلا الفريقين تبريراته بشأن العدل المنشود .


1- رمزية جدار برلين !
كان الزعيم الالماني الشرقي إريش هونكير لا يتصور أن جدار برلين سينهدم في يوم قريب فقد تصوّر بقاءه 100 عامٍ كما قال، بل أن " الالمان الديمقراطيين " أسسوا دستورهم الجديد في السبعينيات على أن هناك أمتان ألمانيتان، بتطور مختلف ومتفاوت اجتماعياً- اقتصادياً، متبايناً ونظاماً سياسياً متعارضاً يفصل بينهما 40 عاماً ما بعد الحرب.
روّج بعض المنظرين القانونيين والباحثين الاجتماعيين على نحو احتفالي بوجود نظامين ومجتمعين وقواعد قيمية وسلوكية مختلفة بين ألمانيا الغربية وألمانيا الديمقراطية، ولذلك انطلقوا من وجود متغيّر ما تم تكريسه دستورياً وهو يقضي بوجود "أمتين" حتى وإن كانت لغتهما مشتركة وتاريخهما مشتركاً!
لم يكن ذلك الانهيار بخلد هونيكر في العام 1989 وهو يستعرض في عيد العمال العالمي (1 أيار/مايو) كتلاً بشرية متراصّة، كلّها تهتف له والنصر لحزبه وللاشتراكية الظافرة، في زهو لقدرات عسكرية ونجاحات اجتماعية وامكانات إدارية وتنظيمية، وبتباهٍ بحلف مع الاتحاد السوفييتي، لكن المجتمع الألماني الديمقراطي كان يخفي في الوقت نفسه هشاشة تراكيب اجتماعية وقيمية، ونقص فادح في الحريات، وتعطّل عملية التنمية وانحسار الثقة بين الحاكم وجمهوره. ولعل الجدار الذي قسّم برلين أو ألمانيا، بل أوروبا ظلّ شاخصاً، جامداً دون حراك، على الرغم من محاولات عبوره والهروب من هذا الجانب إلى ذلك، الأمر الذي أصبح ثمناً للحرية المفقودة.
كنت كلما أعبر من برلين الشرقية متجهاً إلى برلين الغربية، من محطة فريدريش شتراسه أو جك بوينت C. (Check point) القريبة من الكسندر بلاس، أستعيد وأستذكر ثمن الهروب، عندما تضيق فسح الحرية، وقد بنى الألمان الغربيون على الجانب الآخر، "متحفاً " صغيراً يعرض بالصور والشواهد والوسائل هروب ألمان شرقيين إلى ألمانيا الغربية معظمهم يقضي حتفه بجدار مكهرب، أو تكشف سيارته أو يطلق عليه الرصاص أو يلقى القبض عليه جرّاء وشاية أو غيرها ولذلك أطلق على جدار برلين "حاجز الموت".
لقد انهار الجدار قبل انهياره الفعلي في ضمائر وعقول وأفئدة الناس، وهذا ديدن كل الانظمة الاستبدادية، ابتدأ الأمر في بولونيا بنجاح نقابة "تضامن" بقيادة فاليسيا، ثم امتدّت الموجة إلى بودابست ووصلت إلى برلين، وفي طريقها كانت براغ تستعيد ربيعها المفقود. وقد احتفظت بذاكرتي بمشاعر متناقضة، يوم صادف وجودي في براغ، اندلاع الثورة المخملية، حين اصطفّت الجماهير وكأنها في عرس تريد الحرية والتعددية والحوار، وهو الأمر الذي تطوّر إلى أن طوى النظام الاشتراكي البيروقراطي صفحته المؤلمة، بعد وصول الأمور إلى طريق مسدود واختناقات لم يكن من السهل تجاوزها.
وعلى الرغم من أن الاشتراكية المطبّقة على جميع أخطائها ونواقصها وعيوبها، وأهمها تعارضها مع جوهرها الإنساني ومحتوها الاجتماعي العادل، وسلوكها سبيل الاستبداد والانفراد بالحكم، الاّ أنها بقياسات تلك الأيام حققت بعض النجاحات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، التي لا يزال الكثير من الناس يفتقدون إليها، لاسيما في مجالات التعليم والصحة والعمل وغيرها، لكن غياب الحريات وسيادة نمط استبدادي شمولي "توتاليتاري" وهيمنة أقلوية على الحكم ووصول التنمية إلى طريق مسدود، باستنفاذ أغراضها دفعت الأوضاع إلى تلك النتيجة التي لم يكن هناك فرار منها، وهي أقرب إلى استحقاق حين أصبحت "الآيديولوجيا" أقرب إلى الكابوس وأحد أسباب الاختناق، لاسيما بتطبيقاتها الاقتصادية البيروقراطية والسياسية التسلطية، وخاصة في منافسات وضغوط امبريالية كبيرة، في موضوع التسلح وحرب النجوم وتخصيص أكثر من تريليونين دولار أمريكي لها، وميزانيات ضخمة للعلوم والأغراض العسكرية، الأمر الذي لم يكن ممكناً مجاراته في ظروف سياسية واقتصادية معقّدة، وسباق تسلح لم يستطع الاتحاد السوفييتي الفوز فيه، على الرغم من محاولاته المتأخرة للانفتاح وما سمي بالبريسترويكا والغلاسنوست (إعادة البناء والشفافية)، ولكن بعد فوات الأوان.
أتذكّر أيضاً العام 1989 أن هنغاريا قررّت في خطوة غير مسبوقة دعوة الصحافيين والاعلاميين إلى حدث هام، لم يكن أحد يتصوّر ماذا ستقدم عليه؟ وإذا بها وتحت ضوء الكاميرات تلتقط الصور لإلغاء السياج الكهربائي الذي يفصلها عن النمسا، وأصبح الطريق سالكاً بين بودابست وفيينا، وهو الذي شجّع مئات الأشخاص من الهنغار والتشيك والألمان الشرقيين على العبور إلى النمسا يومياً، مثلما فعلوا أيام ربيع براغ الأول العام 1968.
كان إلغاء السياج المكهرب أول خطوة كبرى لتعويم النظام الاشتراكي البيروقراطي، فقد كانت القبضة الحديدية مستمرة وخانقة إزاء اختراقات الحدود وطوال أربعة عقود أو ما يزيد على ذلك، واضعة شعوباً وأمماً ومجتمعات" خلف الستار الحديدي" الذي ظلّ قلعة كبرى لا يمكن اقتحامها من الخارج على حد تعبير سارتر، لكنها كانت هشّةً وخاويةً من الداخل، وهو الأمر الذي شهدناه بانهيار السياج المكهرب وتظاهرات العمال في بولونيا وصعود المعارضة في هنغاريا وفيما بعد انهيار جدار برلين وإرغام حركة الاحتجاج التشيكوسلوفاكية الحكومة على الإعتراف بها وتقديم التنازلات إليها.
وخلال بضعة أشهر شهدت برلين والمانيا الديمقراطية هروباً شبه جماعي إلى النمسا عبر المجر حيث بلغت أعداد الفارين أكثر من 50 ألف وهو ما أطلقت عليه جريدة نيوزويك الامريكية في حينها " الهروب الكبير"، ولعل هذا كان أحد أسباب انهيار جدار برلين وتمهيداً له.
كان إلغاء السياج المكهرب بين النمسا وهنغاريا الصفحة الأكثر وضوحاً على أن ثمت وضعاً دولياً جديداً أخذ بالتشكّل، وأن الإنقسام الذي أحدثته نتائج الحرب العالمية الثانية بدأ ينهار، وكان ذلك يعني تفكيك الستار الحديدي الذي ظلّت أوروبا الشرقية تحتجب خلفه نحو أربعة عقود من الزمان وتوّج ذلك بهدم جدار برلين، وحينها كرّت المسبحة دولة بعد أخرى، مما أدى إلى انحلال النظام الاشتراكي العالمي، لاسيما بانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكيكه العام 1991، وهو التفكيك الذي شهدته بعض دول أوروبا الشرقية، حيث تفككت يوغسلافيا إلى دويلات وعاشت حروباً واقتتالاً وإبادات، لاسيما بصعود نزعات قومية وإثنية ودينية عبّرت فيها هويات فرعية، بالضد من الهوية الجامعة، خصوصاً لشعورها بالاجحاف والكبت، وانفصلت تشيكوسلوفاكيا إلى التشيك والسلوفاك، وعلى الرغم من أن انقسامها كان هو الآخر مخملياً، في حين اتجهت الأمة الألمانية نحن وحدتها، ولم ينفع معها دساتير أو قيود أو حدود أو جدار، فإرادة الوحدة الالمانية كانت هي الأقوى.
لم يعد جدار برلين سوى ذكرى مؤلمة- ارداوية لطريقة تفكير على صعيد الموديل الاشتراكي الداخلي، أو على صعيد العلاقات الدولية وعلى الرغم من فشل هذا الموديل وما تركته من تداعيات، لكن طيف الاشتراكية ظلّ وسيبقى يداعب عيون الحالمين في نومهم وفي يقظتهم لعالم أكثر عدلاً وإنسانية حيث يلغى استغلال الإنسان للإنسان، ولعل أزمة الرأسمالية العالمية الحالية وانهياراتها الاقتصادية والمالية المدوّية. تعني فيما تعنيه أن سرّ فشلها هو في نجاحها، الأمر الذي لا يجعلها بمأمن من الأزمات الدورية، وحتى لو تمكّنت من تجاوزها وتجديد قدرتها على الاستمرارية، فإنها ستواجه مشكلات جديدة طالما بقي الاستغلال والقهر، وهو ما كشفته مسيرتها وسيرتها لنحو قرنين من الزمان فنقيض الرأسمالية كامن في بطنها .
2- التجربة البولونية وعام الحسم 1989
يعتبر العام 1989 العام السحري لأوروبا الشرقية أو كما وصفة بيتر بلاجيك " عام المعجزات" وهو وصف أطلقه عالم التاريخ ثيموتي غارثون أش، على العام 1989 حين انهارت الامبراطورية الاشتراكية السوفييتية مثلما يعتبر العام 2011 بالنسبة للعرب هو العام السحري، حيث بدأت تنضج وتتكامل عوامل التغيير وباشرت فيه تتفتح أولى أزهار الربيع العربي. لقد انفجرت الأحداث في بولونيا بعد تراكم طويل الأمد، لاسيما بعد نشوء حركة تضامن"Solidarity" التي قادها ليخ فاليسيا العامل النقابي الذي تزعّم حركة التغيير في جمهورية بولونيا، ولعب دوراً مهماً بعد التغيير، وقد بدأ الربيع الأوروبي من بولونيا بدأ مثلما بدأ الربيع من تونس.
في العام 1988 أسست نقابة تضامن مجلس مدني مؤلف من 119 عضواً لتمثيل المعارضة، لاسيما بعد أن اعترفت السلطة بالنقابة كشريك سياسي، لكونها تمثّل المعارضة المتصاعدة، وكانت السلطة البولونية بقيادة حزب العمال البولوني الموحد تعتقد أن بإمكانها الطعن بصدقية نقابة تضامن، التي دخلت في عملية معقدة وطويلة من المفاوضات مع السلطة حول الطاولة المستديرة.
كانت الشعارات بسيطة وجامعة، كما هي شعارات تونس أو مصر، والانتفاضات العربية الأخرى، فنقابة تضامن طرحت منذ أعوام 1980-1981 مسألة إلغاء الرقابة والمطالبة بحرية الصحافة والسماح للمعارضة بالعمل في وسائل الإعلام وإزالة عملية احتكار السلطة والتنظيم وإقرار حرية التجمّع، وإدارة محلية مستقلة وإجراء إصلاح اقتصادي.
سعت النقابة إلى التصرف كمجموعة ضغط لإجبار النظام على الاستجابة لمطالبها، وخلال الطاولة المستديرة ركّزت على ثلاث قضايا هي: السياسة الاقتصادية والاجتماعية، والاصلاحات السياسية، والتوافق الاجتماعي الاقتصادي. وفي 5 نيسان (ابريل) 1989 تم الاتفاق على التغيير التدريجي وإحلال الديمقراطية وتقرر إجراء انتخابات انتقالية حرة، حيث تم تحديد عدد المقاعد التي يمكن الفوز بها بما لا يزيد عن نسبة 35 % من مقاعد البرلمان البولوني (مجلس النواب)، أما في مجلس الشيوخ فقد كان الأمر مفتوحاً، ولم ترغب النقابة، كما أعلنت، استلام السلطة بسبب الأزمة السياسية والاقتصادية وتدخل موسكو، وفضّلت العمل كمعارضة برلمانية.
عندما حصلت الانتخابات في 4 و18 حزيران (يونيو) 1989 تلقى الحزب الحاكم ضربة أليمة عندما تمكّنت النقابة بزعامة ليخ فاليسيا من احتلال جميع المقاعد التي كانت قد أجلتها للانتخابات الحرة. فمن أصل 560 مقعداً حصلت على 260 (هي كل ما كان لها الحق للفوز به) أما في مجلس الشيوخ المفتوح فقد فازت بـ 99 مقعداً من أصل 100. وكان هذا الانتصار غير المنتظر والمفاجئ قد دفع النقابة إلى تغيير ستراتيجيتها، لتعلن مطالبتها برئاسة الوزراء في حال استلم الحزب الحاكم رئاسة الجمهورية.
وفي 9 آب (أغسطس) من العام نفسه أوكل رئيس الجمهورية فويتييخ ياروزلسكي مهمة تشكيل الحكومة الجديدة إلى تادوش مازوفيستكي (الناشط الكاثوليكي) وبدأت الحكومة التي ضمّت الحكومة نصف أعضائها من نقابة تضامن، عملها الرسمي في 12 أيلول (سبتمبر) 1989.
يذهب التصور البولوني القانوني إزاء فكرة العدالة العقابية في منظورها للدولة القانونية إلى أن منع بالمفعول الرجعي يشكّل جزءًا هاماً من مبدأ الدولة القانونية كما تم تحديدها في الإضافة الدستورية على الفقرة الأولى من دستور بولونيا القديم، كما ورد في قرار المحكمة الدستورية في آب (أغسطس) 1990.
وبذلك تكون المحكمة الدستورية البولونية قد صاغت شكلاً من الاستمرارية القانونية بين النظامين القديم والجديد، دون أية قطيعة بينهما، بل عمدت إلى التواصل من خلال إجراء التنقيح والتغيير على مراحل تدريجية، الاّ أن هذا التوجه تم إضعافه لاحقاً بسبب النتائج غير المرضية فيما يتعلق بقضايا ملاحقة الجرائم الستالينية المرتكبة في الفترة بين 1944- 1956 .
وقد قررت المحكمة وعلى نحو مقنن اللجوء إلى تعريف ما المقصود "بالجرائم" لكي يتم استخدام المفعول الرجعي بشكل مقيّد، لأن أي انزياح عن مبدأ منع المفعول القانوني الرجعي باتجاه تطبيق مبدأ العدالة، يتطلّب وضع تعريف دقيق كما أشرنا، بالرجوع إلى الماضي أي أنها لم تبعد تماماً المفعول الرجعي للنظام القانوني المعمول به آنفاً، الاّ أنها اعتبرت ذلك أمراً استثنائياً، لا يمكن استخدامه إلاّ على نحو محدود جداً ولا يتناقض مع مبادئ العدالة، ويهزّ النسيج الاجتماعي مع اتخاذ تحوّطات لازمة لإنفاذ العدالة من جهة ووضع ضوابط لعدم عودة الاستبداد ثانية من جهة أخرى.
3- التجربة الهنغارية: فقه التواصل
تحرّكت الأمور في هنغاريا بشكل سريع وحاد جداً في العام 1989، فقد اضطر حزب العمال الاشتراكي الهنغاري للاعتراف بالتعددية السياسية والتخلّي عن احتكاره للسلطة بسبب الضغوط الشعبية القويّة، لاسيما من جانب المعارضة المتنامية، التي تحتشد ذاكرتها بما حدث من انتفاضة العام 1956 وفيما بعد التدخل السوفييتي الذي سارع إلى قمعها وإنزال العقاب بقادة الحزب الشيوعي الهنغاري الذين أيّدوها.
أما ما يخص حرية التعبير فقد ذهب البرلمان الهنغاري أبعد من ذلك حين وافق في (كانون الثاني/يناير) 1989على إصدار قانون خاص يمنح الشعب الحق في التظاهر وإقامة التجمّعات، مما ساعد رسمياً على إنشاء أحزاب سياسية ناهيكم عن منظمات المجتمع المدني.
وفي 22 آذار (مارس) من العام ذاته نظّمت الأحزاب الناشئة حديثاً " طاولة مستديرة للمعارضة" الهدف منها توحيد صفوف المعارضة وإعدادها للتفاوض على الطريقة البولونية، مع الحزب الحاكم لتأمين طريق الانتقال الديمقراطي السلمي. وبالفعل فقد إلتأمت المفاوضات في 13 حزيران (يونيو) بعد أخذ ورد، بطاولة ثلاثية الأضلاع ضمّت الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة والمجتمع المدني. وقد تعرّض الحزب الحاكم إلى هزيمة ملموسة بعد ثلاثة أيام من الاجتماع خلال مراسم إعادة دفن رئيس الحكومة الهنغارية إيميري ناج ورفاقه حيث تحولت إلى حركة مدنية سلمية شاملة وبالتدريج رفعت شعارات تدعو إلى الحرية الديمقراطية.
وقد عقد الحزب الحاكم مؤتمراً استثنائياً في 6-10 حزيران (يونيو) 1989 أصدر خلاله قراراً بحل حزب العمال الاشتراكي الهنغاري، ليعلن تأسيس الحزب الاشتراكي الهنغاري خلفاً له، وكان هذا الأخير قد تخلّى عن احتكار السلطة وتأييد قيام نظام برلماني ديمقراطي تعددي، داعياً لقيام نظام يتجاوز التطبيقات الاشتراكية البيروقراطية المفروضة، من خلال الموافقة على نظام " الملكية المختلطة" واقتصاد السوق الاجتماعي والادارة المدنية .
وأقرّت تعديلات دستورية جديدة (عبر الطاولة الثلاثية) بما يخص الأحزاب السياسية، كما تم إلغاء مجلس الرئاسة، ليصار إلى انتخاب أعضاء مجلس نيابي جديد وبالتالي رئيس الجمهورية، وثمت إعادة تقييم وإصلاح الأحكام القضائية الصادرة إرتباطاً بانتفاضة العام 1956 وأُلغيت كلمة " شعبية" من إسم الدولة، واعتبرت هنغاريا دولة قانونية مستقلة، وذلك في 17 و 20 تشرين الأول (اكتوبر) 1989.
استقرّ الأمر حتى مطلع العام 1990 فنظمت انتخابات برلمانية حرة في نيسان (ابريل) فاز فيها المنتدى الديمقراطي الهنغاري بـ43%، في حين حصل الحزب الاشتراكي الهنغاري الاّ على نسبة 8.5% (فقط) الاّ أنها كافية لتأمين عدم انهياره بالكامل .
وقد صاغت المحكمة الدستورية الهنغارية تعاليم تتعلق بالاستمرارية القانونية، لدى مناقشتها قانون زيتينيني وتاكاش، الذي اعتبرته مناقضاً للدستور، لاسيما في الفترة بين 21 كانون الأول (ديسمبر) 1944 و2 أيار (مايو) 1990 بخصوص ملاحقة الجرائم السياسية، لأنه ومن خلال هذا القانون سيكون من غير الممكن تمديد صلاحية الفترة الزمنية المحددة والمعمول بها للقانون الجزائي السابق، وهو أمر غير دستوري لأنه يجسّد شكلاً من أشكال المفعول الرجعي للتشريع السابق، وقد أدرجت المحكمة في حيثيات قرارها أيضاً رأيها الخاص بشأن طبيعة النظام السياسي في هنغاريا، بما في ذلك مشاكل الاستمرارية القانونية، حين أكدت " أن لا يوجد اختلاف جوهري بين المعايير القانونية الصادرة في فترة النظام الشيوعي وبعد المصادقة على الدستور الجديد .
أي أنه لا يوجد سوى مقياس واحد في عملية التدقيق في دستورية المعايير القانونية، فالدستور والقوانين الأساسية التي فرضتها التغييرات الثورية قد تمت المصادقة عليها دون شوائب شكلية ووفقاً للأنظمة التشريعية للنظام القديم، وهو ما يستوفي مسألة الالتزام بها، وقد أكدت المحكمة أن الضمانة القانونية الموضوعية والشكلية أولوية على العدالة التي هي في إطارها العام غير منحازة، وذلك باستخدام التفسير المعياري للفقيه كلزن عن الثورة باعتبارها إطاراً لجدليتها الخاصة، وهي تعبير " غير شرعي" للنظام القائم بنظام جديد، لاسيما باستمرارية الأول، كما هي التجربة الهنغارية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية واستخدام الأنظمة القائمة.
إن للتجربة الهنغارية جدلية خاصة تقوم على دينامية الاستمرارية القانونية وصولاً للدولة القانونية، بتأكيد التغييرات الجديدة للنظام القانوني القديم، وقد حاولت المحكمة الدستورية الهنغارية المساهمة بشكل نشيط في عملية الانتقال السياسي والقانوني السلمي، لاسيما بتأكيد وأن النظام القديم لم يكن قائماً على مبادئ الدولة القانونية، مع التأكيد على ضرورة لجوء النظام الجديد لحماية هذه المبادئ بصرامة .
ولعل هناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن جدلية الاستمرارية القانونية تعني تشريع النظام الشيوعي السابق الذي تمت إدانته قانونياً ولكن مثل هذا الرأي له معارضون، حيث تعتبر المحكمة الدستورية نفسها مساهمة في عملية الانتقال السلس للسلطة من نظام بيروقراطي اشتراكي إلى نظام ديمقراطي ليبرالي، مستخدمة هي ذاتها مبادئ الدستور والقانون كمعايير عامة. وهكذا أخضع ما يسمى مبدأ العدالة التاريخي لاعتبارات الدولة القانونية، وليس لتصفية الحسابات أو الاملاءات السياسية.
وقد أخذ دور المحكمة الدستورية يكبر بحكم المرحلة الانتقالية، حيث منحت نفسها سلطات أوسع مما تستحقه، لاسيما النفوذ المعياري لفترة مؤقتة، ولعل هذا يذكرنا بموقف المجلس العسكري في مصر ودور المشير حسين طنطاوي ومحاولته إعطاء نفسه حجماً أكبر مما هو مقرر ضمن الفترة الانتقالية المؤقتة، وقد واجهت السلطات الانتقالية في تونس وليبيا واليمن تحدّيات وإشكاليات مشابهة تتعلق بدورها المؤقت من جهة ومدى قانونيتها من جهة ثانية ومعياريتها، خصوصاً وقد شهد القضاء على كل ما عليه تصدّعات كبيرة، ناهيكم عن السقف الزمني المحدد بفترة انتقالية.
وفي خصوص إعادة الممتلكات فقد اتّخذت المحكمة مواقف أكثر مرونة إزاء الأثر الرجعي من موضوع العدالة الجنائية، حيث رفضت التدخل في قوانين الدولة بشأن الملكية، والذي اعتبرته أحد خروقات من النظام السابق، لكنها أكدت على اعترفت أن التدخل القضائي والأثر الرجعي ممكنان بخصوص تعويض الملكيات المصادرة أو المؤممة. ولعل هذا الإجراء استثنائي موجه للمستقبل، كما أن إجراء محدد الغرض ويستهدف التجديد الاقتصادي وهو موجّه للمستقبل، ولا يمكن اعتباره قاعدة قانونية بمفعول رجعي، ملزمة للحكومات الجديدة حيال عملية أمور ممتلكات المواطنين.
4- التجربة الألمانية: فقه القطيعة
رفض إيريش هونيكر الأمين العام للحزب الاشتراكي الألماني الموحد تقديم أية تنازلات، مبدياً تحفظه إزاء أطروحات غورباتشوف بشأن إعادة البناء والشفافية (البريسترويكا والغلاسنوست) معتبراً وجود دولتين ألمانيتين فيهما نظامين متناقضين أمر واقعي، إذ دأب الاتجاه المتشدد في ألمانيا الديمقراطية منذ عام 1977 على الترويج لفكرة وجود أمتين بتطورّين مختلفين ومسارين لنظامين اجتماعيين متناحرين، وهو ما عكسه الدستور الألماني العام 1977 .
كانت ردود الفعل داخل ألمانيا تتصاعد لسببين أساسيين: شحّ الحريات من جهة في ظل النظام الشمولي الكاتم على الأنفاس، لاسيما البوليس السياسي المعروف بإسم جهاز يشتازي، ومن جهة ثانية إنخفاض مستوى المعيشة الذي كان متخلفاً إلى حدود كبيرة عن الجارة الألمانية الغربية (الامتداد القومي الطبيعي). ولعل هذا ما أدى إلى تفاقم مشاعر السخط والإحباط. وقد ساد اعتقاد لدى أوساط واسعة أن الخروج من الأزمة لن يحدث الاّ بالهروب إلى الأمام، أي إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية (الرأسمالية) وهو الحل الذي فضّله قادة اليمن الديمقراطية في نفس الفترة إزاء تفاقم الأزمة الداخلية، فما كان منهم سوى الهروب إلى الجمهورية العربية اليمنية تاركين الخيار الاشتراكي خلفهم، ولاسيما وأن التطورات التي حصلت في هنغاريا أزالت بودابست جميع حواجزها الحدودية مع النمسا، فاسحة المجال أمام الكثير من سكان ألمانيا الديمقراطية الذهاب إلى هنغاريا ومنها الهروب إلى النمسا باتجاه الغرب .
هكذا ارتفعت أعداد الهجرة ، التي أصبحت أقرب إلى الهجرة الجماعية المنظمة. وفي الوقت نفسه اتّسعت المعارضة الداخلية في إطار "المنتدى الجديد" الذي دعا حكومة هونيكر إلى " الحوار الديمقراطي" بخصوص "الدولة القانونية" والمهمات الاقتصادية والثقافية، وتدريجياً بدأت النخبة الحاكمة وحزبها تفقد سيطرتها على الأمور، مما شجع الجماهير للخروج إلى الشوارع والساحات للتظاهر، ففي لايبزك (تشرين الأول/اكتوبر) 1989 تحرك الآلاف حيث وصلت الأعداد المتصاعدة إلى 300 ألف تقريباً واضّطرت الشرطة إلى وقف عدم قمع المتظاهرين، وهذا بدوره ساعد على انتقال التظاهرات المطالبة بالحرية وإجراء انتخابات حرة إلى مدن أخرى. وأجبر المتظاهرون السلطة في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) على فتح المعابر الحدودية بين برلين الشرقية وبرلين الغربية.
هكذا سقط جدار برلين الشهير الذي كان رمزاً سيئاً لتقسيم برلين وألمانيا بل وأوربا ثم تطورت مطالب المتظاهرين من التحرر من النظام البوليسي وإقامة الديمقراطية، إلى الدعوة لوحدة الجمهوريتين اللتين تنتميان إلى أمة واحدة.
وفي شهر آذار (مارس) العام 1990 تم تنظيم انتخابات جديدة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية فاز فيها الاتحاد المسيحي الديمقراطي وهكذا نجح برنامج وحدة الألمانيتين وفشل مرشحو المنتدى الجديد. ودخلت الوحدة حيّز التنفيذ الفعلي في مجال النقد والاقتصاد والاجتماع، وقرر البرلمان في ألمانيا الشرقية بأغلبية الأعضاء الموافقة على انضمامها إلى جمهورية ألمانيا الفيدرالية، معلناً انتهاء جمهورية ألمانيا الديمقراطية فعلياً بعد نحو ما يقارب 41 عاماً، واستعاد الألمان وحدتهم بعد تشطير اضطراري كان من نتائج الحرب العالمية الثانية.
وعلى عكس بولونيا وهنغاريا اللتان سارتا في طريق التواصلية والاستمرارية القانونية وعدم الاحتكام إلى القانون بأثر رجعي، فإن فلسفة العقاب الألمانية في العقاب على الجرائم السياسية كانت الأكثر نشاطاً وتشدداً بين جميع دول وسط أوروبا، فقد شكّل البرلمان الألماني الشرقي في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1989 لجنة لملاحقة النشاطات الإجرامية المتعلقة بسوء استخدام السلطة والفساد وتزوير نتائج الانتخابات (علماً بأن البرلمان كان تحت هيمنة الحزب الاشتراكي الألماني الموحد) وقد اضطرت النخبة الحزبية (الشيوعية ) الموافقة على ملاحقة المرتكبين للجرائم ولكن على أساس فردي، وتوّجت هذه السياسة بوضع بعض قيادات الحزب في السجن (كانون الاول/ديسمبر 1989)، وعندما جرت الانتخابات الجديدة العام 1990 وافقت جميع الأحزاب المنتخبة ديمقراطياً في البرلمان الألماني الشرقي، على اتباع سياسة ما أطلق عليه "العدل العقابي وملاحقة جرائم النظام السابق" ، وتبنّت اتفاقية توحيد الألمانيتين التي تم التوقيع عليها في وقت لاحق كما جرت الاشارة .
نصّت الاتفاقية على أن الملاحقة القضائية ستتم وفقاً للقوانين التي كانت سائدة في جمهورية ألمانيا الاتحادية، وسيخضع مواطنو جمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقاً لأحكام القانون الجنائي، على الرغم من أنه لم يكن معمولاً به في بلدهم الأول (وهو إجراء يطعن فيه الكثير من القانونيين)، وبقدر ما أثارت هذه الاتفاقية جدلاً قانونياً، فقد أثارت ردود فعل عملية كثيرة، لاسيما ما يتعلق بالاقصاء والتهميش والعزل، ناهيكم عن الملاحقة.
أُطلق مصطلح " العدالة الخارجية" على الاسلوب الذي تم اتباعه لمحاكمة ومعاقبة المرتكبين في النظام الألماني الديمقراطي السابق أو عمليات تزوير الانتخابات أو إساءة استخدام السلطة . وقد صادقت جمهورية ألمانيا الاتحادية (الموحدة) على سياسة العدل العقابي الجزائي، التي اتخذتها في البداية مؤسسات ألمانيا الشرقية تحت ضغط المعارضة والشارع المنتفض.
استكمالاً لسياسة العدل العقابي نشأت في العام 1994 مؤسسة خاصة لتحقيق هدفها ملاحقة قادة جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة، للجرائم السياسية المرتكبة وحددت مهمتها لمدة خمس سنوات، الاّ نتائج التحقيق شكّلت خيبة أمل ليس على مستوى التجربة الألمانية، فحسب بل على مستوى في غالبية التجارب، لأنه من بين 22765 قضية تم التحقيق فيها لم يصل منها إلى الإجراء القضائي سوى 565 حالة فقط، ولذلك فإن محاولة استنساخ التجارب لن تؤدي النتائج المرجوّة، طالما أن التجارب الأصلية لم تصل اليها، فما بالك في ظروف العالم الثالث ومنها البلدان العربية. وأظن أن تجربة العراق خير دليل على ذلك فيما يتعلق بقانون اجتثاث البعث وما أثاره من تداعيات وانقسامات، وكان يمكن بدل التعميم التوجّه إلى محاسبة مرتكبي الجرائم وتقديمهم إلى القضاء، فضلاً عن تعويض الضحايا وجبر الضرر والمهم من كل ذلك هو كشف الحقيقة وإصلاح النظام القانوني بدلاً من التعميم ومحاربة العقيدة وأخذ البريء بجريرة المذنب.
أما موضوع القوانين ذات المفعول الرجعي فقد صادقت ألمانيا على السياسة الأكثر نشاطاً في هذا المجال، والتي تضمنت تمديد الفترات الزمنية المحددة، وصولاً إلى تجريم بعض التصرفات التي كانت تكتسب صفة شرعية في السابق.
وحدّدت الفترة الزمنية بين العام 1949 و1990 وقد تم تمديد عمل لجان التحقيق إلى عشر سنوات، لتتزامن مع الذكرى العاشرة لتوحيد ألمانيا (تشرين الأول/اكتوبر العام 2000). وفيما يخصّ الأعمال الإجرامية الخاصة بالقتل، فقد تم تمديد الفترات الزمنية حتى العام 2030. لقد وضع المشرّعالألماني فلسفة العدل العقابي في إطار فضاء قانوني شبه خيالي، وظلّ خاضعاً لنقاش وحوار لم ينقطعا حتى الآن، أساسه أن النظام العدلي للحكم السابق كان مثل النظام النازي مبني على سوء استخدام السلطة بشكل مستمر والطعن بالمبادئ والمعايير القانونية العامة للعدالة.
سارت ألمانيا الاتحادية الموحدة في طريق إعادة تجريم بعض الأفعال بمفعول رجعي، وإنْ كان الأمر استثناءً، لكنه اقتفى أثر النظام السابق بشأن ملاحقة النازيين ومصادرة ممتلكاتهم، لكن الملاحظة المهمة هنا هي كيفية التعامل مع أرشيف البوليس السياسي السري جهاز أمن الدولة،(جهاز يشتازي) والمتعاونين معه، ولهذا تم إنشاء مؤسسة خاصة باسم مؤسسة غاوتس التي مُنحت صلاحيات تقديم معلومات خاصة بماضي الأفراد في إطار علاقاتهم تجاه الجهات ونشاطات الأجهزة القمعية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة، ويمكن للمؤسسة إعطاء " شهادة التطهير الأمني"، أي معالجة المسألة إدارياً وليس لها مفعول قانوني مباشر، لكن مثل هذه المعلومات، كان لها نتائج قانونية جدية أفادت منها الأطراف المعنية.
وإذا كان المفهوم البولوني والهنغاري يقوم على فكرة الاستمرارية القانونية " الثورة تتم عبر القانون"، فإن النظام القضائي الألماني والمحكمة الدستورية التشيكية سارت باتجاه آخر، لاسيما السماح بعملية التشريع ذي المفعول الرجعي، ولعل لكلا المفهومين خصومه وأنصاره، فالنظام الأول قد يسمح للكثير بالافلات من العقاب من خلال عدم المعاقبة أو التخلّي عن إمكانية المعاقبة، وقد يؤدي ذلك إلى إضعاف الدولة القانونية، حيث لا يوجد شخص فوق القانون، ولهذا فالأمر يتطلّب تصفية الحسابات مع جرائم الماضي. ولعل جواب الاستمرارية القانونية يختلف عن القطيعة مع الماضي، وهو يسعى لتجاوز الماضي بوسائل تدرّجية حرصاً على إقامة الدولة القانونية دون انتقام أو ثأر. أما النظام الثاني فقد يزيد من أمر انقسام المجتمع ويشغله إلى حدود بعيدة عن إعادة البناء، خصوصاً وان الكثير من الجرائم المرتكبة مضى عليها زمن طويل ويصعب أحياناً التوثق منها، لكن هذا الاتجاه يسعى في الوقت نفسه إلى عدم تكرار الماضي، من خلال التذكير بالجرائم وملاحقة مرتكبيها.
إن التعامل مع تصفية حسابات الماضي ليس سهلاً بالطبع، ولا يوجد طريق واحد أو نموذج يمكن الاقتداء به أو السير على منواله، فلكل مجتمع وحالة ظروفها الخاصة، وهذا ما استوجب دراسة التجارب اللاحقة لاستخلاص الطرق والنماذج المتميزة للتعامل مع الماضي.
ولعل هذا يعكس دينامية وحيوية أية تجربة من خلال حراكها السياسي وتطورها الدستوري وجدل قضاتها ومحاكمها وبرلماناتها، لكن الأمر يتعلق بالأسلوب الذي تم فيه انتقال السلطة، ففي الدول التي حدث فيها الأمر بشكل ثوري يختلف الأمر عن الأسلوب المتبع في الدول التي تم فيها الانتقال التدريجي، ففي الحالة الأولى تم اعتماد منهج القطيعة مع الماضي، واستخدام القوانين بأثر رجعي، أما في الحالات التي تمت فيها عمليات التحوّل تدريجياً، فقد كانت تميل إلى التواصل والاستمرارية القانونية، الأمر الذي قلّص الحاجة إلى استخدام القانون بأثر رجعي، حيث لا قطيعة بين النظامين، ولا يتعلق الأمر بتجارب أوروبا الشرقية حسب، بل إن التغيير الثوري في تونس ومصر اختلف عن التغيير التدرّجي في المغرب مثلاً خلال فترة الحسن الثاني والمللك محمد الخامس، والأمر كذلك في التطور الدستوري في الأردن في العام 1989 وفيما بعد صدور الميثاق الوطني، وهو يختلف عن اليمن والبحرين وما شهدته من تغييرات في التسعينيات، كما أنه سيكون مختلفاً عن التطور الذي حدث في ليبيا والذي يمكن أن يحدث في سوريا أوالجزائر أو دول الخليج أو غيرها.



5- التجربة التشيكوسلوفاكية: بين فقهين: القطيعة والتواصل
كانت التظاهرة الطلابية في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 الشرارة التي سرت مثل النار في الهشيم. فقد تم قمعها من قبل رجال الشرطة، ومع ذلك فقد استجمعت حركة احتجاج واسعة ساهم بها المثقفون والفنانون والمسرحيون والسينمائيون، وشكّلوا أول بؤرة لحركة الاحتجاج المدنية ومن ثم الأحزاب، والذي كان مقدمة لنشوء المنتدى المدني في براغ كحركة سياسية للمعارضة، بقيادة فاتسلاف هافل أحد أبرز المعارضين في أوروبا الشرقية. كما نشأت في براتسلافا عاصمة سلوفاكيا حركة مدنية مشابهة اسمها " الشعب ضد العنف" حيث كان أبرز ممثليها الشخصية الثقافية يان بوداي والممثل المشهور ميلان كيناجكو وكان هدفهما هو الحوار مع السلطة الحاكمة حول فرض عملية التحرر من الاستبداد وفرض الديمقراطية في تشيكوسلوفاكيا، لاسيما عبر الحوار.
وتحت تأثير الجماهير، ولاسيما الإضراب العام في 27 تشرين الثاني(نوفمبر)1989 وافقت السلطة التشيكوسلوفاكية على إجراء حوار مع المعارضة برئاسة رئيس الحكومة الفيدرالية لاديسلاف أدامس. وكانت النتائج المهمة للحوار هي الموافقة على إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإزالةالفقرات الخاصة من الدستور التي تنص على منح الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي الدور القيادي في المجتمع وعلى حصر النشاط السياسي ضمن نطاق الجبهة الوطنية، والسماح للقوى المعارضة للعمل العلني الشرعي وفي وسائل الاعلام.
وطالب كلٌ من المنتدى المدني والشعب ضد العنف، بإجراء تعديلات جذرية في هيكلية وبرنامج الحكومة، لكنهما لم يكونا راغبين في المشاركة بهذا المشروع وكذلك باستلام السلطة أو على أقل تقدير المساهمة فيها، وذلك لأن الحركة المدنية نشأت على نحو سريع ودون تحضيرات كافية، أي مباشرة بعد 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 وكانت بحاجة إلى وقت لتنظيم نفسها وإعداد برامجها .
وعلى الرغم من أن أدامس ظل يحتل منصب رئيس الوزراء مع 15 حقيبة للحزب الشيوعي إلاّ أن العنصر المهم بقي في شعبي التشيك والسلوفاك الغاضبين، اللذان رفضا هذه الحكومة، واضطر أدامس للاستقالة وفرض المنتدى المدني سبعة وزراء له في حكومة إئتلافية وطنية برئاسة الشيوعي الإصلاحي ماريان تشالفا المتعاطف مع المعارضة وقد اضطر غوتساف هوساك رئيس الجمهورية والأمين العام للحزب الشيوعي للاستقالة، مما أفسح في المجال ليصبح فاتسلاف هافل رئيساًُ لتشيكوسلوفاكيا بعد مناورات ومؤامرات وتحديات كثيرة، وأصبح الاصلاحي و"المعزول" الكسندر دوبشيك (السلوفاكي) رمز ربيع براغ العام 1968 رئيساً للبرلمان الاتحادي وانتخبا بالاجماع من البرلمان.
وفي كانون الأول (ديسمبر) 1989 توافقت القوى السياسية المجتمعة حول الطاولة المستديرة التي انتقل منها القرار السياسي إلى الهيئات التشريعية، وكان ذلك تمهيداً لعودة الديمقراطية البرلمانية، حيث أقرّ النظام التعددي الذي صادق عليه البرلمان العام 1990، كما أقرّت الحريات المدنية وحق التجمع والتظاهر وقانون الصحافة والمطبوعات والقانون المدني وهو ما كانت تطالب به حركة ميثاق العام 1977.
وخلال تلك الفترة وقعت إتفاقية جديدة بين تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي تقضي بانسحاب كامل للجيش السوفييتي من الأراضي التشيكية وقد برزت قضايا أمن الدولة في المرحلة الانتقالية، وساد توجّه عام بضرورة تنظيف الحياة العامة من عملاء الأجهزة الأمنية، كما كان التوجّه الاقتصادي الجديد مصدر خلاف عميق، وقد واجهت تشيكوسلوفاكيا ثلاثة تحديات أساسية ما بعد التغيير:
التحدّي الأول هو الوضع المعاشي، والرفاه المنشود، لاسيما بعد الدعوة الأولى إلى التقشف، حيث سادت بعض الهواجس والمخاوف من احتمال تردّي الأوضاع الاقتصادية أو انحدارها على نحو يهدد مئات الآلاف من الشغيلة وأصحاب الدخل المحدود في ظل اقتصاد السوق.
التحدّي الثاني- العودة إلى أوروبا بعد عزلة وانكماش. فتشيكوسلوفاكيا التي تحتل جغرافياً موقعاً مهماً في وسط وشرق أوروبا ظلّت تتطلع لأن تلعب دوراً أوروبياً بعد عزلة مفروضة، وتحقق لها ذلك بالتحاقها بالاتحاد الأوروبي، بعد " تحررها" من النظام الشمولي.
التحدّي الثالث- المسألة القومية ورغبة سلوفاكيا في الاستقلال، وقد برز هذا الأمر بالتدريج على مدى السنوات الأربعة والسبعين من عمر جمهورية تشيكوسلوفاكيا ، التي اختارت الصيغة الفيدرالية لكن شعوراً عاماً كان يسود الشعب السلوفاكي يميل إلى الرغبة في الاستقلال وتحقيق حق تقرير، المصير ولاسيما خلال أحداث العام 1968 والتدخل العسكري السوفييتي، وتلاقت هذه الرغبة "ودياً " مع الرغبة التشيكية في استقلال كل منهما عن الآخرمع بقاء العلاقات الطبيعية.
صادق البرلمان على خطة للتحول الاقتصادي، ولاسيما في إطار الخصخصة وقانون إعادة الممتلكات لأصحابها (1990). وسعت تشيكوسلوفاكيا لتوثيق عودتها إلى العالم و إلى أوروبا واستقبل فاتسلاف هافل البابا يوحنا بولس الثاني في زيارة هي الأولى من نوعها إلى تشيكوسلوفاكيا.
وبعد 74 عاماً من الوحدة التشيكية – السلوفاكية (1918) انقسمت جمهورية تشيكوسلوفاكيا إلى جمهوريتين هما التشيك والسلوفاك على نحو مخملي أيضاً مثلما هي الثورة التي أطلق عليها الثورة المخملية وذلك في 1/1/1993 وتمت العملية بهدوء وتنظيم وسرعة، قياساً ومقارنة بالتصفيات الدموية التي شهدتها يوغسلافيا السابقة التي تفككت إلى 5 دول أو الاتحاد السوفييتي السابق، الذي انشطر إلى 15 دولة.
وعلى الرغم من إدانة النظام السابق، فإن النخبة الديمقراطية اعترفت من جهة أخرى في كانون الثاني/ يناير 1990 بالحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي كجزء له كامل الحقوق في الحياة السياسية ودون أي تمييز، ولعل الانضمام إلى الحضارة اليورو أطلسية والانضمام إلى حلف الناتو ولاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي هو وراء اتخاذ مثل هذه القرارات .
وقياساً بألمانيا الاتحادية الموحدة أظهرت المحكمة الدستورية التشيكية والسلوفاكية (الفيدرالية) ولاحقاً المحكمة الدستورية التشيكية مرونة أكبر إزاء ما يسمى بالعدالة التاريخية والضمانات القانونية للتشريع ذو الأثر الرجعي، وعلى الرغم من وجود ما يسمى بقانون التطهير الشفاف في حالة تناقض مع مبادئ الدولة القانونية، لاسيما مبدأ المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، فإن المحكمة نظرت إلى القانون من باب حماية النظام الديمقراطي الجديد ومنع زعزعة استقرار البلاد، وفسّرت إجراءاتها بالقيم الجديدة للدولة الديمقراطية القانونية، وهكذا وجدت قطيعة مع الماضي، لأن هناك تناقضاً بينه وبين النظام الديمقراطي الجديد، الذي اتّخذ منهجاً جديداً متوافقاً مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وجوهر النظام الدستوري والقانوني.
ولعل اختلافاً كان قد برز بين الشرعية الشكلية والشرعية المادية ممثلة بالنظام الجديد فقد حاولت الثورة المخملية الدعوة لاستلام السلطة عبر الوسائل المدنية السلمية وتقديم مبادئ التسامح. وقد عبّر عن ذلك فاتسلاف هافل ذات يوم بقوله " لسنا مثلهم" محاولاً إضفاء صفات أخلاقية على الثورة .
وعلى الرغم من الكثير من الشواهد على أعمال القمع والتنكيل والتعذيب منذ شباط (فبراير) العام 1948 ولغاية العام 1989، وعلى الارتكابات بحق الممتلكات الخاصة، لكن لا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار الأعداد الغفيرة التي دخلت الحزب الشيوعي، فمن كل عشرة مواطنين كان واحداً منهم عضواً في الحزب كما يقول ييرجي روجيك ويضيف ربما لأن القاعدة الحزبية تشكلت من هؤلاء الذين ساعدتهم البطاقة الحزبية على فتح طريق التدرّج الوظائفي، وتحقيق التطور في المجال العلمي.
إذاً كان الأمر مرتبطاً بأعداد كبيرة أم صغيرة من المنتفعين، الذين لم يقتلوا أحداً ولم يمارسوا التعذيب ولم يطردوا أو ينكلوا بشخص ما، فلماذا إذاً عليهم تحمّل الذنب، ولعل مثل هذه المقاربة كانت تطرح إزاء ما ورد في معالجة أطروحات اجتثاث البعث الذي أصدرها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق والأمر يشمل القطاع الصحي والمصرفي والجيش والاعلام والتربية والبيئة والنقابات، ناهيكم عن كل ما له علاقة بالمال العام.
في بولونيا تم تأسيس أسس معهد الذاكرة الوطنية في تموز (يوليو) 1999 لأرشفة جرائم النازية والنظام السابق، لاسيما القمع والملاحقة السياسية، وخصوصاً القضايا الفردية وسمح لضحايا القمع بالاطلاع على معلومات المخابرات والأجهزة السرّية السابقة، علماً بأن ذلك لا يؤدي إلى نتائج قانونية، بعكسه في تشيكوسلوفاكيا التي شكلت إدارة التوثيق والتحقيق في الجرائم السابقة، أما في ألمانيا فقد تم تشكيل لجنة تحقيق، كما سبق أن أشرنا.
أثّرت التغييرات في كل من بولونيا وهنغاريا والمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا على باقي أجزاء الكتلة الاشتراكية قبل انحلال الاتحاد السوفييتي، ففي بلغاريا حدث " انقلاب القصر" في شهر تشرين الثاني(نوفمبر) 1989، أما رومانيا فقد شهدت عملية التغيير دموية في شهر كانون الأول (ديسمبر)1989، وإذا كانت بولونيا وهنغاريا قد اختارتا الاستمرارية القانونية، فإن ألمانيا الديمقراطية ذهبت باتجاه القطيعة مع الماضي، لاسيما بانضمامها إلى ألمانيا الاتحادية، واختارت تشيكوسلوفاكيا، الطريق الألماني في بداية الأمر، بنزول الجماهير إلى الساحات والشوارع بكثافة وإجبار الحكم على التراجع عبر حل ثوري، ولعل ذلك مهّد لطريق وسط لاحقاً عبر الطاولة المستديرة بين السلطة والمعارضة والانتقال إلى الديمقراطية، وبذلك استفادت من الطريقتين الألمانية من جهة، والبولونية والهنغارية من جهة ثانية، الأمر الذي يؤكد خصوصية كل حالة وكل بلد، فلا يوجد بلد يشبه الآخر، أما المشتركات فهي عامة ويمكن التلاقح بشأنها، وهو الأمر الذي يمكن قراءته عربياً وعالمياً للثورات المندلعة.

خاتمة
يرى الباحث قبل اختتام هذا البحث أهمية وجود وثيقة عربية للعدالة الانتقالية يمكن أن تنطلق من عمل جماعي حقوقي تشارك فيه بعض منظمات المجتمع المدني ذات الصدقية المهنية بهدف تأسيس شبكة عربية تنسجم مع القواعد الدولية للعدالة الانتقالية، وهذه الوثيقة يمكن أن تشكل قاسماً مشتركاً للعديد من البلدان العربية التي حصلت فيها تغييرات ثورية أو للبلدان الأخرى سواء تلك التي قد تسلك سبيل فقه التواصلية والاستمرارية، ولا سيما بالتغيير من داخل الأنظمة، أو للبلدان التي اختارت أو ستختار فقه القطيعة، والتي يمكن أن تستفيد منها في الحالتين دون أن يعني ذلك استنساخها أو تقليدها، وإنما التعامل معها نظرياً مع إمكانية الإفادة من بعض جوانبها العملية، بمراعاة الظروف الخاصة ودرجة التطور القانوني والحقوقي والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لكل بلد.
لعل الهدف من العدالة الانتقالية ومن التجارب التي يكتنزها المجتمع الدولي لأكثر من ستة عقود من الزمان وفي ظل تجارب مختلفة ومتنوعة ومتعددة، إنما يرتكز على كشف الحقيقة كاملة، لاسيما إزاء ما حصل ولماذا حصل وكيف حصل؟ وذلك بغرض مساءلة المرتكبين وعدم تمكينهم للإفلات من العقاب، ناهيكم عن جبر الضرر المادي والمعنوي وتعويض الضحايا أو عوائلهم أدبياً واجتماعياً، وصولاً إلى إقامة نظام يلتزم بالمعايير الدولية للعدالة من خلال إصلاح ما هو قائم أو بناء أنظمة قانونية وقضائية وأمنية وإدارية جديدة لمنع تكرار ما حصل، خصوصاً من خلال مساهمة توعوية حقوقية وقانونية وأخلاقية.
وبالطبع، لا تسعى مثا هذه العدالة إلى الانتقام أو الثأر أو الكيدية، لكنها تسعى للتهيئة لحكم القانون، خصوصاً في حالة انهيار النظام القانوني أو تعطّله أو عدم إمكانية تطبيقه، سواءً في الفترة الانتقالية من نظام تسلطي استبدادي إلى نظام ديمقراطي أو من احتلال كولونيالي إلى الانعتاق وإحراز الاستقلال أو لأسباب النزاعات الأهلية والحروب الداخلية إلى حالة السلم، دون أن يعني ذلك الإخلال بمبادئ العدالة ومعاييرها، مع مراعاة الظروف الانتقالية والمؤقتة وحالة الانهيار التي تشهدها مجتمعات معنية، والأساس في ذلك البحث عن حلول سلمية للمشكلات الاجتماعية القائمة.
إن حركة التغيير بحاجة إلى مرحلة انتقالية لاستعادة الفضاء العمومي والتنوّع الثقافي، وصولاً إلى الخير العام الذي يعتبره ابن خلدون المعنى للسياسة والدلالة المنطقية لنجاحها ولا سيما اقترابها من العدالة، ولعلّه أول من تحدث عن ثنائية الظلم والخراب والعدل والمساواة، وهو القائل المُلك بالجند، أي باستخدام القوة الذاتية، والجُند بالمال، أي بالقوة الاقتصادية، والمال بالخراج أي دولة ضرائب وقانون، والخراج بالعمارة أي بالتنمية، والعمارة بالعدل، أي أن العدل هو سياج المدينة، وهو ما سبق للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز أن خاطب به أحد ولاته بالقول: سوّر مدينتك بالعدل، فالعدل أفق التغيير وأساس التنوير.
ملحق
مبادئ شيكاغو لعدالة ما بعد النزاعات
مبدأ 1
تحاكم الدول المرتكبين المشتبه بهم للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني
مبدأ 2
تحترم الدول الحق في الحقيقة، وتشجع التحقيقات الرسمية في الانتهاكات السابقة عن طريق لجان تقصي الحقائق أو هيئات أخرى.

مبدأ 3
تعترف الدول بالوضع الخاص للضحايا، وتضمن وصولهم إلى العدالة، كما تُعد سبل الجبر والإنصاف.
مبدأ 4
يجب على الدول أن تنفذ سياسات للتنحية، والعقوبات، والإجراءات الإدارية.
مبدأ 5
يجب على الدولة أن تدعم البرامج الرسمية والمبادرات الشعبية لتخليد ذكرى الضحايا، وتثقيف المجتمع فيما يتعلق بالعنف السياسي الماضي وتخليد الذاكرة التاريخية.
مبدأ 6
يجب على الدول أن تدعم وتحترم الوسائل التقليدية، والأهلية والدينية في التعاطي مع الانتهاكات السابقة.
مبدأ 7
تشارك الدول في الإصلاح المؤسسي لدعم سيادة القانون، واستعادة ثقة الجمهور، وتعزيز الحقوق الأساسية، ودعم الحكم الرشيد.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العدالة الانتقالية: عفو مستتر أم آلة انتقام؟
- شرنقة الفصل السابع
- دبلوماسية حقوق الإنسان
- النهضة والمشروع النقدي
- الزيوغانيفية ولعبة الكراسي
- الاختفاء القسري قضية إنسانية
- بصمات الفوضى وإرث الاحتلال
- السويد والآذان !!
- عن العدالة الانتقالية
- الدستور مليء باختلالات وألغام انفجرت بعضها وستنفجر غيرها
- عن الكرد والنجف والثقافة
- الطائفية وانعكاسات الجغرافيا السياسية
- التفكير الديني وفقه المعرفة
- حكاية الحوار العربي- الكردي
- المثقف ونقد الثورة
- -إبادة- التعليم!
- بول وولفويتز ورسائله المثيرة
- حقوق الإنسان: سلاح ذو حدين
- بغداد عاصمة الثقافة العربية!!
- الثورة ومبادرة حكم القانون


المزيد.....




- العفو الدولية: الحق في الاحتجاج هام للتحدث بحرية عما يحدث بغ ...
- جامعات أميركية تواصل التظاهرات دعماً لفلسطين: اعتقالات وتحري ...
- العفو الدولية تدين قمع احتجاجات داعمة لفلسطين في جامعات أمري ...
- اعتقالات بالجامعات الأميركية ونعمت شفيق تعترف بتأجيجها المشك ...
- منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية تؤكد مسئولية المجتمع ال ...
- ارتفاع حصيلة عدد المعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ ...
- العفو الدولية: المقابر الجماعية بغزة تستدعي ضمان الحفاظ على ...
- إسرائيل تشن حربا على وكالة الأونروا
- العفو الدولية: الكشف عن مقابر جماعية في غزة يؤكد الحاجة لمحق ...
- -سين وجيم الجنسانية-.. كتاب يثير ضجة في تونس بسبب أسئلة عن ا ...


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - عبد الحسين شعبان - العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!