أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال نعيم - جحيم دان براون!















المزيد.....


جحيم دان براون!


جلال نعيم

الحوار المتمدن-العدد: 4111 - 2013 / 6 / 2 - 16:33
المحور: الادب والفن
    


ما عاد كل شيء هادئاً ليلة 13/14 من مايو/آيار 2013، فالعالم مقلوب كرواية ترسم ما قبل نهاية عالم بات مختلفاً عمّا نألفه: ربيع هنا، وحريق هناك. ومَن كانوا مطاردي السراديب تحت الأرض، قد أصبحوا بالإنتخاب السياسي، غير الطبيعي غالباً، أسياد ما فوق الأرض!
حروب أهليّة، وفرق للموت، و"بلاك بلوك" تتحرّك على السطح. وأزمات تعصف بالدنيا، من شرق مشرذم الى غرب يقرع ناقوس أزمات حوّلت بلداناً عريقة الى حضارات غريقة، تبحث عن طوق نجاة من ألمانيا أو صندوق النقد. و"جنس وأكاذيب وكليبات فديو" تشي بالفضيحة!
ومع ذلك، كان هنالك الملايين، ممَّن هم على شاكلتي، يحبسون أنفاسهم منتظرين إنطلاق رواية "دان براون" الجديدة، والتي أعلن عن موعد إصدراها منذ أشهر، عبر مُقبّلات إعلانيّة تُذكّر بالرجل وبطله "روبرت لانغدون" الذي أصبح رصيده الآن أربع روايات متلاحقة هي "ملائكة وشياطين"(2000) "دافنشي كود"(2003) "الرمز الضائع (أو المفقود)"(2009) لتتوّج ب"جحيم" أو “Inferno” كما أراد لها مؤلفها لتوحي بروحها الإيطاليّة لمذاق الجحيم، وحرقة الإصطلاء به!
هي لحظة دان براون إذن!
ولمَ لا؟ ألا يستحق، ولو روائيّ واحد، لحظة تُكرّس له لحظة في عالم ندّعي دائماً بأنه ليس العالم فقط وإنما هو عالمنا؟
لذلك، ما أن أنطبقت الساعة مودّعة يوم 13 مايو، حتى أخبرني "آي فوني" بوصول الرواية، بنسختها الصوتيّة، إليه، وبلمستين أو ثلاثة، وبعد دقائق، حمّل تلفوني جحيماً آخر، ليس هو "جحيم دانتي" وإنما "جحيم دان"!

مَن لا يحبّ "روبرت لا نغدون"!
مُذ كان حبيساً في كلمات، أوصافاً وجملاً، مغامرات وتحليلات، أحبّ الملايين "روبرت لانغدون"، أستاذ الآيقونات الدينيّة (أيكونولوجيست) والرموز في جامعة هارفارد، والذي لقي شهرة واسعة في بحثه عن المسيح في "دافنشي كود"، ثم، وبأثر رجعي غالباً، عاد الملايين من القرّاء، (وانا أفترض نفسي ممثلاً دائماً لهم!) لمرافقته في "ملائكة وشياطين"، ثم في "الرمز الضائع (أو المفقود)" التي كانت مساحتها العاصمة الأميركيّة واشنطن.
ولانغدون، أو "الشخصيّة التي تمنّاها دان براون لنفسه أن تكونه"، إستوحاها من "جون لانغدون" أستاذ التايبوغرافي (أساليب الطباعة وأشكالها) في جامعة دراكسل، وعُرف بابتكاره لتعدّد الأشكال الطباعيّة أو النسخ بطريقة تجعل مادّتها أو موضوعها يمكن قراءتها من عدّة إتجاهات لتعطي معنى واحداً او معان مختلفة! (Ambigrams typographical designs). وقد نزع براون عنه إسمه الأول، ليصبح بطل معظم رواياته، وبالمقابل إعترف له بالفضل إذ وضع واحداً من تصاميمه على غلاف ملائكته وشياطينه. كما ظهر تصميم أخر له على واجهة بنك مُختلق في زيورخ في فيلم دافنشي كود.
ولانغدون، كما أراد له خالقه، هو جيمس بوند القرن الحادي والعشرين، سوى أنه لا يستعرض خارقيّة جاذبيّته كأحد ذكور الحرب الباردة، وإنما يستعرض هنا، علمه، معلوماته وقدرته التحليليّة. لذا فهو حادّ الذكاء، وسيم وحيويّ، لا شخصي، والأهم: يُتقن عمله، ويغيّر تكنيكاته ليتخلّص من الكمائن التي يُحشر فيها، ليُنقذ رقبته أولاً، وليخلّص العالم، في لحظة حاسمة، ويُيده للوقوف على رجليه بعد أن أوقفه، طوال الرواية، على أطراف أصابعه!
وهكذا يتركنا حائرين ما بين فرحتنا بخلاصه وخلاصنا، وبين ما سرّبه لنا من قراءات وتحليلات، معلومات وجولات، عبر ما لا يقل عن أربعمائة صفحة من مغامراته ورحلاته.
ومع الأفلام التي أقتبست عن رواياته، دخل "توم هانكس" على الخط ليكرّس أمام أعيننا مواصفاته. ولعلّ ميزة توم هانكس، رغم كبر سنّه، تُكمن فيما وصفه كريستوفر فوغلر، ألمنتج الذي إختار توم هانكس في وقت مبكّر، ليمثّل في واحد من أفلامه "فقد كان الدور كوميديّا، وكان هنالك مَن له قدرة على الإضحاك أكثر منه، ولكن هانكس كان يُسرّب ذلك الإحساس الدفين عند الجمهور: هذا المسكين، لا أريد له أن يموت! ولذلك لم يجرؤ كتّاب كثيرون، ومخرجون أكثر على قتله وكانت تلك واحدة من المفاتيح التي تركت الباب مفتوحاً لنجاحاته!"
ولعلّ هذه الصفة "الفولغريّة" كانت ما تحتاجها شخصيّة لانغدون، أكثر من الشباب والقوّة، فأصابت نسبة تعدّت الخمسون بالمائة من النجاح!

Welcome to the Game!
"هل جرّبت ألأكل في مطعم فارغ؟"
"آخ. تجربة فظيعة! شعور بعدم الأمان، يدفعك للتشكيك في كل ما يتعلّق بالمطعم، وعمّاله وأكله، وأصحابه. تتلفّت يميناً وشمالاً كلصّ، منتظراً الأكل، الذي ما أن يأتي حتى تبحث فيه عن سبب لإنفضاض الناس عنه!"
كذلك الأمر مع كلّ مُنتج، وأيّ بضاعة! ولذلك أيضاً وجد سحر الإعلان!
ولذلك أيضاً، تدخل "مطعم" دان براون، أعني رواياته، وأنت على علم مسبق بأن أطباقه لا يمكن أن تكون مسمومة وقد جرّبها وإستطعم مذاقها الملايين! وأنك لست إستثناء أبداً. لذا، فأنت مستعدّ لإلتهام ما يضعه أمامك، وأنت منشرح الصدر مرتاح الضمير، وقادر على نسيان الدايت وأكل ما يمكن أن يختلف وذائقتك، وربما تصدّق أو تأكل حتى أكثر من طاقتك.
لهذا وزّعت وعلى مدى شهر كامل نسخاً أليكترونيّة ببلاش من "دافنشي كود" للتذكير (بالمطعم ووجبته الجديدة!)، ثم إنتشر خبر حبس الأحد عشر مترجماً، طوال وقت عملهم على ترجمتها، معزولين في سرداب ناشر الرواية باللغات الأخرى، بإنتظار إطلاق سراحهم مع إصدار الرواية الرسمي، مع أول دقيقة بعد منتصف ليلة 13/14 مايو/أيار، لتنزل الرواية بأحدى عشرة لغة عالميّة، ليس منها لغتنا الجميلة طبعاً!
وبذلك فقد إستخدم دان براون، أو المؤسّسة التي تكفّلت به وبمنتجاته، ستراتيجيّة أيّة شركة تعي قيمة منتجها وتُحافظ على سرّيته، والترويج له، كما تفعل شركة (آبل) مع "ألآي فون" ولا شكّ عندي بأنه يستحق الآن لقب "آي براون"!
فأخيراً جاء مَن يضع "الرواية" بمصاف ال"آي فون" والهواتف الذكيّة! هل قلت بأنها رواية ذكيّة؟

يعيش روبرت بن لانغدون.. يااا؟
"أمّا هذا، دان براون، فحقّاً مجرم، إذ يفتتح روايته بطلقة في رأسه. نعم رأس لانغدون!"
"لا بأس، هي مجرّد (رواية)، ومن وضع في رأسه رصاصه ممكن أن ينجيه!"
"لا عن جد.. وبعد؟"
تبدأ الرواية بمقتطف من "جحيم دانتي": "وإن أكثر الأماكن عُتمة في الجحيم، حُفظت لمن ظلّوا على حيادهم، في زمن عاشت فيه الأخلاق أقصى أزماتها!"
هكذا يبدأ الرعب. الذي يواصله بوصفه ل"جحيم دانتي" بأنه:"العالم السفلي، كما ورد في قصيدة دانتي الملحميّة "الكوميديا الإلهيّة"، التي تصف الجحيم بالمكان الذي تحيا فيه "الظلال"، وهي أرواح نُزعت عنها أجسادها، وأُلقي بها ما بين الحياة والموت"
ثم تُطالعنا توطئة براونيّة عن "حقيقيّة الأعمال الفنيّة والأدبيّة، العلميّة والإشارات التاريخيّة، في هذه الرواية حقيقيّة." ثم يحكي عن منظمة خاصّة، موجودة في الواقع، ولها فروع في سبعة بلدان، تم تغيير إسمها في الرواية الى "كونسورتيوم" لدواع أمنية ولعدم المساس بخصوصيتها.
ثم مقدّمة، قصيرة ومتوعّدة، يرويها لنا "الظلّ" عبر مونولوج قصير، ربما خطاب مباشر، يختزل فيه، ضيف الرواية، غريم لانغدون، يحكي فيها شيئاً من معتقده وأيديولوجياه الخاصّة، مبشراً بالخلاص، ورافعاً راية "جحيم دانتي"، كمنقذ أخير لعالم أتخمه عدد الأحياء فيه، الى حدّ لم تعد الطبيعة والكون يطيقانه، كما ستوضح الرواية لاحقاً بخطاها وسلالمها المتصاعدة.
ومن الطرف الآخر، يبدأ الفصل الأول، وهو قصير جداً، وخاطف، بحسب الفصال الدان براوني، في روايته الحاليّة كما في سابقاتها، يبدأ بلانغدون وكأنه ولد توّا، ولكن لا ليتعرف على الحياة، وإنما ليتعرّف على الموت، على الجحيم الذي ترسّب في لا وعيه وهو يُدخلنا معه الى باطن الجحيم، الذي لا يقطعه غير ظهور لامرأة، عجوز وحسناء، بشعر فظي من الحرير، تغطّيه بحجاب، ليشعّ من وجهها جمال نادر، لم تُصدّعه أعوامها الستين، يصفها براون بطريقة تخطف الروح، خاصّة وإن جمالها يبرق وسط رُكام الأجساد التي تصطلي في الجحيم غير بعيد عن قدميها. تقدّم له كفناً تحمله بين ذراعيها كمن يقدّم هديّة أو مفتاح، وتهتف في وجهه: "إبحث وستجد. إبحث وستجد"، وكأنها تستكمل خطوات لعبة "الغميضة"، والتي يُطلق عليها هنا "هايد أند سيك (أنت تخفّى وأنا أبحث!)" وقد أضيف اليها "فايند (تجد)" لتؤلف مثلثاً ربما سيكون هو المفتاح الخلاص الحقيقي ممن يعتقدون دائماً بأنهم من يرسمون لنا طريقنا اليه، وإنهم وحدهم، مَن يمتلكون مفاتيحه!
وفي لمحة نعرف ان تلك المرأة وذلك الجحيم، ينبضان في مُخيلة لانغدون، أو لا وعيه، وهو مُمدّد على فراش أبيض في مستشفى ايطالي، برصاصة في الراس، وفقدان جزئي في الذاكرة، والقصيرة منها أو القريبة بشكل خاصّ.
وإذ يصحو، فإنه لا يعي، أين هو؟ وكيف أتى؟ وما الذي جاء به الى فلورنسا/إيطاليا؟ فتكون هذه الأسئلة جزءاً حيويّاً من مفتتح الرواية ومن ثمّ متنها.
وما هي غير صفحات حتى يفرّ لانغدون، بملابس المستشفى (نصف عار)، تساعده طبيبته، فقد تعرّضت غرفته لوابل من الرصاص، ثقّب سريره ووسادته، وصرع طبيباً إيطاليّاً. على يد قاتلَين محترفين.
وبفضل إنقاذه، تتورّط الدكتورة سيينا، شيئاً فشيئاً، لتصبح رفيقة له في مغامرته.
تأخذه سيينا الى شقتها، وتغيب عن لانغدون لفترة كانت كافية له لإستخدام كومبوترها، يدخل على إيميله علّه يجد جواباً لمحنته، ثمّ نأخذ الجرعة الأولى من المعلومات عن الدمتورة سيينا وطفولتها مما هو منشور عنها على صفحات الأنترنت: "ولادة نجمة" "الطفلة العبقريّة" الخ.
"هي إذن ليست ديكوراً جميلاً وشبقاً كنساء جيمس بوند!"
نعم. وهي، إضافة لحُسنها، الذي لا تجري الإشارة اليه إلا لماماً، تتميّز بنموّ غير عادي وغير متكافئ في خلايا دماغها، مما يؤهلها لتعلّم أيّة لغة في أقل من عشرين يوماً مثلاً. كذلك فأن قدرتها على الفصل ما بين المشاعر والأفكار، بين الذاتي والموضوعي، سيزوّد الرواية بصوت آخر، صوت يمتلك صفات علميّة خالصة ومجرّدة، وسيستغلّها المجرم، عنيت المؤلف، أبشع إستغلال، والا لما جعلها كذلك!
ثمّ؟
تكشف له الدكتورة سيينا، بأن شيئاً ما كان معه وقد أخفاه بجيب سترته. يبحث فلا يجده، حتى تعثر هي عليه، بعد أن تكتشف "الجيب السرّي" في بطانة سترته.
يا لذاكرة لانغدون اللي راحت!
يعثران على ختم إسطواني من المعدن، وقد أضيفت له صور وخيالات ديجيتال. يرى صورة (عجوزي المُفضّلة) تومض فيها كحلم، ورموز سيجدّ لانغدون في البحث عن حلّها.
وعلى وقفتهما قبالة النافذة، يتصل لانغدون بالسفارة الأمريكيّة هناك طامعاً بحمايته. وعملاً بإشارة من سيينا يعطيهم عنوان الفندق الذ يرونه من النافذة، مقابل شقتها تماماً. تمرّ دقائق ليرى القاتلة المأجورة تدخل الفندق، ثم قوات من البوليس الإيطالي وحفنة من العسكريين بملابس سوداء يحاصرون المبنى!
"يا الهي! حكومتي تُريد أن تقتلني؟"
وهكذا تكبر الحكاية وتدخل فيها دول وجيوش وسفارات، في محاكاة لإعلان AT&T الذي يتردّد منذ سنوات: Think BIG, Think Global!
تستعير له بدلة من جارها ليفرّا ثانية، ولكن، في هذه المرّة بحثاً عن حلّ لمعضلتهما التي إرتبطت عضويّاً وروائيّاً بالرموز والقضيّة التي وجدا نفسيهما متورّطين بها.
وهو ما سيفتح الباب، واسعاً، ليدخل، ويحشرنا معه، راضين، في الجحيم. وأعني جحيم دانتي طبعاً.
يستغلّها فرصة ليقدم لنا رؤية مختصرة ل "الكوميديا الإلهية" لدانتي، اهميتها، تأثيرها على مختلف الفنون والآداب والفلسفات، وتثبيتها لرؤية مجسدة ل"النار" ، ولأول مرة، في الثقافة المسيحية!
بعدها نرجع للانغدون الذي اصبح الجحيم قضيته، بعدما كان مادة يسقيها لطلابه بحماس ومحبة!
صحيح إن آداب وفنون عصرنا، أو "بعد ما بعد الحداثة" كما يطلق عليه البعض، و"عصر الوايرلس" كما أسميه، ومنهم دان براون طبعاً، مغرمون بالحضارات والميثولوجيات وأدبيات العصور الوسطى وما سبقها وما تبعها، ولكن قل لي: كم من دان براون نحتاج لكي لا نُعيد إحياء تلك الكتب والعصور والرؤى وإنما نهضمها برؤية وأسلوب معاصر، مثير ومميّز، وقادر على سحبنا لعوالمها؟ ألم يقُل مارك توين ب"أن القول بضرورة قراءة الكلاسيكيّات صحيحة وضروريّة دائماً، لأننا يندر أن نعود لقراءتها بالجدية المطلوبة أبداً"!
ماذا؟ يتعكّز براون على مُنجز دانتي؟ ويسرق شعلة ناره من جحيم دانتي؟
كذلك فان قتل الاحياء مهمة سهلة ولكن احياء الموتى..
ولمَ لا؟ لمعرفة طول قامتك الحقيقي عليك مقارنته مع شموخ الفطاحل والأقوياء. وإن سرقت، أسرق جملاً، وإن عشقت، فإعشق الكلاسيكيّات بشرط تذويبها بمادتك وليس الوقوف عند حدود قولها!
ثم إن تحديات الروائي المعاصر جسيمة، إذ بات عليه أن ينتزع قارئه من مغريات محيطه وبيئته التي تتنازعها "المُتعيّات" كما تتنازع النار أرواح ضحايا دانتي في جحيمه. لذا فعليه ان يدسّ "النار" في العسل، ويدسّ لانغدون في فلورنسا قبل أن يسفّره الى إسطنبول / تركيا!
"تركيا؟"
"طبعاً. إنتظر وسترى، أو حلّ عني وأسرع بقراءتها!"
ورغم إنقلاب الدنيا بحثاً عنهما، الا انهما ينجحان بإختراق حواجز الشرطة والجيش ليصلا الى المدينة القديمة، حيث عالم دانتي وما تبقّى منه. يدخلان متحفاً إستدلّ عليه لانغدون من تأويله لأحد الكودات، لتستقبله مديرة المتحف بعد أن ميّزته حال رؤيتها له، يعصر رأسه علّه يتذكر، فيعجز عن ذلك، حتى يفاجأ الجميع بأن قناع موت دانتي مفقود، وإن آخر من رآه كان لانغدون نفسه عند حضوره في الليلة الماضية، وما أن يشاهدون الفديو الذي سجلّته كاميرات أمن المتحف، حتى يرى لانغدون بنفسه، كيف أخرج كيساً من جيبه، ليضع فيه القناع ويُسلّمه لأغناسيو، وهو الرجل الذي تسلّل ليتسلّمه منه مستغلاً غياب أمينة المتحف الحامل بعد ذهابها لدورة للحمّام. عندها تأمر الحرس بأن يتحفظوا على لانغدون ورفيقته، وتتصل بالبوليس. وبانتظار البوليس، يتصل من يخبر لانغدون بأن أغناسيو مات ليلة أمس في ظروف غامضة ويبدو بانه أصيب بنوبة قلبيّة وقد ترك له رسالة صوتيّة ستكون هي الخيط القادم الذي على لانغدون تتبّعه، خاصّة بعد فراره مع سيينا في اللحظة الأخيرة ورحمة أمينة المتحف التي أمرت بعدم أطلاق النار عليهما بعد أن رأت العدد الهائل من رجال البوليس والجيش وهم يهبّون على المتحف والمنطقة كلّها.
"لاحظت تعدّد الوجوه النسائيّة في الرواية وتنوعها، خيراً وشرّاً؟"
"طبعاً. والشريرة منها خاصّة! وكأن دان براون يذكّرنا بأن إدعاء "لو تُركت إدارة المرأة للعالم لن تغيّر كثيراً بأسايب إدارته، ولن تعمّم السلام فيه لأننا كلّنا، رجالاً ونساء، محكومون بنسبة الفيفتي فيفتي (50/50) أو ألنسبة المفترضة للخير والشرّ!".
يهربان مرّة أخرى، بعد أن يمسكان بطرف خيط آخر، تركه لهما إغناسيو بوصيته الصوتية مشيراً الى "باراديز 25" التي سنعرف بأنها تشير الى قصيدة لدانتي، يجري تحليلها كنصّ أدبي للعثور على أدلّة بوليسيّة!
" الحقيقة، لا تومض، إلا في عين الموت" مقولة يكرّرها عشرات المرّات وعبر فصلين وكأنها حقيقة دانتي، أو حقيقة العالم، أو ربّما حقيقة لانغدون الذي إنطلق في رحلته من عين الموت؟
لانغدون وسيينا يعثران على "قناع موت دانتي" وقد خُطّت على قفاه الملياردير وعالم الجينات والهندسة الوراثيّة برتراند زوبرست. يتصدّى لهما جندي بملابس سوداء لينقذهما رجل يدعى جوناثان فيريس منه ثم يدّعي بأنه من منظمة الصحة العالمية.
يسرع الثلاثة لحلّ اللغز الذي يأخذهم الى البندقية (فينيسيا). ووسط ضجيج السوّاح يسقط جوناثان مغميّاً عليه. وبينما يساعد لانغدون سيينا على الهرب، يسقط في يد جندي من ذوي الملابس السوداء. عندها يأخذون لانغدون الى عجوزتي المفضلة: اليزابيث سينسكي التي تبيّن بأنها رئيسة منظمة الصحة العالمية، وهي التي أحضرت لانغدون من أميركا على عجل، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من براثن زوبرست!
قبل ذلك، وعبر فصول قصيرة، خاطفة ولمّاحة، أسّس دان براون للخلفية الفكرية لشخصيّاته، أعداءه خاصّة ما دمنا نعرف دوافع لانغدون الإنسانيّة التي لا تختلف عن أخلاقنا بشكل عام، فشهدنا حواراً نابضاً، ضاجّاً بالإحصاءات عن التضخّم البشري الذي سيصل الى حجم ورقم لن تعود الأرض لإحتماله، ثم حوار آخر، شرحت لنا به سيينا، بتجريديتها العلميّة نظريّة دكتور زوبرست (الظل الذي أفتتحت به الرواية) عن ضرورة أيجاد حلولا واقعيّة وبايولوجيّة لإيقاف النموّ الهائل والسريع لتعداد البشر. كما عرفنا، ومنذ البداية، بأن كارثة ما ستحدث غداً، إذا ما سارع بطلنا لسحب فتيلها.
تخبره سينسكي بأن زوبرست، الذي إنتحر قبل إسبوع من ذلك، كان عالماً مجنوناً، مهووساً بدانتي وجحيمه، قد خطّط لوباء يجهض أعداد البشريّة، وقد يطال أعداداً خرافيّة منها، وإنها لجأت اليه (الى لانغدون) يوم أمس وجلبته من أميركا لمعرفة ما خبأه من رموز في الختم الإسطواني الذي عثر عليه لانغدون في جيب سترته بعد أن فقد ذاكرته بشكل جزئي. وإنها ظنّت بأن لانغدون قد باع نفسه لهم، بسبب إختفاءه وتقفه عن الإتصال بها، لذا أمرت قوّات منظمة الصحّة العالمية (ذوي الملابس السود) بالقبض عليه وليس قتله. وإن هنالك منظّمة ربحية وغير معنيّة بالأخلاق، تُدعى "كونسرتيوم"، قد قامت بخطفه في الليلة الماضية، ولكنهم أطلقوا سراحه بعد أن حقنوه بدواء يمسح ذاكرته القصيرة لكي يحلّ اللغز الذي زرعه دكتور زوبرست قبل إنتحاره، علّه يكون كقيلاً بإنقاذ العالم من وباء مُحقق.
وقد أتقنت هذه المنظمة عملها، فخدشت رأس لانغدون لتقنعه بإصابته برصاصة في راسه، وما كانت الدكتورة سيينا والقاتلة المأجورة وجوناثان غير ممثلين يؤدون أدوارهم لإثارة حماسه ومساعدته في حل اللّغز!
( ما علينا: الفن لعب في اغلبه، شرط ان نخرج منه بدلالات موحية!)
بعدها ينتقل مسرح الأحداث الى تركيا لنكتشف بأن دان براون لا يكفّ عن قلب الطاولات في وجوهنا في لعبة لن تنتهي حتى آخر نفس، أعني آخر صفحة من روايته.
"هذه هي الرواية!"
"طبعاً لا، فهي في 480 صفحة. ثم أني وعدت بقراءتها وليس توفير مالك عليك!"
والحقيقة إن هذه ليست الرواية فعلاً، وإنما هي مركبتها، أو سيّارتها كما تسمّيها صاحبة "لا ملائكة في رام الله" الروائية إيناس عبدالله، مركبتها أو مبرّرها الذي يأخذنا للتطواف ورؤية ما لايمكن أن نراه من دون قراءتها.
"ما الذي يدفعك لقراءة رواية؟"
"للتعرّف على شخوصها، تراها في حركتها؟ تقرأ أفكارها وتختبر مفعولها؟ تزور أماكن في حالات استثنائية، كما لن يحدث لك لو زرتها!
تسطعم لذة الكلام، اللغة، الأسلوب، الإنتقالات، الإيقاع؟ وتسغرق في مختلف بأشكال بلاغتها؟
أن تُدخلك في معركة، صراع، دراما تعرف أثناء حدوثها بأنك في منأى عن خطرها، وإنك ستخرج سالماً ولكن بتجربة مضافة.
وفي النهاية تملك جديداً يشغل الذاكرة، الذاكرة المُعطّلة لكثرة تكرار ما هو يومي ومألوف حد الصفع!"
ومَن أكثر من دان براون، يكتب رواية ذكيّة؟ حيّة ومتدفقة؟ مُتصلة بعصرها وقارئها، تلتصق بمجريات العلوم والتكنولوجيا وتمزجها مع التاريخ، والفنون والآداب، والشعوب والثقافات، لذا أصبح أكثر الكتّاب مبيعاً في العالم (بعد الرب) كما يستطرد الكوميديان ستيفن كولبير ضاحكاً وهو يبدأ لقاءه بالمؤلف!

رموز ورموز!
عربيّاً، قرّاء وكتّاب، ما زلنا ننتظر من الرواية أو الروائي، أن يؤلف لنا رواية بضخامة "أولاد حارتنا"، ليؤسس لنا رمزاً واحداً، أو يحوك جملة من الرموز، عالمياً، وأميركيّاً خاصة، لا تخلو رواية، مهما كانت نيّتها، سوقها او قارئها، من توليد الرموز. رموز شفّافة تمنح الشخصيات أبعادها، دون أن تلحّ على مُتلقّيها أن: أنظرهنا، هذا رمز، و"خلي بالك"، إنتبه، فقد دخلنا غابة من الرموز! وإنما على العكس تماماً، فان الكاتب يزرع رموزه هنا وهناك "وعالماشي" وبشكل لا يعطّل القراءة، ولا يشترط أن تمسك بالرمز/ الرموز لكي تحقق القراءة إشباعها، فقد تبقى، هذه الرموز، تداعب لا وعي قارئها حتى لو ظلّ الرمز غائماً، والشخوص لا تُسفر عن ذاتها ك"جبلاوي" أو"عرفة" أولاد حارتنا! لذلك تبقى الرموز مغروسة لمن يحصدها، وملقيّة على أرض الرواية لمن يلتقطها!
أما الشخصيّة الأكثر إثارة للريبة، في جحيم دان، فقد كانت ( عجوزتي المفضلة) التي بدت في مطلع الرواية كعزرائيل أو (ملاك الموت) بشعرها الفضّي المنسدل على ظهرها كباقة من حرير، ثم تبيّن بأنها رئيسة منظمة الصحة العالمية التي فقدت قدرتها على الإنجاب مبكراً، فأصبحت أم البشر التي فاتتها فرصاً كثيرة لانقاذ ابناءها خشية عليهم، وكانت واحدة من أهم مفاتيح الرواية خاصّة وإن إسمها "اليزابيث" ( الملكة) (sins-key) التي لا يمكن ترجمتها بغير ( مفتاح الخطايا)، وهو الإسم الذي لا يمكن فرزه وتفكيكه قبل معرفة دورها، والذي تقلّب، إيجاباً وسلباً، حتى تبيّن في الفصول الأخيرة من الرواية!
ثم هنالك الدكتورة سيينا التي عانت من كونها إما عقلاً محضاً، (مجرّداً)، او عاطفة خالصة وجيّاشة، ومن هنا جاء ضياعها متوّجاً باسمها (سيينا الموحي ب سيناء، والضياع التوراتي لليهود في صحرائها عبر أربعين عاماً)!
بينما جاءت الشركة ألتي تعاقد معها دكتور زوبرست، العالم البيولوجي الملياردير، ألذي أراد تعميم الوباء على البشر، ليكون شفرة موازية للشركات التنفيذية العملاقة من بلاكووتر الى هاليبرتون، والتي تُنفّذ ما يطلب منها زبائنها، ببراغماتيّة مُخيفة، وبغض النظر عن الغاية الأخلاقية مما تفعله لهم، والتي هي الإرهابي الحقيقي فاستحق صاحبها أن يوضع رهن الإعتقال في النهاية، وهو المآل الذي يستحقه وليس كما هو حاصل الواقع طبعا!
أبواب أميركا وأبواب العالم!
ولعلّ واحدة من المفارقات تكمن، في أن براون، يقدّم العالم الآخر لأميركا، فأميركا التي إنفتحت أبواب العالم كله، لإستقبال منتجاتها ومخترعاتها، ظلّت تنأى عنه وتُغلق، بشكل أو بآخر، دونه محيطاتها:
"تعني يفتح أبواب أوروبا العجوز؟"
"آه. منَ وصفها كذلك؟ نعم كان مسؤولاً أميركيّاً كبيراً، ضيّق العينين، عاقد الحاجبين، ومتجعّد الجبين؟"
وسواء كان الجواب دونالد رامسفيلد أو غيره فإن دان براون يبقى، في ألاعيبه ورواياته، لم يعُد ينافس، بإثارته وتشويقه، السينما فقط، وإنما تجاوزها لألعاب الفيديو التي يرى البعض بأنها المرشح الأكبر لتحلّ في مكانة الأدب والسينما معاً، وهنالك من يُطلق عليها "أدب المستقبل". فإذا ما كان الكثيرون منّا يشكّكون بأدبية وفاعليّة روايات دان براون الآن، فكيف بهم ونحن على أعتاب أدب المستقبل، أو كما ما زلنا نسميها حتى اليوم: العاب الفيديو!

وأخيراً:
إن تعالينا عن قراءة، ومتابعة ما ينتجه دان براون، لا يعكس عدم قدرتنا على الغوص في عالمه فقط، وإنما الإستخفاف بعشرات الملايين من القراء، من مختلف الأعمار والاهتمامات والجنسيات، وإن تجاهل مُنجزه الروائي، لن يعني أكثر من أننا لا ننزل من برج عاجيّ إلا لننزل السلالم كلها فهبطنا أكثر من اللازم، وأكثر من المطلوب، كعادتنا، ليستقرّ بنا المقام، تحت الأرض، في عالمنا السفلي، حتى بتنا نتطلّع لشوارع العالم، الذي هو عالمنا، من قعر سرداب صار من الصعب الخلاص منه!



#جلال_نعيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- Glocal أو عالمو-محلي
- رواية -إعجام- و-أريج- بغداد أخرى!
- Meanwhile.. In Baghdad?
- Little Saddam!
- [email protected] الى
- الماموث
- بوكوفسكي .. في قصيدتين !!
- بوكوفسكي .. وثلاث قصائدعن الأسى ..
- بوكوفسكي وثلاث قصائد عن المرأة ..
- تيليسكوب .. قصيدة للشاعرة الاميركية -لويز غلوك- ..
- عندما تطير الأفيال .. ! فك آ هات عراقيّة !
- فئران قارضة للحياة !
- خطوة اولى في الرد عن سؤال الغربة!
- نجم والي في -صورة يوسف- سؤال بحجم كابوس .. وكابوس بروعة حكاي ...
- فحل ! قصة قصيرة للشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي
- إنتصارات مزدوجة !!!
- ترقّب صاخب
- قطارات
- خطيئة ..!- قصة قصيرة جدا
- -انتحالات عائلة - لعبدالهادي سعدون واسطورة الكائن العراقي ال ...


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال نعيم - جحيم دان براون!