أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الحلبي - الرقدة الأخيرة















المزيد.....

الرقدة الأخيرة


وليد الحلبي

الحوار المتمدن-العدد: 4124 - 2013 / 6 / 15 - 01:03
المحور: الادب والفن
    


كانت الأشياء التي أراها نقاطاً ساطعة بدون مصدر خارجي للضوء ، تمر بشكل حزم رقمية، تتشابه في جوهرها وتختلف في ترتيبها، يمكن التمييز بينها حسب حجم وتراتب النقاط الضوئية التي تتشكل منها، وعندما تتكلم (هكذا خمنت) يُسمع صوتها بالإيحاء، جلياً واضحاً أكثر من الصوت الذي ألِفتُه بملايين المرات،،، تهتز النقاط وتتمايل وتومض بشكل يشف عن كلام بالغ الفصاحة والتعبير بدون صوت يُسمع. آخر عهدي بالكلام المألوف كانت،،، كانت،،، لا أدري منذ متى، لكنها كانت في حوار مع صديقي "الشيخ عادل".

رجل دين رائع، غزير العلم، دمث الخلق، أماحكه ويماحكني محتفظين بمحبة جارفة واحترام صادق، نصحته مراراً - على ما رأيت من سعة علمه وخفة دمه – أن يُوَلّي وجهه شطر ديار الفرنجة، فهناك تربته الخصبة لنشر ما يؤمن به، وكفاه مضيعة للوقت بين من لا يُقدِّرون علمَه ولا يستجيبون لنصحه، غير أن تهرُّبَه من فكرة الهجرة لم يكن – على ما أعتقد - سوى لعدم قدرته على تعلم لغة أجنبية، ما عدا ذلك لم يكن في صديقي أية مثلبة. الحِزَمُ الرقمية تمر بي: أعرفها بالإحساس: هذا جارنا أبو محمد: مازال كما كان، خفيف الدم، قريباً من النفس، تهتز نقاطه الضوئية بشكل يبعث على الفرح، عمتي أم إبراهيم : نقاطها تشف عن القلب الرحيم الذي كانت تحمله في صدرها،،، جدتي ،،، جدي،،، أخوالي وجميع من كنت أعرف، تمر نقاطهم الضوئية موحِيَةً بمن هم، يتجهون إلى جميع الجهات في وقت واحد، يبدأون من اللامكان لينتهوا في اللامكان، لا أشياء ولا أمكنة بل تجاوب بالأحاسيس.

في إحدى مناكفاتنا قلت لصديقي الشيخ :(- يحتفلون بأيام الشجرة والطفل والعائلة والعيد الوطني وذكرى انطلاق الثورة ، فلماذا لا يحتفلون بيوم القبر). فغر صديقي فاه، وغالب ضحكة رقصت على شفتيه. أردفتُ: (- الموت يا صديقي هو الحقيقة الوحيدة في حياتنا، والباقي زيف،،، نحوِّل جميع الأوهام إلى حقائق، ونضع الموت في خانة الوهم، لخوفنا منه نلغيه من الذاكرة وهو سابق عليها وباقِ بعدها، نتخيله يتربص بنا في جميع الزوايا والأمكنة، بينما هو غير آبه بنا، لأنه يعرف متى وأين وكيف يأتي، وهو إن أتى، نعشقه ونتعايش معه ونتوحد به لعلمنا أنه لا فكاك منه، فلماذا نصرّ على طرده من أذهاننا، ولماذا يتكرر خوفنا منه مع أنه لا يأتي سوى مرة واحدة، وأما المرات الباقية فنحن الذين نخترعها بأنفسنا لنخاف منه بملء إراداتنا؟،،، ماذا يا صديقي لو خصصنا يوماً واحداً في السنة نزور فيه المقابر؟، في هذا اليوم يستلقي كل واحد منا في قبر من القبور التي حفرها عمال المقبرة انتظاراً لميت حقيقي، هناك نتأمل اللحظة التي سنوضع فيها في مثل هذه الحفرة، ثم توضع على صدورنا بلاطات ثقال، ثم تُهال علينا أكوام من التراب تفصلنا عن عالم الشقاء الذي نحن فيه الآن، علَّ عيوننا تقرُّ، ونفوسنا تطمئن بكسر حاجز الخوف الذي نخترعه ونعيشه،،، لِنُسَمِّ هذا اليوم مثلاً "عيد القبور"، بيوتنا الحقيقية الأزلية. كان الشيخ يضحك مني بأدب جم، دون استهزاء أو تجاهل .

إلى أن كان يوم مشمس دعاني فيه صديقي إلى مرافقته في سيارته لقضاء مهمة عاجلة، رافقته دون أن أدري لماذا ولا إلى أين،،، عبر بي طرقات لا أعرفها ونحن نتجاذب أطراف حديث عام، ولم أنتبه إلا ونحن على أطراف المدينة باتجاه مقبرتها. مقبرة جميلة مشجّرة، ذات ممرات مزروعة بورود تفصل بين صفوف القبور، وبعد آخر قبر مسكون، كانت هناك قبور فارغة، حفرها المشرفون على المقبرة لتكون جاهزة لاستقبال المزيد من الموتى،،، فكما تستقبل المدينة عشرات المواليد يومياً ، فإنها تلفظ عشرات الموتى إلى المقبرة لكي يبدأوا فيها ومنها رحلتهم الأخيرة. تأبطني صديقي الشيخ وسار بي إلى نهاية المقبرة،،، إلى القبور الفارغة التي تنتظر زوارها القادمين حتماً: (- ها هنا ميدان تجربتك التي اقترحتَها عليَّ يا بطل، فلنبدأ الآن بك ولنعتبر هذا اليوم أول عيد للقبور، أرني ماذا ستفعل؟). أجفلتُ وترددت، إذ لم يخطر لي على بال أن أقف هذا الموقف الصعب، فهل أخطأت باقتراحي الذي صدقه الشيخ وبدأ تنفيذه بمن اقترحه؟ هل أتراجع عن اقتراحي وأعلن أنها كانت مزحة سمجة مني ما كان يجب عليه أخذها على محمل الجد؟، هل أجبن عن النزول في حفرة عمقها أكثر بقليل من المتر، أستلقي فيها هنيهات ثم أقفز خارجاً منها وقد دفعت ثمن اقتراحي السخيف لحظات من خوف يفري العظام،،، وصديقي ما زال ينتظر ردي على قفاز التحدي الذي ألقاه في وجهي، والذي لم يكن أمامي سوى قبوله،،، أو الاعتذار عنه، وهذا ما لن يكون .

النقاط الضوئية - التي شعرت أنني أعرفها - تتجمع حولي، تبعث لي أحاسيس الشوق والفرح، وأحاسيس أخرى أشعر بها لأول مرة، أحاسيس يعجز العقل عن تصورها،، تحمِلُها إليَّ موجات متفاوتة الشدة من تيار هو في طبيعته مابين الماء والكهرباء. بعد برهة تبينت أن الكميتين من الضوء اللتين تشكلتا حولي الآن إنما هما أبي وأمي، والداي اللذان رحلا عن الدنيا منذ حوالي الأربعين عاماً، أحس بهما قريبين مني لدرجة التداخل،،، أنست لوجودهما، ثم تابعت روايتي موجهاً كلامي إلى اللاّ أشياء التي تحيط بي .

يومها، ورداً على تحدي صديقي الشيخ، تلبّسني عِنادٌ أحمل بذوره الحمقاء منذ الولادة، مصدره جبال كردستان الشامخة، فأصلي الكردي هذا، غالباً ما يورطني في مخاطر يصعب علي التراجع عن ركوبها عناداً ومكابرة. قفز قلبي من صدري قبل أن أقفز في حفرة القبر، ولكي أضفي على المشهد نوعاً من الواقعية، قبَّلتُ صديقي مودعاً وقفزت داخل الحفرة،،، تمددت على ظهري، وأغمضت عينيّ علَّ صديقي الشيخ يسير في الركبان، يحدثها عن عمل أقدمت عليه لم يجرؤ أحد على القيام بمثله قبلي، ولن يقدر أحد عليه بعدي،،، طالت إغماضتي وطالت، وبدأت البقع الضوئية والأشكال الرقمية بالظهور بكثافة أكثر من ذي قبل، اختفت حواسي جميعها باستثناء حاسة السمع والإحساس بالأشياء، حاولت فتح عينيَّ فلم أستطع، حاولت تحسس جسمي فلم أعثر على يديّ ولا على أي شيء آخر، لا حرارة ولا برودة تحيطني من أية جهة، السمع والشعور بالأشياء فقط هما اللذان ما يزالان حاضرين لديّ، وهما في تناقص مستمر،،، أشعر بذهن الشيخ عادل وقد بدأ ينشغل عليّ، والتوتر قد بدأ يجتاح نفسه بعنف، فصديقه – أنا - الذي قفز في الحفرة منذ لحظات بين جد وهزل، وهو يبغي الاحتفال بالعيد الأول للقبور، قد استغرق في تمدده دقائق طالت، ولا تبدو عليه أية علامة من علامات الحياة،،، الشيخ مازال يعتقد بأن صاحبه يمازحه متظاهراً بالموت،،، ينادي الشيخ صاحبه برفق، ثم بأعلى صوته، ثم يصرخ، ولظنه بأن صديقه مازال يمازحه، يدخل في موجة عارمة من الضحك الصاخب،،، صراخه وضحكه يجمعان حوله حشداً كبيراً من الناس: عمال المقبرة وجمهور جاء لدفن رجل،،، الجمعُ يلقي القبض على الشيخ، وهو يحاول بما أوتِيَ من حجة وبلاغة شرح الأمر، فلا يمهله الجمع الغاضب. وبينما هم يقتادونه إلى مركز الشرطة، كان آخر ماتناهى إلى مسمعي صراخ أحدهم: هذا الشيخ قتل الرجل،،، ألقاه في الحفرة، ثم تظاهر بالجنون.
تتدفق السعادة من نقاط ضوء أمي وأبي، تقترب نقاطنا الساطعة من بعضها البعض، تندمج أحاسيسنا نحن الثلاثة، ثم ننطلق متجهين إلى مكان ما في الكون، ليس فيه مكان.



#وليد_الحلبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما تمنيت أن يأكلني الدب القطبي
- عمى الاتجاهات
- خدعونا ورب الكعبة
- آيات الذكر الحكيم بين التفسير والتنبؤ
- هل هي عبقريتهم؟، أم هي سذاجتنا؟
- سيناء، وعصمة الزعيم
- (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
- هل نحن مقبلون على كارثة أخلاقية؟
- يتلاعبون حتى في أحكام الله


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الحلبي - الرقدة الأخيرة