أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - الروح لا تروح















المزيد.....

الروح لا تروح


عادل الامين


الحوار المتمدن-العدد: 4100 - 2013 / 5 / 22 - 13:21
المحور: الادب والفن
    


عندما جاءني هذا الخبر الجلل عبر التلغراف بان أخي الأكبر حسن ارتكب جريمة قتل في انداية بت بعشوم في بلدتنا النائية في أقصى الشمال ، نزل علي كالصاعقة،أخي حسن الذي تكفل برعايتنا بعد وفاة الوالد منذ أمد بعيد،أخي الذي دفعني لدراسة القانون في جامعة الخرطوم وتعهدني برعياته حتى أضحيت قاضي محكمة عليا،يرتكب جريمة قتل ، بهذه البساطة ودون دوافع حقيقية،يذبح رجل في الانداية من الوريد إلى الوريد بعد أن يسدد له خمس طعنات نافذة في القلب ،جريمة قتل من الدرجة الأولى ،لن ينجوا من الإعدام..دارت هذه الأفكار السوداء في عقلي المجهد وانا اقلب أوراق القضية أمامي في طريقي لزيارته في سجن المدينة..
كان ينتظرني بهدؤه الحزين ونظرة الشعور بالذنب التي لم تفارق عينيه منذ أن كنا صغار في البلدة..نهض وسلم علي بالأحضان وجلست قبالته وحدقت في عينيه مليا وانبريت
- حسن..أنا أخوك ولست قاضي محكمة عليا ،أصدقني القول ودعك من الإفادات المشوشة وغير المنطقية التي أدليت بها في كل مراحل التحقيق بأنك قتلت رجل لا تعرفه لأنه سبك وأهانك على الملا وبسكينك التي تحملها منذ عقود ولم نراك تذبح بها حتى خروف العيد...أنت لم تقتل الرجل..وقلبي أيضا يخبرني بذلك وأنا الأثير عندك دون سائر الأخوان والأخوات وأنت الذي دفعتني لدراسة القانون..أنت لا ترتكب جريمة بهذا الغباء والتهور... أليس كذلك ؟!
حدق في حسن مليا وتنهد وردد كلمات غريبة بصوت هامس يقطر ندما "الروح ما بتروح يا احمد" وأردف
- أنا لم اقتل الرجل..ولا اعرفه حتى..كنت اجلس في الركن اشرب نصيبي من المريسة وسكيني معلقة في مسمار جواري..وهم يتنازعون ..وهؤلاء أصلاً يعملون في سوق البهائم ويأتون لتصفية حساباتهم في الانداية، كان صياحهم المزعج مع امتلاء مثانتي بالبول السبب الأساسي الذي دفعني للخروج إلى الخور لأتبول وكما ترى..أن الخور يبعد مائة متر والتبول يستغرق وقتا بعد احتساء صفيحة مريسة ..سمعت الجلبة والصياح يزداد وشاهدتهم يتراكضون هاربين..قفلت راجعاً ووجدت سكيني الملوثة بالدم ملقاة عن الباب حملتها ودخلت ، لأجد رجل يتخبط في دمائه وخرجت صاحبة الانداية تولول..ورأت السكين في يدي والرجل عند قدمي يحتضر وأدلت بشهادتها على ضوء ما رأت ..هذا هو كل ما في الأمر.لم اقتله يا أخي وأنا اشهد لك أنت فقط..
بدت لي فعلا أنها القصة الحقيقية وهذا أخي وإنا اعرفه جيدا لا يكذب ابداُ ولكن لماذا اعترف بقتله الرجل في كل محاضر التحقيق؟! ،ولماذا يعترف أخي بقتل رجل لا يعرفه؟!..تملكني غضب شديد
- لماذا إذاً تريد تحمل جريمة قتل لم تقترفها..لماذا تريد أن تموت هكذا؟؟
- الروح ما بتروح يا اخي
قال ذلك وتهدج صوته،انبريت له
- لماذا تردد هذا المثل بين الفينة والفينة ..ما علاقة هذا بالأمر الذي نحن بصدده الآن
- نعم أنا لم اقتل الرجل والله على ما أقول شهيد ولكن هل تذكر يا أخي قبل عشرين عاما تلك العروس التي جاءت مع زوجها الغريب تقيم في بلدتنا واختفت وقيل خطفها التمساح وفقد زوجها عقله وجلس يناجيها جوار الشاطي سنين طوال؟!!
- المرحومة محاسن وزوجها الطاهر !!
أربكني الأمر لوهلة وحدقت في أخي مليا ولم يسعفني طويلا وألقى باعتراف زلزل كياني
- أنا قتلتها بنفس هذه السكين اللعينة يا أخي ونهبت حليها وذهبها ودفنتها جوار الطاحونة القديمة..ومنذ ذلك اليوم وأنا أعيش جحيم حقيقي..دفعني لمعاقرة الخمر..كل ما اغمض عيني أراها تمسك بخناقي وتزعق في وجهي "لماذا قتلتني؟"و..
صعقتني الدهشة وأطلقت سيال من التداعيات والشجون وبدأت الحقيقة تتجلى أمامي
- و..ماذا .؟؟.هل اغتصبتها أيضا ؟!!
قفز كالملسوع وكاد يصفعني وانبرى لي غاضبا
- معاذ الله..لست بهذه الوضاعة..فقط كان ينقصني المال لشراء التراكتور من البنك الزراعي لفلاحة أرضنا وكما ترى أن موسم زراعة البصل آن ذاك هو الذي جعلني من الأثرياء، كنت صغيرا وفي ذلك العمر لا يقدر الإنسان فداحة ارتكاب الجريمة والأمور التي تقف أمام أحلامه المشروعة..
أشعرني بالذنب لتسرعي فأردفت مهدئا خواطره..
- آسف جدا يا أخي الحبيب..أنت أسمى من ذلك بكثير..نحن لا نعرف الزنا والاغتصاب هذا النوع من الجرائم المشينة..
بعد كل هذه السنين الطويلة التي تصل إلى عقدين ،حرر اعتراف أخي حسن كل المواجع واستطاع أن يجد ايجابيات لأشياء كثيرة استعصت على فهمي تماما آن ذاك...
" ظل أخي يلي عناية خاصة بزوج المغدروة محاسن الرجل الغريب الطاهر الذي فقد عقله واتخذ ظلال الأشجار مسكنا وظل ينوح عليها عند الشاطئ..كان يجبرنا أخي نحن أخوانه وأبناءه بان نمسك الطاهر بالقوة ونأتي به إلى المنزل بأسماله البالية..كان أخي يقوم بحلاقة شعره وتحميمه وإلباسه ملابس نظيفة بنفسه..لازلت اذكر أن الرجل المختل والمفطور القلب يسب أخي بأقذع الألفاظ عندما يدخل الصابون الحارق في عينيه "أنت داير عندي شنو يا لوطي ؟!!..أنت أمي !!أنت أبوي!! تحميني ليه ؟!!.. ما عايز استحمى ..فكني انعل دينك !!"ويركله بقسوة ،وأخي يحتمل ذلك في صبر جميل ..واذكر أن ابن أخي مرة استاء من الطاهر عندما كنا نمسك به ونقيده لإحضاره إلى البيت..بعد أن ركله في مكان حساس، فلطمه في انفه وأسال دمه..غضب حسن وحمل سوطه وسكب جام غضبه علينا وعلى ابنه المسكين..وبعد قمنا بتقيد الطاهر في العمود،طفق حسن يمسح الدماء عن انفه في حنو بالغ..والرجل ويرغي ويزبد.."
حدقت في وجه أخي الجليل الذي كساه الارتياح النبيل بعد أن أدلى باعتراف خطير انزل عن كاهله إصر انقض ظهر ه سنينا عددا، وفات علينا إدراكه ورعاية أخي المستمرة والغربية للطاهر دون سائر أثرياء البلدة أمام ناظرنا . ويثير حفيظتنا ،كنا تحت السخرة الحميدة ، مجبرين أن نحمل للطاهر الطعام عند الشاطئ،عند مرسى البواخر النيلية..ونتركه يأكل الطعام حتى أخر قطعة خبز ويقذفنا بالأواني الفارغة ،ثم يعود لنواحه المؤلم ،يناجي زوجته الراحلة محاسن التي خطفها التمساح وهي تتجول ليلا عند الشاطئ .. ولم يعثر لها على اثر ."
- إذا أنت كنت تعتني بالطاهر لهذا السبب..
- نعم فطرت قلبه المسكين..ليته يسامحني الآن..وأتمنى ان يطهرني الموت الآن وأقابل ربي بقلب سليم..
نظرت إلى وجه أخي الطيب وتداعت شجون من نوع خاص
" في يوم جاءت الباخرة كربكان من دنقلا تقل الحجيج في طريقها إلى كريمة ثم عطبرة إلى بورتسودان بالقطار في طريقهم إلى الأراضي المقدسة ، كان الطاهر يجلس ساهما في ظل شجرة اللبخة الظليلة يحدق في الأفق البعيد..نزل احد الحجاج الدراويش من أبناء جبال النوبة الذين يقيمون معنا في الشمال بملابسه الخضراء والمسبحة التي تتلوى حول عنقه وتقدم نحو الرجل المجنون دون وجل وجلس قبالته ووضع يده على رأسه واخذ يتمتم كلمات غريبة بلغة أهل الجبال ونحن نرقب عن كثب أن ينفجر الطاهر كالديناميت ويشمت بالرجل الغريب ولدهشتنا حدث العكس تماما..احتضن الطاهر الرجل وبكى بحرقة ونهض ممسكا بيد الرجل وعاد معه إلى الباخرة المؤذنة بالرحيل..تملكنا الرعب الشديد،كيف نواجه أخي برحيل الطاهر مع حجيج الباخرة..وعدنا إلى البيت نتخافت..نقدم رجل ونؤخر الأخرى ولكن ابن أخي الذي عانى الأمرين من الطاهر ،انبرى في تشفي قائلا..
- أبي.لقد رحل الطاهر إلى الأراضي المقدسة..أخذه احد حجاج دنقلا معه..
ولدهشتنا..انبسطت أساريره وأضاءت وجهه ابتسامة نادرة..
- حسنا فعل.. ..الدنيا مقام غريب يا أولادي أكرموا الغرباء، لقد.جاء الطاهر غريبا ومضى غريبا كسرا حزينا مفطور الفؤاد ، نرجوا أن يغفر لنا ما فعلناه به ويدعو لنا عند بيت الله الحرام...
انتهى وقت الزيارة ،نهضت مودعا أخي بحرارة.. وخرجت اجر أقدامي إلى الخارج ،تحت ثقل الصدمة والأفكار التي اجتاحت كياني...والشعور البغيض الذي لم يجترحني طيلة عملي في وزارة العدل السودانية.. وأنا اصدر إحكامي الرادعة وفقا للقرائن والأدلة وإفادة الشهود ، دون الانتباه للعدالة العليا المهيمنة على كل ذرة في الكون بالقسط والقسطاس... والقضاء والقدر...
******
جئت مع لفيف من أهلي المكلومين إلى محطة السكة الحديد لوداع أخي حسن الأخير ، الذي سيرحل بالقطار إلى السجن المركزي في الخرطوم لتنفيذ الحكم..كان يرفل في قيوده ويبدو ساكن النفس..ظلت الزغاريد والأهازيج المشجعة تعكر صفو المكان، اخذ يحدق إلي بعينيه النافذتين وغير آبه بأسرته وبقية أفراد العائلة..الذين غمرت أعينهم الدموع ، وهو يحدق في وجهي والقطار يتحرك مبتعدا يتلوى، اختفت كل مشاعر الذنب التي كانت تكسو وجهه النبيل ..وحل مكانها صفاء وسكينة ،لا تطل إلا من وجه إنسان..غير مجبول على ارتكاب جرائم مشينة أو تعايش معها ،كجريمة القتل العمد والقتل غير المبرر..نفس ذكية أرادت أن يطهرها الموت من دنس الحياة ومباهجها الزائفة وينقيها كالثوب الأبيض الذي يرتدي جل أهلنا في الشمال...عند جبل البركل العظيم، والحكمة المتجلية التي حفظتها الصخور وحملتها الصدور عبر العصور،وحضارة كوش العظيمة"
إنني لا أكذب
ولا اعتدي على ملكية غيري
ولا ارتكب الخطيئة
وقلبي ينفطر لمعاناة الفقراء
إنني لا اقتل شخصا دون جرم يستحق القتل
ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعي
ولا أدفع بخادم استجار ني إلى صاحبه
ولا أعاشر امرأة متزوجة
ولا انطق بحكم دون سند
ولا انصب الشراك للطيور المقدسة
أو اقتل حيوانا" مقدسا"
خليوت بعانخي-معبد البركل"
كاتب من السودان مقيم في اليمن



#عادل_الامين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيرة مدينة:الشيخ حسن ود وحسونة
- السكة الحديد والثورة الاجتماعية في اليمن
- الاشتراكية السودانية
- حدث في معرة النعمان
- الاقلية الانتهازية التي تحكم بلدين
- العهر السياسي، وخصاء الأنظمة قراءة في رواية (الفحل) د/ إبراه ...
- سيرة مدينة/اخر كلمات الشاعر سيد احمد الحردلو
- رواية الفحل للحسن محمد سعيد..العلاج بالصدمة..
- ايقونات يمنية
- هكذا تكلم المفكر السوداني محمود محمد طه
- ام احمد
- الاصر..!!
- السودان في متاهته
- رواية ظلمة يائيل...اتكاءة على الماضي واستشراف للمستقبل
- السودان اضحى رجل افريقيا المعاق
- الربيع المصري الى اين ؟!!
- سيرة مدينة:ملالا الباكستانية وسكينة السودانية
- انتخابات امريكا والطريق الطويل الى الامم الحرة
- التصالح مع الهوية السودانية هو مفتاح العبور للقرن21
- الاخوان المسلمين ومازق الشريعة في السودان


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - الروح لا تروح