أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بلال عوض سلامة - الثقافة المدنية: حصار الثقافة وغياب المدينة في فلسطين















المزيد.....



الثقافة المدنية: حصار الثقافة وغياب المدينة في فلسطين


بلال عوض سلامة
محاضر وباحث اجتماعي

(Bilal Awad Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 4098 - 2013 / 5 / 20 - 17:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


جدير بالذكر التنويه هنا إلى قضية أساسية في مجال البحث، وهي أنه لا يمكن دراسة الثقافة المدنية(civic culture) وسماتها بمعزل عن الظروف السياسية والتاريخية والثقافية والاقتصادية التي اختبرها المجتمع الفلسطيني منذ منتصف القرن الماضي حتى اللحظة، فقد كانت لعملية التطهير العرقي عام (1948) أثاراً مدمرة على المجتمع الفلسطيني وسماته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، حيث انه وكما سيتم توضيحه لاحقاً، أن المجتمع الفلسطيني لم يفقد أرضه وثرواته فحسب، وإنما فقد أهم مدنه وتجمعاته الحضارية (civilization) والمدنية بمؤسساتها ونخبها، والتي شكلت تاريخياً أهم المراكز التي استقطبت استثمارات البرجوازية الفلسطينية الناشئة، وللعمالة الفائضة عن متطلبات الإنتاج الزراعي في القرى الفلسطينية، ومن جانب آخر تأثرت وصبغت جميع معطيات ومناشط حياة الفلسطيني اليومية بوجود الاحتلال، وكيفية التعامل والتكيف مع ذلك.

في مقابل ذلك أدى نشوء الدولة الإسرائيلية على حساب احتلال المدن الساحلية الفلسطينية الأكثر تطوراً (يافا وحيفا وعكا واللد والرملة ...الخ) من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وتمزيق القدس إلى شطرين، وهذا بدوره أدى إلى تشرذم التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الفلسطيني، تزامن ذلك مع توقف نمو المدن الجبلية (الداخلية) وتراجع العمل الزراعي، وتم تهميش مدن الضفة الغربية بعدما تم إلحاقها بالأردن، وقطاع غزة تحت الحكم المصري. وأدت حركة اللجوء الداخلية(إلى الضفة وقطاع غزة) عام 1948 إلى بروز تحديات وإشكاليات للمدن والتجمعات السكنية التي استوعبت ما يقارب 65% من اللاجئين، تمظهرت بجوانب: ديموغرافية: من خلال مخيمات اللاجئين التي نشأت كمدن الصفيح بجوار المدن والبلدات الفلسطينية، واقتصادية: تمثل ذلك في حجم البطالة، واجتماعية: من حيث المنظور الثقافي والقيمي للاجئين الفلسطينيين اللذين كان معظمهم من القرى الفلسطينية، ولجوء معظم مدن الساحل إلى سوريا ولبنان.

نشطت بعض المدن الداخلية مثل نابلس والخليل في الفترة الممتدة ما بين (1948-1967) بشكل ثانوي نتيجة لوجود شريحة من الطبقة المتوسطة، ولجوء شريحة من الطبقة المتوسطة الجديدة من مدن الساحل إلى المدن الداخلية مثل رام الله وبيت لحم والقدس والذين جلبوا معهم مهارات حرفية وسلوكيات مدنية((civic ساهمت في تعزيز الملامح المدنية لبعض المدن، ولكن في مقابل ذلك كان جل اهتمام الحكومة الأردنية يتركز على تحويل مدينة عمان إلى متربول سياسي وإداري وتجاري، وكان ذلك على حساب المدن الفلسطينية، والتي استثنيت من هذه السياسة.

تعرض المجتمع الفلسطيني إلى مرحلة تفتيت وتصدع مرة أخرى بعد قيام الاحتلال الإسرائيلي باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام (1967)، ليتعرض إلى موجة جديدة من الهجرة في اتجاه الضفة الشرقية (الأردن) ودول عربية أخرى، هذه الهجرة ألحقت الضرر بمختلف الفئات الاجتماعية(social categories) تسببت في حرمان المجتمع من طاقات مهنية واقتصادية هامة. إضافة لذلك فرض الاحتلال سياسة عسكرية على التجمعات السكانية الفلسطينية الحضرية والريفية في الضفة والقطاع، تمثلت بسياسة التطويق وقطع طرق الاتصال ما بين المدن والقرى خصوصاً مع بداية الانتفاضة الأولى عام(1987)، ومصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات الإسرائيلية عليها، مما حد من القدرة التوسعية للمدن الفلسطينية، وإلحاق السوق الفلسطيني والبنية الاقتصادية بالسوق الإسرائيلي.

شكل عام (1993) مفصلاً جديداً في تطور المجتمع الفلسطيني، حيث انه وبعد قيام السلطة الوطنية على بعض المدن الفلسطينية شكلت حالة من الاستقرار، نشطت حينها المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في بناء وتطوير المجتمع الفلسطيني على كافة الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، باعتبار ان اللحظة التاريخية قد حانت للمجتمع الفلسطيني لبناء دولة ديمقراطية على أرضه، وبالفعل تم تلمس بعض التغيرات التي طالت البنية القيمية والثقافية للمجتمع الفلسطيني، وبزور درجة ما من الحياة المدنية (civic ) في بعض المدن الفلسطينية، أبرزها مدينة رام الله وغزة، ونشطت شريحة من الطبقة المتوسطة التي ساهمت في تمدين المجتمع، إلى جانب تمركز المؤسسات الحكومية والمدينة فيها.

لم يستمر الحال على ما هو، حيث نتيجة لتعثر المفاوضات الفلسطينية/ الإسرائيلية أدت إلى اندلاع الانتفاضة الثانية عام (2000)، التي دمر فيها المعالم السيادية للسمات الدولانية للمجتمع الفلسطيني، ومحاصرة وتطويق وعزل المدن الفلسطينية في كانتوهات، أثرت سلباً على الانجازات التي استطاع المجتمع الفلسطيني أن يحققها في مرحلة الاستقرار السياسي، من حيث الجوانب التعليمية والثقافية والاجتماعية والمدنية.

هذه الماعة سريعة ومكثفة حول السياق التاريخي الذي مر به المجتمع الفلسطيني، ومن هنا وجد الباحث ضرورة توضيحه، حتى يتسنى معالجة الفصل الثاني من البحث، حيث سيتم التركيز أربعة مداخل رئيسة وهي:


المدينة والمدنية(civic)
في معالجتنا لهذا المحور نتعامل مع المدينة والمدنية باعتبار الأخيرة روح ومضمون الأولى، وتختلف الحالة المدنية من مدينة إلى أخرى باعتبار أنه لا يوجد نموذجاً واحداً، وإنما تتنوع وتختلف فيما بينها (بركات،2000: ص237) إن كان ذلك على صعيد الدولة الواحدة أو تعداها في مقارنتها مع الدول الأخرى.

يشير فؤاد الخوري (1980: ص 110) إلى أن كلمة المدينة في اللغة العربية مشتق من الفعل الأصلي (دان) والتي تعني قاضي أو حاكم، حيث أن المدينة هي المكان الذي يعنى بـ الحكم والقضاء، في مقابل ذلك تحلل دراسة (Hourani,1991) نشوء وتطور المدن حينما ينتج الريف فائضاً من الإنتاج الزراعي، وينصرف أهل المدن إلى الاتجار بالسلع والخدمات الأخرى التي يحتاج إليها المجتمع، وبذلك يلخص حليم بركات(2000) أن المدينة إضافة إلى كونها مركز الحكم والنفوذ والقوة، هي أيضاً مركز التجارة المحلية والعالمية، ومركز التعليم والثقافة، ومراكز العبادة، ومراكز الإدارات والفنون والصناعات والحرف، وبالتالي تحدد المدينة بطبيعة وظائفها التي تشكل مركزاً للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإدارية والترفيهية، وليس بحجمها. باعتبارها المكان الذي يحتوي على الطبقات الحاكمة والمهنية والعلماء والمحاميين والسياسيين والتجار والصناع. وهي التنوع والتشعب في الأحياء، كل ذلك يساعد على تشكيل ثقافة حضارية متطورة تشكل نواة الثقافة السائدة.

ومن جانب آخر تعالج دراسة (Mercier,2009) أهمية السوق وعملية التمدن(Urbanization) في العالم العربي، حيث يقوم الباحث باعتبار السوق كمجال عام (common sphere) ، والذي يختلف عن الفضاء العام(public sphere) لدى هابرماس(Habermas)، باعتباره المكان المشترك الذي تتم فيه المعاملات على أساس عقلاني وحيادي، من حيث توفر أرضية مشتركة للاختلاط الطائفي والديني، وأيضاً كمجال ملتقى ما بين الريف والمدن، حيث تتقلص فيه التمايزات القائمة على النوع الاجتماعي أو الطبقة، هذه العملية يتمخض عنها حالة من التبادل الثقافي والاحتكاك مع الآخر، وتذوب فيه كل الفروقات ، وهذا ما دفع بـ Poter إلى اعتبار السوق المؤسسة الوحيدة العلمانية بامتياز في الشرق الأدنى، وهذا ما ينطبق على السوق المركزي في مدينة بيت لحم، حيث يعد التجمع المركزي لكل السكان مسيحيون ومسلمون، أغنياء وفقراء، من القرى والمدن، في حيث تفتقد مدينة الخليل لهذا الحيز.


وفي تطرقه لموضوعة المدن اعتبر المؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون(1332-1406م) أن أهل الحضر هم الذين يسكنون في المدن، وبالتالي نستطيع القول أن كل من يسكن بالمدينة يتصف بصفات ومظاهر وأسلوب معيشي محدد. فمن حيث المظاهر التي يحددها لأهل الحضر بما يأتي: " أنهم تعاونوا في الزاد على الضرورة، واستكثروا من القوت والملابس والتأنق"...."ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع، ومنهم من ينتحل التجارة، ومن حيث آليات الضبط الاجتماعي والسياسي ففي المدن "فعدوان بعضهم على بعض تدفعه الحكام والدولة"، وفيما يتعلق بالانتماء فإن أهل المدن ينتمون إلى الوطن " بسبب الاختلاط بالحواضر وفقدان العصبية"(ابن خلدون،1984: ص ص 165-166)، وبذلك نحن أمام حالة متقدمة في التعامل والعيش والتقاليد وبنظرة نحو الحياة تختلف عنها في حالة القرى والبداوة واللتان تحملان عكس ذلك من صفات ومظاهر، على الأقل من الناحية النظرية.

ولكن السؤال المطروح في هذا السياق كيف ولماذا نشأت المدن العربية؟ جرت هنالك محاولات عدة في تصنيف المدن العربية والإسلامية حسب نشوئها، يذكر بركات (2000:ص 238) وجود مدن إسلامية ومدن تجارية ومدن زراعية. ويذهب سليم تماري (2005) إلى تصنيف المدن الفلسطينية إلى مدن الداخل والمدن الساحلية، أما تصنيف فؤاد الخوري(1980: ص ص 110-114)، فأنواع المدن لديه تقسم إلى خمسة أنواع:
• مدن واقعة على الطرق التجارية والقوافل التجارية( مثل: تدمر، البتراء، مكة) ونضيف يافا وحيفا بفلسطين قبل عام 1948.
• مدن المزارات الدينية: وهي مدن خارجة عن نطاق سيطرت الدولة مثل: (نجف، كربلاء، المدينة) ونضيف القدس، الناصرة، بيت لحم.
• المدن الإقطاعية: وهي امتداد لسلطة الدولة وتقع في السهول(مثل: حمص، حماة، طرابلس، الموصل) ونضيف الخليل ونابلس ومنطقة السهول الساحلية.
• مدن الثغور والتي كانت هدفاً للحروب( مثل بغداد، القاهرة) وفي فلسطين القدس.
• المدن الصناعية المنتجة( مثل الكويت، الدوحة، أبو ظبي) وعلى الصعيد الحرفي الخليل ونابلس في فلسطين.

وبهذا نجد أن المدن العربية بشكل عام تشهد تنوعاً شديداً من حيث النشأة والتأسيس، وبالتالي تركت هذه العوامل آثارها على تشكيل نمط الثقافة السائد في المدن مما جعلها متنوعة وشديدة الاختلاف فيما بينها، فمدينة مصر ليست الإسكندرية، ومدينة وغرناطة ليست برشلونة ومدينة رام الله ليست مدينة بيت لحم. ندرك تماماً أن نمط الثقافة بشكل عام في كل دولة يكون لديه سمات محددة تميزه عن باقي الدول الأخرى من الناحية الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية، ولكن لا نستطيع أن نجزم بأن هنالك نمطاً واحداً يميز دولة ايطاليا وبريطانيا أو أمريكا كما ذهبت دراسة كلاً من ((Almond and Verba,1963، فالاختلافات هي بالدرجة وليس بالنوع، وتتضح الاختلافات الثقافية للمدن في داخل الدول نفسها أكثر منها في مقارنتها مع غيرها من الدول الأخرى (Thompson, Ellis,& Wildavsky, 1990).

السمة الرئيسية في معالجة المدن العربية هو وجود أنماط وتقسيمات نفترض أنها ثنائية : مدني وقروي، مدن منفتحة وأخرى منغلقة، مدن حداثية وأخرى تقليدية، أحياء فقيرة وأخرى غنية، وهذا ما عكس نفسه على المدينة بحد ذاتها، لهذا اتصفت بعض المدن إن لم يكن جميعها بوجود ازدواجية المدينة القديمة والمدينة الجديدة، ومما يزيد من حدة الاختلاف وأهميته في جوانب اجتماعية وثقافية مختلفة تتصل بأسلوب ونمط الحياة، إلى جانب ذلك تميز الدول بهيمنة مدينة مركزية واحدة أو اثنتين (بركات،2000: ص244)، ولا تعود أسباب الهيمنة تلك إلى كبر عدد السكان فيها وإنما لاحتكارها الخدمات والأنشطة الثقافية والسياسية والاقتصادية(هلال، 2006).

تتميز الإحياء القديمة أو البلدة القديمة في الدول العربية بشكل عام وبفلسطين بشكل خاص بوجود أحياء تم تشكيلها تاريخياً على أساس حرفي أو عائلي أو طائفي أو ديني مرتبط بشكل أساسي بالإنتاج العائلي(مراد، 1996)، حتى بدا أن هذه الحارات تعيش في شبه عزلة عن الأحياء والحارات الأخرى من حيث تواجد التنظيم الاجتماعي وجميع الخدمات التي يحتاج إليها سكانها. ويرجع تماري (2002) هذه التقسيمات خصوصاً الأحياء المرتبطة بالديانة إلى ما بعد وجود الانتداب البريطاني في فلسطين، حيث لم تعرف مدينة القدس بحي اليهود أو المسيحيين أو المسلمين فيما قبل ذلك.


الجانب المهم في سياق البحث هو ارتباط المدينة بالمفهوم السوسيولوجي بالحداثة وما يتمخض عنها من أسلوب حياة يتناسب مع الشرائح والطبقات الاجتماعية القاطنة بالمدينة ودورها ودرجة وعيها، وتعكس دراسة (تماري،2005) هذا الجانب في تناوله للحداثة المقدسية التي عرفتها المدينة في أواخر الفترة العثمانية في فلسطين وأبان الانتداب البريطاني، باعتبار أنها نتائج وتفاعل الطبقات الاجتماعية الفلسطينية كجزء أصيل من تراثه وثقافته وانفتاح المدن الفلسطينية على السوق العالمية خصوصاً تلك المدن التي تقع على الساحل.

يعالج تماري المدن الفلسطينية ما قبل الانتداب البريطاني تحت مصطلحين أساسين: ثقافة مدن الجبل - وهي ثقافة الريف الفلسطيني- في مقابل ثقافة مدن الساحل، حيث أن الأخيرة هي المنفذ التجاري لاقتصاديات المحليات والمناطق الجغرافية في الداخل، وهذا بدوره أدى إلى نشوء طبقة تجارية وطبقة متوسطة نتيجة للتركيبة الاقتصادية المنفتحة على العالم عن طريق التجارة البحرية. إن التكوينة الاقتصادية الناشئة جلبت معها ثقافة وقيم ومسلكيات جديدة مرتبطة بالبعد الطبقي للطبقات اللاعبة الدور الرئيس فيها خصوصاً في مدينة يافا وعكا(تماري،2005: ص20)، في حين بقيت المدن الداخلية على سبيل المثال (القدس، بيت لحم، والخليل) كمدن مهمة للحركة السياحية وخصوصاً للحجاج القادمين من أوروبا القادمين من ميناء يافا ومن الدول العربية.

وفي دراسة للمؤرخ التركي أيوب أوزفيران(كما ورد في دراسة تماري 2005:ص 21) حول مدن البحر المتوسط وخصوصاً بيروت، وجدها باعتبارها مفاصل صانعة للحداثة(modernity) وبلورة القوميات المحلية، حيث يرجع أسباب عملية التحديث والعصرنة "للإبعاد الدينية والثقافية المحلية، وليست نتاج أسباب اقتصادية، حيث استطاعت الطبقات التجارية استحداث إصلاحات إدارية عصرية انعكست في حيوية المجالس البلدية لهذه المدن بسبب غياب طبقة الأشراف والتجمعات الحرفية التقليدية"، ويستثني تماري مدينة القدس ودمشق والتي تميزت بوجود طبقة من الأشراف والتجمعات الحرفية التقليدية - والتي تتقاطع بصورة ما مع مدينة الخليل- وبهذا يفسر انتصار العصرنة(Modernistic) والحداثة في بيروت على سبيل المثال وفشلها في دمشق.

ويختلف كلاً من نصر ودوبار (1982:ص 70) مع ما طرح سابقاً، حيث يرون ان البرجوازية اللبنانية بغالبيتها المسيحية استطاعت احتكار القطاع التجاري في فترة الانتداب الفرنسي، مما ساعد على تبلور شريحة رأسمالية تركزت في المدن وخصوصاً بيروت، وينوه (الشريف،1985:ص 16) إلى دور الحركة النشطة على المستوى التجاري الذي ساعد على نمو المدن التجارية في مدن الساحل بفلسطين(غزة، ويافا، وحيفا، وعكا)، وعلى توطيد مواقع البرجوازية الكمبرادورية التي كانت تلعب دور الوسيط ما بين الشركات الأوروبية والسوق المحلي. الذين تولوا مهمة تكييف الإنتاج المحلي وفقاً لمتطلبات السوق الأوروبية. معظم هذه الشريحة كانت من أبناء الأسر المسيحية واليهودية الذين استأثروا التجارة الخارجية (شولش،1978:ص ص 208-217) في حين استأثر المسلمين بملكية الأراضي(محمد مراد،1996:ص 117).

في سياق ما ذكر نفسر أن مدينة بيت لحم تميزت عن غيرها من مدن الداخل من حيث انفتاحها على العالم الخارجي نتيجة الإصلاحات العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، وتأثرها بطبيعة التنظيم الإداري والمهني، والمدى الواسع الذي استطاعت فيه الشرائح المهنية والتجارية والإرساليات التبشيرية أن تدخل أنماط ومسلكيات حياة منفتحة عبر مؤسسات العمل المدني والديني والتعليمي والمهني ، بالرغم من وجود شرائح اجتماعية وسياسية تشكل أعيان الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين، في مقابل ذلك تميزت رام الله عنها بوجود المسيحيين فيها وبعدم وجود أو تأثير شريحة الأعيان تلك على مجمل وتفاصيل الحياة اليومية للمواطن، أو على الأقل بشكل كبير، وهذا ما يفسر اتسام مدينة رام الله بمظاهر مدنية وحالة حراك ثقافية ووجود طبقة وسطى علمانية فيها تكاد تفتقد إليها معظم المدن الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية (Taraki, 2004). وفيما يتعلق بمدينة الخليل التجارية حيث بقيت فيها العائلية وشريحة الأعيان والجهوية كقوة تتحكم بالأنشطة التجارية وبقيت إدارات البلديات فيها تدار بالشكل التقليدي والعائلي حتى يومنا.

عودة إلى مدن الساحل الفلسطينية يافا وحيفا وعكا - في بداية القرن العشرين- والتي شكلت أكثر المدن انفتاحاً وتمدناً وحداثة وعلمانية بارتباطاتها مع الحركة التجارية المحلية والعالمية، حيث استطاعت يافا على صعيد المثال أن تجني ثروات طائلة ومن ثم توظيفها في مشاريع إنتاجية مثمرة أدت إلى بروز ظاهرة البذخ الاستهلاكي: تمثل في تشييد القصور الفخمة واقتناء السيارات، وانتشار المسارح والمقاهي والنوادي ودور السينما إلى جانب انتشار المطابع والصحف والجرائد، وتشكل الأحزاب السياسية الوطنية والاشتراكية ونقابات العمال(صيقلي، 2003). وتميزت بأنماط معشيتها المدنية المرتبطة بالبنية الطبقية الناشئة التي تمركزت في المدينة مع ربط علاقتها التجارية مع مدن الداخل (القدس ونابلس والخليل...الخ) والتي شكلت مركزاً ومثالاً يتناقض بنيوياً وجوهرياً مع ثقافة المدن الداخلية والتي تميزت بثقافة محافظة وتقليدية، وصل بها الحد إلى حالة من العداء مع مدن الساحل، وهذا فحوى ومضمون بحث تماري(2005) المعنون بـ الجبل ضد البحر.

حالة الاستعداء هذه سببها حالة الاستغلال التي ربطت العلاقة الاقتصادية الإقطاعية ما بين الإقطاعيين وشريحة الكمبرادور من جهة والفلاحين من جهة أخرى، حيث أن تاريخ فلسطين طوال فترة الحكم التركي يشير إلى أن الإقطاعيين كانوا أجانب وليسوا فلسطينيين (عبدالله، 1989) - وإن وجد في بعض المراحل شريحة من أهلها مرتبطة بمصالح مع الحكومات الأجنبية التي توافدت على المنطقة- إلا أن انتهاء هذه العلاقة القائمة على الاستغلال والعداء وتزامن ذلك مع تفتت البنية الاقتصادية شبه الرأسمالية نتيجة النكبة الفلسطينية عام 1948، سيحمل معه هذه العلاقة في تمفصلات اجتماعية ثقافية قائمة على التمييز حتى وقتنا الراهن، فما زال التميز ما بين المدني والقروي واللاجئ قائمة (انظر/ي: هلال، 2006 ؛ تماري،2005 ؛محمد، 2002)، ومن جانب آخر رمزت مدن الساحل إلى ثقافة الانفتاح والحداثة والعلمانية والتحرر التي كان يخشاها قاطني المدن الجبلية الداخلية باعتبار أن هذه الثقافة "منحلة" ولا تمس الثقافة الفلسطينية بعلاقة، عبر عنها في حالة من الاستعداء والكره حتى طالت البحر كرمزية للمكان(locus) التي تأتي من خلاله القيم والثقافة الجديدة، وهذا ما عنى به تماري(2005 :ص17) بـ المقاومة الحزينة المعززة بأخلاقيات دينية صارمة التي منعت الناس بقرار رسمي من قبل فصائل العمل الوطني والإسلامي التمشي أو السباحة في بحر غزة أبان الانتفاضة الأولى (1987-1992) والانتفاضة الثانية عام (2000).

أعتقد أن الخسارة الحقيقة للشعب الفلسطيني في حرب التطهير العرقي عام (1948) ليس خسارة الأرض الفلسطينية، أو المجازر التي اقترفت بحق الشعب في الوجود والحياة فقط، وإنما أيضاً خسارة المدن المركزية والحداثية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط وأهميتها في التطور الطبيعي لواقع ومدنية المجتمع الفلسطيني(محمد، 2002: ص67)، حيث انه لم يتم فقط الاعتداء على الهوية والأرض والإنسان الفلسطيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي وإنما قتل مستقبله وشروط ومتطلبات النمو الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الطبيعي له.

ومن اللافت للعيان أن حركة الهجرة للاجئين الفلسطينيين بكافة شرائحها الطبقية أخذت مناحي مختلفة حسب الموقع، حيث أن لاجئي مدن الساحل حيفا وعكا ويافا بشكل عام نزحوا إلى خارج فلسطين وبالتحديد سوريا، ولبنان، والأردن، واللاجئين من منطقة الوسط: القدس ومحيطها قد لجئوا إلى الضفة الغربية جنين ونابلس ورام الله وبيت لحم أريحا والأردن، أما لاجئي جنوب فلسطين فقد لجئوا إلى الخليل، في حين يشير (Khamaisi, 2006 :p4) إلى أن بعض من لاجئو اللد والرملة ويافا قد هاجرو إلى مدينة رام الله.

وتشير دراسة(Taraki, 2004: p93) إلى أهمية دور الطبقة المتوسطة الذي ساهم تاريخياً في تمدين مدينة رام الله نتيجة الهجرة المسيحية من رام الله خلال القرن الماضي إلى أمريكا الشمالية، والذي ساهم في تحضر المدينة نتيجة الحوالات المالية التي كان يرسلها المغتربين عن الوطن. وتعتبر الباحثة من جانب أخر أن مدينتي رام الله وغزة من أكثر المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة اللتان تأثرتا بهجرة اللاجئين إليها، في حين أن أكبر مدينتين في الضفة الغربية (الخليل ونابلس) لم تستقبل الكثير من اللاجئين، وما يميز مدينة رام الله ومدى محدد مدينتي بيت لحم والقدس هو لجوء طبقة متوسطة حضرية من المسيحيين عام (1948) إلى مدينة رام الله بشكل رئيس وبيت لحم والقدس بشكل ثانوي، معظمهم كانوا من مدن الساحل: الرملة واللد ويافا، هذه الشريحة الحضرية من اللاجئين ساهمت في تشكيل النواة الأساسية للطبقة المتوسطة الحديثة في مدينة رام الله كـ تجار الجملة، أصحاب المحلات التجارية، موظفين حكوميين، أساتذة ومتخصصين.

ما يميز الحقبة التاريخية الممتدة ما بين (1948-1967) للمدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة هو غياب شامل للتواصل الجغرافي فيما بينها، الدولة الإسرائيلية الناشئة احتلت 70% من فلسطين التاريخية، ألحقت الضفة الغربية بالنظام الأردني، في حين الحق قطاع غزة بمصر، حيث فقد الفلسطينيون مدنهم المركزية وعجزوا عن بناء مدن مركزية حضرية في المنطقتين وظل اعتمادهم على المدن الرئيسة في مصر والأردن(Khamaisi,2006:p2)، انتهت هذه المرحلة باحتلال إسرائيل الأجزاء المتبقية من الضفة الغربية وقطاع غزة في عام (1967).

أحكمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قبضتها وسيطرتها على المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية بعد عام (1967). وأعطت مجالاً جديداً من التواصل الجغرافي فيما بينهما ولكن بحدود، وفي المقابل اعتمدت إسرائيل سياسات مختلفة في المدن الفلسطينية فعلى سبيل المثال اتبعت سياسة تهويد لمدينة القدس والخليل من خلال الإجراءات والقوانين الجائرة في عدم القدرة على البناء إلا بتصاريح من قبل سلطات الاحتلال وهذا كان صعب المنال، منع التجوال وإغلاق المحلات التجارية وتهديد حياة المواطنين. باعتبار أن المدينتين ترمزان لقداسة الديانة اليهودية وهو نفس الحال لدى المسلمين.

قام الاحتلال الإسرائيلي من خلال التحكم بجميع مناحي الحياة اليومية للفلسطيني بمنعهم من التطور والتوسع في بناء وتنمية المدن المركزية، الذي حال دون خلق حالة من الاندماج الثقافي أو الاجتماعي للفلسطينيين، الذي أدى بدوره إلى بروز بل وتقوية النزعات المحلية لتلك المدن الصغيرة والتي كانت تعيش في شبه عزلة عن المدن والمناطق الفلسطينية الأخرى حتى لو كانت تبعد مسافة 5 أو 10 كليو متر عن بعضهما البعض .

بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية عام (1987 واستمرارها حتى 1993) زاد الاحتلال في تحديده لحركة السكان ما بين المناطق الفلسطينية في الضفة وغزة، وعمل على تقليص وتحديد تنمية المدن والقرى الفلسطينية، هذا التحكم طال الحركة الاقتصادية وتقويض مأسسة المجتمع عبر مضايقات مؤسسات المجتمع الوطنية والمدنية والأهلية. تزامن ذلك مع ارتفاع تنمية وبناء المستوطنات الإسرائيلية على حساب الأراضي الفلسطينية عبر مصادرتها من أهلها، والتي أكلت عشرات ألآلاف من دونمات الأراضي الفلسطينية، أدى ذلك إلى محاصرة المدن الفلسطينية من قبل المستوطنات، الأمر الذي أدى إلى قتل أية إمكانية من التوسع للمدن الفلسطينية وتنميتها. مدينة بيت لحم على سبيل المثال شاهدة على ذلك حيث تحيط بالمدينة مستوطنتي أفرات التي تمتد من الخليل وتحاذي بيت لحم لتلتصق بمستوطنة معاليه ادوميم المتصلة بالقدس، ومستوطنة جيلو التي تمتد إلى شارع خط 60 الفاصل ما بين بيت لحم والخليل، وجدار الفصل العنصري. ومستوطنة أبو غنيم(هار حماة) تكمل الطوق الاستيطاني على بيت لحم، بعد إقامة مستوطنة غيلو غربا، ومستوطنتي أفرات وتقوع جنوبا، وما يمسى بالمناطق الخضراء شرقا ً.

تعد اتفاقية أوسلو المنعقدة ما بين منظمة التحرير الفلسطيني وحكومة إسرائيل في(13/9/1993) فصلاً جديداً في تقسيم الأراضي الفلسطينية وتفتيت إمكانيات بناء دولة او تشييد اقتصاد وطني على بقع جغرافية صغيرة، تكاد تكون أفظع من سياسات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. حيث قسمت الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة إلى ثلاث مناطق: مناطق تعرف بـمناطق (A) تشكل 18% من الأراضي الفلسطينية، والتي كانت تحت سيطرت السلطة الفلسطينية من حيث القضايا المدنية والسيطرة الأمنية لحد ما، مناطق بعرف بـ(B) تشكل 22% من الأراضي الفلسطينية ، السيطرة الأمنية من مسؤوليات سلطات الاحتلال، والشؤون المدنية من اختصاص السلطة الفلسطينية، ومناطق تعرف بمناطق (C) حيث تشكل 60% من الأراضي الفلسطينية بالإضافة إلى المستوطنات التي أقيمت بشكل غير قانوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. حيث أن هذه المنطقة تحت مسؤولية الاحتلال بشكل كامل (Khamaisi,2006:P4).

واستناداً إلى تأجيل واقع مدينة القدس الجيوسياسي إلى مباحثات السلام النهائية، اختارت القيادة السياسية الفلسطينية بشكل مؤقت مدينتي رام الله والبيرة ومدينة غزة لإقامة المؤسسات الحكومية والوزارات والمؤسسات العامة، ويرجع ذلك إلى عدم وجود تواصل جغرافي ما بين القطاع والضفة، وشكلتا المدينتان مدن كأنوية مركزية وكعاصمتين لكلاً منهما، حتى يتم معالجة قضية القدس في محادثات السلام النهائية.



وتزامن ذلك مع المضايقات الإسرائيلية على المدن الفلسطينية، أبرزها مدينة القدس والخليل، حيث أن الأخيرة، شهدت حملة مضايقات تمثلت بـ: إغلاق مؤسسات المجتمع المدني والأهلي في البلدة القديمة، منع التجوال على طول أيام السنة، إغلاق السوق المركزي، حركة عمران كولونيالي من قبل الحكومة الإسرائيلية في محاولة منها لتهويد مدينة الخليل، مما دفع الكثير من الطبقة المتوسطة والغنية إلى مغادرة البلدة القديمة، وبقاء الشريحة الفقيرة فيها، نظراً لصعوبة انتقالها خارج أحياء البلدة القديمة، مما صبغت بقاع المدينة (ثقافة الفقر)، يعكس بالمضمون المستوى التعليمي، الاقتصادي، المهني، الثقافي لهذه الشريحة.

ويعزو بعض الباحثين (تماري،2005) إلى انتشار ظاهرة الإسلام السياسي في المدن الفلسطينية بين أواسط الفقراء، وفي المخيمات(Khadir,2003) نظراً للظروف الاقتصادية التي يعاني منها قاطنيها، مما يشكله انتشار الإسلام السياسي في المجتمع من قيم ومعايير محافظة وتقليدية تتناقض بالجوهر مع الحياة المدنية(civic)، يتفق الباحث مع النتيجة الأخيرة في التحليل، في حين يختلف في الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه الظاهرة، فقد تنطبق هذه الحالة على الدول العربية بشكل عام، ولكنها تتمايز في المجتمع الفلسطيني، حيث أن انتشار الإسلام السياسي تزامن مع تراجع وانهيار الأحزاب القومية والوطنية واليسارية، والذي أدى بدوره إلى وجود فراغ سياسي (interstice) استطاع الإسلام السياسي من ملئه.

تعكس دراسات الباحث الإسرائيلي (Yiftachel) السياسة العنصرية والكولونيالية الإسرائيلية من اضطهاد واستغلال وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الذين يعيشون في الضفة الغربية أو داخل إسرائيل، في حين تحلل دراسته (Yiftachel, & Roded, 2008) العلاقة ما بين الإثنية والراديكالية الدينية(ETHNOCRACY AND RELIGIOUS RADICALISM)، حيث يشدد الباحثين على العلاقة ما بين سياسة الإعمار(Urbanization) من قبل الاحتلال الكوليانيلي الإسرائيلي وسياسات التميز العنصري والاستغلال، وخلق خطاب مقدس حول مدن النبي إبراهيم الثلاثة (القدس، الخليل، النقب) وعلاقته بنمو الحركات الدينية اليهودية في المدن الثلاثة، وتزامن ذلك مع نشوء حركات دينية إسلامية فلسطينية متباينة في خطابها الراديكالي حسب المدينة والسياسة الكولونيالية التي تم إتباعها في المدن الثلاثة، كردة فعل نتيجة فقدان الحقوق السياسية والمدنية والثقافية والقومية للسكان الفلسطينيين، والذي يتناقض مع الشكل العام الذي أرادته إسرائيل من حيث بناء قومية مدنية (civic nation).

عملية تقديس الأماكن(sacred spaces ) تلك ليست منفصلة عن قوة دولة إسرائيل، حيث أن هذه المراكز المقدسة ليست فقط أفكاراً أو رموز، وإنما مقاطعة أخلاقية ذات مغزى ينكر فيه حقوق الآخرين. فانتشار الإسلام السياسي في الخليل هو نتيجة الاستغلال والاضطهاد والعنف من قبل الإسرائيليين على الفلسطينيين متزامن مع خطاب ديني يهودي حول أهمية المدينة وقدسيتها، والذي أدى إلى نشوء تيار إسلامي راديكالي مناهض لاستلاب المدينة.

تقديس ورمزية المكان من قبل الفلسطينيين كمشروع قومي مدعم بخطاب ديني طال مدينتي القدس والخليل فقط، واستثني منه المدن الفلسطينية الأخرى، من اجل خلق خطاب مناهض لخطاب الحركات الدينية الإسرائيلية حول المدينتين، باعتبارهما تمثلان الهوية القومية والدينية للجانبين.

وهذا ما يفسر تاريخياً انتشار الحركات الإسلامية(حزب التحرير، الجهاد الإسلامي الإخوان المسلمين وحركة حماس فيما بعد) في الخليل وليس مؤخراً في الانتخابات المجلس التشريعي التي استطاعت حماس أن تحسم جميع مقاعد المجلس التشريعي فيها، ومعظم المجالس المحلية، حيث أن قدسية، ورمزية، وهوية مدينة الخليل بدأت تاريخياً مع بداية المشروع الصهيوني في احتلال فلسطين، وهذا ما يفسر تاريخياً بداية الحركات الدينية في الخليل، في حين الحركات القومية والعلمانية في بيت لحم والتي استوعبت العنصر المسيحي في إطارها.

ومن جانب آخر، وفي ظل صراع حركة فتح وحماس الأيدلوجي والميداني للسيطرة على الحيز العام(Public sphere) في المجتمع الفلسطيني، كان هم الأولى هو الحفاظ على السلطة، ومن هنا يعتبر هلال(b2006) أن الخطاب العلماني لحركة فتح قد تراجع في حالة التنافس هذه، واستخدام شعارات دينية للهيمنة على الحس العام للمجتمع الفلسطيني والذي يعد الديني الشعبي(Public religion) جزءاً ومكوناً أساسياً من هويته، وفي ظل غياب بدائل حزبية فاعلة سياسية في الساحة الفلسطينية، إلى جانب حالة الفساد السياسي والإداري للسلطة الفلسطينية، كان الحسم لحركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي وعلى معظم المجالس المحلية والبلديات في المدن والقرى الفلسطينية.

أن الصراع على هوية المدينة قد شهد تبايناً، فلم يكن هنالك خطاب يعبر عن حالة صراع على هوية مدينة بيت لحم، بل بالعكس كان هنالك اتفاقاً على عالمية المدينة نظراً لأهميتها الدينية لمسيحي العالم، ومنفذ لإقامة علاقات مع دول الغرب، وتم التأكيد تاريخياً على أهمية المدينة من قبل القيادات السياسية العلمانية والإسلامية وحتى النخب المحلية، باعتبارها مهد ومولد المسيح.

وفي المقابل، مدينة الخليل شهدت أولى حالات الصراع حول هويتها مع بداية المشروع الصهيوني في الثلاثينيات من القرن الماضي، وشهدت حالة من الهجمة الاستعمارية والاستيطانية من قبل المتدينين الإسرائيليين في منتصف الستينيات، عبر عنها بخطاب ديني صارم قام على تقديس المدينة وأهميتها الدينية لليهود كمدينة النبي إبراهيم، ارتفاع حدة وتيرة الصراع والخطاب الديني للحركات اليهودية حول المدينة، تزامن مع سياسة كوليونالية استهدفت تهويد المدينة وتفريغها من سكانها الفلسطينيين عبر عنها عبر سياسات : المحاصرة، منع التجوال على طول أيام السنة ، مصادرة بعض المنازل والمدارس الفلسطينية، إغلاق السوق المركزي المحاذي للحرم الإبراهيمي، حرمان الفلسطينيين من الحد الأدنى من حقوقهم المدنية والسياسية والثقافية والقومية.

في الجانب الآخر تم تبلور وتنامي خطاب إسلامي مضاد من قبل الفلسطينيين يعبر عن أهمية مدينة إبراهيم للمسلمين، عبر عنه من خلال الخطابات السياسية، وإقامة المراسيم والاحتفالات الدينية الخاصة بالنبي إبراهيم، والتي لعبت دوراً وظيفياً من حيث تمكين المسلمين من تجديد المشاعر التي تحافظ على الوحدة في مواجهة المشروع الصهيوني، ومن جانب آخر ربط الحاضر بالماضي، هذا الخطاب رسم نمط الحياة الثقافية والدينية في المدنية، وحدد السلوك بما يتلاءم مع سمعة المدينة المحافظة، حيث ان أي سلوك يتنافى مع سمعتها يعتبر انتهاكاً وإساءةً للنبي إبراهيم.

أما فيما يتعلق بالبلدة القديمة في الخليل، فقد شهدت فترة التسعينيات موجة نزوح واسعة خارج البلدة القديمة من قبل شرائح الطبقة المتوسطة والغنية، نظراً لسياسية الحصار والتضييق على سكانها من قبل الاحتلال الإسرائيلي ، في المقابل بقيت الشرائح الفقيرة فيها نظراً لعدم قدرتها على الانتقال مما ساهم في رسم ثقافة الفقر فيها، هذه الواقع يعد أرضية خصبة لانتشار الحركات الإسلامية فيها، وبتعبير ماكس فيبر: هؤلاء الفقراء والمضطهدين بحاجة إلى مخلص من واقعهم الصعب، شكلت الحركات الإسلامية بر الأمان والخلاص لهم، في حين ان الشرائح الغنية لم تكن بحاجة إلى مخلص، وإنما إلى إضفاء الشرعية على مكانتها ولهذا استخدمت وامتطت الخطاب الديني لتأكيد شرعيتها ومكانتها.

وحول التكوين الطبقي للمجتمع الفلسطيني، وعلى وجه التحديد الطبقة المتوسطة الحديثة في المدن الفلسطينية، والدور الذي تلعبه في تمدين السلوك الحضري، وخطابها المستند إلى الليبرالية والديمقراطية على الأقل من الجانب النظري هنا، وعلى أن فئات منها تنتج خطاباً انتقادياً تجاه السلطة، باعتبارها تمثل مصالح المجتمع-علما ان الطبقة المتوسطة الفلسطينية تنقسم فيما بينها ما بين المحافظة والعلمانية-، فإن احد أهم سماتها هو ضعف تكوين رأس مالها الثقافي بحكم ضعف التكوين المديني في هذه المناطق، وعلى خلاف، أن حجم الطبقة الوسطى الحديثة في مدينة رام الله والبيرة – وهن أصغر المدن الفلسطينية- فإن نسبة وجودها 46% و45% على التوالي، في حين حجم الطبقة الوسطى في مدينة بيت لحم 29%، أما الخليل وهي من أكبر المدن الفلسطينية في الضفة الغربية فقد شكلت ما نسبته 17%، في حين أن نسبة الحرفيين (الطبقة البرجوازية الصغيرة) قد شكلت ما نسبته 31.5% من المدن الفلسطينية، وهي ثاني أكبر مدينة في الضفة وغزة بعد مدينة نابلس (32%).


ومن اللافت في المجتمع الفلسطيني أن حجم الطبقة المتوسطة في المخيمات الفلسطينية قريبة من نسبتها في المدن، فقد شكلت نسبة وجودها في المدن 22.3%، والمخيمات 22.1%، والريف14%، وهذا يدعم دراسة (Al-Qutub, 1989) والتي أكدت إلى أن قرب مخيمات اللاجئين، والذين هم من أصول فلاحية، ساعد على تحضرهم، واعتقد هنا أن وجود المخيم بالقرب او في قلب المدينة له علاقة بالتغيير الثقافي والاجتماعي لسكان المخيمات، وحالة التثاقف مع أهل المدينة وبالعكس، وهذا ينطبق على مخيمات مدينة بيت لحم وتواجدهم في مركز المدينة إلى جانب أن مواطنهم الأصلية من محيط مدينة القدس ووسط فلسطين، في حيث أن مخيمات مدينة الخليل تشكلت وانشئت خارج مركز المدينة، يحيطهم بعض من قرى الخليل، وأغلبيتهم من القرى جنوب فلسطين.



#بلال_عوض_سلامة (هاشتاغ)       Bilal_Awad_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحركة الطلابية في بيت لحم
- تحليل نقدي للمجتمع الفلسطيني: البنية الثقافية والمجتمع المدن ...
- مكونات وعناصر المجتمع المدني في الخليل (فلسطين)
- الخطاب السياسي لدى الطفل الفلسطيني: أطفال مخيم الدهيشة بين ر ...
- ثقافة المدن، مرآتها سكانها: دراسة مقارنة ما بين الخليل وبيت ...
- المرأة والمشاركة السياسية
- محاولة بحثية لموقع ومكانة المرأة في المؤسسات الاسلامية في فل ...
- ملاحظات عامة في قضايا مرتبطة بالمدن العربية
- القهر الاجتماعي والفراغ السياسي وأزمة الشباب: مخيم الدهيشة ا ...
- قراءة نقدية للاعلام الفلسطيني: تشخيص ورؤية مستقبلية للإعلام ...
- تكاد تتحول العمليات الاستشهادية إلى ايدلوجية فلسطينية1
- لاجئو مخيم الدهيشة : حق العودة لا يسقط بالتقادم
- اريتريا الافريقية : درس للفلسطينيين
- ثقافة الغالب والمغلوب في فكر ابن خلدون: قراءة فلسطينية
- العدوان على غزة : انها لحظة تصحيح الاعوجاج في سبيل الفعل الم ...


المزيد.....




- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بلال عوض سلامة - الثقافة المدنية: حصار الثقافة وغياب المدينة في فلسطين