أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سليمان سمير غانم - حران السورية: مدينة الإله القمر ومركز تراكم الإرث الديني؛ الوثني والتوحيدي (قدس سوريا). 2/3















المزيد.....



حران السورية: مدينة الإله القمر ومركز تراكم الإرث الديني؛ الوثني والتوحيدي (قدس سوريا). 2/3


سليمان سمير غانم

الحوار المتمدن-العدد: 4143 - 2013 / 7 / 4 - 18:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


بحث في مقاربة مفهوم الصابئة وفلسفة عبادة الكواكب في سوريا (مشروع كتاب).


-مدينة حران السورية:
-أهمية مدينة حران في الإرث الديني العالمي.
-تاريخ حران في العهد الآشوري والبابلي وحضور عبادة القمر سين.
-مدينة حران في العصر الكلاسيكي (اليوناني الروماني).
-مدينة حران في العصر الإسلامي.
-النبي إبراهيم والديانات التوحيدية في مدينة حران (المدينة كمرجعية دينية توحيدية).
-تخبط القرآن والمسلمين في موضوع الصابئة (حران كمثال في فهم مشكلة التراكم الديني السوري).
-الصابئة وعبادة الكواكب والقمر في مدينة حران عاصمة الروحانيات السورية.
-بداية المشكلة.
-فلسفة عبادة الكواكب والقمر في سوريا وهيكل إله القمر سين في مدينة حران.
-مفهوم الصابئة وديانتهم العالمية التوفيقية من خلال عيون المسلمين والأديان التوحيدية.
-الهياكل المقدسة والمكرسة لعبادة الكواكب في مدينة حران.
-الأسرار المقدّسة في مدينة حرّان الوثنية.
-العادات والتقاليد في مدينة حران القديمة.
-مصطلحات دينية عديدة تساعد على فهم الإرث الديني السوري المتنوع قبل الإسلام و المسيحية؛
-الوثنية .Paganism :
-الغنوصية Gnosticism و(الكتابات الهرميسية) Hermeticism ثلاثية التعليم.
-الأفلاطونية الحديثة Neoplatonism.
-إرث الصابئة اليوم وديانة مدينة حران وعبادة الكواكب في سوريا بين المندائيين والعلويين النصيريين.
-النتيجة:



فلسفة عبادة القمر والكواكب في مدينة حران السورية:

كان العديد من الحرّانيين يدمجون مع أسمائهم لفظة سين أو سي. كان هيكل الإله القمر وعائلته في حرّان معروفاً منذ زمن السومريين باسم إي -حل – حل، بمعنى هيكل البهجة والحبور. كان قد تم ترميمه عدة مرات في التاريخ الرافدي، حيث رممه الملك شلمناصر الثالث الآشوري في القرن التاسع ق.م. وبعد قرنين من الزمن رمّمه مرة ثانية الملك آشور بانيبال، ونصّب شقيقه الأصغر كاهناً أعلى له. كذلك قدّم الملك الآشوري أسرحدون نذوره على هذا الهيكل وهو في طريقه إلى مصر. كان سقفه حسب الروايات البابلية من خشب أرز لبنان وأفاريزه مطعّمة باللازورد، وأبوابه من الفضّة. هناك حادثـة بارزة في تاريخ حرّان – وموضوع هامّ للنقاش الحالي – وهي قصة سكن نابونائيد؛ آخر ملك بابلي في حران. وهذا مسجّل على مسلّة اكتُشفت في حرّان وضواحيها. كان نابونائيد آرامي الأصل، أتـاه الإرشاد في الحلم أن يُعيد بناء هيكل سين الذي كان الميديون قد دمّروه في سنة 610 ق.م. وكانت والدته التي ماتت عن عمر مائة وأربع سنوات كاهنة هناك. لكنّ حسب الرواية رفض شعب بابل المساعدة في المهمّة المقدّسة، فهجر الملك عاصمته لمدّة عشر سنوات إلى أنّ تمّ بناء الهيكل في حران لمجد الإله سين، "ملك الآلهة " و "أعظم الآلهة " حسب نابونائيد. رسْم الملك نابونائيد منقوش اليوم على مسلّة عثر عليها في مدينة حرّان وهو يمسك صولجاناً يحمل رمزاً إلهياً، ويعبد شعارات القمر (دائرة كاملة وهلال تحتها) والشمس (قرص مع شكل داخلي بأربعة اتّجاهات وبأشعّة منتشرة) وكوكب الزهرة عشتاروت (نجم بسبعة رؤوس داخل دائرة). إنّ سيل المتعبّدين في هيكل حرّان لم ينقطع بسقوط الدولة البابلية. نقرأ في وقت متأخر وبالتحديد في العصور الكلاسيكية أن الإمبراطور الروماني كركلا اغتيل في أثناء رجوعه من زيارته لهيكل معبد القمر وتقديم الأضحية له في حرّان في سنة 217.م. كذلك جعل الإمبراطور الروماني الشابّ جوليانوس مدينة حرّان مركز إقامته لعدّة أيّام في سنة 363.م بعد أن قام بإعادة الطقوس الوثنية إلى سابق عهدها ووضع حد لامتيازات المسيحيين في المنطقة. من حرّان ابتدأ في مهاجمة أراضي الإمبراطورية الفارسية، أدى اندحاره وموته في حرّان إلى حالة من الهلع والحداد في صفوف الوثنيين. ومع ذلك فقد استمرّ الوثنيون الحرّانيون في مقاومة تعدّيات الديانة المسيحية الناهضة وممارسة طقوسهم بالقوة. في القرن السادس الميلادي قامت راهبة حاجّة مسيحية تدعي إيثيريا من إسبانيا بزيارة حران في طريقها لرحلة حج في الرها والأماكن المسيحية المقدسة في الشرق. كانت قد سجّلت في يوميّاتها عن حران المكتوبة باللاتينية: "باستثناء القليل من الإكليروس والرهبان الأتقياء لم أجد مسيحياً واحداً جميعهم كانوا وثنيين. “

لقد سلّط الضوء على مذهب عبادة الكواكب في العهود المتأخرة من تاريخ سوريا في السهول والتلال المجاورة لمدينة حران في سـوماتار هارابيسي (خربة سوماتار) في جبال التكتك، وهو مكان بعيد مهجور لسقاية الأغنام والماشية في منطقة تبعد حوالي 50 كيلو متراً جنوب غربي (الرها) أورفا، وثلاثين كيلو متراً شمال شرقي حرّان، هناك في الموقع مجموعة من سبع أو ثماني عمارات حجرية تتوضع اليوم على خربة مهجورة. وقد تكون قبـوراً صنعت على شكل نصف دائري على فترات غير منظّمة، تتموضع حول تلّة مركزية في سوماتار. وهي ذات أشكال مختلفة: إحداها مستديرة والأخرى مربّعة، والثالثة مستديرة على قاعدة مربّعة. شمالي التلّة المركزية، وعلى بعد مسافة هناك أطلال أكثر رهبة، ربّما عمارات ملكية، ومن ضمنها ما يُسمّى اليوم "القلعة". وبجانب إحداها هناك تمثال حجري لرجل بدون رأس يلبس دثاراً طويلاً يصل إلى تحت الركبتين – وهذا يذكّرنا بالسترة السوداء التي كان يلبسها الحرانيون الذين قابلهم المأمون في حرّان. وعلى جانب التلّة المركزية الشمالي -من الواضح أنّه مكان مقدّس -هناك صورة منقوشة أخرى نافرة تُصوّر لباساً آخر من هذه الفترة. وإلى جانبها هناك صورة حجرية نافرة أخرى. وهذه المرّة النصف الأعلى لشخص رجل، نحتت من دون التركيز على اللباس، لكن شعره مضموم بربطة للرأس، متجسدة بشكل حلقة ونصف على جانبي رأسه. وهذا يذكّرنا بالحرّانيين في زمن المأمون الذي استغرب شكل جدائل شعرهم الطويلة.

على جانبي هذه الصورة الحجرية النافرة، هناك كتابتان سـريانيتان منقوشتان مكرستان للإله. وكتـابة منقوشة ثالثة، تعلن أنّ الصورة الحجرية النافرة التي ترافقها كانت مكرّسة لإله القمر سين ونقش رابع غير مقروء بصورة كبيرة، لكن يبدو أنّه يذكر سين الإله القمر مرّة أخرى، علاوة على ذلك يذكر أنه القيم على الكنـز، وربّما كان الكنـز في عهدته أي القمر أو الشخص المنحوت. وهنا، علينا أن نتذكّر الدفعة التي كانت تجمع من خزينة الحرّانيين إلى القاضي المسلم بعد المقابلة مع المأمون.

في قمّة التلّ المركزي صخرة جرداء، عليها عدة نقوش من الكتابات السرّيانية المحفورة بعمق على سطحها، ونقرأ في إحداها:

" ليكن أبسميا ابن آدونا النوهدرا مذكوراً . وليكن مذكوراً أمام مارإلاها… ".

ونقشان تكريسيان آخران يعطيان معاني فخرية نستدلّ على مكانهما؛ أحدهما على الجانب الغربي من القمّة والآخر على الجانب الشرقي منها. النقش الأول يقول:

" في القمر الجديد من شهر شباط سنة 476 للسنة الحرانية، أنا تيريدتس ابن آدونا حاكم العرب بنيت هذا الهيكل وأقمت عموداً لمارإلاها (الرب الإله) من أجل حيـاة سيّدي الملك وأولاده ومن أجل حياة آدونا والدي”.
النقش الثاني يسجّل أو يذكر حادثاً في الشهر نفسه:

"في شباط من سنة 476 للسنة الحرانية، أقمنا هذا العمود على هذا التلّ المبارك ونصبنا راعياً على الكرسي المخصص له وهو سيكون الحاكم. "بودار" بعد تيريدانس الحاكم، وسيعطي الكرسي له. لذاك الذي هو الراعي والوصي عليه. إنّ جزاءه سيكون من مارإلاها، وإذا احتفظ بالكرسي وسيتقوّض العمود عندئذٍ. إنّه الإله، هو الذي يعرفنا "

الكلمات الأخيرة من ترجمة النص غير مؤكّدة، لكنها ممكنة، يجب أن تكون الترجمة: هو سين الإله، فالسنة الحرانية التي سجّلت فيها هذه النقوش توافق سنة 165.م التي كانت نقطة تحوّل في تاريخ أوزروين، الإقليم الذي كانت الرها وحرّان واقعتين فيه تحت حكم الأباجرة. احتلّت الجيوش الرومانية الرها وطردت ملكها الموالي للبارثيين وهو الملك وائل، قد يكون الملك في نقوش سوماتار وهو ملك الرها، المدينة الرئيسية في الإقليم. كان هناك وثاق سياسي ما بين سوماتار والرها في هذا الوقت، يبدو أنّه كان هناك وثاق ديني أيضاً بين المكانين، ومن الظاهر أنّ المعبود الرئيسي في سوماتار يُشار إليه باسم مارإلاها " الربّ الإله ". ورموز مذهبه كانت العمود المقدّس، والكرسي. ورسم العمود الذي عليه قرنا هلال معروف على أنّه رمز القمر في هذه المنطقة. لدينا الرسم نفسه على نقش نافر على حجر في قبو صخري في سوماتار، نجده أيضاً على مسلّة قديمة في حرّان. وكذلك نجده على مسكوكات فضّية من حرّان زمن حكم الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس، لكنّ أكثر المواضيع المحيّرة للعمود المقدّس والكرسي هي أنّها مصوّرة على قطعتين فضّيتين لوائل ملك الرها الذي ذكرناه. كما أنّ عملة فضّية رهاوية أخرى من زمن حكم الملك اليفبالوس، ما يقارب الخمسين سنة فيما بعد، تحمل الرسم نفسه، لكنّها لسوء الحظّ غير واضحة. في نصوص كتابات سوماتار يمكن حلّ المعنى عبر تحليل اسم مارإلاها الوارد في النقوش، فمَن كان هذا المعبود مارإلاها؟ في اللغة النبطية، مارا (ربّ) هو أحد ألقاب الإله بعل شامين (سيّد السماوات). وفي تدمر أيضاً، في القرن الأول من الفترة المسيحية، مارا (ربّ أو سيد) هو لقب بعل شامين، لكن هنا في نقوش حران؛ هو العضو الـمركزي لآلهة ثلاثية التركيب، ويطلق عليه ألقاب مختلفة: (ربّ الكلّ، وربّ الكون، والإله العظيم).

إنّ التركيب الواسع للمذاهب والاعتقادات التي كان الإسكندر المقدوني نصيرها في الشرق المتهلين، تظهر انعكاساتها في الفلسفة المتحرّرة لمدرسة برديصان الرهاوي. وُلد برديصان وثنياً، لكنّه اعتنق المسيحية وكتب ضدّ الهراطقة، مهما يكن فإنّه بعدئذٍ لاقى مقاومة عنيفة من رجال الكنيسة لبثّه لما اعتبر آراء غنوصية في زمنه: وبعد مرور قرن من موته هاجمه القدّيس أفرام صراحة: "دعنا نصلّي من أجل برديصان الذي فارق هذه الحياة وثنياً". نجد بيّنة أخرى على اعتقادات غنوصية في حران والرها في الكتابة الغريبة التي عثر عليها على حجر قبري يقع على الطريق بين المدينتين وهي جملة غامضة، وُجدت في التنقيب قبل نحو خمسين سنة، تقول الكتابة السريانية المنقوشة عليه:

" إنّه طيّب مكان راحة شلمان بن كوكب. لقد أجابوك ونادوك، وأنت أجبتهم أولئك الذين لمستهم. لقد رأيت العلو والعمق، البعيد والقريب، الخفي والظاهر، وهم يعرفون جيّداً فائدة حساباتك "

إن وثنيّي شمالي ما بين النهرين في سوريا والعراق، كانوا تابعين مخلِصين في فلسفة عبادتهم للكواكب في أثناء القرون الأولى من العصر المسيحي. كان لديهم أيضـاً ميل ظاهر نحو فكرة إله واحد فرد – سواء كان وحيداً فوق الآلهة الأخـرى، أو الأوّل بين أقرانه فقط، وكما لاحظنا سابقاً، من المعالم الأثرية الباقية أنّ الوثنيين في حران اعتقدوا في حياة ثانية بعد الموت. وجميع الساكنين في هذه المنطقة كانوا يتكلّمون السريانية. ولهذا فإذا كان تفسير كلمة صابئة يعني أنّهم شعب صوبة -ولأنّهم يتكلّمون السريانية -وتقبل على هذا التفسير، فيكون هذا تبريراً بأنّ صابئة القرآن الكريم هم الوثنيون الساميون في شمالي ما بين النهرين وسوريا، يمكننا أن نطبّق هذا التعريف بصورة أقوى على سكّان حرّان لتفسير معنى أو وجود الاسم لشعب أو لطائفة دينية. ولقد كانوا في معظمهم ساميين، وعلى نحوٍ أدقّ مزيج من الآراميين والفينيقيين، يعبدون الكواكب. وعلاوة على ذلك فإنّ كتابات نابونائيد ترفع سين إله القمر فوق الآلهة الأخرى، إنّه "ملك آلهة السماء والأرض وأعظم الآلهة". والشاهد على هذه الفكرة العالمية ليس عرضياً، وتبرهن عليه كتابات نابونائيد في أور، فهناك يرفع سين "كربّ آلهة السماء والأرض ملك الآلهة". هناك سبب آخر للتمسّك بنظرية أنّ الوثنيين الحرّانيين هم ممثّلو الاعتقادات العالمية التوفيقية ومناصروها، فالقرآن يستعمل اصطلاحاً كلمة حنيفاً أو الحنيف للشخص الذي يؤمن بإله واحد قبل ظهور اليهودية والمسيحية – أي قبل موسى وعيسى وفي رأي النبيّ محمّد بن عبد الله أنّ الحنيف الحقيقي كان إبراهيم، وحرّان في زمن النبيّ محمّد كانت منذ زمن طويل مركز الحنفاء السريان، وحرّان كانت موطن إبراهيم. وكلمة حنيف بمقياس معيّن هي رديف لكلمة صابئي، والصابئي هو العضو في هذه الطائفة الدينية، والحنيف هو الذي يعترف بعقائدها، إننا في دراسة التقاليد في حران نصل إلى خط عام يقول بأن الحرّانيين كان لهم كتاب مقدّس يُدعى كتاب الحنفاء يعترفون فيه بأنبياء معيّنين. ويبدو أنّ الكتاب يهتم بالطقوس والقداسات في الصلاة وليس بالقوانين والحركات. والأنبياء كانوا أسطوريين أكثر من أن يكونوا بشراً، نقرأ أيضاً أن الحرّانيين أرضوا الحالات أو الطقوس التي يطلبها الإسلام للاعتراف بهم كطائفة تنال التسامح الديني، ويمكن التساؤل هنا؛ لماذا اضطربوا وتلعثموا عندما سألهم الخليفة المأمون وطلب منهم إثبات هويّتهم؟ يمكن تقديم عدّة أسباب هنا. فقبل عشرين سنة من زيارة الخليفة كان الحرّانيون قد نالوا الموافقة الرسمية من قِبل حاكم حرّان على ممارسة طقوسهم. إنّ عدم موافقة المأمون الفجائية أخذتهم على غرة فاضطربوا. وعلاوة على هذا فقد كان الحرّانيون الوثنيون يتكلّمون السريانية أولاً والعربية كلغة ثانية، ولجهلهم بالأحكام الجديدة للإسلام وكلام الخليفة التجأوا إلى قاضٍ مسلم. هذا يدفعنا إلى الافتراض بأنّ ذلك كان السبب في اضطرابهم، لكنّ الإيضاح الأكثر احتمالاً هو أنّ الحرّانيين عند مقابلة الخليفة المأمون اضطربوا لعدم رغبتهم في عرض كتابهم وأسرارهم المقدّسة الباطنية أمام عيون الغرباء.

-مفهوم الصابئة وديانتهم العالمية التوفيقية من خلال عيون المسلمين والديانات التوحيدية:

منذ القرن العاشر الميلادي وما بعد اهتمّ جامعو الكتب القديمة، ومعظمهم مسلمون، باعتقادات الصابئة وعاداتهم، ولم يقبلوا كلّهم مساواة الصابئة بوثنيي حرّان – سنعود إلى هذه المشكلة فيما بعد. كان عالم الوثنية قد تقلّص كثيراً والمناطق الواسعة من سوريا التي لم تصلها المسيحية كانت قد تحوّلت إلى الاعتقاد بإله واحد بواسطة الإسلام. فجميع الكتّاب المسلمين في كتاباتهم نعتوا الصابئة بكلّ ما استطاعوا أن يجدوه من السيئات التي نجدها في الكتابات المختلفة – من الوثنية إلى السحر والدجل. لم يكن من السهل على الصابئة أن يناهضوا هذه التلميحات، لكنّهم كطائفة دينية قليلة كانوا منشغلين في صـراع دائم، لكي يحافظوا على وجودهم الديني والإنساني. إنّ دين الصابئة لم يكن ذلك الدين الذي يستطيع أن ينال قبولاً عامّاً. كذلك يبدو أنّهم لم يحاولوا أن يقوموا بأيّ جهد لكسب معتقدين جدد لمذهبهم، الذي كان يدور بصورة كبيرة حول أسرارهم الخاصة. حتّى إنّ لغتهم وطقوسهم السرية العربية والسريانية، كانت لغة سرّية مخفية عن معظم جيرانهم المسلمين. وما كتبه الكتّاب الصابئة عن الدين الصابئي لم ينتشر ولم يعرف إلا ضمن الوسط الصابئي. إنّ الحكايات التي وصلتنا عن الصابئة، كانت فقط من خلال عيون الذين ينتقصونهم؛ أي المسلمين والمسيحيين واليهود، الذين كانوا يبرزون تلك التفاصيل التي يمارسها الصابئة وتثير عداء قارئيها واشمئزازهم، تحتوي بنظرهم على مزاعم من الواضح أنّها غير منطقية. لكنّ هذا لن يدهشنا، لأنّ مزاعم كهذه قيلت عن اليهود من قبل بأنّهم يقومون بممارسة طقوس غريبة في مراسيمهم. واليهود أقلّية بالإمكان أن تتناول بالنقد أكثر من الصابئة، لكننا اليوم نجد أغلب الأديان التوحيدية تقتبس الديانة اليهودية في أمور كثيرة؛ ليس أولها الأنبياء وليس آخرها الطقوس. كانت هذه المزاعم موضوعاً يتكرّر في آسيا وأوروبا حتّى القرن العشرين. حكاية مختصرة عن اعتقادات الصابئة يعطينا إيّاها كاتب إسلامي من القرن التاسع هو أحمد بن الطيّب يدّعي؛ بأنّ الصابئة يعتقدون بأنّ هناك قوّة فائقة وحيدة وأبدية، كانت السبب الأوّل في خلق الكون. هي قوة فوق متناول البشر ولا يستطيع أحد عبادتها. أوكلت هذه القوّة (التي هي الله) إدارة الكون إلى الكواكب التي تفصح عن قدرته الفائقة. وعلاوة على هذا، فإنّه أرسل أنبياء عديدون – أشهرهم هو راني (وثمّة كتّاب آخرون يسقطون هذا الاسم) وأغاثوديمون (الذي يجعله كتّاب آخرون مساوياً لشيث وأورفيوس واليوناني -ويقدّم إلينا كما نذكر في الصورة الفسيفسائية في الرها. وأيضاً آخرون يشبهونه بهرميس (الذي يساويه باحثون آخرون بإدريس وأخنوخ) ليقود البشرية. أمّا نظريات الصابئة حول هذا المعبود وماهيته وحول ظواهره الطبيعية، وحول الروح والأحلام، فإنّها تعيد إطلاق النظريات التي اقترحها أفلاطون وأرسطو، ويخبرنا معاصر لأحمد بن الطيّب أنّ؛ الكواكب بالنسبة للصابئة آلهة، بعضها ذكر وبعضها أنثى. بعضها صالح وخيّر وبعضها الآخر شرّير بعواطف وشهوات كالبشر. يعلمنا أحمد بن الطيّب أنّ الصابئة في حران كانوا متّحدين في اعتقاداتهم، ليس لهم ضغائن حزبية فيما بينهم. لكنّ كاتباً آخر من القرن نفسه يخبرنا -باحتمال كبير -عن جماعتين منشقّتين: إحداهما تدعى الرفوصية وأتباعها لا يلبسون حليّ للزينة، ويتمسّكون بتقديم الأضاحي والقرابين من الخنازير بوقار. أمّا أعضاء الجماعة الثانية فلا يخرجون من بيوتهم أبداً، ويحلقون رؤوسهم حلاقة تامّة إنّ هؤلاء الصابئة المزعومين لدى الكاتب من غير المحتمل أن يكونوا وثنيي حرّان. إنّ الصور الفسيفسائية في الرها تصوّر الكثير من المجوهرات والزينة بصورة بارزة على الأزياء النسائية. وكان الخنزير حيواناً ممنوعاً في التقاليد الدينية الحرانية، كما أنّ الحرّانيين كانوا يطيلون شعورهم. ثمّة مصدر إسلامي آخر فيما بعد يتكلم عن الصابئة هو: المؤرخ المسعودي وهو مدقّق لأخباره ومصادرها، بعد أن زار حرّان في القرن العاشر الميلادي، نراه يستعمل اصطلاح صابئي على الوثنيين في اتّساع دائم، حيث يكتب عن صابئة حرّان وأولئك الصابئة الذين يصفهم بالقميريين. ويعلن أنّ الأوّلين منهم يونان، ويتبعون أشكالاً انتقائية من الفلسفة، أمّا الآخرون فهم المانديون أو الصبّة (وسنناقش موضوعهم فيما بعد هنا)، وهم يعيشون قرب البصرة وواسط. يجب أن نقر هناّ بأنّ المسعودي يناقض نفسه ويدّعي في إحدى عباراته أنّ مؤسّس الجماعتين الصابئتين كان من وجهة نظره بوذاساف (بوذا) الذي يعتقد -كما نرى في مكان آخر-أنّه أتى من الهند. وفي مكان آخر يكتب عن أربعة أصناف من الصابئة هم: الكلدانيون الذين هم الماندائيون، والصينيون الذين يتبعون بوذاساف، واليونان والرومان والمصريون الذين يعيشون في حرّان. لم يكن المؤرخ المسعودي يفهم النظرة العالمية للدين الصابئي، لذلك جاءت كتاباته عن عدم فهم للديانات التوفيقية في سوريا. يقدّم كتّاب متأخّرون نظريات غير محتملة إطلاقاً، مع ذلك كلّه فإنّنا نستطيع أن نصل إلى خطّ معقول لهذه المعتقدات. في الديانة الصابئية؛ كان المؤمنون يوجّهون صلواتهم إلى كائنات روحية يعتقدون أنّها تقوم بدَور الوسيط ما بين البشر والمعبود الخالق. وهذه الكائنات تسكن وتسيّر الكواكب التي هي في اعتقادهم بمثابة الروح من الجسد. ونشاط الكائنات الروحية ينتج الحركة في الفضاء، وهذه بدَورها، تخلق الأشياء المادّية: الأشجار والحيوانات والبشر. والمادّة في نظر الصابئة رديئة بالطبيعة، والكائنات البشرية لها تحاملاتها وعواطفها، لكنّها بتأثير الكائنات الروحية التي تسكن الكواكب فقط تمنح الحبّ والوداعة، والمعرفة والشفاء. لذلك رفض الصابئة التعليم الإسلامي والتوحيدي الذي مفاده أنّ نبيّاً من البشر يستطيع التوسّط بين الإنسان والمعبود السامي. والصابئة لا تؤمن بالبعث بالمعنى التقليدي، ويعتقدون أنّه في كلّ 36425 سنة يُخلق نظام جديد من البشر. لذلك فإن وجهة نظر المسلمين بالصابئة سواء عن طريق المؤرخ المسعودي، أو أحمد بن الطيب، أو ابن النديم وإضافة لأقوال الأئمة الإسلاميين، لا تعطي فكرة واضحة، أو مفهوم جلي لمعنى ديانة الصابئة، بل كان يسودها الجهل بمعتقدات الديانات الفلكية التوفيقية، نظرة كانت متخبطة كثيراً في تصورها لمفهوم الصابئة وعبادة الكواكب في سوريا والعراق.

-الهياكل المقدسة والمكرسة للكواكب في مدينة حران:

إنّ الحراني العادي لم يكن قادراً على أن يسيّر حياته بمبادئ عامّة كبقية الأديان، بل كان يستمد طقوسه وقداساته من الفلسفة التي يتلقاها من الآباء الروحيين، فالقدّاس الحرّاني كان يتبع طقوساً معقّدة ثقافياً، تعبد القوة في الهياكل الأرضية الممثلة للقوة في الكواكب القريبة والبعيدة وعلى الغالب الغير مرئية أيضاً. أيّاً يكن الأمر، فقد كان هناك هياكل كثيرة، هياكل ليس للكواكب السبعة فقط، بل هياكل متعددة؛ هيكل للعلّة الأولى، والعقل الأوّل، وهيكل لنظام الكون، وهياكل للماء وعناصر الطبيعة، هيكل للحاجة والروح، وجميع هذه الهياكل كانت مستديرة. يعلن المصدر أو التقليد الحراني، أنَّ لكلِّ كوكب هيكلاً له شكل معيّن _وهذا يذكّرنا بالعمارات الأثرية في سوماتار هارابيسي _وكلّ هيكل يعكس أفكار تلك الأوقات عن اللون والمعدن الفريد الخاصّ بكلّ كوكب واليوم البارز في الأسبوع الذي يمثله. إنّ ترتيب الهيكل ونظامه وعلو الهياكل كان يتطابق مع بُعد ذلك الكوكب عن الأرض. فكان هيكل زحل مسدّساً وأسود، وتمثاله من الرصاص، ويومه السبت. كان هيكل المشتري مثلّثاً أخضر وتمثاله من معدن مختلط التنك، ويومه الخميس. كان هيكل المرّيخ مستطيلاً (أو مربّعاً)، ولونه أحمر، وتمثاله من الحديد، ويومه الثلاثاء. هيكل الشمس كان مربّعاً، تمثاله من الذهب، ويومه الأحد. أمّا هيكل الزهرة كان مثلّثاً داخل شكل مستطيل، ولم يكن له لون معين وكان يومه الجمعة. تمثال عطارد كان من الطين، ويومه الأربعاء. وكان هيكل القمر على أغلب الظنّ مثمّناً، وتمثاله من الفضّة، ويومه الاثنين. نحن لا نعرف أين كانت هذه الهياكل قائمة في حرّان - ما عدا هيكل القمر الذي كان موجود في مركز المدينة القديمة في حران. - وكانت هناك خارج حرّان قريتان إحداهما تدعى ترعوز، بوّابة الزهرة، والأخرى تُدعى سلامين، صنم سين الذي كان يحتفل به السكّان الصابئة الورعون في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. الاسم الثاني يذكّرنا باسم القرية الحديثة ساينمعارة شرقي خربة سوماتار على جبال التكتك قرب مدينة حران، حيث يمكننا أن نشاهد مذبحاً ومجموعة كبيرة من الأبنية المتهدمة. ربّما كان هنا موقع هيكل القمر الذي كان يُدعى كادي. هذا الهيكل كان شهيراً باحتفالات هامّة، شهرية وسنوية، واحتفالات صابئية أخرى كانت تُقام سنوياً في هيكل سين وتُدعى سيني، كان الحرّانيون يتّجهون في صلواتهم نحو الشمال (وكتّاب آخرون يقولون، وهذا احتمال قليل، نحو الجنوب). كانوا يصلّون كلّ يوم عند شروق الشمس، وفي الظهر والمساء، وكانت هناك صلوات زائدة عن المطلوب أيضاً. كانوا يغتسلون قبل الصلاة وكانت التنظيمات بخصوص الصلوات صارمة. كانت التعليمات السرية تُعطى للمتعبّدين في طقس ديني عثر عليه في نقش حراني يقول: "إذا كنت تريد توجيه الصلاة لكوكب معيّن وتطلب شيئاً، أوّلاً املأ كِيانك بمخافة الإله، ونقِّ قلبك من الأفكار الشريرة وثيابك من الأوساخ واجعلْ روحك طاهرة نقيَّة، وتأمَّل إلى أيّ كواكب من الكواكب السبعة عليك أن توجِّه طلبك، وأيّ منها تنطبق مع شخصيّتك، ثمّ البس ثيابك ووجِّه صلاتك إلى ذلك النجم عندما يصل مكانه في النطاق الذي سوف أدلّك عليه، فإذا عملت هذا فإنّ طلبك سيُستجاب وستحصل على النعمة التي ترغب فيها. "

إنّ لكلّ كوكب من الكواكب بالنسبة للحرانيين تأثيراً على فئة خاصّة من الأشخاص – فزحل له تأثير على الأشخاص ذوي السلطة، والمشتري على الحكماء والفلاسفة، والزهرة على النساء والأطفال والفنّانين، وعطارد على رجال العلم، والقمر على الذين يعتنون بالنباتات والجوّالين. وكان لكلّ كوكب طباعه أيضاً. فكان زحل والمريخ بوجه خاصّ، مؤذيين شرّيرين. والوقت المناسب الصحيح للصلاة كان يتعيّن بملاحظة موقع الكوكب من السماء. وطالب الدعاء الصابئي عليه أن يلبس اللون اللائق ويختار اليوم الخاص بذلك الكوكب، ففي الصلاة للمشتري، يجب على مقدّم الدعاء أن يلاحظ ويلبس لباس الخنفاء حول عنقه – ويقدّم البخور للكواكب بموجب عبارات معيّنة. لدينا معلومات تاريخية بأنّ الصلوات في الديانة الصابئية كانت تخصص لكلّ كوكب اسم خاص، واسم ملاكه الخاصّ وتسمية سحرية، وكان له أضحيته المنتقاة للتضحية. فزحل يطلب تضحية تيس، والمشتري يطلب حملاً أبيض، وعطارد يطلب ديكاً أبيض، والقمر يطلب عجلاً صغيراً.

كان التقويم الحرّاني قمرياً شمسياً. وكما في كلّ مكان من الشرق الأدنى القديم، كان يضبط بسلسلة من اثني عشر شهراً قمرياً -والشهر القمري يتكوّن من 29 يوماً و12ساعة و44 دقيقة و2.8 ثانية، لذلك عملوا في مدار السنة الاستوائية بإقحام شهر إضافي كلّ سنتين أو ثلاث. ولقد بقي شهران فقط من الأشهر الخاصّة المعروفة بتقويم مدينة حرّان؛ أحدهما يُدعى "شهر التمر “وهو اسم شهر الربيع الذي كانت السنة تُفتح به. والآخر يُدعى "شهر زعيم الثناء" ويتزامن مع شهر كانون الثاني. وربّما كان يتبع انتخاب زعيم الطائفة الروحية للحرانيين.

كان شهر الربيع يهلّ بعد صيام ثلاثين يوماً وينتهي في اليوم الثامن من ذلك الشهر. كان يحتفل بالقمر البدر في شهر الربيع بسرّ من الأسرار. وهكذا أيضاً كان يُحتفل بالقمر البدر في الشهر الأقرب إلى الاعتدال الربيعي. كان الاحتفال يتميّز بتقدمات مهيبة من الطعام والخمر وأضاحٍ لأرواح الأموات. وعند اكتمال القمر الأقرب إلى الاعتدال الصيفي، كانت النساء تنوح على تمّوز إله الخصب الشابّ الذي كانت عظامه، بموجب الأسطورة، تطحن بين حجرَي الرحى، فهذا النموذج من تبدّل الفصـول كان يعكس حلول وقت جمع ضريبة الرأس (الفرد) للخزينة الحرّانية (الذي أشرنا إليه سابقاً). في أشهر الصيف كانت المهرجانات والأعياد الدينية جميعها تتميّز بأضاحٍ وافرة يحتفل بها في معابد خارج مدينة حرّان. أحدها في الثامن والعشرين من نيسان، في هذه المناسبة يُضحّى بثور إلى الإله هرميز وتقدمات إلى "ربّ الساعات". وفي الثالث من أيلول كان الحرّانيون يستحمّون بالسرّ في ماء ساخن ممزوج بالطرفاء والشمع، وأكواز الصنوبر، والزيت والسكّر. وكان هذا الاحتفال يتمّ قبل شروق الشمس، ثمّ يقدّمون أضحية ويشربون سبع كؤوس كبيرة من الخمر المعصور من العنب. في اليوم السادس والعشرين من هذا الشهر كانوا يُقيمون مهرجان الحبل. وكانت النساء اللواتي قُمنَ بنذور يوصلنَ بفروج من الدجاج مشاعل ملتهبة. فإذا كان الفروج قد احترق قبل المشعل، كنّ يعتقدنَ أنّ نذرهنّ قد استجيب وقَبِله "ربّ الحظّ". وفي بداية شهر كانون الأوّل كان النساء يحتفلنَ بمهرجان أُقيم للزهرة وحوريات الماء خارج حرّان. كان يُقام تمثال الآلهة على قاعدة رخامية مربعة، ثمّ يأتي المحتفلون بالثمار والأزهار والأعشاب والأضحيات الحيوانية لوضعها بقربها. جنباً إلى التقويم القمري والشمسي الديني، الذي كان يفتتح في الربيع، من الظاهر أنّ الحرّانيين كانوا يحتفلون بسنة مدنية تبتدئ في كانون الثاني. وكان رئيس الطائفة الحرانية يقف على منصّة في آخر يوم من أيّام الشهر الماضي، والمنصّة موضوعة على رأس درجات تسع ويضرب كلّ شخص بغصن من شجرة الطرفاء وهذا طقس محبوب من طقوس الخصب. ثمّ كان الكاهن يصلّي من أجل طول الحياة والتكاثر والقوّة وتقدّم الطائفة.

-الأسرار المقدّسة في مدينة حرّان الوثنية:

أيّاً يكن الأمر، فإنّ الطقوس المركزية في حرّان الوثنية؛ كانت هي الأسرار المقدّسة. وكان يحتفل بها بصورة رئيسيّة لشامال وربّما هو معبود الشمال، يتوجّه نحوه الحرّانيون في قداساتهم وقد اعتقدوا بأنّه مصدر الحكمة والقوة. في اليوم 27 من كلّ شهر يخرج المتعبّدون إلى معبد الكادي (هيكل إله القمر) ليضحّوا للقمر. وفي اليوم التالي يحرقون الحيوانات للمريخ في فسطاط من القرميد المشوي والمبني في شكل مخروطي. من المؤكّد أنّ هذه الأسرار المقدّسة كانت تُقام في اليوم 27 من الأشهر حزيران وتمّوز وأيلول وكانون الثاني. بعض هذه الأسرار كان لها مزايا خاصّة، في شهر كانون الثاني الذي كان يُدعى "يوم ميلاد الربّ" كانت المناسبة تتميّز بإحراق أغصان السرو وتُدعى دادي -فالاسم والطقس يذكرنا بمهرجانات دِدْ التي كانت تُقام لأوزيريس في مصر القديمة، والتي لها نظيرها في مناطق أخرى من الشرق الأدنى القديم. في حزيران كان هذا السرّ المقدّس يوجّه إلى "الإله الذي يجعل السهام تنطلق". وكان الكاهن يطلق سهاماً في الهواء مربوطة بمشاعل مشتعلة ومقطوعة من أخشاب أشجار حرّان. وكان يزحف بعدئذٍ ليُعيد إليها السهام، فإذا كان المشعل لا يزال مشتعلاً كان يحسب فألاً حسناً. هناك خمس خلاصات من صيغ أسرار مقدّسة حرّانية ما زالت باقية، لكن لسوء الحظّ، فإنّها محرَّفة ومشوَّهة. والمترجم من السريانية كان يعرف القليل من العربية -وربّما أيضاً، كان عازفاً عن أن يبوح بكلمات الطقس السرّي المقدّس. إنّ كلمات طقسين من هذه الأسرار المقدّسة، الثاني والخامس كاملة بصورة معقولة، لكن في العبارات الافتتاحية والنهاية فقط. ففي كلمات الطقس السرّي الثاني -وهي موجّهة إلى الشيطان والأصنام -يهتف الكاهن: " ألم أعطكَ ما سلّمته لي؟ " فيجيبه الفتى المترهّب: " للكلاب والغربان والنمل ". ويسأل الكاهن: " فماذا يجب علينا أن نفعل بخصوص الكلاب والغربان والنمل؟ " . فيجيبه الفتى: " أيّها الكاهن! إنَّهم إخوتنا. الربّ منتصر وإنّنا نحتفل بهذه الطقوس السرّية المقدّسة له". وكان الطقس السرّي المقدّس ينتهي بهذه الصيغة: " كالحملان في القطيع، والعجول في الماشية. والشباب بين الرجال. الذين يصلّون ويدخلون بيت البغداريون، بيت المنتصر -نحن نحتفل بطقوسه السرّية المقدّسة “. أمّا الطقس السرّي الخامس، يفتتح بهتاف الكاهن: " يا ابن البغداريون، اسمع! "فيجيب الفتيان المترهّبون: " نحن قانعون “، فيقول الكاهن: " اصمتوا! “، فيجيبه الآخرون: "نحن سامعون“، فيعلّق الكاهن بعدئذٍ: "اسمعوا إنّي أقول ما أعرف، ولن أهمل شيئاً“. وينتهي الطقس السرّي المقدّس بالصيغة كما في نهاية الطقوس الأخرى: "الذين يمضون إلى بيت البغداريون، ربّنا هو المنتصر وله نحتفل بهذا الطقس السرّي المقدّس”. من الواضح أنّ هذا الاحتفال بهذا الطقس السرّي المقدّس كان يدوم سبعة أيّام. وفي هذه الأثناء كان الكاهن يعلن 22 كلمة وهو ينشد بارتعاش طقسي. أمّا الفتيان المترهّبون فلم يكن لأيّ امرأة أن تراهم فلقد كان الدين الحراني السري ذكوري، أي للذكور فقط، لم تكن النساء تتعلم الطقوس الباطنية. كانوا يأكلون ويشربون هناك، ويلطّخون أيديهم بالشراب ثمّ يأخذون خبزاً وملحاً ويشاركون في (أكل) الخبز والفروج. وكان الشراب يخزّن في زاوية. ويقول المترهّبون للكاهن في الطقس: "يا سيّدنا، دعِ الشيء الغريب أن يعلن“، فيجيبهم: "دعوا الطاسات تملأ بالأسرار والأنوار المقدّسة، ودعوا ما بقي بأن يجمع ".

بالطبع نحن لا نستطيع إعادة بناء هذه الطقوس السرّية بشكل كامل، ويخبرنا أحد الكتّاب، أنّه ليس هناك صابئي واحد يرغب في أن يكشف لنا هذه الأسرار حتّى ولو هجر دينه. لكنّ الضوء أُلقي عليها من جديد عن طريق الكتابات المنقوشة في خربة سوماتار هاربيسي قرب حران. وإنّه من المعقول أن نساوي البودار في سوماتار ببغداريون حرّان – أيّاً كان يعني هذا الاسم، ويبدو أنّ وظيفة البودار كانت تُنقل من شخصيّة مرموقة إلى أخرى. ففي شباط سنة 165.م كان تيرادتيس الحاكم قد انتقى خليفته في سوماتار. وربّما (كلمة) تطعم في نصّ سوماتار تعني ضمناً طقس إطعام كالذي يمارسه المترهّبون في حرّان. ومن الواضح أنّ رمز البودار كان كرسياً. وفي التقاليد الدينية الحرانية قيل إنّ الزعماء الحرّانيين في القرن السابع كانوا يحتفظون بمقعد. وكان من الواضح أنّه كان يُسلّم من بودار إلى بودار وإذا انقطعت هذه السلسلة من التسليم يسقط العمود الموضوع على المقعد. ويظهر من النصّ في خربة سوماتار أنّه ربّما باستطاعتنا أن نؤكد أن مارإلاها في خربة سوماتار هو نفسه المعبود في مدينة حران.

لقد كُتب الكثير عن الضحايا البشرية بين الحرّانيين في إطار الشائعات التي تطال الأديان الباطنية. نقرا منها؛ في اليوم الثامن من آب عند عصر الخمر الجديدة على شرف الآلهة، يقال إنّهم كانوا يضحّون بطفل ذكر وُلد جديداً، يضيفون إلى جسده الطحين والزعفران والناردين وكبش القرنفل والزيت كطعام عندما يحتفلون بطقوسهم السرّية (وأيّاً يكن، فإنّ أحد الكتاب يعلن أنّ هذه التضحية كانت تنجز عندما تكون الأرض خمس درجات في صعود أو على العكس). وهذا الزعم يجب أن يرفض، وبخاصّة في العصر الإسلامي. فالدمشقي في القرن الرابع عشر يذهب بعيداً إلى درجة أنّه يعلن أنّ الضحيّة البشرية ظهرت في طقوس الصابئة الموجّهة إلى كلّ كوكب فيما عدا زحل الذي كان يقدّم له ثور. وفي هذا ما فيه الكفاية من الأهمّية. ويدّعي بأنّه كان يضحّي للمشتري بطفل مولود من امرأة مشتراة. (وفي اللغة العربية هذا الكوكب يُدعى المشتري) ووالدة الطفل تضحّي للشمس ويضحّي للمريخ رجل أحمر الشعر. وللزهرة امرأة بيضاء الشعر، ولعطارد شابّ مثقّف، وللقمر رجل أشقر، إنّ هذا الكلام لا يمكن أن يؤخذ جدّياً. فذوق الدمشقي للرعب يظهر في حكايته، خصوصاً عندما يذكر أنّ هيكل المريخ في حران يضم رأساً دامياً، ولكنّنا نعلم من كاتب سبقه أنّ هذا كان مشعلاً متّقداً، وليس رأساً بشرياً ثمّة حكايات عن رأس بشري مقطوع يتكلّم بالوحي في الهياكل الحرّانية. حكاية واحدة في كلّ من القرن الثامن والتاسع والعاشر. ولكنّ هذه الحكايات تختلف في التفاصيل. فإحدى الحكايات تدّعي أنّ الرأس كان مكرّساً لعطارد وأخرى تدعي بأنه مكرس للمريخ، في حين أنّ حكاية ثالثة تقول إنّ الاحتفال كان يجري في هيكل القمر. ويعلن البيروني أنّ الصابئة كانوا يضحّون بالأطفال لزحل. ويكتب في مكان آخر قائلاً إنّ الصابئة كانت شهرتهم شنيعة بسبب تضحياتهم البشرية، ولكن، حالياً، لا يسمح لهم بإقامتها علانية. ويمكننا أن نتساءل: هل كانت هذه الطقوس تُقام في العصر المسيحي في حران؟ باستثناء نص واحد مشكوك فيه ومحرف، ليس هناك كاتب أحداث مسيحي واحد يحكم على الحرّانيين الوثنيين بهذه الإهانة. هناك وجود له فقط عند الكتّاب المسلمين وتقاريرهم الساذجة. المعلومة التي يمكن أن تقربنا من الحقيقة هي التي قد نجدها في تاريخ الكاتب السرياني ابن العبري الذي جمع من مصادر أقدم منه. يقول: في القرن التاسع الميلادي، حيث سمح الحاكم الإسلامي لحران إبراهيم للحرّانيين أن يُقيموا طقوسهم السرّية المقدّسة علناً. ويقصّ علينا كاتب الأحداث متأفّفاً أنّهم كانوا يقودون في موكب كبير ثوراً مزيّناً بأكاليل الورود والأجراس يصحبه مغنّون وموسيقيون. ثمّ يُضحّى به بعد هذا بمهابة. من الواضح أنّ هذا الثور كان الضحيّة التي تُقدّم إلى زحل الذي يخبرنا عنه الدمشقي. ونقرأ عنه في مكان آخر، كان أسود اللون بصورة كاملة -وهو لون غير عادي في الأضاحي الحرّانية. كان يطعم بعشب تقطفه العذارى عند شروق الشمس، ويسحب بسلسلة ذهبية وسط الصلوات، والبخور يحترق أمامه، ويساق مكان التضحية. كان رأسه يلطّخ بالخمر والملح ثمّ يقطَّع وتفحص أعضاؤه للفأل. بإمكاننا أن نجد هنا أصل الحكايات عن الضحايا البشرية التي توضع في حمّام من زيت السمسم وتطعم التين لمدّة سنة كاملة. وبعد هذا تقول الرواية، يتكلّم الرأس، هذا الرأس المقطوع ينصح الصابئة مدّة سنة كاملة -ورواية أخرى تقول أسبوعاً واحداً -بخصوص أمورهم العلمية والاقتصادية. هذه الحكايات تستمدّ من مثل حرّاني شعبي. يقول المثل "هو في الزيت" أي إنّه في ضيق. وهذا ينطبق تماماً على عبارة "تحضير الرأس". لا نستطيع الأخذ بهذه الروايات الغير منطقية والتي يظهر بأنها تندرج في إطار تشويه السمعة الدينية لأديان متنافرة في وسط جغرافي واحد. أمّا هل كان هناك دجل في طقوس الحرّانيين؟ فهذا يفصح عنه ضمناً في وصف العذاب الطويل، الذي كان الفتى طالب الترهّب الجديد يخضع له، والذي كان مجرد اتهاماً للصابئة من قبل المخالفين لهم دينياً وخصوصاً التوحيديين اليهود والمسلمين، الذين نسمع منهم ونقرأ عن أربع قناطر تحت هيكل في حران نُصبت فيه أصنام في شكل أجرام سماوية، كانت عيون الشباب الصابئة تُغطّى بعصابة، ويلبسون خفّاً صُنع من جلد ضحايا بالتقدمات، ويتوّجون بأكاليل الصفصاف. وبينما هم جالسون كانوا يسمعون أصواتاً مفزعة من آلات نحاسية، والأضواء تومض في الظلمة، ثمّ تُزال العصبة عن عيونهم، ويُغمى عليهم. أمّا المسعودي المؤرّخ فلا يقول شيئاً عن هذا. ويكشف أنَّ الكلمات المفزعة والأصوات لم تكن من الأصنام، بل من كهنة الهيكل الذين يستعملون منافيخ هوائية تصدر أصواتاً غريبة وراء الجدران. هذه المبالغات لم تكن إلا اتهامات غير موثقة عن طقوس يمارسها الصابئة بأريحية وهي الأسرار الطقسيّة التي يصفها شاعر حراني من المدينة بشكل طبيعي وعفوي: "الأشياء التي تقام في هيكل يقام على قناطر، وفيه يبجلون النجوم، وفيه أصنامهم ونذورهم للغائبين".

-العادات والتقاليد في مدينة حران القديمة:

نعرف الكثير من العادات الاجتماعية في حرّان. فهم لم يكونوا يخفون عاداتهم كما طقوس دينهم وقداساتهم، كانوا يعتنون في تجنّب الأشخاص المصابين بالبرص، أو أيّة أمراض معدية أخرى. أيضاً لم يكونوا يعلمون أصحاب العاهات الجسدية أو الأمراض الظاهرة كالبرص الدين الحراني. بعد التنجّس بأيّ شكل من الأشكال كانوا يغتسلون بالماء والنطرون، وكانوا يعتبرون أنّ التناسل هو الغرض الوحيد من الزواج. مع ذلك فهم لم يمارسوا تعدّد الزوجات. والاحتفال بالزواج كان ينجز أمام شهود. والزواج بين الأقرباء كان ممنوعاً. ولم يكن يمنح الطلاق إلاّ بعد إثبات واضح بأنّ تصرّفاً معيباً قد ظهر. والمرأة المطلّقة لا تستطيع الزواج من زوجها السابق. كانت المرأة في حرّان الوثنية تتمتّع بالمساواة مع الرجل قانونياً ومدنياً. ومنـزلة المرأة واضحة من النصب الباقية في الرها القديمة. إنّ بعض الكتابات القبرية تُحْيي ذكرى المرأة، وشلماث ملكة الرها تمَّ إحياء ذكرها بتمثال فوق أحد العمودين الكورنثيين اللذين لا يزالان قائمين على جبل القلعة في أورفا. اختفى التمثال، ولكنّ الكتابة السريانية المنقوشة على العمود ما زالت باقية حتّى اليوم. والتمثالان الحجريان الوحيدان اللذان في الرها هما لامرأتين. والنسوة يبدونَ في شكل بارز في الصور الفسيفسائية في الرها وحران. فقلائدهنّ الذهبية، وغطاء الرأس المرتفع، والأنواط (البروشات) التي يتزيّنّ بها، ثمّ تقاطيعهنّ الوادعة تدلّ على سموّ منـزلتهن المدنية في مجتمع المنطقة.

كان الحرّانيون يأكلون اللحم فقط عندما يكون الحيوان مذبوحاً وفق الترتيبات الطقسية التي تنص على قطع الوريد الوداجي والمريء. هذا الأسلوب شبيه بالذي يتّبعه المسلمون. كان هناك كثير من النقاش بين المسلمين فيما إذا كان مسموحاً لهم أكل اللحم الذي تقدّمه الصابئة. وكانت هناك أجناس كثيرة من الحيوانات ممنوع أكلها على الحرّانيين أكثر من المسلمين. لم تكن الخنازير ممنوعة فقط، بل الجِمال والخيول والطيور الجوارح والأرانب أيضاً. واعتقد الحرّانيون بأنّ حظّاً سيّئاً سيلحق بهم إذا مرّوا تحت المجال الأنفي للجمل، وكان عليهم ألاّ يأكلوا السمك النهري والحمام وفراخ الدجاج الصغيرة. ويُقال إنّ إبراهيم بن هلال الصابئي أمين السرّ الشهير في العهد الإسلامي، كان يمتنع عن أكل هذه اللحوم عندما يكون مدعوّاً على مائدة الوزير، وكان الوزير يحثّه قائلاً: "لا تدعه يبرد، كُلْ من هذه الفاصوليا معنا". فيجيبه الصابئي "يا سيّدي الوزير، لن أعصي الله في أكلي وطعامي" وذلك لأنّ الفول والثوم غير مرغوبان عند الصابئة. وبعضهم كان يمتنع عن أكل اللوبياء والقرنبيط والملفوف والعدس، ويُقال إنّ هذه القواعد قد استمدّت من اعتبارات اجتماعية طبّية، ليست دينية. يبدو من المعلومات التاريخية أنّه كان للحرّانيين ولع بالخمر. فعصر الخمر الجديد كان مناسبة سنوية لإحياء البهجة الدينية، وكان الخمر يظهر بين التقدمات للأموات وفي مهرجان الخريف عندما يكون القمر بدراً. وتصور الصورة الفسيفسائية "الأريكة الجنّائزية" الموجودة في الرها الرجل المتوفّى ممسكاً بكأس من الخمر. كان الخمر يسكب على الضحايا الحيوانية أيضاً وقت التضحية، مع ذلك، فإنّ الاعتدال في المشروبات المسكرة كان لدى الحرانيين يُعتبر فضيلة. فإنّ إبراهيم بن هلال الصابئي نظم أبياتاً من الشعر في مزايا الخمر الجيّدة -و كان مديناً في وقاره لاعتداله في شرب الخمر. وكان مرّة في حفلة شرب على مائدة الوزير مع أصدقاء آخرين، عندما وصل رسول من قِبل الخليفة يطلب منه أن يرسل فوراً رسالة إلى حاكم بعض الأقاليم. كان إبراهيم الوحيد الذي يستطيع أن يتمالك نفسه ويكتب وثيقة مناسبة، مما أثار إعجاب أصحابه.

لقد عانى الحرانيون بعض العجز أو الضعف في صِلاتهم بجيرانهم المسلمين. فمنع بعض رجال الدين المسلمين المسلم من الاختلاط أو الزواج من الحرّانيات، ومنعوه من الأكل معهم أيضاً. لكن بعضهم سمحوا به. تراكم على مر الزمن عزل الصابئة في حران بفعل ثقافتهم ودياناتهم وتنظيماتهم الخاصّة في الصلوات والمهرجانات وقيودهم على الطعام، نتيجة لهذا أوجب الانغلاق والإخلاص للطائفة الدينية التي كانت لها متطلّبات على أعضائها. مع ذلك، فإنّ الصابئة الذين توصّلوا إلى مراكز مرموقة في عالم العلم والأدب حافظوا على علاقتهم مع الوسط الإسلامي الموجودين فيه.

لمقاربة مفهوم الصابئة في سوريا وتحليل المشكلة وفهمها، سنمر على الجو الثقافي واللاهوتي ما قبل المسيحية والإسلام في سوريا وحصراً في العصر الكلاسيكي؛

-سنبدأ مع مصطلحات دينية عديدة سابقة للديانات التوحيدية تساعد على فهم الإرث الديني السوري المتنوع أولها:

-الوثنية :Paganism

-الوثنية: في المفهوم العام تعني عبادة الآلهة المتعددة، هي عبادة مخالفة لمبدأ التوحيد الذي ساد في سوريا بعد النبي إبراهيم. في العصر الحالي استخدمت لفظة الوثنية في أوروبا للإشارة إلى الديانات التي كانت منتشرة قبل المسيحية. في العالم الإسلامي تعتبر الديانات ما قبل النبي إبراهيم ديانات وثنية من وجهة نظر المسلمين. إنها بشكل أو بآخر تشير إلى أية ديانات غير مرتبطة بإبراهيم وسلالته التوحيدية. تسمية الوثنية هو مصطلح واسع وغير دقيق علمياً أو تأريخياً والأصح تسميتها الديانات التعددية، بدلاً من تسميتها بالوثنية، الديانات التعددية التي تؤمن في جوهرها بأكثر من عنصر من عناصر الطبيعة أو صل من أصول الوجود، وليس كما تدعي الديانات التوحيدية بوثنية الديانات التعددية الذي ينتهي غالباً بتكفير أتباع الديانات التعددية “الوثنية” في الفكر التوحيدي، فالإله في الديانات التوحيدية هو إله غير واضح المعالم، بل معقد و غامض حتى أتباع الديانات التوحيدية أنفسهم لا يملكون أية فكرة واضحة عنه، أما الديانات التعددية، فقد كانت تشكل تصور مبسط لمفهوم الإله في فهم الكون سواء في نسبه إلى تأثيرات الكواكب و الفلك على الإنسان أو عبر نسبه لتأثير عناصر وقوى الطبيعة المباشر على الإنسان و هي نظرة واقعية للعالم غير قائمة على الغيب الغامض. حتى الديانات التوحيدية في سوريا اليهودية والمسيحية والاسلام، اقتبست كل تقاليدها وإرثها من إرث سوريا التعددي الوثني في كل شيء، ليس هناك من أساس أو مثال في الديانات التوحيدية غير عائد إلى أصل تعددي وثني، من عبادة الكواكب إلى الأضحيات البشرية وقصة إبراهيم شهيرة في موضوع ذبح ابنه البكر، وهو تقليد آرامي فينيقي قديم. عندما نتكلم عن الديانات السورية السابقة للإسلام، علينا أن نضعها في مكانها الصحيح تأريخياً، لفهم تناقضات سوريا الحالية وتعدديتها. كانت الوثنية السورية قبل الإسلام والمسيحية وريثة للفلسفة الغنوصية وخصوصاً المصرية في مدرسة الإسكندرية منبع الأفلاطونية الحديثة من جهة، ووريثة التقاليد البابلية الفلكية من جهة أخرى، ففي سوريا تعاقبت حضارات محلية أصيلة رسخت تقاليدها عبر آلاف السنين، فمن الأكاديين إلى الآموريين، الآراميين بتفرعاتهم من آشوريين وبابليين وكلدان إلى الفينيقيين في الساحل السوري، غني عن التعريف عراقة تاريخ هذه الجماعات السامية في سوريا والعراق. طورت هذه الشعوب إرثاً دينياً غنياً في فترات تعاقبها، كانت أديانها تتمحور حول عناصر الطبيعة وحول عبادات الأجرام السماوية، فتنوعت آلهتها من آلهة العاصفة والمطر والرعد والخصب كمظاهر لعبادة عناصر الطبيعة التي ارتبطت في الذاكرة الجمعية لهذه الشعوب بالزراعة وأهميتها الحياتية وأخيراً العبادات الفلكية المختصة بالأجرام السماوية كالكواكب وارتباطها بالتنجيم بداية وتطورها إلى علم الفلك لاحقاً وتأثيراته المباشرة على الإنسان والأمثلة كثيرة في هذا المجال. كانت هذه الشعوب معروفة بدياناتها وتمارس فلسفة عبادة الكواكب وتأثيراتها أو بالأصح ثقافة معرفة الله عن طريق فلسفة عبادة الكواكب التي كانت الأضاحي تقدم لها، خصوصاً لكواكب زحل والشمس وغيرها من الكواكب كالقمر الذي نال مرتبة شهيرة في تاريخ هذه الشعوب، كانت احتفالاتها الطقسية بتأثيرات النجوم تمارس في الخريف وفي الربيع، كانت حركة الكواكب أيضاُ مصدراً للإلهام والكهانة بالنسبة لهم والتي تطورت فيما بعد، لتتخذ شكل النبوة المعروف اليوم في الديانات التوحيدية وقصة إبراهيم وعلاقته الدينية مع النجوم الآفلة في القرآن شهيرة. كانت أغلب شعوب ما بين النهرين وسوريا تؤمن بهذه العقائد وكان لها دلالات مختلفة زراعية، تجارية، سلطوية وعلمية، تختلف باختلاف المنطقة والظروف، لكنها كانت الميزة للعديد من شعوب بلاد ما بين النهرين، يذكر ابن النديم في فهرسه من (القرن العاشر) على أن الصابئة لديهم نفس عقيدة البابليين والأنباط اللاهوتية. نرى أيضاً المؤرخ الشهرستاني من (القرن الثاني عشر) يتحدث عن الصابئة وأماكن تواجدهم تحت اسم بقايا (الأنباط السريانية الفينيقيين أو البابليين والبيزنطيين والفرس والهندوس) من مختلف الديانات الوثنية القديمة، التي تربط مصيرها بالتحولات الفلكية وما زالت تعيش حتى وقته في الدول الإسلامية وحدودها. عليه أيضاً يذكر المؤرخ ابن عبري (القرن الثالث عشر) معلومات تنص على أن دين الصابئة هو أساساً مطابق لتلك التقاليد التي كان الكلدان يمارسونها في العصور القديمة؛ أي التقاليد البابلية الفلكية. لذا نلاحظ أن المقصود بالديانات الوثنية السورية أو العراقية هي التقاليد الدينية الفلكية التي كانت ممارسة بسوريا بطرق توفيقية دينية تأخذ من الفلسفات الدينية أفضل خلاصاتها وأرقاها وتعيد صياغتها في دين توفيقي شامل.

-الغنوصية Gnosticism و(الكتابات الهرميسية) Hermeticism ثلاثية التعليم:

لفظ غنوصية يعني معرفة، ويقصد بها نمط معين من المعرفة لا يستند إلى العقل والاستدلال المنطقي وإنما إلى الحدس والذوق من أجل معرفة الله بواسطة الاتحاد به. اتخذت الغنوصية عدة مظاهر في عصور الفكر المختلفة، لكننا نكتفي منها هنا بجانب يتصل بالمؤلفات الهرميسية، المؤلفات الهرميسية: هي مجموعة نصوص مصرية يونانية مأخوذة أو منسوبة لهرميس الذي يعتقد العرب أنه النبي إدريس، ويسمى في الإغريقية تريسمي جيستوس Τ-;-ρ-;-ι-;-σ-;-μ-;-έ-;-γ-;-ι-;-σ-;-τ-;-ο-;-ς-;- المعروفة في اللاتينية ب Mercurius ter Maximus بمعنى المنسوب لعطارد الثلاثي التعليم؛ فالهرميسية تنظر إلى الله بثلاث صفات؛ الوجود، الحكمة، الحياة. تشير هذه المؤلفات إلى مجموعة أقوال، لا تتخذ طابع محاورات أفلاطون التي تستثير الفكر بمنهج سقراط القائم على التهكم والتوليد للأفكار، ولا طابع دروس أرسطو المنطقية الوسطية، إنما تفترض هذه النصوص في السامع استعداداً روحيًا معيناً من أجل التوجيه والارشاد والسمو الروحي_ تماماً كطابع الكتب الصوفية بالنسبة للمريدين_ تلقى هذه الأقوال في خلوة لا في ندوة، إذ أنها تعتبر تعاليم سرية تتعلق بخلاص النفس البشرية عبر اتحادها بالإله. ومن ثمة فإن الحكمة التي تلقن إلى المريدين تدور حول موضوعين رئيسين؛ النفس والله أو بمعنى آخر كيف تعرف النفس ذاتها معرفة تمهد إلى خلاصها، ثم كيف تعرف الإله معرفة يتم بها خلاصها؟ بصدد النفس هناك أربعة تساؤلات في الكتابات الهرميسية؛ ما هي طبيعة النفس وما أصلها؟ كيف حلت النفس في الجسد؟ وما هو دورها فيه؟ وما هو مصيرها بعد الحياة؟ أما بصدد معرفتها بالإله، فذلك إنما يتم عن طريق معرفة تفوق الحس والعقل، إنها طريق التصوف الأول.

تشير المؤلفات الهرميسية إلى أن النفس من جوهر عالي سامي وإنها تخالف البدن في طبيعته وأفعاله، وأنها مستقلة عنه تماماً، وإن اتفقت مع فكر أفلاطون في أصل الفكرة، لكنها تختلف معه في الأسلوب إذ تلجأ الهرميسية إلى منطق الأساطير لا إلى منطق العقل. تشير هذه الفلسفة إلى وعي تام للنفس بذاتها واستقلالها عن الجسم و شوقها إلى الخلاص منه في لحظات من الشطح و الجذب، و إنها و إن هبطت إلى الجسم فربما يرجع ذلك إلى إثم ارتكبته في العالم العلوي، إذ تطلعت إلى معرفة سر الخليقة الأول و الاقتداء بالإله في خلقه للمخلوقات، و لأنها لم يكن لديها القدرة على فعل ذلك، عوقبت على فعلتها بتشوهات في عالم المادة يحملها الجسم البشري حتى اليوم، كان هبوطها أمراً لا مفر منه إلى الأرض و عالم المادة و في ذلك حكمة من أجل خير البدن وأيضاً حتى يكون في العالم المادي السفلي آثار من العالم العلوي، ذلك هو دورها و وظيفتها بالحياة اصلاح البدن و هدايته، أما مصيرها بعد الحياة فهو العودة إلى مصدرها في العالم الإلهي مرة أخرى، بعد أن تكون قد تجسدت مرات عديدة في عالم المادة و الأجسام.
أما الإله بحسب الهرميسين فلا سبيل لمعرفته بالعقل ولا إلى تقرير وضعه بصفة إيجابية، لأن كل صفة إنما تقربه من طبيعة جسمية أو تميل إلى تجسيمه. من ثم ينبغي الاعتراف بأنه لا سبيل إلى معرفة الله بالعقل وإنما السبيل الوحيد إلى تلك المعرفة يكون عبر تجربة روحية تخرج الإنسان من طبيعته البشرية ومن مقولات العقل وتصوراته حتى يتحد بالإله بطريقة عرفانية، لأن الإنسان عندما يتحد بالإله يكون هذا الاتحاد السبب الوحيد الذي يستطيع فيه التخلي عن ذاته البشرية، حين إذٍ يولد ميلاداً جديداً ويكون الإله قد بعث فيه سراً جديداً.

كانت هذه أهم أفكار الهرميسيين والتي كانت تعبر عن فلسفة تشرح سعي النفس إلى الخلاص والبعد عن الحياة، وهذا النوع من الديانات يعبر بوعي عن نضج وشيخوخة الحضارة وقرب الاحتضار. يشار إلى أن الغنوصية والفلسفة الهرميسية وجدت طريقها أو تبلورت بكل وضوح مع أفلوطين فيلسوف الإسكندرية؛ التي كانت أكبر حاضرة فكرية في العصر الهلنستي وفي ذلك الزمن وعلى حواف الانهيار الثقافي والأخلاقي بين نهاية العالم القديم وبداية العصور الوسطى، مهدت الأفلاطونية لظهور الديانات الجديدة ما بعد الكلاسيكية المسيحية والاسلام هذه الحقبة التي يشكل فيها أفلوطين قطب الرحى وآخر فلاسفة الإغريق في العصور الكلاسيكية عبر الأفلاطونية الجديدة المنتسبة إليه والتي أثرت في المسيحية والإسلام بطريقة كبيرة وظاهرة.

-الأفلاطونية الحديثة أو المحدثة Neoplatonism:

تبلورت النظرية الأفلاطونية الحديثة في القرن الثالث الميلادي على يد أفلوطين Plotinus الذي تجمع الروايات التاريخية، على أنه تلقى التعاليم الأفلاطونية على يد أمونيوس ساكاس Ammonius Saccas؛ أحد أهم فلاسفة الإسكندرية في العصر الروماني، ليقوم فيما بعد بورفريوس Porphyrus أحد تلامذة أفلوطين بجمع تعاليمه في كتاب من ستة أجزاء يدعى التاسوعات Enneads لأن كل جزء في تعاليم أفلوطين المجموعة في الكتاب كان عبارة عن تسعة مقالات. مع أن هذه التعاليم تعتمد على أفكار أفلاطون، إلا أن أغلب المؤرخين يرون أنها مختلفة قليلاً عن المدرسة الأفلاطونية القديمة، كثيرون منهم يرون فيها توفيقاً بين منهج أفلاطون ومنهج سقراط. كانت مدرسة الإسكندريّة التي انطلقت منذ تأسيسها، مستوحية أفكار أفلاطون، مع أشخاص مثل فيلون الفيلسوف اليهوديّ، وأفلوطين وبورفريوس وعدد كبير من المفكِّرين الآخرين. استندت فلسفة أفلاطون إلى نظريّة المُثُل التي هي واقع ينفصل عن العالم الحسّيّ، والتي تعتمد في بنيتها على عقلانيّة معرفيّة تعتبر أنَّ العقل البشريّ يستطيع أن يعرف هذا الواقع المنفصل واللا متبدِّل، بفضل الأسلوب الجدليّ التأملي. هذه المُثُل هي أساس خلود النفس والبحث عن السعادة. هذا الإرث الثقافي أخذ به أنطيوخس العسقلانيّ (130-69ق.م.) وبوسيدونيوس الأفاميّ (135-50 ق.م.)، وحاولا التنسيق بين أفلاطون وأرسطو والرواقيّين؛ وهو تماماً الإرث الذي اعتبرته الأفلاطونيّة المحدثة (Le néoplatonisme) إرثاً خاصاً بها. في أساسيات الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، كان الأساس الفكري يتمحور في الاندفاع نحو اللامحدود، كان هذا اللامحدود عند أفلاطون وأرسطو والرواقيين علامة اللاواقع ومقاومة نظام العقل، فصارت عند أفلوطين قدرة الأنا التي تكمن في ملئها وكمالها ومنهجها الفلسفي، الذي لا يبحث في تحديد الجواهر ولا بتقييدها بقيد، بل يعمل على إعداد الإنسان لتجاوز الحدود ليحقق الوحدة مع الحقيقة والمعرفة المطلقة. طور الأفلاطونيون المحدثون فلسفتهم من نظرية أفلاطون عن الأشكال، وطبقاً لهذه النظرية، فإن جميع الأشياء التي يمكن تخيلها، هي فقط نسخ معينة من الأشكال التي تكوِّن جوهرها الصحيح. والمعرفة تأتي من الاحتفاظ في العقل بالصورة الجوهرية لشيء ما، بالأحرى عن تصوّرهِ بأحاسيس أوصافه العارضة. وقد ذهب أفلوطين إلى ما وراء هذه النظرية لتقسيم عالم أفلاطون عن الأشكال، إلى مستويات مختلفة من الحقيقة، يعتمد كل مستوى على حقيقة تلك المستويات التي تعلوه. إن تجاوز الحقيقة بأكملها هو الواحد، والذي هو في حد ذاته غير معروف، لا يستطيع أحد أن يقول إن الواحد هو، لأن الواحد هو ما وراء الوجود. ولكن الواحد يتمدد أو يفيض إلى المستويات أسفله، كما يسطع الضوء خلال الظلام، ويصبح أكثر ظلمة كلما مضى أبعد. والمستوى الأعلى للحقيقة هو ذلك العقلي الذي توجد فيه الأشكال كأفكار فيما وراء الوقت والفراغ. والمستوى التالي أكثر ظلمة وأقل حقيقة، وهو؛ الروح. والمستوى التالي هو الطبيعة؛ العالم المظلم لأجساد المادة. وتحت هذه المستويات المادة التي يصفها أفلوطين بأنها ليست موجودة وتمثل مبدأ الشر. وبالنسبة لأفلوطين نحن نسكن المستويات السفلى، لكن نشتاق للصعود والعودة إلى المستويات الأعلى. ويمكن لأرواحنا أن تترك أجسامنا، وتسبح في عالم الفكر حيث تستقر الأشكال كأفكار في العقل الإلهيّ. لقد اعتقد الأفلاطونيون المحدثون أن الغرض من الفلسفة هو الهروب من الارتباط الذي نحس به تجاه أجسامنا وبيئتنا الفيزيائية، وبهذه الطريقة يتحقق الخلود باكتشاف مكاننا الحقيقي في عالم الأشكال الفكرية.

-الفكر الفلسفيّ عند أفلوطين Plotinus وتواجده في مدينة حران:

ثلاث محطّات كانت بارزة في فكر أفلوطين هي: التنقية والتصفية، النفس والعقل، فلسفة الواحد؛

-أوَّلاً: التنقية والتصفية: نستطيع أن نقرأ فلسفة أفلوطين في اتِّجاهين: أولها أنها تنطلق من مبدأ أصليّ لا يوصف، فننتقل عبر فكره إلى ثنائيّة المفكِّر والمفكَّر به، ثمّ إلى التناثر النفسيّ في الزمان وفي المكان. وفلسفة النهج الأفلوطينيّ كتنقية وصعود تتجسد في فكر ثابت لديه. فمنذ البداية، وضع أفلوطين تراتبيّةَ الأقانيم والوجود الأزليّ؛ لكون وهمي خادع، وتوقَ النفوس إلى وحدة حقيقية فقدتها وإن لبثت حاضرة في أعماق ذاتها. إنّ السقوط الأفلاطونيّ وفقدان الجناحين الملائكي، ليس هنا نتيجة خطيئة أصليّة كما في الديانات التوحيدية بقدر ما هو استعارة لخبرة معاشة سابقاً. وانطلاق النفس (psyché) الجديد واللقاءات السماويّة ليست ثمرة نعمة مرتبطة بالإيمان، ولا هي تطلب طقس ذبيحة الفداء. كانت الصورة الغنوصيّة عند أفلوطين تعود أو تتجسد في تشبيه النفس بالذهب المخفيّ تحت الوحل الذي هو الجسم، هذه الفكرة التي استخدمت واستُعيدت في فلسفته، لتدلّ على ما تبقّى من إلهيّ في الجزء الأعلى من النفوس المشتَّتة، فنجاة الذين تدعوهم الثنائيّة الأفلوطينية البنفماتيّين ال (pneumatique)، لا تتضمَّن أي رذل نهائيّ لنسل ملعون، ألا وهو نسل المادّيّين أو الهيوليّين، بل مخرجًا لفرز بسيط بين أبناء النور وأبناء الظلمة.
بالرغم من تقديس أفلوطين للنفس واعتبارها من أثر علوي، لم يحتقر الجسد، بل قال؛ يجب أن نسود عليه، لا أن نحتقره، ففيه كوِّنت النفس، نوعًا ما، مادّة على صورتها. وإذ كان انتقال الأنفس من جسد إلى جسد، ليس مجرَّد رمزٍ، فهو يدلّ بشكل خاصّ على أنَّ النفس التي تعيش على مستوى البهيمة أو النبات، لا تستحقّ سوى أداة مادية حيوانيّة أو نباتيّة. أمّا الحكيم أي الإنسان الإلهي، فيستعمل جسده بشكل يليق به، وبفطنة، كوجود ضروريّ للتناغم الأرضي الوجودي، لكنَّ الحكيم يتركها من أجل مهمّات أسمى وهي التطور والصعود الروحاني.
في هذه التنقية (الاصطفاء أو التصفية) المتدرِّجة، التي تشبه عمل نحّات ينزع قطع الرخام النافلة التي يظهر تحتها الشكلُ الحقيقيّ، حيث يتفوَّق دورُ الجدليّة العقليّة على الاندفاع العاطفيّ البسيط. تحدَّث أفلاطون عن نفوس أثقلها لا تنبهها للخير ولا تناسقها في الرغبات، فاحتفظت، بدرجات متفاوتة، ببعض التذكُّر للرؤية الأولى. بينما شدَّد أفلوطين على أنَّ النفس التي تدرك ماهيتها تتبع وتغلب الخير والحب ّوالجمال.
في أيِّ حال، رأى أفلوطين أن النفس لا تتنجَّس. فتحرُّكات الجسد اللا نظاميّة قد تكدِّرها، كما يفعل الوحل في مرآة، ولكنَّ الضباب الذي يقف حاجزًا في وجه النور، يبقى دائمًا خارجًا عن الشعاع الذي يؤخِّره. فلكي تجد النفس ذاتها نقيّة، يكفيها أن تنظر إلى العلاء، أن تستيقظ من أحلامها الواقعية العبثيّة، لسنا أمام انشداد للإرادة، كما في عالم الفلسفة الرواقيّ، بل أمام مجرَّد انفتاح على الذهن والعقل، وفي النهاية أمام اتِّحاد النفس بما هو من نسلها، حينئذٍ لا يكتفي الحكيم أو الإنسان الإلهي بأن لا يكون آثمًا، بل يتحول لأن يكون إلهًا. على هذا المستوى ووراء المصير والحظّ وفي ارتباط كامل مع الكلّ، لا يريد هذا الحكيم سوى الخير الذي يشاهده في هذه النظرة الفلسفية المجردة.

-ثانياً: النفس والعقل لدى أفلوطين:

بالنسبة لأفلوطين؛ نحن لا ندرك التخوم والفواصل بين الجسد والنفس، إلاّ في أوقات نادرة، وفي نهاية صعود متدرج صبور. لكن لا بدّ من طرحها منذ البداية على النفس البشرية، لأنَّه يجب على النفس أن تعي طبيعتها المشاهِدة، في كل مرحلة من المراحل عبر: حياة مولودة، إحساس، رأي عاقل. فالعلاقة مع الجسد تطلب إحساس نفسي عميق، يحقِّق التذكُّر الأول لمعرفة حقّة للنفس وأصلها. في المرحلة التالية المحاذية للبرهان الاستدلاليّ، تستعمل النفس الكلمات والمفاهيم التي تدلّ على قلقها وحيرتها، لكنَّها لا تعرف معناها إن لم تمتلك معرفة معانيها من قبل، في شكل ضمنيّ، كصورة وأثر جميع الأشياء في العقل، أي شكلها في الأقنوم الثاني بالنسبة لأفلوطين العقل.

-ثالثًاً: فلسفة الواحد لدى أفلوطين:

لدى أفلوطين يبقى الواحد أوَّل بسيط كلَّ البساطة، يتحدَّد موقعه وراء الجوهر والكائن. غير أنّ المبدأ لا يمكن أن يكون منعزلاً وبدون ثمر. إنَّه قوّة كلِّ شيء، فكيف يكون الأكمل إن لبث في ذاته؟ هو أساس وجود الكائنات، شرط ألا يُحسب معها. وهو أيضًا المركز الحاضر في كلِّ شيء، وحوله تدور الأنفس الناجية (sauvées) كما في رقصة مقدّسة. أوَّلاً؛ هو منطلَق كلِّ إشعاع. ونحن لا ندركه إلاّ من بعيد، بالقياس، بالسلب، بمعرفة مؤسَّسة على ما يتفرَّع منه، بل ندركه عبر سلسلة من التنقيات والاصطفاءات لعالم النفس. هنا سببيّة الواحد ليست مجرَّد جذبٍ، كما هو الأمر بالنسبة إلى المحرِّك الأوّل لدى أرسطو، بل انبثاق عنه واتحاد معه في آن واحد.

فضّل أفلوطين صورَ وأشكال النور على موضوع الضباب والغمام أو الظلمة والواحد لديه يُشبه ينبوعًا يفيض نوراً أو نارًا تنشر حرارتها، يشبه العدد المعقول، وهو كلّه في ذاته ولذاته، ويلد سلسلة حسابيّة لا عدَّ لها؛ يشبه مركز دائرة لا منظورًا ولا مقسومًا، فتنقل إشعاعاتُه القوّةَ الأبويّة إلى أبعد الأطراف. كلُّ هذه الرموز تمزج الملازمة والتجاوز. كلُّ هذه الإشارات ترمز إلى عناية صالحة، تصطدم بمفارقة أساسيّة في كائنٍ هو لا شيء، في معطى لا يتبدَّد أبدًا. لا حاجة إلى صفات التفضيل، بل إلى إضافة النفي على النفي في إطار السلبيّة. فالذي ندعوه الواحد يجب أن ندلَّ عليه فيما بيننا، ليقود نفوسنا إلى حدس لا مقسوم، ولأنّنا نريد أن نتَّحد به، هو ما وراء كلِّ تسمية وكلِّ إسناد. هو كلُّه في كلِّ مكان، وليس هو في مكان محدَّد. ليس هو قياسًا ولا هو لا قياس، لا هو راحة ولا هو حركة، هو لا يمتزج بشيء ولا يغيب عن شيء. فإذا أردنا أن نرى الواحد في نقاوته بدون مزج، ليس فقط في بصماته، فلا يبقى سوى الخبرة المستيكيّة (الصوفيّة) للتعرف عليه. فالمعبد الحقيقيّ بالنسبة إلى أفلوطين، هو غير منظور. والديانة الحقيقيّة الوحيدة هي؛ ما يحدِّدها كلامٌ قاله على فراش الموت: (أحاول أن أُصعِد كلَّ ما هو إلهيّ فينا إلى الإلهيّ الذي هو في الكلّ الأعلى). تحدَّث أفلوطين بعض المرّات عن مصير النفوس بعد الموت. وهنا نراه يتبع تقليداً فيثاغورثيّاً، قريب من عالم الهند، حيث أعلن أنّ النفس تعرف تجسُّدات جديدة في أجساد نباتيّة إن هي عاشت حياة نباتيّة، أو في أجساد وحوش إن عاشت حياة الوحوش في تعاملها مع الآخرين، وتتطور روحياً إلى الأمام وصعوداً إلى الأعلى إن تغلب الجانب الإلهي الروحي فيها على المادي الأرضي.
أثرت الفلسفة الأفلاطونية الحديثة في الفكر الديني السوري بكل أشكاله من الأديان التعددية الوثنية إلى الديانات التوحيدية، خصوصًا المسيحية والإسلام، فلقد تأثر بها أغلب الفلاسفة المسيحيين والمسلمين.

وفقا لشهادة المؤرخ والجغرافي الإسلامي المسعودي (القرن التاسع الميلادي)، ومؤرخ الطب ابن أبي أصيبعة (القرن الثالث عشر)، تقول معلوماتهما بأنه بعد إغلاق المدرسة الأفلاطونية في أثينا (في 529.م بأمر من الإمبراطور جستنيانوس الكبير)، انتقلت مدرسة الفلسفة الأفلاطونية المحدثة بعد التضييق عليها في مدن الإمبراطورية البيزنطية من أثينا والإسكندرية إلى أنطاكية في سوريا، ثم أخيراً إلى مدينة حران بعيداً عن عيون الإمبراطور. ويؤيد هذه الفرضية في العصر الحديث الباحثين مايرهوف وتارديو، اللذان يعتقدان أن Damascius داماسكيوس المعروف بالدمشقي نفسه أحد رموز الأفلاطونية الحديثة في القرن الرابع عشر الميلادي وسمبليسيوس المنفي آخر رموز الأفلاطونية المحدثة في الشرق تواجدا في حران بعد إغلاق مدرسة الإسكندرية. فلقد وصلت كتابات منسوبة للدمشقي عن ديانة حران في بداية القرن الرابع عشر الميلادي وتحديداً 1310 م. في تاريخ المسعودي الذي زار حران شخصياً، يذكر المسعودي أنه شاهد اثنتين من التعاليم الأفلاطونية في النقوش السريانية على باب معبد الصابئة في حران، حيث كتب على الباب ("وهو الذي يعرف طبيعته يصبح الله" و "الرجل هو النبات السماوي مع الجذر الذي يسعى نحو السماء "). تقر الدراسات التاريخية بأن الأفلاطونيين كانوا قد دافعوا عن ديانات بابل الفلكية التي مارسها أحفاد البابليين الوثنيين في مدينة حران.

لذا يمكننا القول أو التأكيد على أن أهالي مدينة حران كانوا على مقربة من التقاليد الأفلاطونية الحديثة، التي يشتركون معها بعناصر مذهبية هامة: منها النظام الكوني الواحد الذي يقود للوحدة مع الله، مبدأ النجوم وسطاء بين الخالق والمخلوق، وجود الكائنات الروحية التي تسكن الكواكب، التعاطف بين أجزاء مختلفة من الكون، خلود النفوس بعد الموت واستمراريتها بأجساد أخرى.




مراجع:

-الطبري، تاريخ الرسل والملوك، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997.
-المسعودي، كتاب أخبار الزمان، القاهرة، 1938.
-البلاذري، فتوح البلدان: الطبعة الأولى، ص 181.. 182 مطبعة الموسوعات في القاهرة 1901.‏
-ابن النديم، الفهرست، الجزء التاسع، القاهرة، 1960.
-ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، جزء 1، ص 116.‏القاهرة 1945.
-الأسقف بولس الفغالي، دراسات بيبلية، الخلاصة الكتابية والآبائية، الفصل السادس عشر الاسكندرية والأفلاطونية المحدثة، الجزء 1-2006.
-رحلة ابن جبير، تحقيق الدكتور حسين نصار، ص 234، دار مصر للطباعة، القاهرة 1955.
-كتاب المثال والصورة، مخطوط المكتبة الوطنية باريس رقم 1450 عربي.
-كتاب اﻷ-;-ساس، للعالم، مخطوط المكتبة الوطنية باريس رقم 1449 عربي.
-كتاب اﻷ-;-شباه واﻷ-;-ظّله، مخطوط المكتبة الوطنية باريس رقم 1450. عربي.
-مذاهب اﻹ-;-سﻼ-;-ميين، تأليف الدكتور عبد الرحمن بدوي، الجزء الثاني: الإسماعيلية القرامطة، النصيرية، الدروز، بيروت 1972.
-كتاب الهفت واﻷ-;-ظلة المنسوب إلى المفضل بن عمر الجعفي، ص213 حققه وقدم له عارف تامر واﻷ-;-ب أ.عبده خليفه اليسوعي، دار المشرق بيروت 1969.
-أسرار عبادة الصابئة (مذهب عبادة الكواكب في حران) الدكتور جورج سيغال، ترجمة يوسف إبراهيم جبرا، المؤسسة الأمريكية للدراسات الآرامية 1975.
-الحضارة الإغريقية، محمد الخطيب، بيروت 1998.


Bibliography:

Dussaud, Histoire et religion des Nosairis. Paris 1900.
Tamara M. Green, The City of Moon God: Religious traditions of Harran. E. J. Brill, Leyde 1992.
H. LAMMENS, Le Pays des Nosairis, Itinéraire et Notes archéologiques, in Musée Belge, t. IV, pp. 277-323, 1900.
H LAMMENS, Notes de Géographie syrienne, in Mélanges de la Faculté Orientale de l Université Saint-Joseph, I, pp. 271-283, 1960.
L. MASSIGNON, Les Nusayris, in Opera Minora, t. I., pp. 619-649, Beyrouth 1960.
D. Chwolsohn, Die Ssabier und der Ssabismus, vol2 St. Petersburg 1856.
T. Fahd, Sabi’a, in Encyclopédie del’Islam. Nouvelle édition, VIII, pp. 694-698, Leiden-New York-Paris 1995.
J. Hjarpe, Analyse critique des traditions arabes sur les Sabéens Harraniens (Diss.), Uppsala University 1972.
M. Meyerhof, La fin de l’É-;-cole d’Alexandrie d’après quelques auteurs arabes, in “Archeion”, 15, pp. 1-15, 1933.
M. Tardieu, Sabiens coraniques et Sabiens de Harran, “Journal Asiatique”, 274, pp. 1-44. 1986.
Giovanni Reale, Storia della filosofia greca e romana, Vol. 8, Plotino e il neoplatonismo pagano, Bompiani, Milano 2004.
Jean-Pierre Thiollet, Je m appelle Byblos, H & D, Parigi 2005.
Sabatino Moscati, Il mondo dei Fenici, Roma 1969.
Cleto Carbonara, La filosofia di Plotino, Ferrara, Napoli 1954.
Vittorio Mathieu, Come leggere Plotino, Bompiani, Milano 2004.
Nuccio D Anna, Il neoplatonismo. Significato e dottrine di un movimento spirituale, Il Cerchio, Rimini 1989.
P. Merlan, Dal Platonismo al Neoplatonismo, introduzione di G. Reale, traduzione di E. Peroli, Vita e Pensiero, Milano 1994.
Pierre Hadot, Plotino o la semplicità dello sguardo, trad. it. di Monica Guerra, Einaudi, Torino 1999.
Giuliano Kremmerz - Introduzione alla Scienza Ermetica, Ed. Mediterranee 2000.
Rotondi Secchi Tarugi, Luisa (ed.), L Ermetismo nell Antichità e nel Rinascimento, Milano 1998.
Paolo Scarpi, La rivelazione segreta di Ermete Trismegisto vol.I, Milano 2009.
Paolo Scarpi, La rivelazione segreta di Ermete Trismegisto vol.II, Milano 2011.
Mandaean Bibliography, Oxford University Press 1933.
E.S. Drower, The Mandaeans of Iraq and Iran, London 1937.
Buckley, Jorunn Jacobsen, The Mandaeans: Ancient Texts and Modern People. Oxford: Oxford
University 2002.
King, Karen, What is Gnosticism? Harvard University Press. pp. 343 2003.
Rudolph, Kurt, Gnosis: The Nature & Structure of Gnosticism. Harper & Row 1987.
Walker, Benjamin, Gnosticism: Its History and Influence. Harper Collins 1990.
Layton, Bentley, The Rediscovery of Gnosticism: Sethian Gnosticism. E.J. Brill 1981.
J. B. Segal, Edessa: The Blessed City (Oxford and New York: University Press, 1970.



#سليمان_سمير_غانم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حران السورية: مدينة الإله القمر ومركز تراكم الإرث الديني؛ ال ...
- مدينة الرها عاصمة الثقافة والتقاليد السورية الشرقية
- أنطاكية عاصمة سوريا التاريخية و الثقافية لعشرة قرون.
- ضياع الحقيقة المادية في المصادر التاريخية بين الأدلجة الديني ...
- شخصيات فكرية من التراث الإسلامي (دراسة لنقاط و إشكاليات مغيب ...
- شخصيات فكرية من التراث السوري قبل الاسلام (الهوية السورية ال ...
- انعكاسات مرايا الشرق
- نظرية الله المتهم البرئ.
- الإله المتناقض في الإسلام (الله)
- حكم المرتد بين وحشية المسلمين وهشاشة و تناقض عقيدتهم
- معيار الأخلاق بين الثابت و المتحول (الدين و المجتمع)
- يحصل في الشرق
- المنتصر في التاريخ هو المقدس ( بيزنطة مثلا)
- أبو لهب، أبو جهل، أصوات العقل في قريش و المصير المأساوي للأم ...
- ملاحظات بسيطة على العلمانية في العالم العربي
- ميثرا و طقوس العبادة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية
- بين اقرأ واسأل يوجد قبر الأمة الفكري
- عندما يصبح دين الشعب أهم من وجود الشعب (من نحن،عرب أم مسلمون ...
- حنين إلى عقل القرن الثاني و الثالث الهجري (المعتزلة)
- أدلجة المجتمع و عبثية الاسلام السياسي


المزيد.....




- الحرس الثوري يُهدد بتغيير -العقيدة النووية- في هذه الحالة.. ...
- شاهد كيف تحولت رحلة فلسطينيين لشمال غزة إلى كابوس
- -سرايا القدس- تعلن سيطرتها على مسيرة إسرائيلية من نوع -DGI M ...
- تقرير للمخابرات العسكرية السوفيتية يكشف عن إحباط تمرد للقومي ...
- حرب غزة: لماذا لم يطرأ أي تحسن على الأوضاع الإنسانية للغزيين ...
- كيف تُقرأ زيارة رئيس الوزراء العراقي لواشنطن؟
- الكرملين: الدعم الأمريكي لكييف لن يغير من وضع الجيش الأوكران ...
- مسؤول إيراني: منشآتنا النووية محمية بالكامل ومستعدون لمواجهة ...
- بريطانيا توسع قائمة عقوباتها على إيران بإضافة 13 بندا جديدا ...
- بوغدانوف يؤكد لسفيرة إسرائيل ضرورة أن يتحلى الجميع بضبط النف ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سليمان سمير غانم - حران السورية: مدينة الإله القمر ومركز تراكم الإرث الديني؛ الوثني والتوحيدي (قدس سوريا). 2/3