أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الروائي بختيار علي لـ - الحوار المتمدن -: النص لا يخضع لسلطة العنوان ولا يهادن رغبته















المزيد.....


الروائي بختيار علي لـ - الحوار المتمدن -: النص لا يخضع لسلطة العنوان ولا يهادن رغبته


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1188 - 2005 / 5 / 5 - 13:31
المحور: مقابلات و حوارات
    


بدأ بختيار علي حياته الأدبية قبل عقدين من الزمان شاعراً، لكن هاجسه النقدي كان يتحرك بموازاة نزوعه الإبداعي. ويمكن اعتبار مقالته النقدية القيّمة (كلام في حاشية الصمت) التي نُشرت عام 1989 هي بداية جادة لتأسيس مشروع نقدي تناول فيه آليات حجب وإبراز الخطاب الإبداعي في الثقافة الكردية. ثم عزز هذا المنحي لديه حينما أصدر مع مجموعة من الأدباء الكرد مجلة ثقافية أطلق عليها اسم (الحرية) كي تكون متنفساً للأصوات المقموعة. وقد نشر فيها العديد من مقالاته الجريئة التي أحدثت دوياً في المشهد الثقافي الكردي آنذاك منها (الثقافة ذات البعد الواحد) و(تضخم البعد الخطابي اللاعقلاني والعاطفي في الثقافة الكردية) و(الجذور الدينية للأزمات الراهنة في الثقافة الكردية) وما إلي ذلك. صدر له عام 1992 ديوانه الأول المعنون بـ(الخطيئة والكرنفال). وفي عام 1998 نشر أعمله الشعرية الكاملة المؤلفة من (11) نصاً شعرياً مطولاً مكتوباً بين الأعوام 1983 ــ 1998. وفي عام 2000 أصدر ديوان (البوهيمي والنجوم). أما مشروعه الروائي فقد ابتدأ عام 1996 حينما أصدر عمله الروائي الأول (موت ــ وحيد العائلة ــ الثاني)، ثم أردفه بروايته الثانية (مساء بروانة) عام 1998 التي نالت رواجاً طيباً يف كردستان. أما عمله الروائي الثالث (آخر شجرة رمان في العالم) فقد حقق له شهرة واسعة بين صفوف القراء والنقاد الكرد. ونظراً لأهمية النتاجات النقدية والشعرية والروائية لبختيار علي فقد أقدمت مجلة (رامان) عام 2000 وهي من المجلات الأدبية في كردستان علي إصدار ملف خاص عن أعماله الأدبية شارك فيه عدد كبير من الكتاب والنقاد الكرد. كما نشرت مجلة (نما) ببليوغرافيا بكل كتابات بختيار علي، وكل ما كُتب عنه من دراسات نقدية. وسيصدر قريباً كتاباً يضم (14) مقابلة صحفية أجريت معه في صحف ومجلات كردية مختلفة. يعمل حالياً في هيأة تحرير مجلة (ره هه ند) الفكرية التي تصدر في أوربا وكردستان في آن واحد. وللتعرف علي أبعاد تجربته الإبداعية التقيناه، ودار بيننا الحوار التالي:
* كيف اتقدتْ في داخلك شرارة الإبداع؟ وكيف تعاملت معه أول مرة؟ هل ثمة دخل لقراءات محددة في تثويره، أم أن هناك أناساً مسحورين بالأدب هم الذين ساعدوك في تفجير ملكتكَ الأدبية؟
-للإبداع جذور سرية، مهما تعمّقنا في الأغوار البعيدة فلن نغادر أبداً أرض الشك والاحتمالات القاسية، ومهما حاولنا فلن نجد اليقين في تحديد منابعه، ومهما حاولنا فلن نصل إلي قولبته. إن صعوبة معرفة جذوره تعود بالأساس إلي الغموض الكامن في هويته. فالشيء عندما لا يستقر علي الصياغة، لا يستقر علي الجذور أيضاً. لذا من الضروري منهجياً التسليم بحركية العلاقة بين المبدع ومنابعه من ناحية، والإبداع ومصادره من الناحية الأخري. فجذور ولادة المبدع (ككائن) تختلف عن جذور ولادة العمل الإبداعي (كممكن). فالمبدع المحاصر بالمكان والزمان لا يمكنه تجاوز شرطه التاريخي واللحظوي ككائن إلا لحظة انفجار الصراع بين محدودية الممكن والتوق الداخلي نحو المستحيل. فأنا لم أباشر بالكتابة إلا في لحظة اكتشافي للتناقض بين فقر ومحدودية ما أعيش وغني العالم، بين تصحّر الواقع الراهن، والثروة اللانهائية الكامنة في الحياة ذاتها. لا إبداع من دون انهيار لقيمة المعاش كواقع مكتفي بذاته، ولا انطلاقة للمبدع من دون الرغبة في إيجاد أقاليم متخيلة تسكن افتراضياً في قلب السياقات الموجودة، تحاذي اليومي والمألوف، وتبتعد عنهما كاشفة بذلك الأبعاد التي كانت ممكنة ولم تكون، والكينونات الحاضرة المهيمنة التي كانت من الممكن ألا تكون. لم أشعر بنفسي مبدعاً إلا في تلك اللحظات التي أحس فيها بالقوة الكافية علي حذف ما يمكن حذفه من الحياة، وإضافة ما أعتقد أنه ناقص تاريخياً أو وجودياً. ما هي تلك المصادر التي تمنح تلك القوة، أو تلك الرغبة الجامحة في إنتاج نصوص تفتح مسالك علي لا نهائية الغائب. هي كل تلك المصادر التي تمنحنا المخيلة البديلة، والطاقة الكافية لتجاوز المعطي، واستحضار المغيّب. القراءة في حياتي كانت أكثر الطرق إغراءً للاقتراب من المدهش، وتثوير الساكن. الكتاب ينبوع أبدي للدهشة مقارنة بما يقدمه الواقع أو التاريخ. الواقع لا يصبح جسماً مشعاً إلا داخل النصوص، وإن أنسنة الإنسان لا تكتمل إلا بقدرته علي إنتاج النصوص.
الشكل الإبداعي
*في عام 1992 نشرت ديوانك الأول (الخطيئة والكرنفال). ما هي أبرز السمات أو العلامات الفارقة لهذا الديوان؟ هل تعوّل علي اللغة أم علي الصورة الشعرية أم علي الشكل الشعري الذي غالباً ما ينبثق من طبيعة المضمون المحدد؟ هل تعتمد قصيدتك علي الإيقاع الداخلي أم علي الإيقاع الخارجي؟
-ما دام الشكل الشعري ينبثق من طبيعة المضمون، فلا تجديد حقيقي من دون تجديد المضامين. أهم عامل من عوامل التكرار والاجترار هو العودة الأبدية لمواضيع محددة تمارس نوعاً من الهيمنة الواعية علي المخيال الشعري. النقلة الحداثية في الشعر الكردي اقتصرت إلي حد ما علي التغييرات الشكلية، بينما ظلت نفس المضامين تعود بشكل دوري إلي الواجهة تحت ما تمارسه الآيديولوجيا أو الشرط الاجتماعي ــ السياسي من ضغوط. لا أريد أن أتطرّق هنا إلي الإشكاليات النظرية في مسيرة الحداثة الكردية، بل أريد أن أمهّد للقول بأن تغيير المضامين هو أبرز العلامات الفارقة لديواني الأول، لأن تجديد المضامين يفرض نوعاً من التغيير في البناء المعماري للقصيدة، ويفرض اللغة البديلة أيضاً. فأنا من المؤمنين بالعلاقة التكاملية بين عناصر المادة الشعرية. وهذا النوع من العلاقة التكاملية ضرورية للنص الشعري كي يتجاوز إشكالياته الذاتية البحتة لتسنح الفرصة لظهور التناقض الأساسي المتحكم بكل العملية الإبداعية، أي التناقض بين مبتغي التعبير والطاقة الكامنة في اللغة. إن هذا التوتر لن يكون ابداعياً إلا في لحظة الحرية الكاملة للمخيال الشعري، أي حرية اختيار المبتغي مع حرية اختيار اللغة. ومن دون أن تصل تلك الحرية حدود إلغاء المبتغي، وإلغاء اللغة كما جرّبناها في الكثير من التجارب الحداثية في الشعر الكردي والعراقي أيضاً. إن ديوان (الخطيئة والكرنفال) تحوّل إلي تجربة مفارقة في التسعينات بفضل مكونات جمالية مغايرة عندما كانت سائدة آنذاك بفضل مضامين كانت غائبة عن فضاء القصيدة الكردية المعاصرة التي كانت غارقة في التسييس أو في الشجن العاطفي المباشر، في حين ظلت العديد من التجارب الحداثية أسيرة نوع من الهذيان اللغوي المتطرف التي ربطت بين الحداثة الشعرية والسلطة المطلقة للامعني. كان الديوان محاولة لترميم الجسور بين النص الشعري والفكر الفلسفي " المنسي منذ موت محوي، أكبر عباقرة الشعر الكردي علي الإطلاق " محاولة لتفجير الإمكانات الهائلة في اللغة الكردية علي إنتاج المغايرة في ذاتها عبر تغيير عوالم الصورة الشعرية، محاولة لتطوير البني المعمارية داخل قصيدة النثر الكردية، وإدخال إيقاعات جديدة لا تتحرك فقط عبر التلاحم الصوتي للكلمات، بل من خلال الاندماج مع المتخيل الشعري حيث الدهشة، والصدمة، والوقفات التأملية المتتالية.
*في عام 2000 أصدرتَ ديوانك الثاني الموسوم ب (البوهيمي والنجوم)، ومن خلال الملاحظة السريعة نكتشف أنك تولي العناوين اهتماماً خاصاً. هل تعتقد أن عنوان القصيدة هو مفتاح للولوج إلي النص الإبداعي؟
- العنوان جزء من القصيدة. أريد أن أتحاشي موضوع المفتاح لكونه ينطوي علي فكرة تبسيطيةً إلي حد ما، فهناك دائماً في القصيدة مغالق من الصعب جداً الولوج إليها عبر العنوان، ولكن مع ذلك يدفع العنوان دائماً باتجاه نوع محدد من التأويل. إنه تشجيع من الكاتب لقراءة معينة، ولكن هناك دائماً في النص عناصر تتمرد علي العنوان ولا تخضع لسلطته التشكيلية، ولا تسكن عند رغبته في جعل المعني مستقراً علي محمول أحادي القطب. فكلما كان النص أكثر انفتاحاً وحركية كلما أصبحت إمكانية الطعن في سلطة العنوان أكثر يسراً.
*أصدرتَ مجموعتك الشعرية الكاملة التي تضم بين دفتيها قصائدك المكتوبة بين عامي 1983 و1998. ألا تعتقد أن نشر أعمالك الشعرية الكاملة ما يزال مبكراً؟ وهل يعني هذا أنك لم تكتب أشعاراً قبل هذا التاريخ؟
- أولاً أن ديواني الأول صدر بنسخ محدودة جداً، وبشكل متواضع، بينما كان الإقبال عليه كبيراً بحيث سماه شاعرنا الكبير شيركو بيه كس ب (العاصفة). وبعد أربع سنين من صدور الطبعة الأولي كانت هناك العديد من النسخ المستنسخة في الأسواق والتي تباع غالباً بأسعار غير منصفة. لهذا السبب فكرت بإصدار طبعة جديدة تليق بمنزلة الديوان بحيث يكون في متناول يد القارئ البسيط أيضاً. ثانياً نشرت بين عامي 1992 و1998 عدداً من القصائد الطوال الأخري في المجلات الأدبية، ولكن كان هناك دائماً كم هائل من الأخطاء المطبعية التي حفزتني لإعادة نشر الديوان من جديد. ثالثاً، لم يحتوِ ديواني الأول علي من القصائد المكتوبة بين عامي 1983 و1998 أي أن بعضاً من قصائدي ظلت تنتظر أكثر من (15) سنة لكي تري النور، ولم يكن بالإمكان حجبها أكثر من تلك الفترة. هكذا خرج الديوان ب (284) صفحة من القطع الكبير، محتوياً علي (11) قصيدة طويلة كان بالإمكان طبعها في (11) ديواناً شعرياً منفصلاً. لم يكن طبع الديوان تحت اسم المجموعة الشعرية الكاملة 1983 ــ 1998 نزوة من نزوات الشباب، بل كان عملاً ضرورياً لإنقاذ تجربة كاملة من الاندثار.
الرواية الكردية
*هل نستطيع القول إن هناك رواية كردية تتكئ علي إرث روائي حقيقي آخذين بنظر الاعتبار أن الروايات المنشورة باللغة الكردية في كردستان هي قليلة جداً بحيث لا يمكن الاطمئنان إلي القول أن هناك رواية كردية حقيقية؟
-حسناً، لدينا الآن هنا إشكالية عسيرة، وهي إشكالية تعريف مفهوم (الإرث الحقيقي) تري هل يتكئ الروائي العربي علي إرث روائي عربي حقيقي؟ وهل يتكئ الروائي الأمريكي اللاتيني علي إرث روائي يعود بجذوره إلي القرون الغابرة، حيث كانت السلطة للأساطير الهندية في رأي الكتابات المعاصرة تتكئ أكثر مما تتكئ علي التراث الإنساني الشامل، التراث الذي يتجاوز مفهوم (الإرث الخالص) أو (الإرث الحقيقي) أو (الإرث القومي المقدس) فشمس الإرثيات الخالصة مائلة إلي الأفول. فلا إبداع من دون تجاوز الإتكالية علي الموروث المحلي والاتجاه صوب الموروث العالمي. الرواية لم تكن أبداً جنساً محلياً خالصاً. الرواية هي أقل الأجناس الأدبية التصاقاً بالموروث، وأقلها تعبيراً عن إستمراريته. إشكاليات الرواية الكردية لا تعود بالضرورة إلي غياب الخلفية التاريخية، وغياب ما يمكن تسميته بالمنابع القومية للرواية كفن، بل تعود إلي غياب العلاقة المباشرة والعميقة بالموروث والمعاصر من الثقافات الإنسانية. إن إشكالية الروائي الكردي هنا تشبه إلي حد ما إشكالية الروائي العربي، بالنسبة لهذا الروائي الاتصال بالموروث الروائي الإنكليزي والفرنسي والروسي والأمريكي اللاتيني أهم من قراءة (بديع الزمان الهمداني) إن حظوظه كروائي مرتبطة إلي حد كبير بقدرته علي قراءة وفهم المنابع الحقيقية للفن الروائي وليس بقدرته علي الاتكال علي الموروث النثري في العصر الأموي أو العباسي. هنا لا أريد أن أهاجم التراث وعبدته، بل أريد أن أقول لا توجد علاقة ميكانيكية بين الإبداع والتراث، فالموروث ليس بالضرورة جسراً إلي الإبداع. إن بناء المستقبل وكتابة النصوص تحتاج إلي معابر أكبر، وبوابات أوسع من التراث. فغياب الموروث سابقاً لا يعني غياب الإبداع لاحقاً. أما عن إشكالية الموروث في الثقافة الكردية فإنها تختلف جذرياً عن إشكالية السلف في الثقافة العربية. ففي تصوري أن الثقافات التي لا تعاني من عقدة الخلاص الأبدي للموروث تستطيع أن تكون أكثر انفتاحاً وديناميكية رغم أن هناك من يحاول زرع نفس الإشكالية في الثقافة الكردية. أما بالنسبة للرواية الكردية، ففي السنوات الأخيرة ازداد عدد النصوص الروائية بحيث بدأت تحتاج إلي التريّث والمراجعة الجادة. ورغم ضخامة العدد تبقي المساحة الإبداعية صغيرة ومحدودة. ففي السنين الأخيرة ظهرت محاولات أعطت زخماً للحركة الروائية في كردستان، هذه الحركة لا تقتصر علي الجزء الجنوبي من كردستان، أي كردستان العراق، بل تمتد شمالاً وشرقاً، فهناك كّاب جيدون يكتبون الرواية الكردية في إيران وتركيا. نعم، لدينا الآن ما يمكن تسميته بالرواية الكردية. الأزمة الحقيقية الآن كامنة في ضعف حركة الترجمة من الكردية إلي اللغات الأخر.
*هل لك أن تعطينا فكرة موجزة عن ثيمة أو موضوعك روايتك الأولي الموسومة ب (موت، وحيد العائلة الثاني) أو لماذا تركز أنت ومعك الكثير من الكتاب الكرد علي الموضوعات التراجيدية. ألا تعتقد أن التركيز علي جانب واحد يفقدك فرصاً حياتية أخري ينبغي عليك أن تتناولها، ولا تضيّعها من بين يديك؟
- ما تقوله صحيح. أنا كنت أول المنتقدين لنزعة (عشق الموت) في الثقافة الكردية، وأول من خصص عملاً فكرياً لنقد هذه الظاهرة وجذورها التاريخية. كان مقالي باسم (المجتمع الجنائزي) الذي نُشر عام 1992، وقد أثار في حينه غضب البعض من الأوساط الدينية. إن النزعة التراجيدية المتأصلة في رؤية الإنسان الكردي للعالم تعود إلي هذا الافتتان الغريب بالموت في مجتمعنا، نزعة تصل حد العشق والوله بالموت، إلا أن عشق التراجيديا في الأدب أقل خطورة من عشق الموت في المجتمع منذ العصر اليوناني وإلي اليوم، مع اختلاف الأزمنة والأمكنة لا يستطع الأدب أن يكون احتفالياً خالصاً، أن يكون احتفاء مجرداً بالحياة، قائماً علي إلغاء ما هو تراجيدي. في أكثر المجتمعات البشرية سكوناً ورفاهية لا تختفي التراجيديا إطلاقاً. الأدب ينظر دائماً إلي الجزء المأساوي من الوجود أكثر مما ينظر إلي الجزء المشرق. حتي التفاؤل يكاد لا يستقيم لوحده، ولا يستطع الظهور بمفرده من دون صحبة التراجيديا. أما بالنسبة لنا فالتراجيديا هي جزء من النسيج اليومي للحياة. إلغاء التراجيديا يعني إلغاء الواقع. علي العموم رغم موافقتي المبدئية علي الحضور الطاغي للتراجيديا في الكثير من الأعمال الكردية أريد. أن أبوح لك بشيء قد يكون غير متوقع. في رأيي أن أروع الأعمال القصصية المعاصرة، علي الأقل في مجال القصة القصيرة، هي ليست تراجيدية. فأعمال شيرزاد حسن، كاروان عمر وكوكبة أخري من الكتاب الشباب والشيوخ فيها الكثير جداً من البهجة أو الدفق الكوميدي. أنا لا أتصور أن هناك من يستطيع أن يقرأ كاروان عمر من دون أن يضحك طويلاً، إلا أن هذا الجانب الرائع من الثقافة الكردية غير مترجم، أو مترجم بشكل سيء. أو أن هذه التراجم غائبة أو مغيّبة قسراً لأسباب لا أريد هنا الدخول في تفاصيلها. فحركة الترجمة من الكردية إلي العربية سيئة، ومضحكة، وتراجيدية إلي أبعد الحدود، وقلما طالت كوكبة من الأقلام الجيدة والجميلة. هناك نوعان من الكتابة التراجيديا في الأدب الكردي، التراجيديا بمعناها المليودرامي الهابط، أي الترويج للوقائع والشعارات السياسية في لحن بكائي، جنائزي، ممل، مليء بالأنين والحسرات التي لا ترتفع مرتبة النص الأدبي، ويبقي تسويقاً رخيصاً للهم السياسي في إطار الدغدغة البسيطة لمشاعر نخبة محددة من القراء. والنوع الثاني من التراجيديا هو النوع الذي يلتصق بالشرط الإنساني، ويترجم المكونات الخفية للحظة التاريخية، والاختيارات الصعبة، أو القهرية للفرد في مواجهة قوي تمزق وتفكك. هذا النوع من التراجيديا يتجلي كنظرة ثاقبة إلي داخل المصائر المنسية والمحاصرة في لحظة زمانية ومكانية محددة.
هذا النوع يترجم تقاطع المعضلة الوجودية للبشر مع الإشكاليات التاريخية. إننا مضطرون لاستعمال هذا النوع من الحزن ضد الموت، أنه تراجيديا من أجل التفكير وليس التخدير. إنه ليس احتفاءً آيديولوجياً أو سياسياً أو دينياً بالعذاب أو الموت، وليس تعلقاً مازوشياً ونفسياً بما هو مؤلم أو ارتداداً أو نكوصاً نحو (رضّات) الطفولة كما يسمّيها المحللون النفسيون، بل أنه إدانة قاسية للألم. نعم، أن الموت والتراجيديا حاضران بكثافة في أعمالي أساساً من أجل تعرية القتل والموت البطيء من المدلولات التي لصقت بهما، سواء المدلولات الثورية التقليدية أو المدلولات الآيديولوجية العامة أو الدينية أو الأسطورية أو الطقسية. إن أعمالي هي محاولة لتعرية القتل أو إظهاره في شكله الحقيقي كشيء بشع، ومرعب، وغير مبرر. (موت ــ وحيد العائلة ــ الثاني) عمل في نفس الاتجاه.
إنه سرد من خلال عدد لا يحصي من الأصوات لحادثة قتل سياسي يرتكبها عدد كبير من الكلاب والرجال في وسط مدينة مجهولة. الرواية مبنية علي المقاربات والتباينات السردية لعدد غير محدود من الأصوات تتلاصق وتتباعد، تتناقض وتتناغم بحثاً عن معني وخلفيات الحادثة، بحثاً عن الحقيقة الضائعة في ظلام الذاكرة، وأوهام الرواة، حيث يتقاطع مصير الضحية مع مصائر الحكاة.
*روايتك الثانية (مساء بروانة) تشي باهتمامك بالمكان، هل لك أن تعزز لنا هذا الجانب؟ وكيف تنظر إلي لأمكنة الكوردستانية وأنت بعيد عنها جغرافياً رغم أنني موقن تماماً أنك تحمل كوردستان في قلبك وبين جوانحك؟
- قبل(مساء بروانة) كنت أتهم دائماً بأنني أقل كُتّاب الكرد كردية. وكشاعر كنت مُتهماً بالضبابية، وككاتب بالمبالغة في التنظير والتجريد الذهني. كان البعض يري بين كتاباتي وبين المواطن العادي هوة سحيقة غير قابلة للردم والتجاوز. في (مساء بروانة) استطعت وإلي حد معقول تجاوز تلك المعضلة. وحينما عدت إلي كوردستان كانت دهشتي كبيرة جداً عندما وجدت أن قراءة الرواية لم تنحصر كما هي العادة بين الشرائح المثقفة، بل أن هناك كماً كبيراً من القراء من الناس العاديين. كما التقيت بأناس كانوا قد سمّوا أطفالهم باسم أبطال الرواية. التقيت أيضاً بقرّاء جاءوا من قري وقصبات نائية. كل ذلك كان دليلاً قاطعاً علي وجود جسور بين ما أكتبه وبين الناس، وجود جسور بيني وبين وطني في لحظة كان النقد التقليدي يحاول أن يصورني في شكل بعبع غير مفهوم اللسان. أنا ككاتب غير مهتم بالوطن، بل كانوا ينشرون عنا كتباً ومقالات عني وعن أصدقائي من الكتاب يتهموننا بأننا حفنة من اللا أباليين، وغير الملتزمين، واللصوص، والخونة. كانت رواية (مساء بروانة) ورواية (شجرة الرمان الأخيرة في العالم) جسرين حقيقيين بيني وبين الآخرين. أما بالنسبة للمكان، فالمكان الواقعي غائب اسمياً في رواياتي، بينما عملية تكثيف (المكان الروائي) بحيث يكون معبّراً عن كل ما هو خفي، وغير مرئي في المكان الحقيقي، عملية أساسية في رواياتي الثلاث. حسناً أنا لست من الذين يغنون للطبيعة الكردية، أنا أهتم بحياة البشر أكثر مما أهتم بجمال الطبيعة، أري في الاهتمام بالقبح الموجود في حياة الكائنات موضوعاً أكثر أهمية من جمال الشجر والحجر. الأجيال التي سبقتنا بالغت في التركيز علي الطبيعة الكردية إلي حد الملل حتي وصلنا إلي نقطة الصراخ (تباً للطبيعة) و(الطبيعة إلي الجحيم). كانت هناك آليات تتحكم بصورة الطبيعة في الأدب الكردي، في الأدب ذي المنحي القومي، كان هناك نوع من التماهي بين هوية الشعب وهوية الطبيعة، فأصبح جمال الطبيعة الكردية جسراً للإفراط في إظهار االشموخ القومي. كانت معادلة (الطبيعة الجميلة للشعب الجميل) تحجب قدرتنا علي رؤية الذات، وتشل طاقتنا في استكشاف الكارثة الداخلية. إن رؤيتنا للمكان تختلف جذرياً عن جيل (كوران) وجيل (شيركو بيكه س). من المؤسف ألا أجد هنا الحيّز الكافي لإظهار تلك الاختلافات، حيث قدّم كوران الطبيعة الجميلة كالقطب المناقض والمضاد لقبح التاريخ، بينما قام شيركو بأنسنة الطبيعة بشكل يكاد يكون شاملاً، بينما توجد في رواياتي إشارات صريحة لعصر اختفاء الطبيعة، وموت الطبيعة بمفهومها التقليدي. من الغباء أن نحتفظ بعد حلبجة بصورة (الطبيعة الحامية) أو (الطبيعة الأم) أو (الطبيعة الملجأ).



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في جولته الجديدة لكل من لاتيفيا وهولندا وروسيا وجيورجيا جورج ...
- التشكيلي سعد علي في معرضه الجديد - المحبة في مدينة الليمون - ...
- الملكة بياتريكس في يبويلها الفضي: لا نيّة لها للتخلي عن العر ...
- نزلاء حتى إشعار آخر - للمخرج فرات سلام: فيلم تسجيلي يقتحم قل ...
- المخرجة الإيرانية رخشان بني اعتماد: - سيدة أيار - إدانة صارخ ...
- التشكيلي ستار كاووش لـ ( الحوار المتمدن):أنا ضد المحلية البح ...
- المخرج هادي ماهود في فيلمه الجديد - سندباديون - أو - تيتانك ...
- جهاد أبو سليمان في فيلمه التسجيلي - أستوديو سعد علي -: رؤية ...
- أول امرأة هولندية تُصاب بجنون البقر، وتسبب هلعاً جماعياً
- المخرج العراقي ماجد جابر في فيلمه التسجيلي الجديد - المقابر ...
- الفنانة التشكيلية حنان عبد الكريم في معرضها الأخير: من الرمز ...
- الروائي العراقي اليهودي شمعون بلاص لـ - الحوار المتمدن -:عند ...
- الروائي اليهودي العراقي شمعون بلاص لـ - الحوار المتمدن -: نز ...
- الفنان سعد علي في معرضه الشخصي الجديد - الحب في مدينة الليمو ...
- التشكيلي زياد حيدر لـ ( الحوار المتمدّن ): اللوحة بالنسبة لي ...
- حفل لسيّدة المقام العراقي فريدة في دار الأوبرا في مدينة نايم ...
- أكرم سليمان في فيلمه الجديد - هلو هولندا -: دقّة المخرج في إ ...
- المخرج جمال أمين لـ - الحوار المتمدن -: شعوب الشرق الأوسط هم ...
- المخرج جمال أمين لـ - الحوار المتمدن -: الفيلم التسجيلي هو ع ...
- جمال أمين لـ - الحوار المتمدن -: لو لم اكن مخرجاً وممثلاً، ل ...


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الروائي بختيار علي لـ - الحوار المتمدن -: النص لا يخضع لسلطة العنوان ولا يهادن رغبته