أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مختار سعد شحاته - عم موسى ليس نبيًا.. قصة قصيرة.















المزيد.....

عم موسى ليس نبيًا.. قصة قصيرة.


مختار سعد شحاته

الحوار المتمدن-العدد: 4118 - 2013 / 6 / 9 - 01:38
المحور: الادب والفن
    


فى الصباح لم يأت كما عوَّدنا، لم نتسابق نحو مصدر ندائه على أسماءنا مسبوقة باسم الأم أو الأب، يأتى فى اليوم مرتين، الأولى صباحًا حين تصحو الشمس من نومها عكرة المزاج، فتصب شلال النور والحرارة فوق أكواخ الصيادين التى تحولت إلى البيوت.
-" هذه البيوت الجديدة، لا تعرف الدفء أو الحنو الرطب، رحم الله كوخ اللَبِن". قالت جدتى.
حين يأتي فى مرتة الأولى الصباحية، يغافل حر الضحى، ويترك لنا "السبيل" الزلال، هكذا يسميها حين ينادى، وبدورها تخرج الآنية محمولة فوق الرأس أو فوق الكتف ومسندة براحة اليد المفروده فى تموضع مناسب لحملها، فيلقى ابتسامته من بين أسنانه الصفراء التى لاكها السوس والمرض، فصارت لوحة عجيبة من المعاناة الإنسانية.
- "صباخ الخير يا عم موسى". تقول نساء الحى على الدوام.
والجولة الأخرى يمكن أن تؤقتها لحظة اصطباغ الأفق بشفق وردى جميل، فيأتى سلسبيله المحمول فوق حماره الذى ينافسه فى حدث الوجود، كلاهما – موسى وحماره – لا نعرف لهما عمرًا، كأنهما قد غفل الموت عنهما، أو اطمأن إليهما فتركهما يقدمان سر الحياة إلى هذا الحي مرتين فى اليوم.
- "لا نعرف من أين أتى". حكى أبي مرة.
- "خرجنا إلى الدنيا، فوجدناه وحماره كما هما" . قال عمي مرة.
فى آخر النهار تثاقل المساء على غير عادته، يأبى موعده الآخر المسائي يجيء، تقترب علاماته الزمانية التى عوَّد الجميع عليها، لكنه لا يأت.
- "ما بال صوته لا يأتينا، أو صناجته التى يطرقع بها". سأل طفل جمع الأطفال التى أثارها غيابه.
فى نهاية المطاف، خرجنا نحو طرف الحي، هناك تنبسط الساحة لكل شيء، تتوازى المقاهي الأربعة التى تعج بالصيادين، حيث يتدارسون ويتقاسمون كل شيء من رزق وحكايا للسمر، أو تلك الإشاعات التى لا تنتهى الساحة هناك عن إنتاجها.
على غير العادة يترك بعض الرجال أماكنهم التى نحفظها فوق المقاعد جوار المقاهى، وقد تحلقوا وسط الساحة، وصوت لغط وجلبة منعنا من الوصول إلى مصدرها تحلق الرجال. لم نعبأ بهم أو بضوضائهم، خلفنا الساحة خلفنا؛ وانطلقنا صوب مدخل البلدة الغربي، هناك حيث "سكة الكافور" يأتي كل يوم من نفس الطريق عمنا موسى، من يحمل سر الحياة إلينا مرتين فى اليوم، فنغسل النوم من وجوهنا، ونتندر برؤية العرائس الجديدات فى الحي فى يوم صباحياتهن الأولى للزواج.
- "أنا رأيت فاتن بنت السلماوي، عروس فرج؛ تستحم فى مستحمهم الليلة". حكانا طفل مرة.
نحبه ونحب مقدمه كما نحب مقدم فصل التوت، فقدومه يجلب لنا الدفء حين نتقافز حول حماره، نفرح لابتسامة أسنانه البغيضة، نرى تفاصيل التاريخ الإنساني على ملامحه الحادة التى تغلب التعاريج فى بعض قسمات وجهه الأسمر، كلنا يجل عم موسى. فى واحدة من أمسياتنا – نحن أطفال الحي– حكى لنا ابن نوفل العامل فى مقام سيدنا، بأنه سمع أباه يقرأ فى المصحف الشريف، وينطق اسم موسى كثيرًا، ويقسم أنه رأى أباه يبكي حين قرأ فى الكتاب الذى اصفرت أوراقه فى قلب المقام، أن موسى كلم الله سبحانه، وأنه عاش فى أرض تُسمى سيناء، وأنه قابل رجلا صالحًا يسمى "الخَضِر"، علَم موسى الكثير فى الحياة.
- "أظنه أخبر موسى بأن الماء سر الحياة". قال ابن نوفل لنا.
وحين أخبرنا بإجابة والده حين سأله عن سر البكاء الذى يلازمه كلما قرأ فى هذا الكتاب الذى اصفرت أوراقه، فقال له بأن موسى فى صغره خافت عليه أمه، فوضعته فى صندوق من الخشب، وقذفت به إلى ماء النيل، وحفظه الله من الغرق، ثم رباه فى قصر عظيم مصر، قبل أن يصير نبيًا ورسولا.
- "أم موسى كانت تعرف أن ماء النيل فيه سر الحياة لا الموت". قال طفل منّا.
- "لهذا ارتبط بالماء، ويجلبه بعد أن عرف سره". استنتج طفل ثان.
- "إذن فموسى نبي ورسول كريم !!". تعجب طفل ثالث.
بعدها صار موضع إعجابنا، نقدسه كلما جاء إلى الحي، نتحرج من سؤاله عن حاله وحال أمر النبوة والرسالة، ننظر له بعجب وإعجاب، منّا من يتسارع يسوق حماره العجوز، ومنا من يمسك فى يده بسعادة غامرة، ومنا من يجرى إلى بيته يُحضر له الحلوى التى أتى بها الرجال من رشيد حين باعو صيدهم هناك، صرنا نُجلهم، ونحتفظ لأنفسنا باكتشافنا الرهيب.
فى ذات مرة تجرأ ابن نوفل، وسأله أن يخبرنا من أين جاء، فابتسم ونطق اسم " سيناء" بحب بالغ، فزادت جرأته، فتجاسر وسأله حين غادرنا بالأمس فى المساء، حيث تعودنا أن نودعه حتى "سكة الكافور" :
- "هل لك اثنتا عشرة عينًا يا عم موسى".
اكتفى بالابتسام نحونا، وهمز حماره العجوزيستحثه للإسراع قبل أن تظهر جنيات الكافور التى نسمع صوتها فى المساءات الشتوية، لم تشف ابتسامته لهفتنا إلى سماع إجابته، فرجعنا بنظرنا نحو ابن نوفل نطلب منه أن يكرر السؤال، وفهم ابن نوفل، فصاح به:
- " يا عم موسى، غدا تحكي لنا حكايتك فى قصر الفرعون".
لكنه ودون أن يلتفت نحونا، أشار ملوحًا بيده اليسرى، ثم اختفى بعدما انحرف حيث ينحرف الطريق بعد جميزة العفاريت التى نعرفها.
طال انتظارنا ولم يظهر، قررنا التمادي فى رغبتنا بالبحث عن سر تأخره حتى هذا الوقت. ذهبت حمرة الشفق، كست غبشة خفيفة الجو.
-"سننتظره مهما تاخر". قلنا جميعًا.
انطلقنا صوب جميزة العفاريت حيث ينحرف الطريق فى "سكة الكافور"، دققنا النظر فى طول الطريق، نسينا عفاريت الجميزة التى تُلقى بسحرها على ثمار الجميز الناضج، فتجعل من يتناوله مختل التوازن، ونسينا أن أحد الأطفال منا ذات يوم أكثر من تناول ثمر الجميز، وحين همّ للعودة معنا نحو البيوت، سقط فى هيستريا من الضحك، اضطرتنا إلى استدعاء والدته، التى حملته وهرعت به نحو "عِبيد الحلاق"، فوخزة بواحدة من إبره التى نخشاها خشيتنا من عفاريت الجميزة، ثم عرفنا فى الصباح أنه محموم، وبعدها بأيام قليلة تمادى فيها "عبيد الحلاق" فى تركيب الوصفات لعلاجه، فلم يفلح، فاضطرت والدته إلى استدعاء "الخالة طبيخة"، التى أمهرت الأم حجابًا بنقوش سحرية، لطرد العفاريت عن ولدها، وفى نهاية الأمر وبعد اليوم السابع، بكينا بخوف شديد حين رأينا "الجيزاوى" يواريه تراب المقبرة فى البر الغربى للبلدة.
- "الأطفال أحباب الله، هو في الجنة حتمًا". طمأننا الخبر وازال خوفنا، فتمنينا الموت أطفالا.
دخل الليل وعدنا دون أن يظهر العم موسى، لعله غضب حين اكتشف أننا عرفنا سره، وكونه موسى النبى الرسول، لكن ابن نوفل راح من جديد يعلل لرأى آخر، استنتجه من قراءات والده فى الكتاب الذى اصفر ورقه.
- "موسى هذا نبى اليهود، ونحن مسلمون، أظنه عرف أننا كشفنا أمره وأنه إسرائيلي".
- "لكننا نحبه، وكنا سنحفظ السر عنه ". قال طفل.
- "ليس إسرائليًا، أبى حاربهم فى حرب الفالوجا، ووصفهم لنا، وعم موسى لا يشبههم " دافع طفل عن تهمة كونه إسرائيليًا.
فى الختام تمنينا جميعًا، أن يعود إلى حينا فى الصباح، وليكن ما يكونه، فنحن لا نعرف فى الغد من سيحمل عنا أوجاع النوم، أو يؤنسنا بسمرة وجهه، وأسنانه الصفراء.
- "من سيُضحكنا كما كان يُضحكنا بحكاياته ". سألت نفسى ليلتها.
مررنا بالساحة، ومازال الرجال فى تحلقهم فى وسطها، بل وتزايدوا، وأضاءوا "الكولوبات"، وجاءت بعض النسوة من الحى ترقبهم على حين غرة من رجالهن وسط الجمع السعيد فى الساحة.
فى الصباح تجمعنا كعادتنا فى انتظاره، أخذنا نحكي عن أحلمنا معه طوال الليل، لعله استمع شوقنا فى أحلامنا إلى رؤيته وحماره، وعطشنا إلى سلسبيله الحياة، كعطشنا إلى حكاياته الجميلة، فقرر أن يتراجع ويعود إلينا فى الصباح.
- "هل مرّ وقته؟". كنا نتساءل في حيرة بالغة كادت تبكينا.
"عم موسى" لم يعد، لكن نساء الحى عُدن فوق رأس كل واحدة منهن وعاء الماء خاصتها، جميعهن يتضاحكن ويتغامزن على الرجال اللذين تجمعوا حول "حنفية الميه العمومى" التي وضعوها بالأمس فى وسط الساحة.

مختار سعد شحاته.
"Bo Mima"
روائي.
مصر- الإسكندرية.



#مختار_سعد_شحاته (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تهيس.. فيلم بالعامية المصرية من 3 مشاهد
- بين رابعة العدوية وشفيقة الجرجاوية
- -شفيقة- و-رابعة- كلتاهما شهيدة العشق.
- في صعيد مصر.
- حين تبت يدا أبي لهب.
- تمردوا يرحمكم الله.
- رسالة الأحلام.. عامية مصرية.
- بين الامتنان والانبساط.
- ابنة الربيع
- رسالة خاصة إلى النيل.. نص أدبي.
- محطة سيدي جابر بعد التطوير.
- أنا نبيُ.
- أنا قابل .. عامية مصرية.
- ال Nickname : هوجة ولا ثورة؟
- محطات للوجع.. قصة قصيرة.. إلى شاعر العامية الرائع/ محمد بهاء ...
- ريبورتاج المدينة.. موهبة ووعي مبدع.
- بائعة الطماطم.. قصة قصيرة.
- ويل الوطن.. ويل ليه -أغنية-.
- كيف نرى؟
- شارع سيرلانكا.. نص أدبي.


المزيد.....




- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مختار سعد شحاته - عم موسى ليس نبيًا.. قصة قصيرة.