أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الفتاح المطلبي - الخندق الأخير - قصة قصيرة















المزيد.....

الخندق الأخير - قصة قصيرة


عبد الفتاح المطلبي

الحوار المتمدن-العدد: 4117 - 2013 / 6 / 8 - 21:38
المحور: الادب والفن
    


الخندقُ الأخيرُ
قصةٌ قصيرةٌ
عبد الفتاح المطلبي

بدأَ الربيعُ يتحركُ في براعمَ الشجرةِ الواقفةِ هناكَ على بُعدِ خطواتٍ من المنضدةِ المجاورةِ للنافذةِ وقد كانتْ لوقتٍ قريبٍ تبدو وكأنها تُحتضرُ، فوقَ المنضدةِ وعلى دكةِ النافذةِ تكدّستْ أفكارٌ كثيرةٌ في سطورٍ وصفحاتٍ وكُتبٍ ، جلسَ على كرسيّهِ المغلفِ بنسيجٍ من النوع الثقيلِ يُقلبُ أفكارَه مثلَ تقليب حبات البُنّ في مقلاة اسودتْ من كثرةِ التقليبِ وكنا كحصيّات صغيرة نجولُ في رأسهِ مصطدمين ببعضنا كلما دوّمَ رأسَهُ حول محورِ عنقه المتغضنِ وكأنه يخضّ رأسه خضَّ سقاء اللبن لعله كان يحاول مخضَ ما في رأسه محاولا الحصول على زبدة أفكاره الجائلة في هذا الرأس ، رأسه ليس كأيٍ من الرؤوس ذلك أن هذا الرأس قد امتلأ بمخلفات سنين عمره ، أما نحن فلسنا كأيٍ من المخلوقات ، خليطٌ من الأوهام والآمال والذكريات وكثير من ديدان اليأس ، نولدُ إثرَ منامٍ أو انفعالٍ أو إيغالٍ بعيدٍ في خطوطِ الزمنِ أفكارٌ تعيش في رأسه ، بقايا أخيلةٍ لا تموت نستوطن رأسه منذ زمن بعيد ، كان عجولاً وكثرما أجهضنا على قصاصة من الورقِ قبل أن ننضجَ وعندما يرى أن بعضَنا لفظَ أنفاسَه يتركه على قصاصة ستختفي بين قصاصات كثيرة وبين الفينة والفينة يرشف شايه الثقيل من كوبه الأحمر ذي العروة الكبيرة ، كنتُ وأنا أجول في رأسه قد استنفذتُ مدتي في رأسه، حاورني طويلا وطاردني كثيرا، أحياناُ أتمنع عليه بحجةٍ أو بعذر لكنه اليوم كان لجوجا ، سد علي كل طرق الإفلات فمثلتُ بين يدي رغبته دون أن تكون لي أي قدرة على التردد أو التذمر أو النكوص لقد تعلم ذلك قديما فهو يدرك تماما أننا لسنا إلا أفكاره يُطلقنا متى يشاء إذ يرى في إطلاقنا بالوقت المناسب ردا عمليا على خبث الزمن واندحار الجسد و إيغاله بخذلانه وعندما أمعنت النظر في هيئته التي بدت مثل قائد لا يزال يُعاني من آلام هزيمته محاولا جهد ما يستطيع لمّ شعثه وترميم انكساراته أدركت ما يعده لنا من مصير يتعلق بصولة ربما يظن أنها الأخيرة وهو يدرك بكل وضوح أن هذا الجسد قد خذله ولم يعد أمامه إلاّ بقايانا نحنُ أفكاره وذكرياته التي لا زالت مهما طال الزمن فتيةً لا تشيخ جعلنا خندقه الأخير الذي يلجأ إليه في الوقت الذي تجاوزته فيه القدرة على فعل ما يريد أو الذهاب بعيدا عبر خطوط الزمن المتوازية الممتدة في أعماق سحيقة لا يهمه منها غير فواصل محددة تركَتْ بعضَ آثارها كغضونٍ وتجاعيدَ ترسم ملامحه الآن ، نظر إلى الشجرة ، فتح ضلفة النافذة ، شمّ رائحة البراعم التي تفتحت حديثا وقد حفز شعاع شمس الصباح عطرها ، واصل ارتشافه لشايه الثقيل ، وقد رأى إنها اللحظة المواتية التي قد لا تتكرر مدركاً أن ذلك مرهون بعطر برعم طري وشعاع شمس يبزغ خجولا لم تسخنه عين الشمس بعد، راح يحثني على الخروج من رأسه تارةً باللين وأخرى بتقطيبة ادخرها لمثل هذه اللحظة ، ورغم الممانعة والتردد والخوف من عواقب إحياء ذكرى قد نأت بعيدا في قعر وعيٍ أهمله منذ زمن بعيد ، اتكأ على ظهر كرسيه وأغمض عينيه ودفعني بشدة على قضبان سكة زمن ذاهب إلى سنةٍ بعينها ، لا يمكنه أن ينسى تلك السنة وذلك اليوم وتلك الساعة من صباح الثلاثين من آيار 1972 ، راح يجمع أرقامها : إثنان زائدا سبعة زائدا تسعة زائدا واحد ، أحس برائحة ذلك الصباح تتخلل أنفه ، تنفذُ إلى دمهِ عبر عطر البرعم وشعاع الشمس الذهبي ، تنهد وهو يقول تسع عشرة، تسع عشرة ، آه تسع عشرة أظن أنه كان يعني سنين عمره التي تصادف تلك السنة تمامها ، في تلك اللحظة سالت دمعة عبر أخدود حفره الزمن على خده ، انزلقتُ مع دمعته إلى حيث أرادني أن أكون ، تداخلتْ أبعاد الزمن عبر شريط من الومض السريع ، كنت أشعر بذلك كلما نظرتُ إلى عينيه وهما تتقلصان ملقيةً ببؤبؤيهما إلى غورٍ بعيد وفي اللحظة التي توسعت فيها حدقتاه علمتُ أنني قد وصلت إلى حيث يريد ، دفعني إلى أول زقاقٍ و أطلقني هناك غير أنه كان يعاملني بلطف هذه المرة ، وقد عزوت ذلك إلى تسارع دقات قلبه وهو يحثني على المضيّ قدما إلى حيث يريد، تجولتُ في الحواري الضيقة التي تُفضي بعضها إلى بعض كأوردةٍ زرقٍ في رئة خروف مذبوح تواً والدماء الثقيلة تغادر هذه الشرايين من واحدٍ لآخر لتتحد ببعضها مكونةً هذا المجرى الآسن الملتهب بالفقاقيع التي تنفجر كل ثانية من الوقت كلما ضاقت الحواري في حي الدهانة العتيق ، شعرتُ به يزجرني ويحثني أن أمضي تباعا وحرضني على خداع حواسي وهو يرش بقايا عطر براعم شجرته الربيعية المتفتحة أمام نافذته على عفونة تلك المجاري ليحيلها إلى حدائق غناء لا توجد إلا في خبايا روحه المتعبة، لا أدري كيف يصل إلي في اللحظة التي يريد ، ظننتُ أنني قد تركته متكئاً على كرسيه ذي القماش الثقيل أمام نافذته المطلة على الشجرة ذات البراعم الجديدة، فتح عينيه على اتساعهما وراحت أصابعه العجفُ تضغط على مسند الكرسي ملقيا برأسه إلى الوراء قليلاً، أمرني أن أدلف إلى زقاقٍ بعينه وهناك أسندني إلى حائط مملوجٍ بالجص مقابل شناشيل بغدادية متوجة بزجاج ملون بألوانٍ زاهية ، أوصاني بالصبر ولم أكن أشكل خطرا على لحظته لكنه كان خائفا من ضجيج قلبه في لحظته تلك ومن أي طارئٍ يتسلل إلى لحظة النشوة التي يشعر بها كلما اقتربتُ مما يريد، لم تمضِ إلا دقائق حتى ظهرت بثوبها الأحمر تماماً كصورتها التي احتفظ بها في عمق وعيه المدفون في قعر ذاكرته ورغم أنني كنت بعيدا تفصلني عنه سنون طويلة ومسافات شاسعة إلا أنني شعرتُ بحرارة تنهيدته التي زفرها بعمق،استطاع أن يرى من خلالي حتى لون الحبل الأخضر الذي نشرتْ عليه الغسيل وكاد أن يسمع حفيف ذلك الثوب الأحمر حين يمازحه هواء الشمال، توجست عليه خيفة عندما راح قلبه يضرب صدره الخاوي بعنف وراحت زفراته تتكرر كلما نظرتُ من مكاني إلى تلك الغادة الملفوفة كالزبدة بثوبها الأحمر المطرز بالإبريسم الإصفهاني كاشفةً عن جيد مرمري وهنا وأنا أمعن في النظر إلى جمال تلك الغادة الفريد ، أفلتَ خيطي ولم يعد مهتما بمصيري ، كان في أشد الإنشغال و الإنفعال وهو يحاول حبس دمعة ترقرقت بين جفنيه فبدت براعم الشجرة الربيعية في عينيه عبر تلك الدمعة مشوهةً وغائمةً وقد تشتت منظرها تباعا حين انحدرت الدمعة على عظام خده الغائر وراح ينشجُ بصمت حتى غفا على كرسيه ذي القماش الثقيل ولم يكن من العسير علي بعد ذلك أن أتسلل إلى مكاني من رأسه المكدود حيث كنت دائما مدركا أنه سيعيد الكرة ويجازف بإرسالي إلى المكان ذاته و إلى الزمن ذاته كلما أحسّ أنه بحاجة إلى جرعة من الألم تذيب دموعه المتحجرة بين جفنيه .



#عبد_الفتاح_المطلبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بان كي مون
- زمن ميّت- قصة قصيرة
- الطين
- ثلاجة الموتى- قصة قصيرة
- ليلة القبض على المدينة- قصة قصيرة
- قلبي على وطني -نص مدور
- شطرنج - قصة قصيرة
- حلول
- مقهى بوحي
- سُبل مقفلة
- جُنَّ خيطُ الريح
- أعداء المثقف أعداء الثقافة
- الأقزام- قصة قصيرة
- أنابيب فارغة-قصة قصيرة
- حكاية- قصة قصيرة
- قابيل- تهويمات
- ثمن الحرية البخس
- أمانٍ عاريات
- وادي السلام
- شجرةٌ في البرية


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الفتاح المطلبي - الخندق الأخير - قصة قصيرة