أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خلدون جاويد - شمعة ذكرى الى أم عراقية ...















المزيد.....

شمعة ذكرى الى أم عراقية ...


خلدون جاويد

الحوار المتمدن-العدد: 1177 - 2005 / 4 / 24 - 10:31
المحور: الادب والفن
    


منذ ترانيمهن الاولى عند تنويمة المهد ، وصوت أُمي وكل الامهات ملاك حارس طيلة العمر ، وظل عالق بالروح والجسد . لقد بقيت تعابيرهن الدارجة هرما عراقيا شاهقا جذره في الدم وفرعه في الماوراء أو النفول أو المالانهاية .
ان صيغ أحاديثهن من العذوبة العراقية مايربت على الشغاف ، أو يعزف على التلافيف التي هرسها الحنين اليهن .... انهن بمثابة أنامل فتنة ونحن قياثر الآهات .
ان وصاياهن بمصاف قداستهن من حيث أن " الجنة تحت أقدام الامهات " أما اذا مازجن تلك الوصايا بلهجة الوطن الدارجة فذلك هو الحب على حاله ، انه الانتماء والتفرد الذي يعني لغة العراقيين وطريقة تحدثهم ، وتعاملهم مع الحروف ومخارج الألفاظ ، بطئها ام سرعتها ، استعاراتها ، صورها ... كلها ، كل ذلك الصوت اللآهج بالحنان (بالحنية) ليعني عندي مصحف حب من نوع آخر .
تلك الأُم كم احب أشياءها .... كفها ... استدارة وجهها ... تجاعيدها .... خصلات شيبها ... سجادتها ، تربتها ، ثوبها ، عباءتها ، عطفها ، حنوها ، ابتسامتها ... لكنني هذه المرة ، وبعد 24 عاما من اغتراب ( لا عن اللهجة العراقية التي أصر على استعمالها في بيتي ) لكن عن لسان امي وذخيرها الدارج ، أجدني مغرما بالماضي وحيث توجد هي . وكما يقول هاملت لأُوفيليا " اذوب على الرقة التي انت هي " ، أجد روحي انا أيضا تنسفح عند كعب قدم امي .
هناك وجدتني مسهّدا لوحدي " اناجي طيفها الساري ..... سابح بوجدي " وجدتني اتذكر احاديثها وأتأمل الكيفيات التي كانت تناديني بها او توصيني ، أو الأُطر التي تصب فيها قصصها أو أحاديثها .. وألفيت نفسي مسترخيا أو مخدرا بالذكرى وكأن بي مساً من اختلال أو هلوسة . أنا المسجى المسافر على غيمة من خيال . أكثر فعل كانت تستعمله امي " يمه دير بالك " : - " على أخوك " .. " دير بالك من السيارات " ... " لاتدير بال " أو " يمه لمن تمشي باوع لي كدام " أو ان تكثر من المحذورات والوصايا قائلة " ما وصّيك ... لاتمشي ويه الأكبر منك " ... " خلي حجايتي ترجيه بذانك " اما اذا وضعت قدمي في الحذاء فانها تنتبه لتقول " يمه انكث قندرتك قبل ماتلبسهه ، أخاف بداخلهه دبيبه شي ....شياتين " ! أو ان تحذرني : " بالك وياك وتتدخل بالسياسة ، لأن الطايح رايح " ... " تره ايروح دمك .... بشط " . . كانت تقول بأن العامل كيف ماكان اجره ، أفضل من العاطل " اشتغل اباره وحاسب البطاله " أما اذا اردت ان انقح لها كلمة تقول على الفور : " انت كلامك ماما خيطي بيطي وبعدين اشتفتهم من الدنيا انت ؟ ... انت ( ..... ) بيدك اتكول عافرم " أو " روح اشتري بعقلك حلاوة سمسميه " .... أما اذا رأتني ساهما ( صافن ) فانها تبادر بالكلام :" يمه لاتصفن ... الصفنه الطويلة مو الَك ".
اتذكر انها نادتني ذات مرة وانا بين اصدقائي فقلت لها متبرما وبأعلى صوتي : " .. ها ... ؟ " ... قالت بجزع مقابل " ... قولنجا ووجعا وطاكرحا " . أقول لها وهي غاضبة : " بس عادينه يُمّه " تجيبني بكليشيه جاهزة : " ولطمة حمه " قلت لها مرة " يوم العباس عليج ... اوصفي لي شلون استقبلت ابويه بليلة الدخله " قالت من فورها " انلصم ... ولاتسأل هيجي أسئلة فطيره " . من أحاديثها التي لاتنسى : رحنه سنه وجينه سنه .... ما شفت أنه تمطر ( ....... ) من فوكنه " أو " استحي من عصافير النبكه " أو " ديمي دومبلان وقع بالتنور صار بريان "
" او قصتها الشعبية الجميلة التي تدور حول رجل تزوج من امرأة فحملت منه ... لكن الغريب انها ولدت بعد 3 أشهر فاستغرب المغفل من المولود الأكسبريس ... لكن المرأة اللعوب اقنعته وهي تعيد حساب الشهور التسعة من عمره : " شباط وباط وبيطره ....وتموز وموز وموزره ...والراح وال هل و الاحنه بيه .... والعلينه ! " صاروا عشرة أشهر – وهذا مايرسخ القناعة ! . واذ لم ترسخ فالمهم ان نطمئن فحسب . وان لم فبأحرج الأحوال أن نؤثر الستر والعافية .
كانت تحدثني عن درب الصد مارد . الطناطله وسويد الماء ( المي ) وقصة ( الديو ) . وحدثتني مرة ان شابا عبر الجدار " طفر التيغه " واستلقى الى جانب فتاة في صيف بغدادي عذب ، فاستيقظت الفتاة خائفة مذعورة لكنها تعرفت عليه ، ابن جارهم ، قال لها مداعبا ... اش ... اش ... آني جني ( من الجان ) وجيت دا أخرعج ! ... " وبعد أن " خرعها " عدة مرات ، عبر الجدار لينام في سريره ... ومن تلك الليلة اللذيذة والفتاة تناديه كل مساء : " جني تعال خرعني " ! ..
أرسلتني مرتين في حياتها ... فقط لاغير ... مرة الى بائع النفط ببرميله الأخضر الكبير الذي يجره الحصان ، بينما جلست هي وراء الباب تنظر من فتحة صغيرة فيه ... ( كنت اتمندل ) في مشيتي مستمتعا بضرب زجاجتين فارغتين مخصصتين للاستعمال المنزلي ، ضربتهما امامي فكان لهما رنين جميل . عدت وضربتهما ورائي فكان رنينهما اجمل ! .. وظللت هكذا ... احاول تكوين نغمة حتى تهشمت نغمتي ! صاحت عليّ : تعال لاتخاف يتكسرن مايتكسرن للقير ! والمرة الثانية عندما وضعت بيدي ربع دينار وعشرين فلسا وارسلتني للتسوق ومعي (علاكه ) لحمل ربع كيلو لحم وطماطم مع باذنجان وكيلو رز . طبعا ما أضعت العشرين فلسا بل الربع وهذا هو حظي الدائم في الأحداث ولذا عدت وقتها باكيا .. قالت : " لتدير بال وزين ضيّعت الربع لأن ما يضيّع الخردة الاّ الخردة ". ولا أتذكر انها ضربتني ذات يوم وكم حاولت التركيز لأتذكر ، فلم اهتد ِ ولو الى خيال في ذاكرتي . وأنا أدعي الآن ان كل عاشقي المرأة والذين يعتبرونها معبدا مثلما انا أفعل هم اؤلئك الذين لم يضربوا من قبل امهاتهم .
كانت كنزا لذخير متناثر من الحكايا والأساطير والأمثال من قبيل " انطي لبو الصلعه وخلي ابو القلعه " أي لاتزوج بنتك للقائد العسكري لأن قلعته خاسرة ومنصبه زائل ! وكلما طلبت منها علكا الى جانب الذي في فمي قالت " علك المخبل ترس حلقه " واذا تصرفتُ برعونه قالت : " الطول طول النخله " ... وكانت تحب الدارمي وتغني العتابى واتذكرها تغني بصوتها الناحب : " ما همني القصاب ... الكصكص اجلاي ... همني الصديق الكال .... اوزن لي من هاي " ...
وكنت كلما اقول لها " ماما من اكبر اصير لو محامي لو طبيب ( مال وجع راس ) كانت ترد عليّ بمثلها الحارق : " اللي كدّر ما كدر " أي الذي يخطط لايستطيع تنفيذ خططه . وهذا الكلام ينسف وزارة التخطيط برمتها " ..
وهي ( قاعودة طشت ! ) تقعد الساعات الطوال لتغسل الثياب وتقص عليّ وعلى سواي احاديثها الممتعة . وتتحلق الصديقات حولها ، من كل الاعمار ، لكنها كانت تؤثر كبيرات السن لميلها هي الاخرى الى الاصغاء والاستفادة . جدة صديقي ( ح ) مثلا هي من أمتع الصديقات . بحضورها تبدأ نشرة الأخبار وأحاديث الساعة . قالت " اجه النايب ضابط .. وكال لي خاله اوصفي لي الحادث ! قلت له شنهو يمه الحادث ؟ ... قال الشي الذي رأيته امام عينك . . قلت له : يمه آنه واقفة بالشارع العام ، ولن النيرن أبو الأربعين نفر جاي منّا ومجابيل النيرن اجه اللوري العنترناش .... أول هيل ياحضرة النايب ضابط تجابلن ، يمه ولنهن توامضن وردّن تصارخن .... والنوب يابعد جلاي ترادمن ، وصار طشارهن بثيث " ( التشديد على كسر الياء ومطها مطاً ) ، وطبعا مسكت المنجد ذات يوم ، لأتأكد بان كل الكلمات اعلاه هي عربية فصحى ، وهي كذلك اعتبارا من اول هيل أي اول وهلة الى الوميض والصراخ والردم ، والبثيث ايضا !
انتقل الحديث الى ( ام دبدب ) ، وهي شديدة الكره الى جيرانتنا الدلّوعة والتي كانت تخون بعلها مع السيّد .... قالت " شلج من الخبر ... أكو ناس شافوهه فوق السطح قاعده فرنسي ويه السيد ! .. قلتُ : خاله شلون تقعد وياه فرنسي ؟ ماذا تقصدين .... قالت : " انت تصم حلقك .... مالك كار .... " وأكملت حديثها :هي قاعدة على الماطور سكل وتقول له : " تاهميني وياك ياسيد ! وهو ( يناهت) يلهث عبالك ديركض ضاحية ويجاوبهه مقطوع النفس ... : " ... الله لاينطيهم يعلويه " تبدأ سميرة بالتهكم فيأخذن بالضحك والتعليق المتنوع والآغز والذي كان يبدو لي غير مترابط لكنه في حقيقته محكم للغاية : " ظل البيت لام طيره وطارت بيه فرد طيره " . او ( فحل التوث بالبستان هيبه ) . او ان ينعطفن على بيت شعر اكثر قسوة وهو عن امرأة متزوجة لكنها كانت ( امفرفحه ) غارقة بحب سري من طرف واحد حتى اذينها وبطينها ولذا فهي كاتمة وكاظمة وساهمة حتى مات زوجها فلم تجد بدا من ان تبكي وتتباكى لا على الأطلال بل على المرحوم لاطمة صدرها المسبي بالعري وفي حومة العزاء النسوية الصاخبة وهي تردد بصوت عالٍ " ... قال لي المرحوم عود اخذي حماج .... كتله يامرحوم خل يخلص عزاك .... " – للعلم العزاء 3 أيام فقط ! - .
وهنا تبري احدى الصغيرات لتبزخ راقصة في باحة الدار وكأنها الريم الأهيف ، ويعتلج التصفيق ودق الاصبعتين وتزداد حدة التصفيق والابتسامات والتعليقات وينتقلن من بيت شعر سريع الايقاع الى آخر أسرع منه .. " اول شيخته كسّر معاضدهه " أو " ابمزويته ايكش العلوه " تنضم أُخريات الى الحلقة ، أو تنقذف اخرى الى حلبة الجومناستك " عباس افندي استوه اجه " وأخيرا ،" عقالك جلّب باللوري " . ومن ثم يقهقهن لسان حالهن يقول لابد من الترويح عن القلب الحبيس ... يالله بس ... فحطنه ... ضحكة خير وشرهه على أُم .... ..... " الخ ..... طز بالحياة ! .
كانت ، عندما تشاهد ضابطا كبيرا ذا تيجان ونجمات عديدة على كتفه تقول : - " حيل اشكد شايل نجمات على كتفه ... ماكو محط رجل " وكأنما يراد بهذا المثل العراقي اللآذع البليغ ان يقال بان القدم تقف هنا بين النجوم وربما فوق التيجان وعلى رتبة اكبر ضابط . ومثل ذلك عندما مر ملك العراق فيصل الثاني امام وزارة الدفاع – مقابل لبن أربيل ! - في الطوب بباب المعظم عام 1957، قالت وهي تتطلع الى شخصه المحبوب ووجهه الوسيم الفليح وهو في عربته الذهبية : شوفو اشكد حلو الحيوان " ولو حدث هذا في ايام أي دكتاتور لذهبت امي واولادها الى سابع حفيد – تسعه كاصر .
كانت تقول لي : - " يمه لاتتزوج من وكت ! " قلت لها مالسبب ؟ قالت " ونّس روحك أول شي " ! ... لأن اذا تزوّجت هساعيته ، مرتك وره خمس اسنين اتصير اختك . شوفني آني هسه من ألزم ايد ابوك اتكول لازمه ايد خالتي ام ناظم " فكّرت بعد حين وقالت : " اما اذا تزوّجت فعليك بالاخلاص – من المهد الى اللحد " ... قلت " شنو هل شدّه يارسول الله " قالت : " الحياة ياأُمي اخلاص وعدا ذلك لُواكه وبهاته وفطارلغيه ! .. " .
كانت كفها نفّاضتها ... تضع رماد سيجارتها على كفها ، وبعد حين تلتهم الرماد ( تلهم ) ، وتأكل حبات الطين خاوه ... ووالدي لاينفك يعنفها .... لكنها تقول : - " احبه موبيدي ... احبه أكثر من الفستق " ويبدو لي انها هي وجدتي قد ماتتا بمرض سرطان الدم والسبب ربما الأطيان +القهر(السُكُم ).
جدتي رحمها الله تحب خطابات جمال عبد الناصر في انطلاقته الاولى ، وكانت على شرف الخطاب تسكر بكيس طين + حزمة مزبّن ابو الصالنصة .
أما والدتي فلم تكن تفهم بالسياسة وهي مخواف أول باب . وكان والدي يقول : " انت اكبر خرنكعية ( خوافه ) على الكرة الارضية " " بابا امك تخاف من خيالهه ! من الظلام ، من البيت الخالي ، من الشرطة ، من البوتاز ، من الطرقات وحتى من شخاط رحلو ! وماتقبل احجي كلمتين على الحكومة . تقول : - الريسز والسياسة خراب بيوت . وكلما امازحها قائلا : ( كأن القيود على معصميه ..... مفاتيح مستقبل زاهرِ ) تنطيني اذن الطرشه ! .
لكنها رغم ذلك الجهل السياسي فقد قالت كلمتها الخالدة والتاريخية قبل غورباتشوف بعشرين عاما . كيف ؟ قلت لها انا قادم لوداعك الوداع الأخير ! لأني اغادر العراق غدا ... بكت وظلت تبكي .... وأخيرا قالت لي بعيون حمراء من كثرة الدمع : - " يُمّه الشي اللي اتفكر بيه لتعتقد ايصير ... من أهد ( عهد ) فهد ماصار ولن يصير " ! .. أي فال نحس هذا ياأُمي ؟ ... يالخيبة العمر ... خيبة بقيت تؤرقني وتخيفني مثل ثعبان ملتف تحت وسادة .
كانت أُمي تعاني من فقر الدم ولذلك كانت تأكل بكثرة ( ترمرم ) وهي تؤثر العافية ... وكان أبي يتطلع اليها متهكما فيقول " اجترّي وافترّي " .... وهي لكثرة خصامها معه ونكدها جراء تأخره ليلا خارج البيت ( وميندره وين كان يتزغول)
كانت تدعو من الله قائلة " ان شاء الله تركض والعشه خبّاز لو كوك الله " .
عندما طلقها الوالد ، كان صداقها (40 دينارا ) – عام 1959 – وقبضتها هي بالأقساط .. كل شهر ( دينار ونص ) وذهبت لتعيش في بيت آخر .قلت ممازحا " الله ربج ... محمد نبيّج ... شتردين بعد .... خلصت ِ من خالتج ام ناظم ... ! " فنقهقه بدلا من ان نبكي للفراق ! .
كانت سعيدة نوعاما ، بل أحيانا ، مع تلك العائلة ( بيت خالها ) ومع زوجها الشاب ذي العينين الخضراوين المرقطتين بنقاط سود هما الحسن والوسامة التي تفك المصلوب من عمود صلبه ! الشفاعة يامحمد . ولو كانت أُمي مخرجة سينمائية لأخرجت رومانس العاشقين . ولو كانت شاعرة لقالت قبل بدر شاكر السياب " عيناك غابتا جهنم " ! بقينا نعيش لوحدنا – أخي الصغير وأنا - . كانت كل أحاديثها صائبة مائة بالمائة .... عدا شئ واحد أخفقت حبيبتنا الراحلة به ولم تفلح للأسف الشديد في تطبيقه ... كانت تؤمن بالمثل العراقي القائل ... " للمرأة في بيتها سبع زوايا " اذا ضُربت في زاوية لاذت بالاخرى واذا رُكلت في الاخرى لاذت بالزاوية الثالثة وهكذا ... وعلى سبيل الذكرى والمثال فان هذا الصليب السباعي كانت تحمله امرأة من منطقة الكرنتينة كنا نراها معا وكل سكنة البيت حيث تجرجر نفسها من تحت ضربات قبضة زوجها وهي ملطخة بدماء الغزال لتلوذ بألف زاوية في البيت ، كل ذلك من أجل اولادها وبناتها العديدين في الحجرات . النغمة السائدة في البيت هي البكاء والصراخ ! . كل الصباحات وكل الليالي ( الحديث عام 57 ) تشهد على جريمة الهيمنة الرجولية في 99بالمائة من بيوت العراقيين ولايوجد قانون ضد الضرب . الضرب والاهانة زاد يومي تعتاده وتبتلعه اغلب العراقيّات واطفالهن على الماشي . كنت أقف مذهولا ومرعوبا ازاء ما اشاهد من فيلم عراقي – هندي مشترك تدور احداثه أمامي ، كل يوم تقريبا وامي تؤكد لي كلما سألتها لائذا بعبائتها ومستفسرا ( ليش ماما ؟ ليش ماتنهزم أُم ( ......) وتترك هذا الوحش ؟ ... كانت في كل مرة تؤكد على الزوايا السبع ! .
للأسف ان امي وجراء ماحدث ( وللبيوت أسرار ) لم تعتصم بحبل كلماتها ... ! وهذا الضعف في الموقف ربما ورثته انا الآخر عنها اذ لا ألتزم احيانا وحرفيا بقراراتي مع نفسي ، أقول ذلك وانا واثق بأني لم انل بازدواجيّتي السيئة من أي انسان على البسيطة بقدر ما آذيت نفسي وأسأت لها .... امي ! يالها من كيان ورقي خائب الحظ .... لم تستطع تجريب زاويتين على الأقل ! لم تفكر مليا بأن الزوايا الاخرى التي هربت منها ، هي الملاذ اليتيم بالنسبة لنا . في تلك الزوايا حيث لم تكن هي ، كلكلت شتاءات قاسية على بيتنا المكفهر وحيث طاح ولمئات المرات غطاء عن جسد طفولي نائم في هزيع ليلة باردة ... او رموش طفولية حدّقت في الظلام بحثا عن كأس ماء لشفاه ظمآى وعشرات بل مئات الحالات من الحاجة الماسة الى يد حنون ، كل ذلك حدث في غياب أُم لاعودة لها ....... وانطفأ السراج .
لقد كانت مغادرتها هربا من جحيم والدي العراقوي الكلكامشي العنفوي ! الشامخ المتجبر ، الرجولي الفحولي الهيليني المحطم المهشم المدمر .. الخ من اسماء القسر المتوارث فينا . والدي العفريت الذي كان يضربها بكثرة ، ضربا مبرحا ، يتلذذ بايذائها ويدميها ادماءا ، ويدبغ جسدها بالورم ، دمها على حمرة شفتها ، وكحلتها في مسيل دمعها ... لقد غادرت .... واعطيها ربما الحق في ذلك كما اعطي الحق لكل طائر مهاجر او جريح .
هناك في مدينة الحرية ، سكنت في حجرة للايجار وزوجها العامل .... وفي الظهيرة الساكنة كانت صديقتها من العوائل المؤجرة اللواتي يعج بهن البيت ، كانت تمزح معها ودرجة الحرارة قرابة الخمسين فتناديها : " أُم هشام .... الدنيا حارة ... اذا ماعندج مهفه ( مروحة ) افتحي الراديون خلي يطب عليج هوه بارد ! " .
نعم لقد جاعت وعانت العوز والفاقة ، لكنها لو بقيت مع زوجها الأول لتحملت الظلم والجور والاستبداد والضرب والاهانة مع لقمة عيش موفورة .
- لو بقيت مع والدي أما كان أفضل لك من الجوع
والعازة ؟
- لاياوليدي جوع بسلام أفضل من موت بطعام !
سلاما عليها يوم هاجرت الى منفاها الأمين في بيت الجوع – منفى مدينة الحرية – ويوم ماتت في عام 1986 بعد سبع سنوات من اغترابي الشخصي ... وسلاما عليهن اذ هاجرن اكواما وآلافا ... وعانين الحنين ووجع الأشواق الى بيتنا الراتع بين نهرين .... سلاما عليهن وهن ينتشرن في العواصم ويكابدن أفدح الضياع .... وأسنى الشموع لطريقهن .

* كتب النص في كوبنهاغن - 1999



#خلدون_جاويد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة ارسطاطاليس الى حضرة الرئيس
- خطوتان على القمة
- واحد وسبعين وردة
- هل يقوى العراق على ( فلسفة التعدد ) ؟
- ماتت سيدة المقام !
- هل لشاعر معمم أن يتغزل ؟ وان يتماشى مع التطور ؟ ويؤمن بالديم ...
- جاك بريفير وقصيدة الشعب
- تذكّر الأشجان في حضرة غانم بابان
- ادعاء دين واداء مُشين
- النظرية السامية والواقعية الدامية
- كونانبايف شاعر التراث الطليعي
- الحب وفقا لماركس
- العراقيون وأدب الرسائل العاشقة - عبد الغني الخليلي نموذجا
- هل ستبقى ليلى بلا ذئب ؟
- اللآقاعدة الفكرية في العراق ستكون هي القاعدة الذهبية
- الشاعربدر شاكر السياب .... هل هو من جماعة القاعدة ؟!
- الجواهري روح العراق وعنفوانه الفكري والعاطفي ...هل سيعمم شعر ...
- الموسيقى باعتبارها نوعا من السجن
- كتابات في الحرية ألمعية الأديب في كسر القاعدة والمسلّمات
- اوروك والتاو الصيني والآخرون


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خلدون جاويد - شمعة ذكرى الى أم عراقية ...