أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق2/ ف1















المزيد.....



العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق2/ ف1


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 4130 - 2013 / 6 / 21 - 11:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


االعراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية
القسم الثاني

ازمــة الـديمقراطيــــة


اين تكمن ازمة الديمقراطية؟ وما هي عناصرها او العوامل القابعة وراءها؟ وهل هي مشكلة محدودة ومحددة بنظام الحكم بمفهومه الضيق ام مسألة اجتماعية شاملة؟ وهل هي معضلة سياسية مرحلية ام قضية حضارية مستمرة؟.. هذه الاسئلة وغيرها ستكون محل مناقشة هذا الجزء من البحث بفصليه. يحاول اولهما متابعة هذه الازمة في صورتها العامة بالعلاقة مع الوطن العربي.. ويناقش ثانيهما ازمة الديمقراطية في صورتها الخصوصية ارتباطاً بالواقع العراقي.


الفصل الاول
ازمة الديمقراطية في الوطن العربي

1- ازمة الديمقراطية في الفكر القومي العربي

(1) مناقشـة مفاهيميـة
ازدادت القناعة منذ بداية سبعينات القرن العشرين بمخاطر غياب الديمقراطية في الساحة العربية، ليس فقط على صعيد انظمة الحكم، بل على كافة الاصعدة الفكرية والممارسات الحياتية لمختلف حقول المجتمع. وهناك اتفاق بين قطاعات فكرية وسياسية عديدة على ان هذه المشكلة كانت- ولا زالت- من المعوقات الاكثر تأثيرا التي قبعت وراء التراجعات العربية الرسمية والشعبية.
تراوحت اسباب تعاظم الدعوة الى الديمقراطية في الوطن العربي بين انتهاء مرحلة القيادات الملهمة (الكارزمية)، وسرعة زوال انجازاتها، وبين عجز الانظمة العربية مواجهة التوسع الصهيوني، بالاضافة الى ظهور قيادات استبدادية بشعة ادت ممارساتها الى الحاق الكوارث بشعوبها وبالقضية العربية وعودة الامبريالية الى المنطقة. هذا الى جانب نمو الطبقة العمالية، وحدوث مزيد من سوء توزيع الثروة والدخل " قوميا وقطريا" وانخفاض مستوى الخدمات الاجتماعية لعامة الناس.
لعلّ من الامور الاكثر جدلا والاقل اتفاقا هي مسألة المفاهيم بصورة عامة، رغم اهميتها في خلق لغة مشتركة. وينطبق هذا الامر بشكل اوضح على مفاهيم هذا الجزء من البحث. ذلك ان الصعوبة تزداد عند التعرض لمصطلحات مثل الامة والقومية، نظرا لحداثتها وسعة استخداماتها وتباين تفسيراتها. فماذا تعني لفظة العرب، الامة، القومية، الحركة العربية؟
يرى الدكتور عبدالعزيز الدوري ان مفهوم العرب استند بدءا على اساس بشري مع تطابق النسب(الدم) ورابطة العروبة. وهذا المفهوم انسجم مع مجتمع تقوم وحداته على القبائل. ورغم انتشار الاسلام ودخول فئة محدودة بمرور الزمن من المستعربة في العرب، الا ان التأكيد والاطار العام بقي مع ذلك على النسب العربي وتكلم الفصحى. ومع حصول التغيرات الاجتماعية وتحول اعداد متزايدة من عرب البادية الى مجتمعات زراعية ، ومن ثم تطورها الى مجتمعات تجارية غطت نشاطاتها العالم القديم كله، فقد رافق هذا التطور توسع المدن واتساع قاعدة فئة العامة وبرز دورها في حياة المدن، وظهرت تنظيمات مختلفة، واصبح دور المال اساسيا، واخذ دور النسب في الحياة العامة بالتراجع النسبي. وجاءت حصيلة هذه التطورات في بلورة مفهوم العروبة بالحديث عن"امة"عربية باعتبارها امة واحدة على اساس اللغة الواحدة والاخلاق والسجايا مع تقدير اثر البيئة (دور الثقافة) كعامل في ذلك. ثم اصبح تعبير"الامة" يقتصر على الرابطة الدينية. وصار في كتابات العرب الاوائل يستخدم للعرب بقصد تميزهم عن غيرهم في الاسلام. وانتشر الحديث عندهم عن"امة عربية" متميزة ضمن"الملّة الاسلامية". وبقيت فكرة الاساس الثقافي في العروبة واطار الامة هي السائدة. ولكن فكرة النسب استمرت قائمة في المجتمعات القبلية.(1)
وهكذا اكتمل تكوين الامة العربية مع نهاية القرن الاول الهجري ( القرن الثامن الميلادي) بفعل انتشار الدين الاسلامي واللغة العربية، واستيطان اعداد متزايدة من القبائل العربية في الرقعة الممتدة من الخليج الى المحيط واندماجهم وتزاوجهم مع اهل البلاد التي دخلت الاسلام. وصار للعرب مفهوم اللغة الواحدة، التاريخ الواحد، العقيدة الواحدة، المصالح والتوجهات الواحدة. ولكن هناك فارق مفاهيمي بين التواجد الموضوعي للامة من ناحية والدعوة القومية من ناحية اخرى. فالقومية تعني: ادراك الامة لتميزها الحضاري عن غيرها من الامم، وشعورا وجدانيا لهذا الكيان، والرغبة في ان يتحول هذا الادراك والشعور الى تعبير سياسي يجسد آمال الامة في تقرير مصيرها وتحقيق استقلالها وفي حياة افضل. بمعنى ان الدعوة القومية هي ادراك وجود وطن عربي متميز تعيش فيه امة عربية واحدة يحس ابناؤها بوحدة الانتماء ويؤمنون بشرعية مطلب التعبير السياسي عن آمال هذه الامة في الوحدة والاستقلال. وبهذا المعنى فالقومية مفهوم حديث يعود الى القرن التاسع عشر. وقبل ذلك كانت الهوية الدينية (الاسلام) هي الغالبة.(2)
عالج الدكتور محمد احمد خلف الله مفهوم القومية والامة بالرجوع الى الاصول اللغوية لهذه المفاهيم واستخداماتها التاريخية. فالقومية لغويا (قوم، قام، اقام) تعني الثبات والاستقرار. والمكان رابطة قوية تجعل من الجماعة قوما، رغم انها ليست الرابطة الوحيدة. اذ تتواجد الى جانبها رابطة قوية اخرى هي اللغة باعتبارها الوعاء الثقافي للقوم. وحيث ان القوم قد ينتقل من مكان الى آخر، كما في حالة البداوة. فهذا يعني انهم قد يستبدلون مكانا بآخر. بينما لا يتمكنون فعل ذلك مع اللغة (الوعاء الثقافي). عليه تعتبر اللغة الرابطة الاولى والارض الرابطة الثانية. كما ان وجود القوم في ارض واحدة، وممارستهم الحياة بثقافة واحدة يخلق بينهم علاقات اخرى قوية تدور حول المصلحة (الروابط) المشتركة والمتعددة من اجتماعية واقتصادية. من هنا تعني القومية مجموعة روابط ثقافية ناجمة عن تعايش مجموعة بشرية في مكان واحد ولها تاريخ واحد ومصالح مشتركة. اما الامة فهي مصطلح اجتماعي سياسي. واصلها اللغوي من( أ‘م) بمعنى القصد والمصدر وكل شيء يضم اليه ما سواه مما يليه. وبهذا المعنى فالامة هي كل جماعة يجمعهم امر ما: دين واحد، مكان واحد، زمان واحد. وقد يتطابق مفهوم الامة ومفهوم القوم عندما تكون الرابطة في الجماعة البشرية هي نفسها رابطة اللغة. اما اذا كانت الرابطة دينية، والديانة عالمية، عندئذ لا يتطابق مصطلح الامة ومصطلح القومية. فقد تكون الجماعة امة وليست قوما، اي مكونة من عدة قوميات. ويكون القوم في هذه الحالة جزءا من الامة.(3)
الا ان هذه المحاولة في تحديد مفاهيم الامة والقومية، كما في غيرها من المحاولات، تبقى جدلية غير محسومة. اذ ان العلاقة بين المفهوم والواقع في المجال الاجتماعي ليست علاقة تطابق بالضرورة. كما ان هذه المفاهيم التي جاءت محاولة تحديدها استنادا الى المصادر اللغوية واستخداماتها التاريخية وردت بمعاني مختلفة في نفس مصادرها. ففي القرآن مثلا معاني عدة لكلمة "امة". ويختلف المعنى الوارد للامة في القرآن وما وردت من معاني للامة في كتب المفكرين العرب منذ العصر العباسي وحتى العصر الحديث. كما ان مفاهيم الامة والقومية في العصر الحديث خضعت لصراعات ايديولوجية ومصلحية. ففي التعريف الايديولوجي لـ ستالين صار التوكيد على العامل الاقتصادي لمفوم الامة. وفي التعريف الفرنسي جرى التأكيد على ارادة العيش المشترك حتى يصل المفكرون الفرنسيون الى تبرير اعادة مقاطعة الزاس لورين الى فرنسا. وفي التعريف الالماني جرى التوكيد مرة على العامل الجغرافي(الارض) لتبرير ضم المقاطعة ذاتها ، ومرة على اللغة لضم مناطق اخرى شرقية وجنوبية، ومرة ثالثة على العرف لتبرير تفوق القوم(العنصر) الالماني. بينما صار التوكيد على الدين في الكيان الصهيوني لتبرير جمع اليهود في ارض فلسطين. وهكذا فإن تحديد معاني المفاهيم يجسد الاختلافات في الاتجاهات التي تحمل مشروعات كلية عقائدية، ايديولوجية، اجتماعية، حضارية، اقتصادية، سياسية.. والتي لا يمكن توحيدها الا اذا وحدت الاتجاهات، وهو امر بعيد المنال.(4)
والقومية العربية عند ساطع الحصري تعني حب الامة والشعور بارتباط باطني نحوها، وهي ارتباط الفرد بالامة. وتمتد عناصرها من اللغة والتاريخ الى الشعور والمصالح المشتركة، حيث تباينت هذه العناصر حسب الاجتهادات المختلفة لتضم حتى الحضارة والبيئة من وجهة نظر اخرى. اما الفكرة القومية فهي احساس وجداني بالانتماء الى العروبة والرغبة في تحقيق الوحدة السياسية وتأكيد الهوية القومية. وتتعدد مبررات الوحدة لتشمل في اهمها: عوامل تاريخية وتجارب مشتركة وتحديات خارجية (الامبريالية والصهيونية) وتحديات داخلية (التجزئة والتخلف). وهذه المبررات تحمل معها بطبيعة الحال الآمال والمصالح المشتركة. بينما تواجه فكرة القومية انتقادات تتقدمها انها: عاطفية (لا تستند الى المنطق العقلي بل الى المشاعر الوجدانية التي لا تعكس واقعا ماديا يؤكد الفكرة).. مثالية (لا تتحقق لأِنها مجافية للحقيقة).. عنصرية (تعبر عن تعصب ونزعة فوقية مؤدية الى تضخيم قيمة الجنس او العرق).(5)
تعرضت الظاهرة القومية الى محاولات مبكرة لدراستها بتصنيفها الى اربعة اشكال تالية:(6)
الاول: القومية التوحيدية Hegemony Nationalism- تتكون من جماعة تحس بوجودها وانتمائها الموحد في سياق لغة وثقافة وخبرات تاريخية وآمال مستقبلية مشتركة. لكنها تعيش في وحدات سياسية متفرقة ومتجاورة. وعادة ما يكون هدف الجماعة تأكيد هويتها القومية ولملمة شمل اجزائها المتفرقة في كيان سياسي موحد يحقق لها وضعا حضاريا اكثر متانة وقوة. مثال ذلك القوميتين الالمانية والايطالية.
الثاني: القومية الخصوصيةParticularistic Nationalism - وتسمى ايضا "القومية الانفصالية". تتكون كذلك من جماعة تشعر بوحدة وجودها وانتمائها الثقافي واللغوي والتاريخي والمصير المشترك، الا انها تعيش في كيان سياسي اكبر لا تحس نحوه بنفس الانتماء. عليه تهدف الى الانفصال وتشكيل وحدة سياسية خاصة مستقلة. ومن امثلتها: بنغلادش (باكستان)، الباسك (اسبانيا)، الكاثوليك(ايرلندة).
الثالث: القومية الهامشيةMarginal Nationalism - تظهر بين سكان المناطق الحدودية الواقعة بين دولتين قوميتين عندما ينتمون بصفة رسمية ( الجنسية) الى احداهما وقوميا الى الاخرى. مثال ذلك الالمان الذين يعيشون على الحدود مع فرنسا (الالزاس لورين). ويتطلع هذا النوع من القوميات الانتقال من كيان سياسي الى آخر لتحقيق تجانسهم القومي.
الرابع: قومية الاقلياتThe Nationalism of Minorities - وهي قريبة الشبه بالقومية الهامشية، رغم اختلافهما. اذ ان افراد الاقلية (دينية، لغوية، طائفية) قد يكونون منتشرين في اكثر من منطقة جغرافية داخل الدولة. وتهدف اما الى الانفصال(او الى الحكم الذاتي وبما بوفر معاملة خاصة تمكنها من تنمية تراثها الحضاري والمحافظة على كيانها المتميز). من امثلة هذا النوع: المتحدثون بالفرنسية في مقاطعة كيوبك(كندا)، والسود في الولايات المتحدة الامريكية.
اما مفهوم الحركة القومية العربية فهو ينصب على الجهود العملية التي تبذلها الجماعة لبلوغ اهدافها القومية. ويتسع هذا المفهوم لدى فريق من الباحثين بالعودة الى فترة ما قبل الاسلام لاثبات قومية العرب وسعيهم اليها منذ ذلك التاريخ. بينما يشير المعنى الضيق- والاكثر شيوعا- الى الواقع السياسي والاجتماعي الذي دفع المجتمع العربي الى محاولة تحقيق هويته القومية في سياق حركة سياسية مناهضة للحكم التركي في اواخر عهد الدولة العثمانية. هذه الحركة التي تجسدت في ظهور العديد من التنظيمات العربية الثقافية والسياسية التي استهدفت تأكيد الهوية القومية في مواجهة سياسة التتريك العثماني.(7)

(2) تطور الفكر القومي العربي في التاريخ المعاصر
يرتبط تاريخ الحركة العربية من الوجهة السياسية ارتباطا متينا بتاريخ العلاقات العربية- العثمانية، وبالذات منذ القرن التاسع عشر، باعتبارها المرحلة التي شهدت الحكم الاستبدادي للسلطان عبدالحميد والاتحاديين من بعده. ترتب عليها تصاعد موجة الرفض العربية للحكم العثماني. وفي هذه الفترة كانت القومية عند مستوى التعبير عن حركة مناهضة للحكم العثماني تبناها الوجهاء العرب وساعدت الظروف السياسية والاجتماعية التي مرّت بها السلطة العثمانية آنذاك على اثرائها وتبلورها. استمرت هذه المرحلة لغاية نهاية الحرب العالمية الاولى.
ومنذ العشرينات من القرن الماضي دخلت الحركة العربية مرحلة جديدة سياسيا واجتماعيا. اذ انتهت بخيبة امل كبيرة عند القوميين العرب. فلم تتحقق امانيهم القومية بِإقامة الدولة العربية الواحدة، بل تجزأ الوطن العربي الى دويلات تحت الحكم الاجنبي الفرنسي والبريطاني والايطالي. وانفرط عقد الحركة العربية بعد انتهاء الحرب مباشرة وتشتت على مستوى الكيانات (الدول) وعلى مستوى الحركات والتنظيمات السياسية ذاتها.(8)
تطور الموقف القومي في المرحلة الثالثة (1945-1964) من مجال الاجتهاد النظري والدعوة للقومية العربية الى التجسيد العملي في شكل تجارب وحدوية في ضوء التطورات السياسية والاجتماعية للبيئة العربية ودفعت بقوى اجتماعية جديدة الى السلطة، إذ عكست تطلعاتها ونظرتها القومية مضمونا مختلفا عما كان سائدا من قبل، خاصة في مجال تحويل الفكرة القومية الى حركة سياسية لها اسس تنظيمية وطابع الشمول والانتشار واضفاء الطابع الشعبي عليها. تحققت هذه التطورات نتيجة ترهل القيادات التقليدية العربية وضيق نظرتها وتفضيلها لمصالحها الذاتية.
خلقت التطورات الاجتماعية لفترة ما بعد الحرب ومنذ الخمسينات الفرصة لظهور قوى شابة جديدة بدأت الاهتمام بقضايا التغيير الاجتماعي، بالاضافة الى النضال ضد الاستعمار. فدعت لأِفكار العدل الاجتماعي والتقدم، وانتقدت بحدة الانظمة القائمة، واخذت تشكل تنظيماتها السياسية المناوئة للحكم بطرق علنية وسرية. وتغلغل ابناء الطبقة الوسطى تدريجيا في الجيش الذي اصبح مؤسسة رائدة في الحركة العربية.
تطورت فكرة القومية العربية بشكل ملحوظ منذ اوائل الخمسينات وربطت بين القوى الامبريالية وبين اغتصاب فلسطين، ومن ثم اعلنت الكفاح والعداء ضد القوى الغربية. واضافت لأِول مرة الولايات المتحدة الامريكية الى قائمة اعداء الامة العربية. الا ان الحركة العربية بقيت حتى عام 1960 تعكس مضمونا برجوازيا للتحول الاجتماعي. وكانت تؤمن بما اسمته "نظرية المراحل السياسية" في سياق تجزئة الاهداف القومية افقيا. وعبّرت عن ذلك باعطاء الاولوية للعوامل السياسية على تلك الاقتصادية والاجتماعية. وآمنت بأن المشكلة تنحصر في عدم بلوغ الوحدة العربية السياسية. وكانت تحذر من الصراع الطبقي والاطروحات الاشتراكية، مبررة ذلك بأنه من غير المناسب ان يناضل القوميون على اكثر من جبهة. الا ان الحركة بدأت بعد هذا التاريخ (1960) التوجه تدريجيا نحو تبني الافكار الاشتراكية.
تميزت هذه المرحلة بظهور ثلاث قوى قومية رئيسة في الساحة العربية (البعث والناصريون والقوميون العرب) لعبت دورا فكريا وعمليا في الحركة الوحدوية. اذ قدمت منطلقات وتوجهات نظرية ودخلت في علاقات سياسية فيما بينها ومع القوى السياسية الوطنية الاخرى، اتسمت بفترات من الوفاق والصراع، وحددت محصلة التفاعل بينها مصير الحركة الوحدوية فكرا وعملا حتى الوقت الحاضر.
وفي المرحلة الرابعة بعد هزيمة حزيران 1967، ظهر الى السطح تباين مواقف القوى القومية الرئيسة تلك في المجالين النظري والتطبيقي لفكرة الوحدة. كما سادت ادبيات الفكر القومي لما بعد عام 1964 ظاهرتين رئيستين: اولاهما استمرار حالة التفتت والانشقاق على مستوى علاقات القوى الوحدوية، وفي داخل كل منها.. وثانيتهما انتشار روح النقد والتقييم لخبرة القوى الوحدوية والتراث الفكري القومي لكل منها.(9)
واذا وعت القوى الوحدوية دروس تجارب الوحدة السابقة منذ منتصف الستينات، فإن الدرس الحقيقي لهذه التجارب تمثل في ان الوحدة، باعتبارها عملية متكاملة: سياسية- اقتصادية اجتماعية- ذات بيئة متميزة، لها من المتطليات والشروط والخطط والستراتيجيات بحيث تتطلب المزيد من البحث والتدقيق. وحتى في حالة وجود ايديولوجية قومية متكاملة ومقنعة فهي غير كاف لتحقيق الوحدة تلقائيا، وانما يتوجب العمل الشاق والمستمر في ظروف الوقائع الذاتية والموضوعية في المنطقة العربية.
وفي دراسة استطلاعية لفريق بحث استندت الى عينة من الكتابات العربية،(10) بهدف بلورة الاتجاهات السياسية في الفكر القومي العربي، تناولت هذه الدراسة فكرة القومية العربية وحركتها منذ القرن التاسع عشر ولغاية السبعينات من القرن العشرين. وقسمت هذه الفترة الى اربع مراحل متميزة للحركة القومية العربية هي: فترة ما قبل الحرب العالمية الاولى.. فترة ما بين الحربين.. الفترة 1945-1964.. فترة ما بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967. ووصفت قائمة من (18) فئة تعرضت لها عينة الكتابات(وفق التكرارات المبينة في الجدول رقم 7.
ليس هذا الجدول مجرد ارقام احصائية لاستخلاص بضعة مؤشرات كمية، بل هو في الواقع يقدم لوحة، على ما فيها من جهد بحثي جماعي وخاصة عند متابعة نتائجها التفصيلية، تجسد ازمة الفكر القومي العربي وتضم مساحة واسعة من المؤشرات التي تقبع وراء هذه الازمة. خاصة عند ملاحظة ان الكتابات التي يستند اليها البحث تعود الى عينة مختارة من نجوم الكتاب والفكر القومي العربي على مدى قرن من الزمن تقريبا الكواكبي، المؤتمر العربي الاول، الحصري، دروزة، البعث، احمد خليل احمد، الياس مرقص، سليم ابراهيم، شبلي العيسمي، علي الدين هلال، محمد عمارة، نديم البيطار، نقولا شاوي، سعدالدين ابراهيم، سعدون حمادي).
ورغم الانتقادات التي وجهت لهذه الدراسة، متمثلة اهمها في: غياب اطار نظري بالعلاقة مع البحث، عدم تحديد المفاهيم والمصطلحات الكثيرة المستخدمة فيها، ضعف اختيار العينة باقتصارها على كتابات وبلدان مشرقية محدودة، عدم وضوح نوعية وعدد الفئات الثماني عشرة التي توصلت اليها الدراسة، غياب التعرض لاوجه الشبه والاختلاف بين التيارات الفكرية في كل مرحلة من مراحلها الاربعة، عدم تبيان طبيعة الاستمرار والتحول من مرحلة الى اخرى وعدم كشفها عن جذور الاستمرار والتحول في مراحلها.(12) الا انها تضمنت جملة نتائج هامة عبّرت بشكل عام عن طبيعة اتجاهات هذه العينة من الكتابات، والقت الكثير من الضوء على جوانب عديدة للفكر القومي، تتقدمها:


جدول رقم (7)
اهتمامات عينة من الكتابات العربية المعاصرة في مجال تحليل مضمون الفكر القومي العربي
الفئات وعناصـــــــــــرها مراحـــــــــل البحـــــــــــــث
الرابعة الثالثة الثانية الاولى
14 48 64 87 نشأة الفكرة القومية 1
56 132 122 103 مبررات الفكرة القومية 2
8 13 11 .. الانتقادات الموجهة للفكرة القومية 3
2 8 2 24 ماهية الوحدة 4
9 62 25 38 تصور اشكال الوحدة 5
111 88 4 3 القوى التي تحقق الوحدة 6
83 97 3 1 اساليب تحقيق الوحدة 7
9 62 2 .. مراحل تحقيق الوحدة 8
49 63 28 7 الفوائد العامة للوحدة 9
.. 2 .. .. الفوائد الخاصة للوحدة 10
352 222 92 13 العقبات والتحفظات على الوحدة 11
34 33 14 .. تقييم محاولات الوحدة السابقة 12
3 6 79 .. اسس اتجاه رفض الوحدة 13
.. 8 .. 27 موقف الفكر القومي من الغرب 14
55 73 8 11 موقف الفكر القومي من الاستعمار والامبريالية 15
16 87 .. 3 موقف الفكر القومي من التغيير الاجتماعي 16
1 18 1 6 موقف الفكر القومي من الاقليات 17
2 81 .. 2 موقف الفكر القومي من الديمقراطية 18
823 (11) 1103 455 325 جملة التكـــــــــــــــــــــرارات

* احتلت مبررات الفكرة القومية ونشأتها، المراتب الاولى في المرحلة الاولى. واستمرت "المبررات" تتصدر المرحلة الثانية والى جانبها العقبات التي تواجه الوحدة في المرحلة الثانية. بينما اخذت العقبات تحتل الاولوية في المرحلتين التاليتين والى جانبها اساليب تحقيق الوحدة (المرحلة الثالثة) والقوى التي تحقق الوحدة (المرحلة الرابعة).
* جاءت الغلبة للطابع العرقي في نشأة الفكرة القومية في المرحلتين الاولى والثانيــــة (59 %، 53 %)، وتحسن موقع الطابع العلماني( 23% ) في المرحلة الثالثة. بينما طغى الطابع الديني في المرحلة الاخيرة (85%).
* اعطت عيّنة الكتابات الاولوية للتحديات الداخلية في بحثها لمبررات الفكرة القومية في المرحلة الاولى (49%)، وللمبررات التاريخية في المرحلتين الثانية (91% ) والثالثة (39%)، بينما تصدرت التحديات الخارجية المرحلة الرابعة(46%).
*رغم ضعف الاهتمام بأساليب تحقيق الوحدة والقوى التي تحققها في المرحلتين الاولى والثانية، الا ان المرحلتين التاليتين شهدتا تزايد الاهتمام بهما. اذ اكدت العينة على الجماهير باعتبارها القوة الرئيسة لتحقيق الوحدة وبنسبة لم تقل عن 90%.
* من جهة اخرى شهدت اساليب تحقيق الوحدة تغيرا نوعيا بين المرحلتين الثالثة والرابعة. اكدت العينة في المرحلة الثالثة على الانقلاب والثورة بواقع 54 تكرارا من جملة 79 وبنسبة 56 %. بينما ركزت في المرحلة الاخيرة وبواقع 79 تكرارا من جملة 83 وبنسبة 95 % على قيادة الوحدة من قبل حزب ثوري عربي!
* التغير النوعي الآخر للاهتمامات المتزايدة للعينة ظهر في موضوع العقبات التي تواجه الوحدة. ففي حين اكدت العينة على عقبات مثل تناقض المصالح، اختلاف النظم السياسية، عقبات خارجية.. في المرحلة الاولى، واضافت اليها العقبات الذاتية في المرحلة الثانية او التباين الحضاري والفرقة بين القوميين العرب في المرحلة الثالثة، فإن المرحلة الرابعة شهدت تغيرا نوعيا خطيرا باتجاه التأكيد على مسألتين ووضعهما في مستوى واحد كعقبات في وجه الوحدة هما: التيارات المعارضة 153 تكرار والعقبات الخارجية 142 تكرار من جملة 352 تكرار.
* ويرتبط بذلك اهمال العينة بحث ثلاث قضايا رئيسة، خاصة المرحلة الاخيرة، وهي: التغيير الاجتماعي، الاقليات، والديمقراطية. هذا رغم ان المرحلة الثالثة- التي يمكن اعتبارها العصر الذهبي لحركة الفكر القومي العربي من حيث شموليتها (40% من كتابات كافة المراحل) وتنوعها- شهدت تحسنا ملموسا في اهتمامات عينة الكتابات بتأكيدها على التغير الاصلاحي للقضايا الاجتماعية(66%)، والتسامح والاعتراف بالنسبة للاقليات(61%)، والديمقراطية الموجهة والاشتراكية (73%).
لعلّ واحدة من اخطر النتائج التي تكشف عنها هذه الدراسة الاستطلاعية، خاصة في مرحلتها الرابعة، اي منذ عام 1967، لا تقف عند حد عدم حصول تغيير نوعي في الموقف الفكري لعينة الكتابات خلال هذه المرحلة واغفالها بحث القضايا الاجتماعية والاقليات والديمقراطية فحسب، بل حصول ما يشبه التراجع الفكري في اتجاهات المفكرين القوميين العرب بالتأييد لمسألتين بالغتي الخطورة هما الاولى ربط اسلوب تحقيق الوحدة وحصرها في"حزب ثوري عربي".. والثانية التأكيد على اولوية "التيارات المعارضة" كعقبات للوحدة. بل ومنحها الصدارة على العقبات الخارجية (الاستعمار والامبريالية). مما قد تفسر هاتان النتيجتان توجه الفكر القومي العربي في هذه المرحلة نحو اتجاهين قاتلين، ليس للحركة العربية فقط، بل ولكل القوى الوطنية والقومية في الوطن العربي عموما، هما: الاول التبشير بنظام الحزب الواحد بكل ما فيه من استبداد.. والثاني تقديم "التبرير العقائدي" لحصول الصراع والتناحر بين الاحزاب القومية والاحزاب الوطنية الاخرى.
ما هي العوامل التي سببت غياب او ضعف الديمقراطية في الفكر القومي والحركة العربية؟ وهل هناك علاقة بين القومية والديمقراطية؟
نوقشت القومية باعتبارها تشكل من الناحية المبدئية نظرية للشرعية السياسية. فالقومية اكثر رفضا ان نكون محكومين للاجانب من ان نكون محكومين بأمثالنا (مواطنينا) دون استشارتنا او رضائنا. وعند هذه النقطة بالذات يمكن ان تتقاطع اهداف القومية واهداف الديمقراطية. فرغم ان الحركة القومية تقوم عادة على هدف الاستقلال الذي يشكل شرطا مسبقا للديمقراطية، الا ان مقومات بناء الامة وتشكل الدعوة القومية نمت عادة منذ بداياتها في ظروف التخلف والاستبداد. وهذا يفسر من وجهة النظر القومية توجه هدف ازالة الاستعمار decolonization نحو جعل السلطة وطنية دون ان تتوجه بالضرورة نحو جعل السلطة ديمقراطية.(13)
والسؤال المطلوب مناقشته هو: ما الذي يجعل مجتمعا يفضل اختيارا على آخر؟ قد تكون للطريقة التي لخص بها لويس نامير Lewis Namier التطور المتباين للدول والامم الاوربية ما يفيد في تسهيل فهم الوضع العربي. اذ يرى: حيثما تحقق التوافق بين الدولة والامة، أي الوحدة (الدولة الموحدة) فإن الوطنية وجدت تعبيرها في الحرية. مثال ذلك انكلترا "ام البرلمانات" وفرنسا "بلاد حقوق الانسان". اما في الحالات التي بقيت فيها الامة مجزأة فإن الوطنية لم تكن لتجد تعبيرها الا بالمطالبة بالوحدة والاستقلال بحيث بقيت قضية الحرية متأخرة. كما في تجربة الوحدة الالمانية والوحدة الايطالية.(14)
كما ان الصراعات الطويلة بأشكالها المختلفة من فكرية وممارسات عنيفة (دسائس ومؤامرات وحروب،الخ..) التي بدأت بعد وفاة الرسول واستمرت على امتداد الدولة الاسلامية قادت الى اضعاف وانهيار هذه الدولة- الحضارة، بدلا من ان تساهم في نقلها الى مرحلة تاريخية اكثر تقدما كما حدثت في التجربة الاوربية عند معايشتها لصراعات مماثلة ادت الى انهاء سيطرة الكنيسة على مقدرات وعقول الناس والى ازالة مرحلة الاقطاع وفترة القرون الوسطى وبدء حركتها الحضارية الحديثة واستكشافاتها الجغرافية. ويرتبط بذلك ان الصراعات الاوربية جاءت وليدة ثورات ثقافية وتفاعلات اجتماعية كانت لها علاقات مؤثرة في حياة مختلف قطاعات المجتمع، لأِنها اقترنت بتحقيق مصالح مادية ملموسة وحقوق اجتماعية محسوسة اكثر منها صراعات ايديولوجية- دينية.
اما الصراعات العربية التي لم تكن اقل من تلك التي حصلت في اوربا، سواء من حيث حجمها وقوتها واتساعها او فترتها الزمنية الطويلة نسبيا، فإنها جسدت- في الغالب- صراعات ايديولوجية دينية قامت على الدعوة للتضحية بالحياة الدنيوية من اجل ضمان المدينة الفاضلة في العالم الآخر. وعندما تكون الايديولوجية بعيدة عن امكانية بلوغها في الحياة الاجتماعية الدنيوية عندئذ تعاني من الفجوة المتضخمة بالعلاقة مع ممارسة الحياة العملية. وتتحول تدريجيا الى فكرة رغبوية تقوم على القدرية القاتلة برفض كل مبادرة جديدة. وتبقى ممارسة لفظية بعيدة عن واقع الحياة العملية. تعيش على الآمال والتمنيات والتطلعات والاشواق. تسلم أمرها للغير (الزعامات الكارزمية) من اجل تحقيق احلامها وحصول المعجزات. تحلم ببلوغ الاهداف والانجازات العظيمة في لحظة ما او فترة زمنية قصيرة دون اعتبار للابعاد التاريخية. تسقط في مستنقع الازدواجية بتضخيم الوعود والادعاءات في غياب الفعل والانجازات. تؤمن بالمطلقات والغيبيات دون اعتبار لنسبية حقائق الحياة.(15)
وهكذا انطبع الفكر العربي تاريخيا بتأثيرات الدولة السلطانية. دولة القهر والسطو والاستغلال، حيث كانت السلطة تتداول فيها على اساس التعاقب الوراثي ودون اكتراث للحصول على موافقة الناس. ورغم دعاوى السلطنة تمثيلها للمبادئ والقيم الاسلامية فإن التصرفات الفردية للسلطان وممارساته المنحرفة، مقابل استخدامه لفتاوى رجال الدين من اجل تبريرها ومنحها الشرعية، جسدت السلطة الملكية المطلقة، رغم ان الناس كانوا ينظرون الى السلطنة على انها دولة مثالية. من هنا استمرت الفجوة العميقة بين استبداد السلطنة المعاش في الواقع اليومي وبين المدينة الفاضلة المعاشة في اذهان الناس والبعيدة عن الادراك في الحياة العملية، او بين الفكر والممارسة.(16)
يضاف الى ذلك تباين الفترة التاريخية بين حركة النهضة الاوربية وبين حركة اليقظة العربية. اذ تحققت الاولى في ظروف سلام خارجي عندما قادت البرجوازية الحركة الديمقراطية ومهمة التنمية التي اقترنت بالتوسع الخارجي والمساهمة القيادية في النظام الاقتصادي الدولي، على خلاف البرجوازية العربية التي اصبحت مكبوسة بين الضغط الاستعماري وبين خوفها من الجماهير الشعبية. وفي هذا السياق، حيث درجة تكامل البناء الاقتصادي المعتمدة على النفس هدف اساس لانجاز هدف الاستقلال السياسي، يتضح الفرق التالي "بينما لم يكن في المراكز تناقض بين تبلور حكم برجوازي وطني مستقل وبين اندماجه في النظام الاقتصادي العالمي في التكوين، ظهر مثل هذا التناقض في الاطراف بين احتياجات تبلور حكم مستقل ذاتيا واقامة اقتصاد متمركز على الذات وبين الانتماء الى النظام العالمي.(17)

2- طبيعة انظمة الحكم العربية
اخذت اغلبية البلدان العربية بعد الحرب العالمية الثانية بالانظمة الملكية. ساعد على ذلك الحكم الاجنبي. وبادرت في العديد منها ممارسة جوانب شكلية لتقليد الديمقراطية الغربية، وذلك بدعوة من الصفوة التي تلقت تعليمها في المدارس الاوربية. وجاء تصاعد الحركة القومية في الخمسينات ايذانا بانتهاء مرحلة التجربة الليبرالية الغربية.




(1) اشكال انظمة الحكم العربية
تتعدد معايير تصنيف انظمة الحكم العربية. وفي السطور التالية مناقشة موجزة لثلاثة اشكال من هذه الانظمة بغرض الوقوف عند مدى التباين والتشابه بينها، تمهيداً لمناقشة سماتها المشتركة بالعلاقة مع ازمة الديمقراطية.(18)
الاول: الانظمة الملكية والانظمة الجمهورية- تضم الانظمة الملكية، على تباين اسمائها (مملكة، امارة، سلطنة)، ثمانية بلدان: الاردن، المغرب، والبلدان الخليجية- مجلس التعاون(الامارات، البحرين، السعودية، سلطنة عمان، الكويت، قطر). اما بقية الاثنا عشر بلدا فهي تأخذ بالنظام الجمهوري (تونس،الجزائر، جيبوتي، سوريا،السودان، الصومال، العراق، لبنان، ليبيا، مصر، موريتانيا، اليمن).
ويلاحظ على الانظمة الوراثية لبلدان مجلس التعاون غياب دستور وضعي دائم ينظم سلطات الحكم في السعودية وسلطنة عمان، رغم وجود مجلس شورى فيهما. وبعد صدور الدستور في البحرين عام 1973 وانتخاب المجلس النيابي، تم حله بمرسوم اميري (1975) واستمر معطلا. واقتصر الدستور القطري لعام 1970 على انشاء مجلس استشاري يعين الامير اعضاءه. ويحفظ الدستور في الامارات العربية المتحدة لكل امير سلطته المطلقة في امارته، ويقوم الدستور فيها اصلا على بيان كيفية تنظيم شؤون الحكم بين الامراء.(19)
وتعتبر الكويت الوحيدة بين بلدان مجلس التعاون في تطبيق ديمقراطية ليبرالية محدودة من خلال الدستور والانتخابات العامة لاختيار اعضاء المجلس النيابي الخمسين "مجلس الامة". ويلاحظ على الدستور والانتخابات في الكويت:
* منح الدستور مجلس الوزراء حق العضوية في المجلس المنتخب بحيث اصبح يشكل اكبر كتلة فيه وبنسبة تزيد على 20% من اعضائه.
* غياب حرية تشكيل الاحزاب السياسية، كما هو الحال في عموم بلدان مجلس التعاون.
* محدودية عدد المشاركين في الحياة السياسية بالنسبة للقاطنين في الكويت بسبب قانون الجنسية الكويتي- الذي يعتبر من اكثر القوانين قسوة في العالم. فهو يفرق بين الكويتيين الاصليين وبين الكويتيين المتجنسين تفرقة واسعة في الحقوق السياسية والاجتماعية. فقانون الانتخاب يحول بين الكويتي المتجنس(واولاده من بعده) طوال حياته السياسية الترشيح في الانتخابات. كما احيط حقهم في التصويت بقيود كثيرة ادت الى محدودية من يحق لهم المشاركة في الانتخابات الى حدود 10% من حملة الجنسية الكويتية. بينما بقيت المرأة الكويتية محرومة منها. ففي عام 1981 بلغ عدد حملة الجنسية الكويتية- الفئة الاولى والثانية-600 الف. كان يحق لـ 62 الف فقط، أي 3و10% التصويت. بينما ذهب الى صناديق الاقتراع لانتخاب اعضاء المجلس النيابي 3% منهم فقط. زادت هذه النسبة الى 15% عام 1992.
* ممارسة الامير حل المجلس النيابي وايقاف العمل بالدستور بصورة متكررة.
* تكرر ظاهرة تدخل السلطة التنفيذية في الانتخابات لتشكيل مجلس نيابي موال وباعتراف بعض المسؤولين في جلساتهم الخاصة.(20)
ويتضمن الدستور في كل من الاردن والمغرب حق اجراء انتخابات عامة لاختيار اعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان)، بالاضافة الى حرية تشكيل احزاب سياسية في ظل شروط معينة. ومع ذلك فإن هذه التجربة الليبرالية في كافة الانظمة الوراثية المعنية لا تعدو منح حقوق محدودة للمعارضة لتوجيه النقد الى السلطة التنفيذية، حيث يحتفظ الملك بسلطة اختيار وزرائه وحل البرلمان وايقاف العمل بالدستور. وفوق ذلك ففي كافة الانظمة الملكية يجمع الملك عادة بين السلطتين السياسية والدينية. يضاف اليها النسب العائلي- القبلي. وهي تقوم على التعاقب الوراثي كما هو حال الانظمة الوراثية في العالم. لكن الاختلاف الرئيس هو ما يتعلق باختصاصات الملك. ففي انظمة الديمقراطيات الغربية تنازل الملك عن سلطاته واصبح رمزا للبلاد وشخصية غير سياسية، على خلاف الملوك العرب، حيث تتسع سلطاتهم اتساعا شديدا الى حدود الملكية المطلقة او شبه المطلقة.
وبالمقابل فإن بقية الاقطار العربية التي تأخذ بالنظام الجمهوري، سواء نصّت دساتيرها على حصر تجديد انتخاب رئيس الجمهورية بدورتين انتخابيتين (الجزائر، تونس، جيبوتي) ام تركت مسألة التجديد مفتوحة دون ربطها بفترة زمنية محددة (مصر، موريتانيا) ام لم يرد اصلا ذكر موضوع تجديد انتخاب رئيس الجمهورية (العراق، سوريا). فهي تتماثل عموما (عدا لبنان) في استمرار رئيس الدولة في السلطة دون ترك موقعه الا نتيجة الوفاة او الاغتيال او الانقلاب. وفيما عدا بعض حالات الاستثناء التي ظهرت مؤخرا(جيبوتي، الجزائر)، تتساوى الانظمة العربية- الملكية والجمهورية- في واحدة من السمات المحورية المعبرة عن ازمة الديمقراطية الا وهي احتكار السلطة.
الثاني: الانظمة التقدمية والانظمة المحافظة- يستند الدكتور يحيي الجمل في اختياره لمعيار التفرقة بين هاتين المجموعتين على مدى الانفتاح وتقبل الافكار الجديدة والتغيرات الاجتماعية. عليه يتصف النظام التقدمي كونه مفتوحا على الافكار الجديدة، ويتعامل بمرونة مع الحركات الاجتماعية سامحا لها بالنمو واحداث آثارها في التطوير المجتمعي. وبالنتيجة يتصف النظام التقدمي بالانفتاح الفكري والممارسة السلمية في تعامله مع التغيرات الاجتماعية. بينما يكون النظام المحافظ عادة مغلقا على نفسه، صلبا تجاه الافكار والقوى الاجتماعية الجديدة، ولا يسمح لها بالنمو واحداث آثارها الاجتماعية. وبالنتيجة يصعب تغيير هذا النظام الا بكسره والغائه.(21) وفي ضوء هذا المعيار يمكن الحكم على الانظمة العربية كافة (عدا لبنان) كونها انظمة محافظة لانغلاقها الفكري- السياسي-الاجتماعي.
الثالث: الانظمة تعددية الاحزاب وانظمة الحزب الواحد- ينفرد الدستور المغربي من بين الدساتير العربية في نصّ يحرم نظام الحزب الواحد لصالح التعددية الحزبية. وبالمقابل فإن الاحزاب السياسية محرمة في ليبيا والصومال والبلدان الخليجية الستة. بينما ينص دستور جيبوتي لعام 1992 على تعددية حزبية لغاية اربعة احزاب فقط بعد ان كان دستور عام 1981 بنص على انشاء حزب واحد. ويقوم في العراق وسوريا نظام الحزب الواحد (الحاكم)، رغم السماح بتعددية حزبية محدودة غير مؤثرة في طبيعة سلطة الحكم. اما دساتير بقية البلاد العربية فهي تسمح بتعددية حزبية مقيدة بنصوص دستورية- قانونية. ففي الجزائر يحرم الدستور قيام الاحزاب السياسية على اساس الدين او اللغة او الاختلافات الاقليمية. ويعلن الدستور المصري صراحة على تحريم الالحاد واي تصرف يعكس عداوة للاديان. وترتبط تعددية الاحزاب في الاردن بعدم مخالفة احكام الدستور.(22) وبالنتيجة بقيت احزاب عديدة لا تجد وسيلة امام الاجراءات الصعبة والقيود المانعة التي تواجهها سوى ترك الساحة او اللجوء الى العمل السري لممارسة نشاطها.
يضاف الى ذلك ان التعددية الحزبية القائمة في اغلبية الانظمة المعنية هي تعددية شكلية تميل الى احتضان الحزب الواحد(حزب السلطة) في سياق مساندة الحزب للسلطة التنفيذية- التي هي اقوى السلطات في الانظمة العربية- ومساندة السلطة للحزب ليصبح "الحزب الاقوى" في المجلس النيابي حتى وان لم يكن له من الرصيد الجماهيري الحقيقي ما يسمح له بذلك.(23) وهذه الحصيلة تشير الى سمة اخرى من السمات المشتركة لهذه الانظمة بالعلاقة مع ازمة الديمقراطية في الوطن العربي الا وهي غياب التعددية.

(2) مواصفات انظمة الحكم العربية
رغم تباين ظروف البلدان العربية، سواء في مرحلة الاحتلال او ما بعدها، الا ان انتمائها الى الوطن الواحد والقومية الواحدة جمع بينها سمات عديدة تشترك فيها بدرجات متباينة، تتقدمها:(24)
الاولى: انظمة حكم فردية- تشترك انظمة الحكم العربية عموما (عدا لبنان) بانفراد رئيس الدولة في السلطة. ومع ان دساتيرها تنص صراحة على فصل السلطات الثلاث، الا ان ما يحدث في الواقع العملي هو تجميع هذه السلطات في شخص رئيس الدولة. وعندما تتجمع هذه السلطات في جهة واحدة عندئذ تبرز ظاهرة الاستبداد المستند الى الرأي الواحد، وهو رأي القائد او الزعيم.(25)
وتلعب المؤسسات الاعلامية للدولة- وهي مكرسة في الواقع لخدمة القائد الزعيم مباشرة- دورها الرئيس لتعظيم شأنه الى مرتبة الالهة او نصف الالهة. فكلمة القائد فقط تكون مسموعة، واقواله وحدها تتصف بالحكمة، وهو العبقري الملهم الوحيد الذي تسجل باِسمه كافة "الانجازات" حتى ولو كانت مجرد ادعاءات ووعود وشعارات او هزائم تحولت بقدرة اجهزة الاعلام الى انتصارات.
وفي مثل هذا الجو السلطوي الذي يقوم على تقديس المستبد وتمجيده وتعظيمه واظهاره فوق مستوى البشر، يصبح ما عداه من المعارضة والناس صفرا لا وجود لهم الا بوجوده، ولا كلمة لهم الا كلمته، ولا قدرة لهم الا بقدرته. فهو الشعب والدولة معا. وهو الوحيد القادر على مواجهة التحديات. وكل ما يصنعه يشكل "انجازا عظيما" حتى لو عاشت الاغلبية في ظروف المجاعة والحرمان، وغابت عن الدولة السيادة والكرامة. لذلك فلا غرابة من ان تحتل اخبار القائد اضخم مساحة في صحفه ووسائل اعلامه وبشكل لا مثيل له في العالم المتحضر. وربما اعتبرت هذه السياسة ايضا احد"الانجازات العظيمة" الاخرى لـ"عبقرية" الزعامة الحاكمة.
الثانية: تعدد الولاءات- تقوم الدولة الدستورية الحديثة على اساس الفصل ما بين شخص الحاكم وماله الخاص(الدومين الخاص) وما بين شخصية الدولة ومالها العام (الدومين العام). أي ان مسؤولية الحاكم هي مسؤولية وظيفية تتمثل في التزامه مهام محددة موكلة اليه بطرق قانونية مرسومة تخضع لرقابة السلطة التشريعية. علاوة على تمتع السلطة القضائية بالحصانة اللازمة لحماية الدستور ومنع السلطات الاخرى من اختراق القوانين والعمل على تطبيقها بين المواطنين في اطار العدل والمساواة. وتطلق على مثل هذه الدولة تسمية"دولة القانون" كما سبقت المناقشة.
تتواجد دولة القانون عادة في المجتمعات المتحضرة، حيث تتميز بقوة الترابط بين المواطن والدولة في اطار العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تطورت بينهما لصالح نمو مستوى حياة المواطن على مدى فترة زمنية طويلة نسبيا، ولتتجاوز علاقات المواطن القبلية والدينية والاثنية، بل وحتى العائلية، بعد ان سارت هذه الدول بنجاح نحو اثبات وجودها الحضاري من خلال بناء مؤسسات فعالة قابلة للاستمرار والتطور، ونشر خدماتها العامة في كافة ارجاء البلاد، وصيانة حياة الناس وممتلكاتهم في ظل القانون، وحماية الفرد من الولادة الى الشيخوخة من خلال قوانين العمل والضمان الاجتماعي.
بينما تتميز المجتمعات التقليدية بتعدد التنظيمات الاجتماعية المنافسة للدولة من روابط النسب- الدم (قبيلة- عشيرة- عائلة) وروابط دينية وتجمعات اثنية، بحيث توفر بيئة خصبة لتعدد الولاءات الفرعية. ولما كانت هذه التنظيمات هي انتماءات سابقة على ظهور مفهوم الدولة، عليه تكون الولاءات الفرعية قوية في بداية ظهور الدولة. لأن الفرد يجد في هذه التنظيمات اصله وتقاليده وقيمه وأمنه وكرامته وضمانات لحل مشكلاته ووسائل دعم في اوقات شدته وازماته، ومجالا لحماية حياته ومعيشته.
وفي ظروف انظمة الحكم العربية، ورغم الدساتير الحديثة القائمة في العديد منها، الا انها من الناحية العملية تتسم بقوة الترابط بين شخصية الحاكم وبين شخصية الدولة في سياق النظرة القبلية (الابوية) السائدة. وضعف القوانين بسبب اختراقها اولا من اشخاص الحاكمين انفسهم، وقيام الحكم على اساس الولاء قبل الكفاءة لتسقط هذه الانظمة نفسها في احضان القبلية والولاءات العشائرية والعلاقات الخاصة. وفوق ذلك ضعف الخدمات العامة والضمانات الاجتماعية وغياب الحريات والتنظيمات السياسية او التعددية الفعلية. وهذه الوقائع كلها تقود الى استمرار حاجة الفرد لعشيرته او جماعته وضرورة لجوئه اليها من اجل حماية حياته ودعمه في الشدائد باعتبارها المظلّة التي يحتمي بها في ظروف الانكشاف التي يعيشها بسبب ضعف الحضور الحضاري للدولة وغياب مصداقيتها. من هنا يتجه ولاء المواطن لجماعته قبل الدولة. وهذا ما يجسد عدم رسوخ مفهوم الدولة الحديثة في انظمة الحكم العربية.
الثالثة: التباين بين القول والفعل- تعلن انظمة الحكم العربية بصفة مستمرة واستنادا الى نصوص دساتيرها و/او المبادئ الدينية التي تدعي السير على هداها عن تمسكها باحترام حقوق الانسان والعمل في اطار القانون، الا ان الواقع العملي في العديد منها يخالف ذلك. اذ يعيش المواطن في حالة تقرب من الاحكام العسكرية (العرفية). وتعاني الافكار والقوى الاجتماعية من وطأة القهر والتحريم والكبت والتصفيات، وان كانت شدتها تختلف باختلاف الانظمة الحاكمة والمرحلة الزمنية وظروف كل منها.
كما تقدم هذه الانظمة ايضا وعودها الضخمة باستمرار لتحقيق انجازات اقتصادية وتحسين الاوضاع المعيشية لمواطنيها، وذلك دون اعتبار للابعاد الزمنية والجهود غير الاعتيادية التي تتطلبها مهمة تنفيذها، علاوة على غياب دراسة امكانيات وقدرات ورغبات الناس. وتأتي الحصيلة غالبا فشل تحقيق الوعود المعلنة.
ان الفجوة بين ادعاءات ووعود الانظمة المعنية وبين ممارساتها العملية تخلق لدى المواطن القناعة بعدم الثقة في القوانين والدساتير والادعاءات لتصبح حالها كمثل الشعارات واللافتات. وهذا البون الشاسع بين القول والفعل او بين الفكر والممارسة تعبر عن احد المظاهر التاريخية لازمة الديمقراطية في الوطن العربي.
الرابعة: التبعية وتقييد الارادة السياسية- تتجسد التبعية الاقتصادية في اعتماد الماكنة الاقتصادية للبلدان العربية- كلا على حدة - على الاسواق الغربية. وترتبط آليات التبعية بالسوق الرأسمالي الدولي لتخلق اشكالا جديدة من التبعية ولتغطي بقية الفروع الاقتصادية والاجتماعية من تبعية صناعية- تكنولوجية ومالية وغذائية وأمنية- عسكرية وثقافية. وتعتبر التبعية الغذائية واحدة من اخطر انواع التبعية في الوطن العربي لأِنها تقود الى فقدان اهم اركان أمن الدولة وهو الأمن الغذائي. ولا تقل خطورة التبعية العسكرية عن سابقتها على أمن الدولة بسبب تأثيرها سلبيا في اختيارات الاسلحة المستوردة من حيث نوعياتها وكمياتها وفي خيارات استخداماتها، وذلك من وجهة نظر مصالح الجهات المصدرة لها قبل مصالح الدول المستوردة. كما تشكل التبعية سلاحا خطيرا لهدم القيم الثقافية الوطنية واحلال الظاهرة الاستهلاكية البذخية الغربية.(26)
وفي ظل الممارسات العملية لهذه الانظمة، حيث يضع الحاكم وجوده في السلطة فوق اي وجود آخر، عليه قد يكون من السهل تصور كيف ان مصالح ومواقف عديدة للدول الامبريالية العالمية تجد ترجمتها في مواقف وممارسات انظمة حكم عربية!
3- ازمة الشرعية في انظمة الحكم العربية
يتمثل مضمون الشرعية في قبول المواطنين منح حكومتهم حق حكمهم وممارسة السلطة، بما في ذلك استخدام القوة، وذلك في اطار قواعد دستورية وقانونية توفر الرقابة الفعلية على ممارساتها، وتؤكد حماية حقوق وحريات المواطنين.(27) بمعني ان جوهر الشرعية هو قبول المحكومين للحاكمين وليس اذعانهم للحاكمين.(28) وتستند الشرعية في جوهرها الى: الولاء للدولة والطاعة للقوانين والتأييد للاهداف.(29) وبالنتيجة تعبر الشرعية عن درجة رضاء الناس (المحكومين) عن حكومتهم.(30)
اما مصادر الشرعية، حسب ويبر- السابق الذكر- فقد تنوعت حسب ظهورها تاريخيا بين المصادر التقليدية والقانونية والملهمة (الكارزمية او حب الجماهير).(31) ويضيف الدكتور سعدالدين ابراهيم مصدرا رابعا هو الكفاءة والفعالية الحكومية في ادارة المجتمع وتحقيق اهدافه باعتبارها من المسائل الجوهرية في بناء وتكريس الشرعية واستمرارها وتطورها، لكونها توفر قدرا مرموقا من الاستقرار السياسي والاجتماعي.(32)
استمدت دولة الخلافة الاسلامية شرعيتها منذ نشوئها ولغاية سقوط دولة الخلافة العثمانية عام 1922 من الاسس التقليدية، متمثلة في الدين والنسب العائلي- القبلي، كما كان الحال في الانظمة الملكية القديمة. ثم تطورت مصادر الشرعية مع تطور الدولة الحديثة لتعتمد على العقلانية القانونية دون الغاء للشرعية التقليدية. بينما ارتبط ظهور الشرعية الكارزمية بعصر الثورات وسقوط العديد من الانظمة الملكية القديمة في اوربا مقرونة بالشرعية الثورية والايديولوجية وانتشار الانظمة الجمهورية.
وبعد حصول البلدان العربية على استقلالها الاسمي، ومحاولاتها تطبيق النموذج الغربي في الحكم، خاصة ما يتعلق بالدستور والانتخابات عندئذ اضيفت الى الشرعية التقليدية لهذه الانظمة كذلك الشرعية القانونية، وان بقيت منقوصة، طالما ان تقنين العلاقة بين الحاكمين والمحكومين رسميا ظلّ صوريا لا يحترمه الحاكم ولا يثق به المحكوم في سياق الفجوة الواسعة بين ما تضمنه القانون وبين الممارسة الفعلية. ومع حلول الفترة الثورية منذ الخمسينات وسقوط انظمة ملكية عديدة عندئذ برزت القيادات الملهمة/ الكارزمية لتستند الى الشرعية الثورية و/او ايديولوجية الحزب الواحد.

(1) شرعية الانظمة الملكية
سبق ولوحظ ان الانظمة الملكية العربية تتراوح بين كونها انظمة مطلقة وشبه مطلقة. بمعنى ان الملك العربي لا زال يحكم على طريقة ملوك القرون الوسطى. اذ انه يمتلك كافة السلطات حتى وان تنازل عن جزء منها اسميا في شكل دستور وانتخابات. لأن ما يتنازل عنه يمتلك القوة على سحبه او تعديله. مقابل ذلك فهولا يخضع لاية مساءلة باعتباره "ظل الله في الارض" حيث يستمد شرعية حكمه من المصدر التقليدي المستند الى الدين والنسب العائلي- القبلي مدعمة بما يحشده من اسباب القهر والبطش.
ومع بداية الخمسينات واجهت هذه الانظمة- التي اخذت شرعيتها بالتآكل- احتمالات سقوطها امام الاعصار القومي. وفعلا انهارت عدة انظمة ملكية الا ان البقية منها تمكنت من الصمود لاسباب تتقدمها:(33) الحماية الاجنبية التي لا زالت قائمة.. تزايد عوائد النفط، خاصة لدى الانظمة الخليجية، وبالتالي تجميد الصراع الطبقي مؤقتا.. منح الامتيازات وتقديم الهبات (رشاوى جماعية) للمحكومين، خاصة الفئات العليا من"المثقفين"والعسكريين ورجال الدين ورؤساء العائلات والقبائل والعناصر القيادية.. محاولة دعم المصدر التقليدي لشرعيتها بمصادر اضافية، كما في اضافة بعضها لمظاهر العقلانية القانونية، سواء بإجراء انتخابات برلمانية او السماح بإنشاء احزاب سياسية.
يضاف الى ذلك تحسين كفاءتها وفعاليتها كعوامل مساعدة لزيادة شرعيتها من خلال: تطوير اجهزتها المدنية والامنية والعسكرية بمساعدة الخبراء والمستشارين الاجانب، تطوير برامج خدماتها العامة ونشرها في كافة ارجاء البلاد لتشمل معظم شرائح السكان خاصة في البلاد النفطية والتي برزت في: توسيع مؤسساتها واجهزتها الامنية، تكريس المؤسسة الملكية باستخدام طقوس جديدة زادت قوة وهيبة منصب الملك، تلقي الاجيال الجديدة من العائلة الملكية التعليم الحديث، المحافظة على التوازن بين القوى القديمة والقوى الجديدة وتحاشي فرض صيغة انصهارية على التكوينات الاثنية والاقليمية في بلدانها- مثلما فعلت الانظمة الجمهورية- بإذكاء روح التنافس بينها مع تقنينه حتى لا يتحول الى صراع تناحري، وتوظيف ذلك التنافس لتعميق ولاء هذه التكوينات- لا لمفهوم الدولة الحديثة- بل للبيت المالك نفسه، المهارة في ادارة السياسة الخارجية ارتباطا بدعم القوى الخارجية- لا لخدمة القضايا القومية بالضرورة- بل لتكريس نفوذها الاقليمي عربيا ولقطع خط الرجعة على معارضيها داخليا، رشوة الانظمة الثورية وتدجينها في اطار مؤتمرات القمة والمنظمات العربية والعلاقات الثنائية.
وهكذا، وبفضل الحماية الاجنبية لهذه الانظمة وثرواتها النفطية والظروف الاقليمية ومهارتها السياسية، تمكنت من النجاح في البقاء والاستمرار. بل ونجحت، خاصة الانظمة الخليجية، من احتلال موقع القيادة في اتخاذ القرارات العربية الرسمية. وسقطت الانظمة الثورية في تبعية هذه الانظمة. من هنا برزت ظاهرة التبعية المزدوجة للبلدان غير النفطية الى تلك النفطية، وبالذات الخليجية، التي ترتبط بدورها في علاقات تبعية واسعة وقوية بالانظمة الغربية.(34)

(2) شرعية الانظمة الجمهورية
جاءت الانظمة الجمهورية ردا تاريخيا على الانظمة الملكية في سياق الثورات التي قادت الى اسقاط معظمها في اوربا. والجمهورية تعني حكم جمهور الشعب باعتباره مصدر السلطات. عليه تستمد الجمهورية شرعيتها من العقلانية القانونية (الدستور والانتخابات). بينما تشكلت الانظمة الجمهورية العربية اما في اعقاب تحرر عدد من البلدان العربية من السيطرة الاستعمارية المباشرة او من خلال سقوط عدد من الانظمة الملكية في مرحلة الانقلابات- الثورات العربية التي اعقبت ثورة مصر(يوليو 1952). وبرزت هذه الانظمة الوليدة في شكل جبهة لها ايديولوجيات ومواقف متباينة عن تلك الملكية. وقامت في غالبيتها (عدا لبنان) على ادعاءات كونها "تقدمية" او"ثورية". وبذلك استمدت شرعيتها من قيادة كارزمية ذات ايديولوجيات ثورية.
وفي سياق تبنّي الانظمة الجمهورية للايديولوجية العربية فإنها دعت للوحدة العربية والاشتراكية والحرية. وحددت اعداءها بالاستعمار والصهيونية والرجعية. ورسمت سياستها على: مناهضة الاحلاف، التخلص من المعاهدات والقواعد الغربية، تأميم الشركات الاجنبية، الالتزام بمبدأ الحياد الايجابي، وتعزيز علاقاتها مع المعسكر الاشتراكي (سابقا). اما سياساتها الداخلية فتلخصت في: انهاء مرحلة التجارب الليبرالية الغربية بالغاء الدستور والانتخابات والاحزاب السياسية، التخلص من النفوذ السياسي والقوة الاقتصادية للفئات التقليدية المهيمنة من اقطاعية وارستقراطية باصدار قوانين الاصلاح الزراعي وتأميم الشركات الكبرى، انشاء قطاع عام لقيادة الاقتصاد الوطني وفق التخطيط المركزي للتنمية الشاملة، وبناء جيوش وطنية قوية وتبني القضية الفلسطينية.
وكان المطلوب دفعه من الجماهير لقاء الانجاز السريع لهذه الاهداف الكبرى التي كانت تعدهم ببناء مجتمع عصري تزول فيه اسباب الفقر والمرض والجهل، هو التفافها حول قادتها ومنحهم ولائها وتأييدها وطاعتها، والعمل بجد واخلاص وانضباط، وتحمل التضحيات للوصول الى هذه الاهداف الكبيرة. هذا دون اغفال للصراعات التناحرية الدموية التي شهدتها هذه الانظمة في معظمها والتي اصبحت ساحة للعنف بما في ذلك من دسائس ومؤامرات وانقلابات.
صاحبت هذه الدعوة تبني مبدأ اولوية الديمقراطية الاجتماعية على الديمقراطية السياسية بانكارها التعددية السياسية. وكانت لمرارة التجربة الليبرالية السابقة- التي انحصرت في اقلية من النخبة السياسية- اثرها في هذا الواقع الذي قام على صيغة الوحدانية. ولم تكتف هذه الانظمة بفرض الصيغة الوحدانية في المجال السياسي فقط، بل تابعت تطبيقها في المجالات الاخرى، خاصة انكارها لواقع التعددية الاجتماعية في اطار تفسيرها المشوه لشعار"وطن واحد وشعب واحد".
ومع ان اغلبية هذه الانظمة بايديولوجياتها الثورية اكتسبت مصداقية عالية لدى الجماهير الشعبية في الوطن العربي، خاصة في بداية المد القومي التي تجسدت في القيادة الكارزمية لـ عبدالناصر. واضفت اساسا قويا لشرعية الانظمة التي تبنتها في الخمسينات والستينات، مضافا اليها عمليات الانفاق- البناء الاستثماري والخدمات العامة- التي وجهت لصالح اغلبية الناس، ونجحت في تحقيق انجازات ملموسة واحدثت تغييرات بيّنة في الهياكل الطبقية والمؤسسية ودفعت فئات عريضة للمساهمة في العملية المجتمعية بعد ان ظلت معزولة او محرومة لحقب زمنية عديدة، الا ان فشل التجارب المحدودة للوحدة من جهة، وتباطؤ العملية الاقتصادية من جهة اخرى، واخيرا وفاة جمال عبدالناصر (1970) كانت في مقدمة العوامل التي وضعت نهاية للتجربة القومية والحركة الثورية العربية، على الاقل للمرحلة الحالية.
ورغم بقاء الايديولوجيات والشعارات الثورية لمرحلة ما بعد عبدالناصر، الا ان ممارسات هذه الانظمة المدعية بـ"التقدمية" قادت الى افراغها من مضامينها. هذه الممارسات التي تراوحت بين الافراط في الواقعية وبين العبثية واللاعقلانية. ولتتحول هذه الممارسات الى تكريس التجزئة والوقوع تحت مزيد من ضغوط التبعية وتصفية التدابير والاجراءات الاشتراكية المحدودة التي تحققت في عقدي الخمسينات والستينات لتصبح الاوضاع المعيشية اكثر صعوبة في مواجهة الاغلبية.
من هنا فقدت هذه الانظمة شرعيتها الثورية. وبدلا من ان تحاول تأكيد شرعيتها بمصادر جديدة تقوم على اصلاح النظام السياسي وتؤكد ممارسة الشعب لحقوقه وواجباته، فإنها اصرت على احتكار السلطة واخذت تعتمد بصورة متصاعدة على وسائل القمع والارهاب والتصفيات.
وفي ظروف تنامي الخوف وعدم الثقة واصرار الحاكم على احتكار السلطة، عندئذ بدأت تتشكل ظاهرة جديدة هي ظهور اسر ملكية جديدة في اغلفة جمهورية بوضع الاقارب في المراكز الستراتيجية والحساسة من السلطة واعتماد الحكم بشكل متصاعد على ابناء العائلة والعشيرة. بل وفرض الابناء لوراثة الحكم. وهكذا تراكمت مصاعب الناس ومصائبهم بأنظمتها هذه التي اضافت الى سجلها افتعال الازمات الحدودية، رغم الحروب الاهلية، لتتفجر في مواقع وكوارث عربية عديدة.."لقد انصرف حكامنا عن كل ما هو مطلوب ومرغوب: ضاع المشروع القومي الكبير في مشاريع قطرية منفردة... ثم ضاعت او توشك ان تضيع المشاريع القطرية في مشاريع طائفية واسرية وفردية. تحولت السياسة في عالمنا الى مساومات ومخابرات، وتحول الاقتصاد الى صفقات وعمولات، وتحولت الثقافة الى دعاية، وتحول الاعلام الى اعتام، وحول الحكام انفسهم الى انصاف آلهة. لقد اصبح ابطال وطننا العربي هم المضاربين في سوق المناخ، وسماسرة السلاح، وتجار الاغذية الفاسدة، وملوك الطوائف. انه عالم بلا شرعية، عالم يسيطر عليه الخوف- خوف المحكوم من الحاكم، وخوف الحاكم من المحكوم... ان البديل الوحيد للعنف والقهر والاستغلال والرعب الدائم عند الحكام والمحكومين على السواء هو المشاركة في الثروة والسلطة… ويبدو ان البديل الوحيد الآخر لمثل هذه المشاركة هو استمرار القهر الى ما لا نهاية.(35)

4- نحو بناء خطاب قومي للديمقراطية ( افكار للمناقشة)
(1) آراء ومقترحات
كشفت هزيمة حزيران (1967) عورات الانظمة العربية، خاصة تلك التي اقامت شرعيتها على زعامات كارزمية او ايديولوجية ثورية، وعن عجزها انجاز المهام التي ادعت انها جاءت لتحقيقها. كما كشفت الهزيمة عن سذاجة وخطأ قطاعات وفصائل رئيسة عديدة في المجتمع العربي عندما تغاضت عن حقها في المشاركة السياسية نتيجة نظرتها المحدودة والتجزيئية للاهداف الوطنية/القومية التي قامت على تأجيل مسألة الديمقراطية الى مرحلة تالية. متوهمة بقدرة انظمة النخبة تحقيق الاهداف المعلنة في غياب المشاركة.
ان اغلبية انظمة الحكم العربية في المرحلة الراهنة لا تستقي شرعيتها لا من العقلانية القانونية ولا من زعامة ملهمة/ كارزمية او ايديولوجية ثورية. ورغم ادعاءات بعضها بالتقدمية والثورية، فهي لا تعدو ان تكون انظمة محافظة في مضمونها بغض النظر عن مظهرها وادعاءاتها. كما انها تستمد وجودها من القمع والابتزاز وبيع الاحلام وسياسات التأزيم وتضخيم "الانجازات". ومحاولة بناء الوعي الكاذب في اطار حملات اعلامية تقوم على قلب التراجع والهزائم الى انجازات وانتصارات، واحاطة ما تقوم به من خدمات عامة متواضعة بهالات من التضخيم لبيع مزيد من احلام العظمة والرخاء الموعود.(36)
علاوة على معضلة الانظمة السياسية العربية الحاكمة، تواجه قضية الديمقراطية في الساحة العربية معضلة اخرى لا تقل خطورة، وهي عدم نضوج الفكر القومي العربي، بل وتخلفه. يقول الدكتور نديم البيطار"ان الفكر العربي الثوري يتميز من ناحية عامة بطبيعة تبشيرية، لأِنه يدور حول رغبات ذاتية يحاول فرضها على الواقع الاجتماعي التاريخي، دون الرجوع الى ادراك للموضوعية المستقلة التي تميز ظواهر وتحولات هذا الواقع، او القوانين الانتظامية،regulations التي تسود هذه الموضوعية. تؤكد هذه السمة ذاتها بشكل خاص في الفكر الوحدوي.. الخلل الاساس في هذا الفكر.. تحديده المستمر للطريق الى الوحدة دون ان يرجع ابدا الى الظاهرة الوحدوية، اي الى التجارب التاريخية التي كانت تنتقل فبها تجمعات مجزأة او كيانات سياسية مستقلة من الانفصال الى الاتحاد".(37)
ان الدعوة الى التأكيد على الديمقراطية في الخطاب القومي العربي ليست بدعة او محاولة طوباوية- خيالية utopia، بل هي دعوة تمس عمق الوطن العربي فكرا وواقعا. كما ان نظرية الديمقراطية هي واحدة من النظريات الرئيسة التي تفسر مسألة الوحدة القومية الى جانب نظرية توفر الشروط الموضوعية ونظرية الوحدات الجغرافية.(38) وقد تشكل هذه النظرية- في الظروف المحلية العربية والدولية الراهنة- الطريق الافضل المتاح. ذلك ان التزام المشاركة الشعبية صيغة يمكن ان تقود الى التطابق بين الدولة والمجتمع المدني وتوفر آليات سلمية لادارة الخلافات والصراعات بين مصالح الفئات الاقتصادية والاجتماعية.(39) وهي ايضا صيغة لبناء التوافقات وفق مبدأ القناعة والاقناع وضمان السلام الاجتماعي. وهي متطلبات لا تتحقق الوحدة بدونها- او على الاقل- لا تثبت خطواتها في غيابها.
في محاولته متابعة نشأة الفكر القومي وتطوره، طرح الدكتور احمد صدقي الدجاني خمسة ابعاد للفكر القومي وانشغالاته، تشكل في حد ذاتها اطارا جادا لبحث شامل لمشروع عربي نهضوي. وهذه الابعاد هي:(40)
الاول: بعد الانتماء القومي- ويبحث في ظاهرة الامة والقومية العربية، مقوماتها وحقيقة وجودها، الصلة بين الدائرة العربية والاسلامية، العلاقة بين الوطنية والقومية وبين القومية والاممية، ظاهرة التنوعات (الاقليات) القومية، العلاقة بين التنظيمات القومية العربية وبينها وبين التنظيمات السياسية الاخرى في الوطن العربي، تحديد الوطن العربي والانتماء الى العروبة.
الثاني: البعد الوحدوي- ويهتم ببحث مسألة الوحدة ونظرياتها، اسباب تجزئة الوطن العربي وطرق التوحيد، مستويات العمل الوحدوي (العمل العربي المشترك والعمل العربي الثوري) والعلاقة بينهما.
الثالث: البعد التحريري- ويبحث في مفهوم التحرير وعلاقته بالحرية، ابعاد التحرير السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلاقته بالوحدة، اساليب العمل التحريري، بحث تحرير الاجزاء العربية المحتلة.
الرابع: البعد الاجتماعي- ويخوض في بحث ظاهرة التخلف والتبعية والاستبداد والعنف، فجوة الثروة والدخل، اسبابها الداخلية والخارجية وكيفية كسر حلقتها، ماهية التقدم المنشود وكيفية بلوغه. ويعرض في خضم ذلك الى حركة الصراع وجدليته، والى الحركة الثقافية والفكرية.
الخامس: بعد المعاصَرة- ويدرس ماهية المعاصرة وعلاقتها بالعلمانية، واعادة قراءة موضوعية للتاريخ العربي وجغرافيته وموارده البشرية والمادية، المعاصَرة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المتناسبة، انظمة الحكم، التحديات التي تطرحها هذه المهمة من داخلية وخارجية، امكانيات تجديد رسالة العرب الحضارية الى العالم واسهامهم المطلوب في التراث الانساني.
ويقدم الدكتور حلمي بركات برنامجا مستقبليا شاملا يرتكز الى خمسة عناصر تالية:(41)
الاول: العلمانية- والمقصود بالعلمانية هنا نظام عقلاني يقوم على تنظيم العلاقات بين الافراد والمؤسسات والدولة وفيما بينها وفق مبادئ وقوانين عامة مستمدة من الواقع الاجتماعي في ضوء مشكلاته وحاجاته، وعلى اساس المساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم وخلفياتهم. وتتضمن العلمانية: فصل الدين عن الدولة وعدم تحديد هويتها الدينية.. ترسيخ المحاكم المدنية لتأكيد المساواة التامة بين كافة اعضاء المجتمع.. التعامل مع القوانين من حيث تعديلها وتطويرها وفق حاجات المجتمع.. توحيد قانون الاحوال الشخصية بما في ذلك الزواج المدني والمساواة بين المرأة والرجل ومنح المواطن حق الاختيار(مثلا الزواج المدني او الديني او كليهما).
من هنا تقوم العلمانية على تلبية حاجات المجتمع العربي باتجاه: تكامل الفئات الاجتماعية، تعزيز عملية الاندماج الاجتماعي، تحقيق المساواة امام القانون، ضمان المساواة بين المرأة والرجل، الحد من الاتجاه السلفي بالتوكيد على الحداثة والمستقبل، تطوير المجتمع للقوانين من كونها اقانيم مطلقة الى اعتبارها آليات اجتماعية تتغير بتبدل الزمان والمكان ويصنعها الانسان لخدمته، تغيير مفهوم الحاكم والدولة من اعتبارهما تجسيدا لارادة الآلهة الى كونهما تعبيرا عن ارادة الانسان واداة اجتماعية لتنظيم المجتمع، الحد من الولاءات الطائفية والقبلية والعنصرية لصالح ولاءات وطنية قومية.(42)
من ناحية اخرى، يرى بركات امكانية تأكيد جوانب عديدة تقوم دليلا على تقبل الاسلام للعلمانية، منها:
* ضمان نقاوة الدين وتحريره من الضغوط وسوء الاستغلال. ‘يقال في هذا المجال ان اغلاق باب الاجتهاد كان محاولة لتحرير الفقهاء من الاحراج الذي سببته ضغوط السلطنة وتجنبا لتحميل الدين اخطاء وانحرافات السلاطين.
* حذر معظم دعاة القومية الخلط بين العروبة والاسلام. ويشير بركات الى الدوري في كتابه (الجذور التاريخية للقومية العربية، دار العلم للملايين، بيروت 1960) قوله: ان العروبة ظهرت قبل الاسلام وانها ليست عرقا او نسبا او دينا، بل حضارة.
* يؤيد عدد من العلماء المسلمين الفصل بين الدين والدولة امثال عبدالرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد)، علي عبدالرزاق (الاسلام واصول الحكم)، خالد محمد (من هنا نبدأ). كما اظهر محمد احمد خلف الله (المستقبل العربي، العدد 5، ك2/1979، ص 46-54) ما نصّه "ان الشريعة الاسلامية لا تعارض قيام دولة علمانية في اي بلد عربي"، وذلك للمبررات التالية: لم يطلب القرآن من المسلمين بصيغة محددة تنظيم الدولة واختيار رئيس لها.. ان اساس نشوء الدولة العلمانية يقوم على مواجهة الدولة التي يدعي رؤساؤها ان سلطتهم مستمدة من الله وليس من الناس. وقد حارب القرآن سلطة رجال الدين واخضع العلاقة بين الناس والناس لظروف الحياة فأصبحت قابلة للتغيير..حيث ان الشريعة الاسلامية تركت امر قيام الدولة وتنظيمها من مسؤوليات الناس، عليه اصبح من حقهم بناء دولتهم وفق المصلحة العامة التي قد تختلف باختلاف الزمان والمكان.. اجاز بعض المفكرين المسلمين انه في المسائل السياسية والدنيوية، تقدم المصلحة العامة على النص والاجماع عند التعارض.
* تبنّت بلدان عربية عديدة جوانب هامة من العلمانية شكلا ومضمونا. من امثلة ذلك: قيام محمد علي بتجريد علماء الدين من قواعدهم الاقتصادية بنقل الاوقاف الى الدولة.. ترسيخ ثورة 23 يوليو 952 سيطرة الدولة على المؤسسات الدينية.. صدور عدة فتاوى عن الازهر بدعم موقف الدولة لتنظيم العائلة وتحسين اوضاع المرأة.. الغاء المحاكم الشرعية في مصر عام 1955 ونقل صلاحيات تطبيق الاحوال الشخصية الى القضاء المدني.. قيام عبدالقادر السنهوري بتكليف من الحكومة العراقية وضع قانون مدني تبنّته عدة بلدان عربية .. تعديل قانون الاحوال الشخصية في تونس بما يمنع تعدد الزواج واناطة الطلاق بالمحاكم المدنية وفق قوانين علمانية. .مبادرة ثورة 14 تموز 1958(عهد قاسم) تعديل قانون الاحوال الشخصية لصالح ضمان حقوق المرأة ومساواتها بما في ذلك المساواة في الارث مع الرجل.
يدعم جوزيف مغيزل هذا الموقف بقوله: ان العلمانية لا تمس المعتقدات الدينية، بل تحترم ايمان جميع المواطنين ومؤسساتهم الدينية وتحميهم في ممارسة شعائرهم، كما انها تتفق مع صدق الايمان وابعاد الزيف عنه. وبالاستناد الى مبادئ حقوق الانسان، يحاول مغيزل رسم النظام العلماني وفق اربعة اعتبارات: الاول حياد السلطة- وهذا يعني ان لا حق للدولة ان يكون لها معتقد ديني معين، او ان تميز بين الاديان، او ان تتدخل في الشؤون الدينية..الثاني الحرية الدينية- بضمان حق الفرد اختيار دينه، وصيانة حرية المؤمن ممارسة شعائره الدينية طالما لا يمس حرية الآخرين، وحق الجميع التعبير عن معتقداتهم بحرية..الثالث حرية التعليم الديني- اي حق رجال الدين نشر دينهم دون الاخلال بالنظام العام، وحرية الاهل توفير التعليم الديني والاخلاقي الذي يتمشى مع معتقداتهم لاولادهم.. الرابع حق الاديان ان تمتلك المؤسسات والاموال الثابتة والسائلة اللازمة لنشاطاتها وحاجاتها.(43)
وينقل الدكتور طاهر كنعان عددا من الاجتهادات لـ محمد عبده في شكل نصوص استقاها من كتابه (محمد عبده، ديوان النهضة). اذ يرى الشيخ ان الاسلام "لم يدع لاحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة احد ولا سيطرة على ايمانه"، وان الرسول نفسه كان "مبلغا ومذكرا لا مهيمناً ومسيطراً"، وان "ليس في الاسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه"، وان "الامة هي التي تنصبه وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت في ذلك من مصلحته". كما يرى عبده، اذا لم يكن للحاكم سلطان ديني او سلطان سياسي باسم الدين، فالاحرى ان لا يكون للقاضي او الفقيه او شيخ الاسلام ذلك السلطان. وان الاسلام كما يرى عبده "لم يجعل لهؤلاء ادنى سلطة على العقائد وتقرير الاحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية".(44)
ويعالج الدكتور اسماعيل صبري عبدالله المسألة العلمانية من وجهة نظر تقوم على صياغة اخرى. ويفضل طرح العلمانية باعتبارها قضية "السلفية والتجدد" بدلا من"الدين والعلمانية" لأِنها عندئذ تكون اكثر استساغة واقرب الى الشعور الجماهيري في الوطن العربي. ذ لك ان القضية التي تواجهها المنطقة هي: السلفية (محاولة البحث عن معضلات الحاضر والمستقبل بوهم امكان معالجتها بنفس الطريقة التي عولجت بها مشكلات الماضي. وبذلك تتجاهل السلفية حركة التغير والتجدد في المجتمع والعالم). وبالنتيجة يرى الدكتور اسماعيل ان القضية ليس حلها بالعلمانية بل حلها هو الديمقراطية. وان"جوهر الديمقراطية هو القبول بالتعددية".(45) لكنه من الصعب فصل العلمانية عن الديمقراطية لارتباطهما ارتباطا وثيقا ببعضهما. فالعلمانية ترتبط بالديمقراطية، والاندماج الاجتماعي، وتحرير المرأة، واستبدال الانظمة الطائفية الى انظمة ديمقراطية- علمانية.(46)
الثاني: التحليل الطبقي- يدعو بركات الى الدمج ما بين التحليل الطبقي والتحليل القومي، بأن تعتمد الحركة القومية العربية التحليل الطبقي جزءا اصيلا من ايديولوجيتها ونظرتها الى الواقع الاجتماعي. وبالمقابل ان يتبنى التحليل الطبقي المسألة القومية بحيث يصبح جزءا اصيلا من ايديولوجيته ونظرته الى الواقع العربي. ويدعم رأيه بمقولة الدكتور سمير امين من "ان الاطار العام الذي يحدث ضمنه الصراع الطبقي هو صراع قومي. وقمع شعوب المنطقة ليس قمعا اقتصاديا فحسب بل هو ايضا قمع قومي". وهذا الدمج سوف يساعد على تفهم اكثر دقة لقضايا الواقع العربي وحل مشكلاته المستعصية. كذلك فإن "المحرومين لن يؤيدوا الحركة التقدمية لمجرد انهم محرومين (وذلك بسبب انتماءاتهم التقليدية كما تبين من الحرب الاهلية اللبنانية الاخيرة)".(47)
الثالث: الاشتراكية- يشكل التحرر من الاستغلال (الخارجي والداخلي) جزءا لا يتجزأ من التحرر القومي. ان عملية التحرر الاقتصادي من الخارج تعني السير على طريق تقليص التبعية الاقتصادية والسياسية من خلال التنمية، كما سبقت المناقشة. اما التحرر من الاستغلال الداخلي فهو مرتبط بكسر احتكار القلة للثروة. فرغم ان الوطن العربي يشكل واحدة من اغنى مناطق العالم، الا انه يعتبر كذلك واحدة من افقرها. حيث تنتشر مقابل هذه الثروة الضخمة الامية والفقر والمرض لكونه فاقدا القدرة على التحكم بثرواته التي كثيرا ما تستخدم ضده. وهذا يدعو الحركة القومية العربية الى التحرر من القيم والتوجهات البرجوازية، وتبني الاشتراكية الديمقراطية الحقيقية- القائمة على الاسس العلمية- في ايديولوجيتها وممارساتها ووفق قناعة راسخة بضرورة ردم هذه الهوة العميقة بين الاقلية الغنية الموسرة وبين الاغلبية الفقيرة المسحوقة.
ومع ان الحركة القومية اصبحت اكثر اهتماما بالافكار الاشتراكية، الا ان عملية التبني هذه جاءت مشوّهة تقوم على النظرة التجزيئية باتجاه نزعة رفض"الاشتراكية العلمية" ليس على صعيد الانظمة فحسب، بل كذلك على صعيد منظمات قومية عربية عديدة. مقابل تبني ما سمي بـ "الاشتراكية العربية". ومع الاعتراف باختلاف التطبيقات الاشتراكية، الا ان هذه المسألة تخضع لظروف وحاجات المجتمعات المختلفة. بينما الذي حصل في موضوع "الاشتراكية العربية" هي الخضوع للضغوط السلفية والاقلية المتخمة والرأسمالية العالمية. ولقد عبّر الدكتور بطرس بطرس غالي وزير خارجية مصر بالوكالة في حينه خير تعبير عن مثل هذه "الاشتراكية العربية" بقوله: ان النظام في مصر يسعى نحو ديمقراطية انسانية.. ترتكز على احترام الحقوق الانسانية وكرامة الفرد.. دينية روحية ترتكز على تعاليم وتتبنى مبادىء الشريعة الاسلامية كمصدر رئيس في التشريع.. اشتراكية ترفض الاشتراكية العلمية!!(48)
الرابع: تجاوز الاغتراب- يعاني المواطن في المجتمع العربي من ظاهرة الاغتراب في علاقاته بمؤسساته. اذ تعمل كافة مؤسسات النظام من سياسية واقتصادية واجتماعية الى تعميق اغترابه لتحيله الى كائن "عاجز مسحوق، منفعل، مغلوب على امره، مدجّن، اعتمادي، هامشي، ومسلوب حقوقه". فالبيئة الاجتماعية لا تسمح للمواطن ممارسة حريته وتنمية طاقاته بل على العكس "تعد عليه انفاسه، وتقيد حركته، وتعطل امكانياته، وتذله، وتزيف وتفقر حياته". وفي ظروف اتساع الفجوة بين الواقع والحلم لا يجد المواطن سوى تنمية اليأس والانسحاب والتراجع والانزواء والسكوت على الظلم والبؤس."لقد وضع الشعب الكثير من حياته وعقله ونفسه وانتاجه في مؤسساته واحزابه وتنظيماته. ووضع عليها آماله واحلامه وامنياته، فكان ان كبرت على حسابه، وشمخت عليه ونمت على جراحاته، وتحكمت بوجوده، وخيبت آماله. بل اذلته وتركته وحيدا معرضا حتى في داخله للفتوحات الخارجية. فقد الشعب- في معظم الاحيان- حق الاختيار والنمو نموا حرا مستقلا خلاقا متميزا. اهميته تقاس بقدرته على الانسجام والمبايعة والرضوخ، معلنا صمته المكبوت، ويعتبر ذكيا فاضلا معتدلا واقعيا بقدر ما يقصّر همه على مجرد الاستمرار والتعاون مع جلاديه. الاشياء تتراكم حول الانسان فيما يتقلص هو في الداخل حتى يكاد ينهار على ذاته. يزداد فقرا في حياته الداخلية فيما يتدفق الغنى من باطن الارض العربية، ويتحول الى وسيلة وسلعة حتى يكاد البقاء ان يصبح بحد ذاته ومن اجل ذاته قيمة القيم... موارد الشعب ليست له بل لحكامه ومستعمريه. يعيش المواطن فقيرا وسط الغنى. محاصراً بقوة والدائرة تضيق من حوله فيستنجد بقوى خارج قواه الذاتية.. عاجز تجاه مؤسساته التي اصبحت هي الخالق وهو المخلوق. هذه المؤسسات التي حصرت دوره بالمبايعة دون مساءلة او موافقة. الشعب واقع تحت الاحتلال لا يحميه سوى رضوخه في غياب ارادته".(49)
الخامس: الوحدة والتنوع- ما هو مفهوم الوحدة؟ وما هي اسسها؟ وهل تقوم على الغاء التنوع؟ وهل تعني صهر التنوعات القومية في كيان واحد ذا بعد واحد؟ هذه الاسئلة وغيرها كثيرة تتطلب من الحركة القومية العربية- فكرا وممارسة- الاجابة عليها وبطريقة توفر التآلف وكسب بقية الاطراف الى جانبها، وتمنع عوامل الاحتكاك والتصدع والصراع.
ان نجاح مسيرة الحركة العربية يتطلب ايضا القناعة والقبول بالتنوع الثقافي والقومي والاعتراف بحقوق التوعات (الاقليات) القومية والتعامل معها على قدم المساواة في اطار المجتمع العربي. ولا يعني التنوع ترسيخ المفاهيم الرجعية القائمة من طائفية وعنصرية وقبلية وولاءات تقليدية تحول المجتمع العربي الى مجتمع متناحر منصرف الى حل خلافاته الجزئية الثانوية، بل العمل على تحقيق الاندماج الاجتماعي في سياق وعي جديد وعلاقات جديدة ووفق اسس متطورة ورؤية مستقبلية منشودة باتجاه تحويل الولاء من الجزء الى الكل. على ان ‘يفهم من هذا الولاء الكلي باعتباره الحياة المتكافئة على طريق التعاون والمشاركة بين كافة الثقافات- القوميات.
ان "العلمنة، الاشتراكية، الديمقراطية، الوحدة المتآلفة، تجاوز الاغتراب، كل هذه ليست مطالب منفردة مجردة مثالية. انها برنامج للمستقبل... عناصر هذا البرنامج متشابكة متكاملة لا يمكن عزلها عن بعضها البعض... فهي تمثل جوانب مختلفة لحقيقة واحدة وفي سبيل اندفاع واحد من اجل التحرير والتحرر".(50)
جاءت المحاولة الثالثة حصيلة "ندوة ازمة الديمقراطية في الوطن العربي" التي عقدت خارج الوطن العربي(قبرص)‍‍‍! اذ جمع خطوطها الدكتور سعدالدين ابراهيم وقدمها في صيغة اطلق عليها "مشروع حضاري عربي جديد" باعتباره برنامجا للمستقبل مكونا من المطالب الستة التالية: الديمقراطية في مواجهة الاستبداد.. العدل الاجتماعي في مواجهة الاستغلال.. الوحدة العربية في مواجهة التجزئة.. الاستقلال في مواجهة الهيمنة الاجنبية والمشروع الصهيوني.. التنمية المستقلة في مواجهة النمو المشوه والتبعية.. الاصالة الحضارية في مواجهة التغريب والمسخ الحضاريين.. هذا دون ان يغيب عن ادراك هذا المفكر وعالم الاجتماع العربي ان هذه المطالب كلها "متعثرة، ومنتكسة، ومحبطة... وان مضمونها غائب من الساحة العربية في الوقت الحاضر".(51)

(2) اساليب وستراتيجيات
ان المناقشات العديدة التي تمت بين مجموعات مختلفة من المفكرين العرب وفي مناسبات متباينة بالعلاقة مع الازمة العربية عموما، اثارت بدورها اسئلة اخرى وآراء نقدية كثيرة ومقترحات متنوعة. واتفقت على ضرورة التركيز في بحث هذه الازمة بجانبيها- الفكر والممارسة- وفق نظرة شمولية متكاملة بعيدة الامد وفي سياق بناء مشروع مستقبلي يقوم على"ربط تصوراتنا حول الماضي والحاضر والمستقبل". مشروع حضاري سياسي للاضطلاع بالمسؤوليات بحيث يكون "مشروع حركة وتعبئة وتخصيص وتنفيذ في المقام الاول... تشارك في صياغته والتبشير بتنفيذه كل القوى الاجتماعية والسياسية الحية والطليعية في امتنا العربية". ومثل هذا المشروع سوف يجنب الحركات الوطنية اهدار طاقاتها في الصراعات الثانوية.(52)
كما ان دراسة الواقع والاسباب التي جعلت من المواطن بكل هذه التعقيد والسلبية، مسألة ضرورية للغور في اعماق هذه المعضلة وايجاد سبل انهاء اغترابه عن الواقع الموضوعي.(53) هذا بالاضافة الى اهمية الدراسة العلمية التي تتعمق في العلاقة بين الدكتاتورية وبين القهر النفسي والوعي الكاذب. مثل هذه الدراسات التي تتجاوز الاختصاص الواحد، تعتبر حيوية لأِنها مؤهلة لتفسير ظاهر متفشية في المجتمع العربي مثل الانفصام بين الفكر والممارسة على مستوى الحاكمين والمحكومين والمؤسسات والمنظمات. وتفسر "كيف يؤمن الحاكم عقليا بالاشتراكية ويعجز نفسيا عن ممارستها ويؤمن بالجماهير ويعجز عن التعامل معها".(54)
مسألة اخرى تتجه بمجموعة اسئلة تالية الى الحركة العربية: ما هي الطبيعة الطبقية لهذه الحركة؟ وهل ان طبيعتها الطبقية قادت الى فشلها في اظهار الاهتمام الحقيقي بقضايا العلمانية والتحرر الاجتماعي؟ ولماذا لم تستطع هذه الحركة ان تجد حلا ملائما لازمة الديمقراطية؟ "بل لماذا اسهمت هذه الحركة في البلاد التي تسلمت فيها السلطة في ضرب الديمقراطية ومنع الجماهير من ممارسة المبادرة الخلاقة لها، مما ادى الى حالة الاغتراب السائدة؟".(55)
يرى صلاح البيطار ان غياب ستراتيجية للوحدة كان عائقا للانتقال من الوضع الراهن والانطلاق نحو المستقبل. فالحركات القومية اهتمت بالوحدة العربية دون ان تركز على بعدها الاجتماعي، بينما الحركات الوطنية الاخرى ركزت على التحرر الوطني والاجتماعي دون الاهتمام الكافي بقضية الوحدة. من هنا جاءت دعوته الى شمولية النظرة وتكامل الاهداف من اجل رفع مستوى النضال الوطني- القومي الى اعلى مستوى بحيث يشمل التحرر الوطني- القومي والتحرر الاجتماعي- الاشتراكي. ويرى ان "اسباب ضمور البعث هو انه فقد شمولية النظرة فجزأ الاهداف، بل وضع بعضها مقابل بعض...".(56)
تشير آراء عديدة الى ان ازمة الديمقراطية العربية هي جزء من اشكالية عامة هي اشكالية النهوض العربي الذي يتطلب الاخذ في الاعتبار علاقة الوطن العربي بالمثلث الخطير: الواقع، التراث، الغرب.(57) من هنا يصبح الموقف النقدي ضرورة محورية لدراسة هذه العلاقات والخروج بحصيلة واضحة المعالم. ان اعادة قراءة موضوعية للتاريخ والواقع العربي توفر معرفة امكانياته وقدراته وموضع خطواته باتجاه المستقبل. كما انه من غير المتاح تحقيق الديمقراطية والنهضة القومية في ظل التبعية لكونها تفقد نظام الحكم الارادة المستقلة لصنع القرار. من هنا يشكل النضال في سبيل الاستقلال شرطا مركزيا للديمقراطية. ويصبح العمل من اجل الديمقراطية هو ايضا كفاح نحو التحرر والاستقلال ومناهضة الامبريالية والصهيونية.(58)
لعلّ اخطر مظهر للديمقراطية هو انفصام الدولة عن المجتمع المدني وانتهاك الحقوق وتنمية العنف.(59) والسؤال المطروح هنا: كيف يواجه الفكر ومعه المجتمع المدني وجمعياته الثقافية ومنظماته الاجتماعية عنف الدولة القائمة على الغاء حقوق الانسان والشروط الديمقراطية؟ إن الاجابة تتطلب دراسة التجربة الماضية والراهنة مع ملاحظة الواقع المشخص في انظمة الحكم المتسلطة. ولما كانت طبيعة ازمة الديمقراطية لا تسمح بالتفكير المجرد، فهذا يدعو الى الاخذ بالنضال الفكري المؤثر في المجتمع المدني وفي الفكر السياسي. وفوق ذلك يتطلب موقفا يسمح للمثقفين والجماهير الخروج من حالة التلقي والاستهلاك الى حالة المساهمة والابداع في مجال الثقافة وتجديد العلاقات وصنع الحياة. ذلك ان المجتمع المدني يشكل الهامش الوحيد القادر على توليد شرعية جديدة مقاومة تؤمن بالانسان وحقه في الديمقراطية. وهذا يدعو بدوره الى اتفاق بين المفكرين والسياسيين على ان القضية الآنية المطروحة في الساحة العربية هي انقاذ المواطن واعادة بناء ارادته ، ومهما اختلفت الخيارات والانتماءات الايديولوجية.(60)
اتجاه آخر يرى ضرورة عدم القفز على الواقع . ويدعو الى التزام ما يجب ان يكون، ثم محاولة العمل بالممكن في زمانه ومكانه وعناصره الموضوعية والذاتية. وهذا الاسلوب يفترض ايضا اتفاق كافة الاطراف وبمختلف افكارها ومصالحها على الحد الادنى المشترك للانطلاق منه، والعمل وسط الجماهير باِعتباره ضرورة اجتماعية.(61)
اما المدخل لحل الازمة فهو تكريس مقولة اساسية هي الاختلاف في الرأي "ان يستقر في وجداننا جميعا ان لا احد يملك الحقيقة وفصل الخطاب". وهذا يعني الاقرار بحق الاختلاف في الحياة العامة وحرية النقاش. وهذا هو التعددية التي تعني في الحياة العامة "حق كل مجموعة من الناس ان تتفق في رأي معين، ان تعبر عن هذا الرأي من خلال الوسائل التي تراها والتي يستطيع غيرها من المجموعات ان تراه، طالما ان المجتمع يطيق هذه المجموعات ووسائلها في التعبير عن رأيها. وهذا هو الاصل في حق تكوين الاحزاب، والحق في التعددية الحزبية". عليه، فإن غياب التعددية السياسية هو المظهر الاساس لازمة الديمقراطية. وان الخطوة الاولى لمعالجة الازمة هي الاقرار بحق الاختلاف في الرأي. كما ان التوعية بحقوق الانسان الاساسية من ناحية والدفاع عنها من ناحية اخرى والتصدي للعدوان عليها من ناحية ثالثة، أمر جوهري يستحق ان يكون محور نضال المثقفين العرب بغرض البدء بمواجهة ازمة الديمقراطية في الوطن العربي.(62)
التعددية تعني ايضا احترام التنوع الاجتماعي القائم في الوطن العربي، بما في ذلك الاقرار بحقوق التنوعات القومية- الثقافية على اساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات، وحرية كل مجموعة قومية تنمية ذاتها ثقافيا وحضاريا. ويرتبط بذلك تأسيس هذه التعددية وفق نظام اللامركزية في بناء الدولة العربية الواحدة وعلى اسس فيدرالية او كونفدرالية تسمح بمراعاة خصوصية كل بلد. وان يتأسس المشروع على محتوى اجتماعي بحيث تتجه حصيلة التنمية لصالح الاغلبية.(63)
وتتطلب التعددية ثورة ثقافية تمارسها كافة التيارات الوطنية من قومية وماركسية-يسارية واسلامية. ثورة ثقافية تربط اهداف الوحدة بالتعددية الاجتماعية والتحرر الاجتماعي والاشتراكية. وثورة ثقافية ماركسية تربط اهداف التحرر الوطني والاجتماعي بالاهداف القومية. وثورة ثقافية اسلامية ترتكن الى العقل والمنطق وحقائق الحياة العلمية، تتجاوز الطائفية وتلغيها، وتنطلق من التراث الديمقراطي وحرية اجتهاد العقل والمساواة في الاسلام. ثورة ثقافية "تتجاوز كذلك مفهوم ( اهل الذمة) نحو مفهوم (الدين لله والوطن للجميع) وكافة المواطنين سواء في الحقوق والواجبات".(64)
ان التجربة التي عاشها الوطن العربي منذ بداية نهضته الحديثة تحتم على الفكر العربي في مرحلته الراهنة ان يجعل من الديمقراطية محورا مركزيا لتحليلاته واهتماماته. وما مطلوب منه- كنقطة للتحرك والاستمرار- هو ان يشعر الجماهير والمثقفين والنخب بدفاعه عن الديمقراطية لكونها وسيلة لتحرير الانسان وفك القيود عن قدراته وطاقاته الابداعية والانتاجية. والديمقراطية الثقافية صيغة للنضال الفكري تتيح لمختلف المفكرين تعميق مفاهيم التغيير، واسلوب عمل حيوي لترسيخ التعامل السلمي وتذويب ظاهرة الاستلاب والاستهلاكية واقامة التعددية وحق الاعتراف بالآخرين من خلال التبادل الحر للحوار القائم على القناعة والاختيار والتوافق مع رغبة واختيار الجماهير.(65)
والقبول بالتعددية يبرر دعوة الحركة العربية الى بدء الحوار مع الاطراف الفكرية والسياسية الاخرى وفق خطين متوازيين: اولهما فتح الحوار مع القوى الماركسية (اليسارية) والاسلامية، بهدف تحقيق التفاهم واقامة المشاركة والتحالف بين فصائل حركات التحرر الوطنية على اساس الديمقراطية والمساواة والاخاء. وهذا يتطلب التعامل على اساس التكافؤ والندية في العلاقات بين الاحزاب الوطنية والقومية. علاوة على ضرورة مبادرة كافة حركات التحرر الوطنية والقومية باعادة النظر في خطاباتها السياسية وفق منطلقات ديمقراطية.. وثانيهما مبادرة الحركة العربية الى فتح حوارات مماثلة مع التنوعات الثقافية للبحث في بناء اسس جديدة ووطيدة للتفاهم، والتعامل مع بعضها من منطلق الاعتراف الكامل بحقوقها والمساواة والتكافؤ والندية، ومحاولة ايجاد فرص للتعاون المشترك والعمل على كسبها لصالح دعم الاهداف الوطنية/ القومية - التحررية/ الاجتماعية. ذلك ان الممارسة العملية كشفت ضآلة الامل في انجاز الوحدة العربية قبل طمأنة المجموعات القومية المختلفة بأِن تحقيق الوحدة العربية مستقبلا يعني خلق مجتمع اكثر رخاء لصالح مختلف الفئات اللغوية من اغلبية واقلية على السواء.(66)
يصعب تحقيق خطوات ملموسة على طريق التحول الديمقراطي قبل ان يكون مسبقا بالاستنارة. من هنا كانت الدعوة الى حركة التنوير. يقول ميلاد حنا "قد نكون قادرين على استيراد خبراء في اي تخصص... ولكن من غير المستطاع ان نستورد (زعماء) قادرين على بلورة وتحقيق اماني شعوبنا... والوطن العربي ليس محكوما فقط بظاهرة غياب الثقة بين الحاكمين والمحكومين، بل كذلك بالخوف المتبادل بينهما، خوف الناس على لقمة العيش، وخوف المثقفين من الاضطهاد والتعذيب والتصفيات. وبالمقابل فالحكام واقعون تحت مظلة الخوف ايضا. وكلما ازداد خوف الحاكم تصاعد بطشه واعتماده على اجهزة القمع. ومع تنامي ازمة غياب الثقة والخوف المتبادل تزداد ظاهرة العنف. والمطلوب هنا هو التحرر من الخوف واعادة بناء الثقة بحركة تنوير". ويعطي حنا مثالا عمليا على ذلك بالحادثة التالية "في مصر تولدت فتنة طائفية... وعندما دخل الاقباط مع المسلمين في السجون تعرفوا الى بعضهم وفتحت الانوار فانتهت الفتنة". وهكذا فإن الكلمة والحوار يطرد الخوف ويوطد التفاهم. وهذا هو دور المثقفين من المفكرين والسياسيين.(67)
الحركة التنويرية بدورها تتطلب التنمية الكمية والنوعية للعملية التعليمية بدءا من الصفوف الدراسية الاولى، وتطوير وتوسيع المؤسسات الثقافية العربية غير الحكومية بالنزول الى الجماهير والتعامل معها بلغة واضحة واعطاء مسألة الحوار والتعددية مساحة اوسع في جهودها، والعمل على انشاء المزيد من هذه المؤسسات لتشكل مدارس شعبية لنشر الثقافة الديمقراطية. وهذا يدعو الحركة العربية ايضا الى بناء تربية سياسية جديدة لاعضاء مؤسساتها قائمة على اسس حضارية والتعامل بواقعية مع متطلبات المجتمع والمتغيرات الدولية ومعالجة الانفصام بين الفكر والسياسة وبين السياسي والمثقف وتقايص الهوة بين الدعوات والشعارات وبين العمل الفعلي وتأكيد المرونة في علاقاتها فيما بينها ومع الاطراف الاخرى. "ان الخبرة السياسية لمعظم الحركات السياسية، القومية منها وغير القومية، تشير الى ضرورة التعايش ما بين الجميع من اجل نجاة الجميع".(68)
تشمل التعددية كذلك رفض الفكرة الخاطئة التي تقول بتضارب الوحدة مع التنوع، والعمل على الغاء الفصل التعسفي القائم بين القطري والقومي، بل وبين الفئات اللغوية والثقافية والدينية والمذهبية المتعددة- التي تعبر في ذاتها عن تنوع حضاراتنا القديمة- اساس حضارتنا الحالية. هذا الفصل التعسفي ساهم في التمزيق الاجتماعي واحتكار السلطة والتعصب والعنف وحتى النظرة العدائية للقومية العربية في ظروف محاولات تغييب هذه التنوعات والهروب من المشكلات المحلية والقفز عليها بدعوى الوحدة القومية. يقول احمد الربعي: ان القوميين "يرفعون شعار الوحدة ولكنهم لا يحركون ساكنا لحل مشكلات اقطارهم، يهربون من مواجهة قضاياهم القطرية التي يمكن حلها بالارادة الصادقة الى طرح قضايا الامة الكبرى معتقدين انهم بذلك يحلون مشكلة، وهم بذلك يزيدون مشكلة التجزئة ويعقدونها. يطرحون وحدة الامة بلغة الشعراء الذين يتغزلون بحبيبتهم المريضة ولكنهم لا يقدمون لها الدواء".(69)
ويرتبط بذلك ايضا الانفصال الحاصل بين التراث والحداثة، مما يدعو الى اعادة اللحمة للتاريخ المقطوع بربط تاريخ الحضارة العربية الاسلامية بفترة تاريخ ما قبل الاسلام، اي الحضارات القديمة التي شكلت الحضارات البشرية الاولى. فالرؤية المتفتحة سوف تكشف ان حضارتنا العربية الاسلامية ما هي الا استمرار لحضاراتنا السابقة بلغاتها وثقافاتها ودياناتها المتنوعة والمتكاملة. وهذا الاكتشاف يمكن ان يستثمر من اجل تحقيق السلام الاجتماعي بين الفئات اللغوية- القومية والدينية والمذهبية والطائفية- المتعددة والاعتراف ببعضها البعض وتعميق الثقة والتآلف الاجتماعي والتكامل السياسي فيما بينها لصالح المشروع الوطني/القومي المشترك.(70)
فالحضارة العربية الاسلامية في الواقع ثمرة لحضاراتنا القديمة. الا ان هذه الثمرة اخذت بالجفاف نتيجة انقطاعها عن اسلافها وروافدها. ان اعادة كتابة تاريخ المنطقة العربية ضمن رؤية سليمة تحطم جدران الانفصالية في سياق توحيد المواريث التاريخية والدينية واللغوية والقومية المتنوعة سوف تبين ان حضارتنا العربية الاسلامية بجانبيها القومي والديني ما هي الا استمرار لحضاراتنا القديمة: السومرية والفرعونية والبابلية والاشورية وغيرها. هنا في منطقتنا نشأت الاديان والمواريث الروحية لاسلافنا: السريانية والمصرية واليهودية والمسيحية والصابئية والمانوية واليزيدية وغيرها من الاديان التي ظهرت في اطار حضارات وادي الرافدين ووادي النيل واليمن والشمال الافريقي. هنا في منطقتنا نشأت اللغات والثقافات المتنوعة من يمنية وعبرية وفينيقية وبربرية وسريانية وقبطية وباقي لغات المنطقة التي تشكل عائلة واحدة توجت باللغة والابجدية العربية كثمرة لهذه اللغات.(71)
ان الدعوة الى تبنيّ مشروع اعادة كتابة تاريخ الحضارة العربية الاسلامية بالارتباط مع حضاراتنا القديمة تتطلب كذلك استكمال هذه اللوحة بدراسة الواقع الحالي للمجتمعات العربية برسم خريطة اجتماعية للعالم العربي يوضح طبيعة العلاقات القائمة حاليا بين القطري والقومي وبين الفئات اللغوية والدينية والمذهبية المتنوعة في كل بلد من بلدان الوطن العربي. ففي غياب مثل هذه الخريطة، كما يرى محمد حسنين هيكل- اعتمدت الحركات السياسية العربية على العاطفة وحدها في ادارة المشكلات القطرية والقومية. وهذه العاطفة تكون عادة قصيرة النفس وغير قادرة على مواصلة الشوط الصعب الطويل.(72)
خلاصة هذه المناقشة هي ان ازمة الديمقراطية في الوطن العربي وجه من اوجه ازمة الحضارة العربية، رغم انها الوجه الاكثر خطورة، لأِنها تجسد المسيرة نحو العملية الحضارية. ذلك ان الديمقراطية تعني في جوهرها تنمية الانسان فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وطالما توفر الديمقراطية وسيلة سلمية في التعامل الاجتماعي، عليه فهي الطريق الاكثر امانا واستقرارا وثباتا لبدء مسيرة النهضة الحضارية المستقبلية. من هنا كانت الدعوة الى صياغة مشروع حضاري شامل للمستقبل بمشاركة كافة الاطراف النشطة المعنية بأهداف التحرر السياسي- الاجتماعي في الوطن العربي.
وبالاضافة الى حاجة هذا المشروع للدراسات النظرية والميدانية، المطلوب ايضا ان يتصف بالديمومة والاستمرارية. اي ان يكون مشروعا مؤسسيا قائما بذاته، ويعمل على تطوير جانبي الفكر والممارسة في سياق قناتين:
الاولى: دراسة تطوير الفكر القومي والحركة العربية، بما في ذلك الفجوات الفكرية والممارسات العملية القائمة، خاصة ما تعلق الامر بعلاقة الفكرة القومية والحركة العربية بالافكار والحركات الايديولوجية الوطنية الاخرى والفئات اللغوية والقومية والدينية والمذهبية والطائفية على الصعيد القطري والقومي.
الثانية: ان تقترن هذه الدراسات النظرية بندوات واجتماعات تضم اطراف الحركة القومية والوطنية بكافة تنظيماتها السياسية والاجتماعية واللغوية والدينية، لتطوير ودعم تلك الدراسات، واستمرار الحوار وبناء اسس الثقة والتفاهم والتعاون بينها.
ومن المنتظر ان تقود هاتان القناتان الى قناة ثالثة تؤكد الممارسة المشتركة للحركات الوطنية والقومية كافة وذلك باتجاهين: اولهما العمل في اطار منهج جبهوي شامل يضم فصائل الحركة التحررية على مستوى الوطن العربي للعمل قطريا وقوميا وفق مبادئ موحدة وباتجاهات متناسقة.. وثانيهما نشر المزيد من المؤسسات الشعبية العاملة على تعزيز الحركة التنويرية والتعددية لصالح دعم بناء المجتمع المدني في الوطن العربي.
واخيرا، فإن الديمقراطية عملية سياسية واجتماعية بعيدة الامد تتطلب تربية ثقافية وحضارية مبكرة في سياق بناء الانسان منذ ولادته في البيت وبدايته في المدرسة وعمله في المزرعة والمصنع وحياته الاجتماعية في المؤسسات الاجتماعية.. ومع كل خطوة تجسد تعلم كلمة جديدة في المدرسة او معرفة علمية حديثة في الجامعة او ممارسة عملية ناجحة في المزرعة او المصنع او معلومة صحيحة في الثقافة والاعلام او تجربة حياتية انسانية صادقة في علاقاته الاجتماعية، عندئذ تتقدم الديمقراطية خطوة الى الامام ويتراجع الاستبداد خطوتين الى الوراء! . وهنا تقول الدكتورة نوال السعداوي (ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة،ص574): ان"الديمقراطية لا تأتي فجأة، فهل يمكن للانسان في سن الثلاثين ان يمارس الديمقراطية وقد قضى طوال عمره مكبوتا مقهورا؟ فالديمقراطية عملية طويلة تبدأ منذ الولادة وحتى الممات. وتنمو مع مراحل العمر". وهذا يؤكد، اخيرا، محورية النضال المشترك الى جانب المرأة لتحقيق مساواتها القانونية بالرجل ورفع مستوياتها التعليمية والثقافية والاجتماعية واستقلالها الاقتصادي لإِحداث تغييرات جذرية في التربية الحضارية للاجيال القادمة.



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف2
- العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف1
- العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- الخاتمة
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ ف ...
- البيانات تكشف أن الفلسطينيين يملكون حالياً 8% فقط من أرض فلس ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-ف7
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-ف6
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-ف5


المزيد.....




- السعودية.. الديوان الملكي: دخول الملك سلمان إلى المستشفى لإج ...
- الأعنف منذ أسابيع.. إسرائيل تزيد من عمليات القصف بعد توقف ال ...
- الكرملين: الأسلحة الأمريكية لن تغير الوضع على أرض المعركة لص ...
- شمال فرنسا: هل تعتبر الحواجز المائية العائمة فعّالة في منع ق ...
- قائد قوات -أحمد-: وحدات القوات الروسية تحرر مناطق واسعة كل ي ...
- -وول ستريت جورنال-: القوات المسلحة الأوكرانية تعاني من نقص ف ...
- -لا يمكن الثقة بنا-.. هفوة جديدة لبايدن (فيديو)
- الديوان الملكي: دخول العاهل السعودي إلى المستشفى لإجراء فحوص ...
- الدفاع الروسية تنشر مشاهد لنقل دبابة ليوبارد المغتنمة لإصلاح ...
- وزير الخارجية الإيرلندي: نعمل مع دول أوروبية للاعتراف بدولة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق2/ ف1