أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كلكامش نبيل - فتوحات أم غزوات















المزيد.....


فتوحات أم غزوات


كلكامش نبيل

الحوار المتمدن-العدد: 4132 - 2013 / 6 / 23 - 01:48
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


فتوحات أم غزوات

تزخر كتب التاريخ بالكلام عن الفتوحات والغزوات ومحاولة التفريق بينهما ويثير إختلاف تبعيّة الكتّاب الفكريّة إلى إستعمال أحد الإسمين لوصف معركة تاريخيّة أو حملة عسكريّة شنّها شعبٌ ما على شعبٍ آخر، وفي الغالب يمكن أن نجد كتابا ما يصف حملة ما بأنّها غزو بربري وكُتب أخرى تمجّدها على أنّها فتحٌ مجيد. وبسبب شيوع هذه الفكرة في الشرق الأوسط والذي لا يَكَل أن يتغنّى بماضيه ويحاول بَعثه من جديد ويعيش في هذا الحلم بشكل مَرَضيّ لن يستفيق منه إلاّ بعد أن تصبح بلداننا خرائب وأطلال يجلسون للتباكي عليها في حال شكّل ذلك الواقع صدمة تفيقهم من أحلام اليقظة تلك، بسبب كل هذا ورغبةً في إيقاظ شعوب المنطقة التي يثبت التاريخ بأنّها قادرة على الإبداع والإبتكار، من أجل إستلهام النافع من التاريخ والتخلي عن المتوحّش منه وجب توضيح هذه الفكرة.

بداية يجب تعريف كلمة غزو، فالغزو وكما هو واضح للجميع عدوان أجنبي على دولة أخرى، مجاورة أو بعيدة جغرافيّا، بسبب أهداف إقتصاديّة أو جنون إمبراطوري يصيب أمّة ما في مرحلة من مراحل عمرها، وهو يؤدّي إلى تدمير وقتل شعوب دول جعلها حظّها العاثر الأضعف في تلك المرحلة لأيّ سببٍ كان، فيتم تدمير تلك الأراضي وإستعباد أو قتل شعوبها أو في أحسن الأحوال فرض جزية عليهم وتركهم في حال سبيلهم، وهو في كل الأحوال مضرّ بتلك الشعوب ومصدر بلاء وأذى لهم. وإذا ما نظرنا إلى الموضوع بعين الحياد فإنّنا سنجد الشعب الغازي فخورا منتشيا بتلك الإنتصارات ويعتبر تلك الحقبة عصره الذهبي الذي يتغنّى به متناسيا بأنّه قد بنى ذلك المجد الزائف على خرائب ودماء وآلام شعوب أخرى كانت الوقود اللازم لتأجيج نار ذلك الفخر الشرّير، ولإكمال صورة ذلك البهاء كان لا بدّ لتلك الشعوب أن تضفي على تلك الإنتصارات وصفا يمنحها الجانب الأخلاقي وبذلك تمّ تحوير كلمة غزو لتكون فتحا من وجهة نظر الشعوب الغالبة، ولكنّه في الحقيقة غزو بربري من وجهة نظر الشعوب المغلوبة وسيبقى كذلك في نظرهم ونظر الشعوب الأخرى التي تقرأ الحدث بحياديّة من دون أن تكون لها علاقات منفعة مع أحد طرفي النزاع.
نستنتج من هذا بأنّ الفتح ما هو إلاّ غطاء يغلّف به غزو ما من قبل الشعب الذي إقترف تلك الجريمة بحق شعوب أخرى لا ذنب لها إلاّ ضعفها في تلك الحقبة الزمنيّة، هو تزييف للحقائق ولكنّه تزييف واضح لأي شخص يقرأ الموضوع بحياديّة. لا يمكن أن يقال بأنّ الغزو والفتح وجهان لعملة واحدة، هو نفس الوجه ولكن بإسم آخر إختارته الشعوب الغالبة لتوضيح أنّ ما قامت به لم يكن عدوانا ولتمكين نفسها من الإدّعاء بأنّ ما قامت به لاقى ترحيب الشعوب الأصليّة. بهذا نرى أنّ كل الشعوب التي قامت بغزو بلاد أخرى تطلق وصف الفتح على ما قامت به من عدوان عدا تلك الشعوب المنصفة التي راجعت تاريخها وقرّرت التصالح من نفسها والتنصّل من ماضيها المخجل، ربّما لأنّها حقّقت إنجازات أخرى يمكنها أن تجعل منها فخرها الوطني أو أنّها أثبتت جدارتها للعالم بشكل يجعلها لا تأبه بالفخر وتلك المشاعر الزائفة، فيما تصر الشعوب - التي تعاني من أزمات حالية جعلتها تتراجع كثيرا - على التركيز على ما تعدّه مجدها الغابر ومواصلة التغنّي به وتعظيم شأنه في نفوس أجيالها الجديدة جيلا تلو الآخر، لأنّها تعرف بأنّه إذا ما قامت بالتنصّل من ذلك لن يبقى لها شيء تفتخر به ولهذا تواصل تصديق تلك الأكاذيب بشكل يمنعها من معرفة الحقيقة أو أنّ الحقيقة لا تعود غايتها أبدا.

لإثبات ذلك لا بد أن نتطرّق لأمثلة تاريخيّة تثبت ذلك، ولنبدأ بمنطقتنا التي تعاني كثيرا من هذا الداء، فهي تمجّد ليل نهار ما تسميه "الفتوحات العربيّة الإسلاميّة" وترفض بعنف إطلاق تسمية غزو عليها بشكل متغلغل في نفوس وأذهان غالبية شعوب المنطقة يمكنك الإستدلال عليه ما أن تطلق على تلك الحملات صفة غزو حتّى ينفجر الكائن الوديع أمامك فجأة كبركانٍ غاضب يثبت بأنّ العواطف هي التي تتحكّم فيه وليس عقله أو المنطق، ويلجأ لأن يجادِلك بشكل يثبت أنّه هو نفسه غير مقتنع بما يقول. لكنّنا وإذا ما نظرنا للموضوع بحياديّة سنرى بأنّه غزو أجنبي تألّفت جيوشه من شعب مكان آخر وإنطلقت لغزو مناطق أخرى تختلف عنها، وقد إستفادت من ظروف ساعدتها في تحقيق غايتها – كما هو حال كل الغزاة الذين تتهيّأ لهم ظروف تساعدهم في تحقيق مآربهم – وقد تمثّلت تلك الظروف في وجود غزاة أجانب قبلهم متمثّلين بالفرس والرومان في العراق والشام ومصر تباعا، وقد عانت شعوب تلك الدول من الإضطهاد الديني فقد كانت الكنائس تتعرّض للحرق والتدمير في العراق على أيدي الفرس الذين كانوا يحاولون وقف إنتشار هذا الدين الذي وجد له في العراق جذور عميقة وحواضن كبرى في نينوى وأربيل والحيرة وعموم العراق، كما كان الفرس يسعون لوقف توافد القبائل العربيّة البدوية إلى أرض ما بين النهرين التاريخيّة، وكذلك ساعد إضطهاد الرومان للأقباط في مصر بأن يسهّل على العرب دخولهم، ربّما لاقى الأمر دعما من قبل القبائل العربيّة المتناثرة التي كانت قد إستوطنت على أطراف الحواضر الكبرى في هذه الدول أو حتّى كوّنت دويلات خاضعة للفرس والرومان كما هو حال مملكتي الحيرة العربية المسيحية في العراق ومملكة الغساسنة في الشام، أو أنّ شعوب تلك الدول الأصيلة قد وقفت على الحياد ولم تدافع عن المحتلين في وجه موجة غزو جديدة، أملا في أن يكون الغازي الجديد أفضل أو أن يكون هزمه فيما بعد أسهل، وربّما بدعم خارجي من البيزنطيين بعد أن يتم طرد الفرس. ومن ذلك نستنتج بأنّه كان غزوا كغيره من الغزوات تظافرت عوامل عديدة في تحقيقه ومن قراءة وضع شعوب هذه المنطقة عبر التاريخ نرى بأنّها شعوب مضطهدة وتجري خلف سراب التحرير دائما وتصدّق كل وعود زائفة وتجري خلفها حتّى النهاية ولا تصطدم بالواقع إلاّ متأخّرا وقد لا تفيق لتدارك الأمر إلاّ بعد فوات الأوان، فقد صدّقوا العثمانيين بأنّهم محرّرين من الفرس وصدّقوا العرب من قبل وصدّقوا الإنكليز والفرنسيين بأنّهم جاءوا لتحريرهم من العثمانيين أبان قيام الثورة العربيّة الكبرى وصدّقوا أميركا عندما جاءت بهدف تحريرهم ونشر الديمقراطيّة والآن يصدّقون ثورات تدميريّة تعم المنطقة بأنّها تهدف إلى تحريرهم من دون أن يعرفوا المستعمر الذي يريدون التحرّر منه وفي كل الأحوال يستجدون التدخّلات الخارجيّة لتحقيق مآربهم التي هي مآرب أولئك الغزاة بعد أن أوهموهم بأنّها مآربهم الخاصّة وجعلهم يتقاتلون من أجل تحقيقها في غياب تام للرؤية الوطنيّة الخاصّة.

قد يناقشك البعض ويقول بأنّ الغزوات الإسلاميّة قد جاءت لنشر الدين وهذا ما قاله الغزاة الإسبان عندما دخلوا أميركا الجنوبيّة وهم يدعون أنفسهم "الفاتحون الإسبان" أيضا بشكل يثبت أنّ الفتح ما هو إلاّ تبرير شعب ما لما قام به من غزوات، فالدين هو حجّة ويمكن أن ينتشر بطرق أخرى وقد نشر المسلمون دينهم فيما بعد عن طريق التجارة في آسيا وأندونيسيا ونشر المسيحيّون الأوائل دينهم بالتبشير الفردي للرسل الذين تعرّضوا للإضطهاد والقتل حتّى جاء قسطنطين وجعل المسيحيّة ديانة الدولة الرسميّة فزاد إنتشارها، فالأديان لا تنتشر على نطاق واسع إلاّ بعد أن يعتنقها الملوك أو بعد أن يغزو شعب ما بلدا آخر ويفرضها على الشعوب المغلوبة، أمّا طرق النشر الأخرى فقد تكون بطيئة وغير فاعلة وتقوم بتكوين مجتمعات صغيرة منعزلة. وأخلاقيّا لا يمكن أن يعتبر شن حرب بهدف نشر دين أو مباديء عملا نبيلا، فالدين فكر ولا يمكن لفكر أن ينتشر إلاّ بعد قراءة وفهم وتمحيص وبعدها يعقبه الإقتناع من عدمه، ولكن أن تشنّ حربا ويقتل بسبب ذلك الآلاف ومن ثم تفرض الجزية على الشعوب بشكل يجبر كل الفقراء على الدخول في الدين هربا من هذا العبء أو أن تقول "أسلِم تسلَم" ومن ثمّ يتمّ الإدّعاء بأنّه لم يجبر أحد على الدخول في الدين الجديد يبدو متناقضا إلى حدّ كبير. في أحد النقاشات مع أحد الزملاء ممّن كان يبرّر الغزو من أجل نشر الدين تحجّج بأنّ ملوك تلك الدول ما كانوا ليسمحوا بإرسال رسُل لنشر الدين ولهذا كان لا بد من الحرب، ولكن المنطق يقول بأنّ هذا يدل على أنّه عملية فرض لا إختيار فإمّا الإسلام أو الحرب، وماذا إذا رفض شعب ما ذلك، ولماذا يقتل الآلاف في حين يمكن إرسال رسُل لمجابهة مصيرهم هناك كما فعل المسيحيّون الأوائل، والأديرة تحت الأرض وكهوف كابادوكيا في تركيا تثبت كيفيّة إنتشار المسيحيّة في باديء الأمر، ولكن الأمر تغيّر أيضا فيما بعد، ولكأنّ القوّة والسلطة تجعل الإنسان متوحّشا على الدوام وفي حالة العرب فإنّهم إنتهجوا القوّة منذ البداية، وقد تكاملت كل عناصر كلمة غزو في وصف تلك الحملات فهم شعب أجنبي وإن كان ساميّا أيضا ولغته ذات جذور قريبة من لغات شعوب المنطقة الأصليّة بالإضافة إلى توافد قبائل عربيّة إلى تلك الأراضي قبيل مجيء الموجة الأكبر بعد الإسلام، كما إنّ دخولهم تلك الدول بالحرب لم يجلب تطوّرا كما يزعم البعض بل على العكس لقد تمدّن العرب بعد دخول هذه الدول وإستفادوا من النظم المتّبعة في البلاطات الفارسيّة والبيزنطيّة والكل يعرف بأنّ البلاط الفارسي كان عالي التنظيم وقد إقتبس الفرس الكثير من النظم والتقاليد من البلاطات الآشوريّة والبابليّة قبل ذلك بآلاف السنين، ولهذا نرى بأنّ عمر بن الخطّاب قد أخذ عن الفرس التقويم وغيره من أمور كثيرة راقت للعرب بعد دخولهم دول الحضارات تلك، ومن ثمّ جاء الأمويّون وعرّبوا الدواوين التي كانت قائمة أصلا بالفارسيّة واللاتينيّة وأخذوا العملة من الدرهم الفارسي والدينار البيزنطي وبهذا يظهر بجلاء أنّهم لم يبتدعوا شيئا وإنّما إقتبسوا مدنيّة هذه الشعوب ولكنّهم أقنعوا سكّان دولنا الآن بأنّ كل هذه الشعوب قد عاشوا زمن جاهليّة قبل الإسلام وهم في الواقع يتكلّمون عن أنفسهم، فحضارات مصر والعراق والشام قائمة منذ القدم وكانت دولا بل إمبراطوريّات – وليس هذا تمجيدا للحروب التي قامت بها شعوبنا القديمة أبدا – ولكن لإثبات أنّ دولنا كانت عظيمة ومتمدّنة وتحكمها قوانين وتقطن شعوبها في مدن منذ فجر التاريخ الأوّل ولهذا من المستحيل أن نصدّق بأنّ العرب هم من جلبوا المدنيّة لهذه الدول بل على العكس كانت تلك الغزوات هي من إنتشلتهم من واقع التشظّي والقبليّة السائدة عندهم والتي لم يتخلّصوا منها بل ونقلوها لشعوب المنطقة بشكل أدّى إلى تردّيها. ممّا سبق ينتفي أنّ هذا الغزو قد جاء بالتقدّم لتلك الشعوب لأنّها هي شعوب حضارة وساهمت في بناء حضارة العصور الوسيطة والتي إعتمدت في باديء الأمر على ترجمة أدب وتراث وفكر الشعوب الأخرى من سريان وهنود وفرس ويونانيين وبذلك بنيت حضارة عظيمة في بغداد بفضل مجتمعها المتعدد الأعراق والأديان وهذه الحضارة لم تكن إنعكاسا للأعمال البربريّة الأولى التي رافقت دخول العرب كحرق مكتبة الإسكندريّة بأمر من عمرو بن العاص لأنهم في وقتها رفضوا كل فكر آخر لإعتقادهم بأنّ القرآن يوفر كل ما يبحثون عنه من أجوبة لهذه الحياة وهنالك روايات تاريخيّة كثيرة تثبت قيامهم بحرق تلك المكتبة ومكتبة الفرس في العراق أيضا. ومن هنا تتجلّى إزدواجيّة الإسلاميّين اليوم إذ يفتخرون بإنجازات علماء العصر العبّاسي المنفتحين والذين كانوا يحاربونهم ويذمّونهم في كتبهم ولا يزالون وخير دليل على ذلك قطعهم لرأس تمثال الشاعر الكبير المعرّي في سوريا خلال أحداث الإضطرابات التي تفتك بهذا البلد الآن.

من الأدلة على تكامل شروط الغزو بالضرورة هو سقوط الضحايا وترمّل نساء وتيتّم أطفال بالضرورة كنتيجة لأي حرب، هذا بالإضافة إلى إسترقاق النساء ووجود سبايا الحرب والغنائم التي هي ثروات تلك الشعوب، فلو كانت حروبا تختلف عن غيرها من حروب تلك الفترة لخلت من السبايا والغنائم ولتحلّت بروح التسامح ولكنّها لم تكن كذلك فقد تقاسم القادة حتّى نساء البلاطات الملكيّة فكيف بنساء عامّة الشعب هذا بالإضافة إلى نهب الثروات وطبعا تتويج كل ذلك بتعيين والي أجنبي عليهم كما هو حال الغزاة في تلك العصور ولحد الآن، ومن إستعراض التاريخ النهريني القديم نرى أنّ الملوك كانوا في باديء الأمر يقبلون بتعيين ملك من ذلك الشعب يكون خاضعا لهم وينفذ سياساتهم حتّى تغيّر الأمر في عهد ملوك الإمبراطوريّة الآشوريّة الحديثة عندما بدأوا يخضعون الدول المحتلّة لحكّام آشوريّين تفاديا لثورات محتملة تنشب بين الفينة والأخرى، وهكذا كان حذو الغزاة فيما بعد على الدوام إلاّ إذا كان الشعب عصيّا على أن يحكم بشكل مباشر ولا بدّ من وضع واجهة قد تلطّف الأجواء قليلا.

كل الغزاة كانوا يبنون هياكل لآلهتهم عقب الإنتصار وهذا كان دأب الرومان وكذلك منحوتات حضارات الشرق التي كانت تمجّد آلهتها وتشكرها على النصر ولكنّهم في الغالب لم يفرضوا دينا على الشعوب المغلوبة ولهذا نجد مسلاّت النصر تزخر بالتمجيد والقرابين للآلهة أو أن يقوم الملوك بعمل منحوتات في الجبال تصوّرهم وهم يقدمون القرابين أو الشكر لآلهتهم ومن هنا نرى أنّ كل الحروب كانت تغطّى بواجهة دينيّة في الغالب حتّى في عصر الأديان الوثنيّة وعلى الرغم من أنّ الشعوب المغلوبة في الغالب تقتبس ثقافة الشعب الغالب لإعتقادها بأنّه الأفضل بسبب إنتصاره أو لأنّه يفرض ذلك عليهم وهذا ما إعتقدته شعوب أميركا الجنوبيّة عند دخول الغزاة البيض. وتاريخيا يمكن العثور على أمثلة تسامح كما فعل كورش الكبير مع بابل إذ أبقى ديانتها الأصليّة على الرغم من أنّه كان السبب في سقوط آخر حكم نهريني مستقل عام 539 ق.م. إلاّ أنّ الثقافة لم تختفي وهنالك ألواح مسماريّة تعود للقرن الأوّل الميلادي وكان السبب في إختفاء الثقافة هو المد الآرامي ومن ثمّ التعريب، لكنّ الفرس وعبر التاريخ لم يؤثّروا في ثقافة العراق بل كانوا هم من يتأثّر بهذه الحضارة ويقتبسون فنّها وطرزها العمرانيّة ونظمها التشريعيّة والكتابيّة والسياسيّة بل وحتّى مراسيم البلاط والأزياء وغيرها من مظاهر أي دولة بما في ذلك الزقّورات والمعابد ويمكن ملاحظة ذلك جليّا في العاصمة الكشيّة "دور كوريكالزو" عقرقوف حاليّا شمال بغداد وكذلك مدينة بيرسيبوليس في إيران. وكان حال العرب كذلك إذ إقتبسوا حضارة تلك الشعوب ولكنّهم فرضوا عليها الدين واللغة وكانت هذه الخطوة التي جعلت هذا الغزو أكثر خطرا وأعمق تأثيرا في حياة هذه الشعوب إلى الأبد، لأن هذا الغزو كان يهدف للإستيطان والبقاء لأنّ أرضهم المجدبة لا تجذبهم للعودة إليها ولهذا كان لا بدّ لهم أن يستوطنوا ويستعمروا هذه الشعوب فكريّا عن طريق الثقافة وجعلهم جزءا منهم عن طريق الدين واللغة. وهذا النوع من الإستمرار يضمن لهم البقاء وهو ما فعله الإسبان في أميركا الجنوبيّة وأفريقيا فقد إعتنقت تلك الشعوب المسيحيّة ويقول زعماءها بأنّهم قد أعطوهم الإنجيل وعلّموهم الصلاة وبعد إنتهاء الصلاة وجدوا الإنجيل في يدهم والأرض في يد الغزاة ولكنّ الإختلاف العرقي جعل من الواضح التميّيز بين السكّان الأصليّين والغزاة وهو أمر أكثر صعوبة في الشرق الأوسط لأنّ غالبيّة الشعوب ذات جذور ساميّة ولها سمات مشتركة وإن كانت شعوبا مختلفة – لكنّ الإختلافات تبقى غير واضحة للعيان – وربّما يكون السبب الآخر هو عدم تمازج الإسبان والأوربيّين بالزواج مع شعوب أفريقيا وأميركا الجنوبيّة بشكل سمح لهم تكوين كنائس وطنيّة غير خاضعة للمستعمر وبالتالي فرصة للتحرّر مستقبلا وهو الأمر الغير متاح في الشرق الأوسط. فبالإضافة إلى موجات الإستطيان المتعاقبة ونظام الجزية الذي أجبر الفقراء على إعتناق الدين الجديد والإنضواء إلى قبائل عربية كموالي ومن ثمّ الإندماج تماما وتناسي ذلك الماضي وكذلك تملّك الأراضي البور بزراعتها الذي أتاحه الخلفاء جعل المنطقة تتغيّر تماما وإلى الأبد، ومن هنا يثبت أنّ الرومان واليونان كغزاة تركوا الأرض سريعا ولم يؤثّروا في شعوبها فكان غزوهم أقل وطأة بكل تأكيد. من العوامل الأخرى التي ساعدت في ضياع هوية شعوب المنطقة الأصيلة وإندماجهم هو ميل العرب إلى إجبار – ولو بصورة غير مباشرة - من يعتنق الدين إلى التسمّي بإسم عربي وهو أمر شائع حتّى في تعاملهم مع الأجانب ممّن يعتنقون الدين ممّن يغيرون أسماءهم وملابسهم ممّا يثبت بأنّ للدين بعدا قوميّا لا يمكن تجاهله أو إنكاره، لكنّ الحواجز الجغرافيّة ساهمت في الحفاظ على هويّة بعض التركيبات السكّانية بسبب قلّة الإندماج مع الوافدين الجدد ولهذا السبب دخل الأكراد والنوبيّون والبربر والفرس في الإسلام ولكنّهم حافظوا على لغاتهم وقوميّاتهم ولهذا السبب بعدا جغرافيّا ساهمت الجبال أو البعد الجغرافي في تشكيله ففي الشرق الأوسط نرى أنّ التأثير يقل كلّما توجهت شمالا وفي أفريقيا يقل التأثير كلّما إتّجهت جنوبا وهذا تبعا لنقطة دخول الفكر الجديد، والبعد الآخر قومي إذ أنّ اللغات الآريّة أكثر بعدا عن العربيّة بشكل يجعل من الصعب على شعوبها تقبّلها فيما كانت الشعوب الناطقة بالآراميّة أو السريانيّة أسرع تعلّما للغة الجديدة وبسبب الجغرافيا التي أوجبت عليهم العيش في المدن الكبرى حتّى إندمجوا نهائيّا في حالة تغيّر الدين. العامل الآخر كان الدين إذ ساهم في الحفاظ على ثقافات المنطقة بعزلهم عن الفكر الجديد فلم يتزاوجوا معهم وحافظوا على لغاتهم الطقسية أو كلغة تخاطب يومي ونرى التأثير يفرض نفسه بحكم الجغرافيا أيضا فالصابئة المندائيّون في جنوب العراق وإيران يتسمّون بأسماء عربيّة ويرتدي رجال الدين ملابس عربيّة أي أنّهم تعرّبوا لولا لغتهم الآراميّة وديانتهم التي ساهمت في الحفاظ على هويّتهم، وفي الوقت نفسه نرى أنّه في معلولا في سوريا وبحكم الغالبية المسيحيّة وعزلتها الجغرافيّة يتكلّم سكّانها الآراميّة بما فيهم المسلمون في المنطقة ممّا يثبت أنّ كل شعوب هذه المنطقة وحدة واحدة في مجملهم ولكنّ الأديان قد قسّمتهم والأمر كذلك بالنسبة للهنود والباكستانيّون وغيرها من دول العالم ذات الإنقسامات الدينية رغم تشابه الشعوب عرقيا كما هو الحال في نيجيريا وماليزيا وأندونيسيا والفلبين وغيرها.

ممّا تقدّم يبدو جليّا أنّ الغزاة على أساس ديني هم من يلجأون في الغالب إلى إستعمال كلمة فتح لوصف غزوهم للشعوب الأخرى وهو النوع الأخطر من جميع الغزوات ولا يعد نشر الدين إلاّ غطاء لطموحات شعوب في غزو أخرى بسبب جشع أو أطماع أو ظروف سيّئة في مواطنهم المجدبة تضطرّهم إلى غزو شعوب غنيّة كما هو حال الغزو المغولي أو القوط الغربيّين أو الفرس في جبال زاكروس الفقيرة. ومن أجل ديمومة هذا الغزو يجب إستعمار الشعوب فكريّا بشكل يجبرها على الإندماج وبالتالي تضيع أي فرصة للمطالبة بهويّة وطنيّة والتحرّر. بل أنّها تشبّعت بالفكر لدرجة لا يمكن لهم قبول الحقيقة رغم أنّ غالبيّة السكّان بالتأكيد هم من الشعوب الأصيلة وقد إندمجت بالثقافة الجديدة. قدّمت بعض الدول المستعمرة الإعتذار عن فترة الإستعمار ولكنّها تحايلت بطرق تمنعها من دفع فاتورة تعويضات لتلك الشعوب، فيما تصرّ شعوب أخرى على رفض أن يتم إستعمارها وهي لا تزال تمجّد غزوها لبلدان أخرى، فالعرب وقبل فترة على الفيسبوك كانوا يتباكون ما أسموه "نكبة الأندلس" ومن سخرية القدر أنّهم يضيعون أوطانهم الآن ويدمّرونها ويتباكون على الماضي، مع إنّه كان غزوا لشعب أجنبي آمن مختلف تماما عرقيا وثقافيّا ولكنّ الأمر ما دام في صالحهم فإنّهم يعتبرونه فتحا، حتّى إذا قالوا بأنّهم قد بنوا حضارة في إسبانيا فإنّ الأمر لا يغيّر من حقيقة كونه غزوا أجنبيا، وإلاّ وجب على العرب أن يعتبروا الإنكليز محرّرين عندما طوّروهم وبنوا لهم مدارس ودول متمدّنة عقب سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة، في وقت يدين فيه بعض العرب على الإسبان رغبتهم في التحرّر وأن يحتفوا بحروب الإسترداد، ممّا يثبت أنّ الإسلاميّين يحملون في دواخلهم بذور الإنقسام النفسي ونظرتهم إلى الأمور بعين المصلحة لا غير، فهم يمجّدون جرائمهم التي تحقّق مصالحهم ويرفضون على شعوب العالم الأخرى حقّها الطبيعي بل ويدينون تمجيد أولئك لإنتصاراتهم الذاتيّة، فيما ينظر الإنسان المحايد ذو المنطق إلى الأمور بذات العين والمنظور فغزو الإسبان والبرتغاليين والفرس والمغول والإنكليز والفرنسيين والهولنديين للعالم هو تماما مثل غزو العرب لدول المنطقة والأتراك لأوربا وهكذا. فمن يرى أنّ غزو القسطنطينيّة فتحا ويبرر إبتهاج المسلمين به لا بدّ أن يبرر إبتهاج المسيحيّين في دخول ريتشارد قلب الأسد إلى أورشليم وإلاّ كان الشخص متناقضا تماما فإمّا أن تعتبر الحدثين فتحا أو تعتبرهما معا غزوا أجنبيّا. ومن يرى أنّ من حقّه الغزو بهدف نشر الدين الذي يعتبره هو حقّا أن يعترف بحق أميركا في نشرها للديمقراطيّة التي تراها رسالتها النبيلة، وإلاّ فالأشخاص مصابين بداء الفصاء وفكرهم مختل بكل تأكيد وتحكمه الإزدواجيّة. على الشعوب أن تتحرّر من هذه العقليّات المريضة الممجّدة للعنف والقتل والإنتصار وأن تؤمن بالتعايش وتكف عن تمجيد غزواتها وجرائمها بحق الآخر وأن تنظر لما يقع عليها من ظلم بنفس الطريقة التي تنظر بها إلى ما تقترفه من ظلم في حق الآخرين.

دولنا الآن تخوض تجربة مرعبة وتغيّرات مريبة قد تماثل غزوا جديدا لقوى الظلام بعد أن تحرّر شعوب المنطقة من الإستعمار طوال سنوات – بالنسبة للعراق من عام 539 ق.م. وحتّى عام 1958 كنّا تحت الوصاية الأجنبيّة وكذلك الحال بالنسبة للدول المجاورة، إن الجرائم التي نراها اليوم وعلى أيدي أتباع نفس الأفكار تثبت ما تعرّض له أجدادنا في السابق بشكل يجعلنا نفهم كيف تمّ قتل وتهجير السكّان وسط حالة الإكراه التي تجبرك على أن تصنّف نفسك ضمن دين معيّن يعتبره الغزاة سماويّا كي يضمن لك حقّ البقاء ومن ثمّ يتبجّحون بحرية الإعتقاد، مع إنّ ذلك التسامح الجزئي كانت نتيجة عدم تمكّن مبدئي إذ أنّهم هجّروا كل الأقليّات الدينيّة من الجزيرة العربيّة منذ البدء بشكل جعلها ذات ثقافة واحدة وقضى على التنوّع الفكري فيها، في الدول الأخرى لم يكونوا الأغلبيّة بعد في وقتها ولهذا حاولوا التعايش مع ذلك، رغم أنّ الإضطهاد كان موجودا وهنالك قصّة عن صابئة حرّان مع هارون الرشيد وأنّهم إضطروا إلى أن يدّعوا بأنّهم صابئة ليحافظوا على وجودهم وكذلك الحال بالنسبة للمانويّين الذين تمّ إعتبارهم دينا سماويّا في البدء ومن ثمّ تمّت إبادتهم في العصر العبّاسي بشكل يظهر بوضوح مدى التخبّط وسوء الفهم والتعصّب الفكري الذي كان سائدا منذ تلك العصور والتي حاولت الأحزاب القوميّة – العلمانيّة شكلا – بتلميع صورة تلك الحقبة بشكل أضرّ بمصالحها الآن وخلق أجيالا جاهلة بالحقيقة ومتحمّسة للفكرة من دون وعي كامل بالحقيقة. لن نتقدّم إلاّ إذا ما تصالحت شعوبنا مع ذاتها ومع هويّتها الخاصّة التي يحاولون الآن تشتيتها لإعادة أمجادهم الغابرة، علينا أن نكف عن أن نكون مطيّة الآخرين لتحقيق مآربهم بإبادة أنفسنا والقضاء على مستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة وحرق أوطاننا. يجب أن تتم دراسة التاريخ مرّة أخرى بموضوعيّة وأنا أعلم بأنّ الشعوب الحيّة تعيش من أجل حاضرها وتبني من أجل مستقبلها ولكنّ شعوب منطقتنا لا تزال تعيش في الماضي ولهذا يجب عليها أن تتحرّر من هذا النير وذلك بقراءته بشكل موضوعي والتخلّص من أعباءه والإحتفاظ بالإيجابي منه كحافز على الإنطلاق بعد ذلك أحرارا من كل هذه الأمراض للبدء بمسيرة النهضة والتقدّم.

كلكامش نبيل

22-حزيران-2013



#كلكامش_نبيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تهويدة طفل - قصيدة سومريّة مترجمة
- رجل قلبي - قصيدة سومريّة مترجمة
- وحدة العراق التاريخيّة والجغرافيّة والثقافيّة
- التحزّبات العابرة للحدود وخطرها على المواطنة
- رسالة الأرض
- الديمقراطيّة الحقّة بالضرورة علمانيّة
- الفيدراليّة، حل أم مشكلة جديدة؟


المزيد.....




- -بعد فضيحة الصورة المعدلة-.. أمير وأميرة ويلز يصدران صورة لل ...
- -هل نفذ المصريون نصيحة السيسي منذ 5 سنوات؟-.. حملة مقاطعة تض ...
- ولادة طفلة من رحم إمرأة قتلت في القصف الإسرائيلي في غزة
- بريطانيا تتعهد بتقديم 620 مليون دولار إضافية من المساعدات ال ...
- مصر.. الإعلان عن بدء موعد التوقيت الصيفي بقرار من السيسي
- بوغدانوف يبحث مع مدير الاستخبارات السودانية الوضع العسكري وا ...
- ضابط الاستخبارات الأوكراني السابق يكشف عمن يقف وراء محاولة ا ...
- بعد 200 يوم.. هل تملك إسرائيل إستراتيجية لتحقيق أهداف حربها ...
- حسن البنا مفتيًا
- وسط جدل بشأن معاييرها.. الخارجية الأميركية تصدر تقريرها الحق ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كلكامش نبيل - فتوحات أم غزوات