أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - فاطمة الفلاحي - إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر المظفر - بؤرة ضوء ..















المزيد.....



إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر المظفر - بؤرة ضوء ..


فاطمة الفلاحي
(Fatima Alfalahi)


الحوار المتمدن-العدد: 4093 - 2013 / 5 / 15 - 17:58
المحور: مقابلات و حوارات
    


إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر المظفر - بؤرة ضوء ..

أفتش عن وطن لا تاريخ له
في الحروب والبغضاءْ
وعن أمس لا أمس فيه
عن يوم بلا تقويم
كي أهرب من حروب
بلا نهايات
ومعارك لم تضع أوزارها بعد..


المظفر طبيب أسنان دمث الخُلق ،يعتمره الهدوء حد وجعه من الساسة والسياسة ويعيظه مدعيها ، إختصاصي من جامعة بغداد ونيويورك ، مدرس سابق في كلية طب الأسنان - جامعة بغداد، متفرغ حاليا للكتابة السياسية والفكرية والأدبية.
به يعصف الشوق :

أجلس الآن على البعد كأني
قد هويت الحزن حتى ملّ مني
من يعِّنْي..
من يكف الشوق عني..
إنه العمر, تمنيت, ولكن
ما تبقى منه شيء للتمني
كم تمنيت أن أصحو وألقى
إننــي قـــــد عدت إنـــــي
وديــار كنــت فيــــــــــــها
آتِها حيـــــــــــث أتَّنـــــي
صحبتي, أهلــــي, وداري

1. يقترف المظفر الغربة، قوامها وجع الشعر والكلمات ، ومدارات مسكونة بالتمني في الصحبة والأهل والدار، من بمقدوره أن يتجرأ على إيقاف شعور الإغتراب الروحي والإستلاب الفكري الذي خيّم على مغتربي الوطن ؟
الجواب :
لا أحد يستطيع يا سيدتي أن يقلع الوطن من داخلنا, فالوطن ليس فندقا نغادره إلى فندق آخر, وإنما مغادرة المكان لا تعني مغادرة الزمان, والوطن ليس جغرافيا لنغادرها, وإنما هي روح, وسيفارقنا هذا الوطن حينما تفارقنا هذه الروح, ولعل أفضل تعويض, له ولنا, ونحن خارجه, ولا أقول ونحن في الغربة, أن نكون إمتدادا له, فإن كتبنا وأبدعنا وقلنا القصائد, وصرنا علماء وفنانين, وأناس يتحلون بالأدب والأخلاق الرفيعة فسيكون الوطن عندئذ حاضر فيننا وبيننا, هذا هو علاج البعد, وبهذا لن يكون البعد منفى وغربة, وأظن أن الكثيرين منا, نحن الذين نعيش على البعد, هم أقرب إلى الوطن من كثيرين يعيشون على أرضه.لن أدعي أني أعيش محنة غربة كما يعبر عنها البعض, لأننا لسنا غرباء على الخليج كما كان بدر السياب, وإنما نحن صرنا أيضا أبناء للمجتمعات التي إحتضنتنا, والوفاء المطلوب للإثنين هو أن نكون على المستوى الذي نستطيع فيه أن نجمع ما بين الإثنين في مركب روحي وأخلاقي واحد, ولذا قلت نحن نعيش البعد عن الوطن الجغرافيا وليس عن الوطن الروح, فالوطن الروح قد تمازج وتزاوج وتداخل مع وطن آخر, ليصبح الإثنان معا حالة واحدة, وسيحتاج التعبير عن هذه الحالة الواحدة روحا قادرة على الإنجاب, وقادرة على التربية, وقبل ذلك قادرة على الحب.

*
*
*
كان الأمر نكاية في بيان رقم "أُسكت" ، فتعددت البيانات في :
بلاغ رقم (أهرب)
بلاغ رقم ( اصرخ )
بلاغ رقم ( إلعن)
بلاغ رقم ( أشتم)
بلاغ رقم ( أضرب )
فهربت حيث أرضٍ لا تضاجعها البلاغات
ولا يقد قميصها, من دبرٍ، فاقترحت ذات يوم إلغاء التصفيق
والحكم على المصفقين
بالإعدام تصفيقا حتى الموت

2. محوت بسيف الفكر أسطار البلاغات ، وانتحيت عند صقيع المنافي ، وقبل ذاك شددت يديك بوثاق كي لاتصفقان ، ولم تحلل عقدة لسانك من صمته ، فأي جور لصدى صرخة ممهورة بجنون الصمت .؟
الجواب :
في منفاي أو مهجري أو وطني الثاني أنا لم أسكت أبدا وما إستعملت الصمت إلا كإستراحة بين مقالتين.. في بداية الثمانينات منعت من الكتابة فأحسست طيلة الفترة بعدها أن هناك مخلوقا يتعذب في داخلي, وحينما كنت أكتب, ما تملقت لأحد, ولا شيطنت رئيسا ولا تعصبت لفكرة, رغم إنتمائي لعقيدة محددة. بعد السقوط إخترت الصمت في وسط غابة من الأقلام كان بعضها يعبر عن ذات صاحبه أكثر من ذات وطنه, فلما تعقد الوضع ودخل الإرهاب في الصورة وطغيان المليشيات, لم يكن معقولا أن أسجل آرائي بصراحة وأنا المعلق في عيادتي كهدف ثابت, وهكذا طلبت من الكاتب في داخلي أن يصمت, وصرنا نعاني بشدة, هو وأنا. في تلك الفترة أعطاني الكاتب في داخلي فرصة أنذرني بعدها أنه سينفجر كقنبلة ما لم أعطه حقه فوعدته الصبر فرضى. فلما إضطررت على الهجرة أحسست أن ذلك المخلوق قد بدأ يرقص في داخلي, حتى إنني سمعت صوت زغاريد تحاول أن تزيح صراخ الفراق, وكأنها تريد أن تقول لي, نعم لقد إنتصر المخلوق في داخلك عليك, فأحسست أن ذلك حقيقة هو ما حصل, لأن ذلك المخلوق هو من إستل قلمه وفتح محبرته وبسمل على ورقه بإسم الوطن ثم راح يكتب ويكتب ولم يتوقف يوما أو بعض يوم, وكأنه يعوض عن سنين إضطر فيها على الصمت القاتل, ومع ذلك فأنا لم أصمت كليا ولم أسكت عن قولة حق في تلك المرحلة, فلقد كان لساني بديلا لقلمي.
إذا أتيت لقصة مقت التصفيق فلأننا شعوب إمتهنته مثلما إمتهنت الهتاف والتمجيد إلى درجة تغييب الشخص والغياب فيه حتى إنني قلت إن الطاغية يصنع نصف نفسه أما النصف الثاني فيصنعه شعبه, ولذا فنحن نساهم بخلق ( نصف الطاغية) وحتى أكثر من نصفه, فإن تكَّون هذا الطاغية وصار وحشا فسوف تكون له إستحقاقاته من دمنا ولحمنا, فالوحوش آكلة لحوم وشاربة دم, ولكي لا يحدث هذا, فإن علينا أن لا نصفق, ليس بمعنى الفهم التقليدي للمفردة, وإنما بمعانيها ودلالتها التي ترمز إلى النفاق والرياء والغيبوبة في الحاكم وقضية الولاءات المطلقة وشعار بالروح بالدم نفديك يا ريس.
*
*
*
يقول المظفر :
نحن الذين لم نعد نحن
وبغداد التي كنت فيها
زاعما أن سدارتك سفينة نوح
***
يوم اعتقدنا أن ركوب الأمواج
أفضل من ركوب سدارة
ومذ ذاك حتى وقتنا هذا
لم نترك قبعة إلا ركبناها
عفوا ..
ركبتنا
ولم نترك فردة نعل إلا لبسناها
عفوا..
لبستنا

ويقول مارتن لوثر كنج: "لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك إلا إذا انحنيت."
3.كنا ومازلنا نعيش عالما صاخبا ومفترسا ، والمثقف فيه بوقا ولوقا ، يهز خصر الكلمات لمنتعليه أو راكبيه ، فهل من صحوة ممزوجة ببعض توهم أن هناك عصرا ، أو زمنا ، أو لحظة كونية ما، تأتي دون أن ندفع ضريبة على كرامتنا، ونعيش كإنسان يسمعه الشجر حين يبسمل، ويغتسل بندى الصباحات، ويتعطر برذاذ غفوة نقاء ذات ليل ؟

الجواب :
- أبدأ بالقصيدة, (سدارة نوح):
كنت كتبتها قبل عام ونشرتها في مجلة المثقف, واضح أن السدارة المقصودة هي سدارة الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية الحديثة ! والتي حاول أن يجعل منها رمزا للعراقيين لكي يجتمعوا عليه في وقت تفاوتت واختلفت فيه أغطية الرأس, ونوح كما معروف هو النبي الذي ارتبطت قصته بقصة الطوفان المعروفة, لذلك أتى العنوان لكي تتمثل السفينة التي أنقذت الخلق بالسدارة التي أراد لها فيصل نفس الدور. بالتأكيد أنا لست مع أولئك الذين يمسحون أخطاء العهد الملكي بممحاة شرور العهود التي أتت بعده, ولأن حديثنا الأن ليس حديثا سياسيا فسأكتفي بالقول إنني أردت من القصيدة هذه, ومن السدارة تلك, أن تكون نداءً متجددا للعراقيين للبحث عن المشتركات, فالسدارة على الرأس هي بمعنى الوطن الذي يجمع الكل لإنجاب حالة روحية وأخلاقية ومادية واحدة, هذه الحالة بكل تأكيد لن تلغي الخصوصيات لكنها تجعل لكل حادث حديث, وتبدأ بالوطن لكي تجعله سدارة على الرأس, اي تاجا للجميع. وحينما سيكون الإنسان العراقي بمستوى تاجه سيكون الوطن العراقي بألف خير, ولا قيمة لتاج إلا بالرأس الذي يعتمره, وفيصل كان خلع تاج الذهب لكي يضع بدلاً عنه تاجا من قماش, أين غلاوة الذهب من غلاوته. إنه راس فيصل من حول قطعة القماش تلك إلى ما هو أغلى وأغلى من الذهب, فهو بعد حفلة التتويج ما وضع على راسه تاجا سوى تلك السدارة, وقد أراد من الجميع أن يشاركه تاجه, أن يضعوا سدارة على الرؤوس بمعنى الوطن, وليختلفوا بعدها تحت تلك السدارة وبوجودها. وبالتأكيد فإن العراقيين لا يتحملون لوحدهم وزر الخطيئة لأنها من صنع مجموعة قوى متداخلة, فيها الدولي وفيها الإقليمي أيضا, ولن يعني ذلك بأي حال رفع بيرق نظرية المؤامرة للتعتيم على أهمية العامل الداخلي, لكن الإعتراف بالأهمية الإستراتيجية للعراق يجعل تغييب ( المؤامرة) بمثابة مؤامرة, كما أن هناك فرق كبير بين المؤامرة لأن وجودها حقيقي وملموس وبين نظرية المؤامرة التي هي إلغاء للعامل الداخلي الذي ياتي كركيزة إسناد للعوامل الأخرى

وفيما يتعلق بالسؤال :
- بداية أنا أميز بين المثقف وبين المفكر. الأول يتقدم فيه محصوله القرائي على عقله, والثاني يتقدم فيه عقله على محصوله الثقافي, الأول تقوده ثقافته, والثاني يقود ثقافته, وحينما نبحث عن الفرق بين المثقف والكاتب علينا أن نبحث عنه في من يسبق من وفي طريقة الإستخدام أيضا, ولعل احباطنا من قضية الثقافة والمثقفين يأتي من هنا, في عدم التمييز بين المفكر والمثقف, معتقدين أن كل من قرأ وتحدث واتقن ببلاغة صياغة الكلمات وألقى شعرا هو في النتيجة وبالسياق سيؤدي دوره الوطني والإنساني ويكون وفيا لقلمه ولثقافته. أمراض الثقافة والمثقفين مشهورة ومعروفة, منها التنظير بعيدا عن الواقع, ومنها تحويل الثقافة إلى وظيفة للعيش, ولا أقصد بها هنا سوى ما هو ذا صلة بقضايا الفكر والسياسة, حينها تكون الثقافة كالمتفجرة التي تتشظى بوجه الوطن والتي يكون صاعق تفجيرها بيد من يدفع, نظاما كان أم جهة. لكن على الجهة الأخرى فإن المفكر قد يكون بنصف ثقافة ( المثقف) لكنه بكل تأكيد أفضل من المثقف بطريقة وضع ثقافته في خدمة أخلاقياته وإنسانيته ووطنيته, واستخدامها بوعي كأداة ومناهج للتحليل لأغراض الإستنتاج والإستنباط بما يضع المخزون الثقافي في خدمة رؤى مستقبلية . حينما يحظى وطننا بنظام ديمقراطي حقيقي فإن مهنة التسول الثقافي التي يشترك في صناعتها الحاكم والمثقف تتراجع كثيرا. هناك يمكن لنا أن نفكر بتشريع نطام أخلاقي من شأنه أن يضيق المسافة كثيرا ما بين سلوك المثقف وسلوك المفكر.
لكن أن نحلم في هذه المرحلة, التي تتقاسمها الميليشيات والأموال وأيديولوجيا المقدسات, بوجود مثقف خال من أمراض الثقافة كنشاط, ومن أمراض المثقف كذات, هو ما أعيب عليه, أي على الحلم الذي يغيب في التعريف العام للثقافة وينسى أنها كسائر الوظائف ميالة لأن تتحول إلى وظيفة للعيش وللكسب وللإرتزاق. فالمثقف ليس حالة منقطعة عن الواقع والجذور. ومع النظام السابق لم يكن بوسع المثقف أن يفعل شيئا يتناقض والرؤيا الأيديولوجية السائدة ومناهج إستلاب الإرادة والفكر, وإلا لقطع رأسه قبل قلمه, وحينما يكون المثقف والحالة هذه موظفا, فهو يخطأ مثلما يخطأ الموظف المضطر للتصفيق والمشاركة بالغناء في عيد ميلاد (الرئيس القائد), لكن تأثير المثقف الموظف بطبيعة الحال لن يكون بمقدار تاثير خطأ الفني أو الإداري الموظف, , وفي مطلق الحالات ليس العيب في التصفيق الذي قد تضطر إليه حفاظا على رأسك، وإنما في طريقة التصفيق, أي بالرقص والردس الذي يرافقه, ومن هنا أتت قصتي مع التصفيق التي وضعتها في قصيدة ( بيان رقم إخرس) والتي جاءت (نكاية) بديوان إبني وتلميذي السابق في كلية طب الأسنان, وأحد أساتذتي في الشعر حاليا, الدكتور الشاعر سعد الصالحي, الذي وضع ديوانا له بعنوان (بيان رقم اسكت), وفي حالتي أنا شخصيا لم اسكت وإنما (أُخْرِسـت)
*
*
*
فقط جربوا أن تصنعوا أجنحة من أحلام
مارتن لوثر كنغ المتسامي من سجنه،
بن فرناس ومجد المنتحرين
ونيلسون مانديلا
يتجول بين عالمين، أحدهما ميت والآخر عاجز أن يولد، فليس من مكان يريح عليه رأسه
وعظماؤنا الميزوبوتاميون يتناسلون
من منبع دجلة والفرات
حد شط العرب
يقترفون معنى غياب الآخر
لا قدرة تغييبه

4. متى يكون المرء حرا ، لاتكبله أجنحة فرناس ، ولا تسامي لوثر من بين القضبان، ولا حلم نيلسون في حرية تعطى على جرعات ، و ليس هناك من أشرار تهوى سفك الدماء والعنف في وطن ذبيح، تسنه الطائفية والعرقية ، بات على شفا هاوية ؟
الجواب:

على الجهتين يجب أن لا نتحدث بالمطلق, أي عن وجود إنسان إنموذجي, فما نريده في المقام الأول هو (ناس) يكلع منهم الإنسان. والناس الذين نحلم بهم ونعمل من أجل وجودهم هم نتاج (نظام) يفلح ببناء بنى إقتصادية وإجتماعية وثقافية وأخلاقية قادرة بدورها على تضييق فرص خروج (إنسان) على خط السياق (الناس) إلا كحالة إستثناء تحتاج إلى ضبط قانوني او إعادة تأهيل. بدون ذلك النظام فإن الحرية تبقى محدودة, فإن وجدت فهي ستكون سائبة. الحرية من منظور سياسي هي نتاج لنظام يتراجع فيه دور الدولة لصالح المجتمع وتنظم فيه علاقة الإنسان مع الآخر ومع المجتمع عامة من خلال عقود إجتماعية ودساتير وقوانين تحرسها.
أما أجنحة بن فرناس التي تحدثت عنها في تلك القصيدة فهي أجنحة شمعية معرضة للذوبان تحت أشعة الشمس وهي أجنحة للهروب وليس أجنحة لطائر الحرية.
وعن تسامي لوثر أقول:
عِبر حلمه الكبير أفلح في إعادة صياغة أمة, وأمريكا صار لها تاريخين, قبل لوثر كنغ وبعده, لكن حلم كنغ لم يتحقق لمجرد رؤيا منامية وإنما نتيجة لتحولات هزت البناء الإجتماعي للأمة لكي تنتج ثقافته اللاعنصرية, وهي ثقافة لم تكن بعيدة عن كونها وليدة أيضا للديمقراطية وللنظام الإقتصادي الحر ولمفهوم الأمة العالمية. هم أقاموا تمثالا كبيرا لكنغ في قلب العاصمة الأمريكية, وهو تمثال لكل من يحلم ولكن ليس إلى درجة الغيبوبة, أما نحن فقد أقمنا تمثالا لإبن فرناس, الذي لا أدري من أين جمع كمية الشمع الكبيرة اللازمة لصناعة جناحيه الكبيرتين, يبدو أنهم كانوا يقيمون إحتفالات أعياد ميلاد كبرى في السجن الذي كان فيه, ليصنع إبن فرناس أجنحة مما تبقى منها, أو أن إبن فرناس كان لديه معمل شمع سري, والفرق بين تمثال كنغ وتمثال بن فرناس أن الأول هو تمثال لحالم أما الثاني فهو تمثال لمختل جاهل ومنتحر. منديلا من ناحية أخرى فيه الكثير من كنغ, كلاهما حالمان كبيران بوطن يسوده الحب والتسامح ويكون بقية سيف, وأقصد بالسيف هنا مجموعة المحن الكبرى التي يمر بها المجتمع والتي يواجهها بتصميم من يريد صناعة مستقبل عادل ومتحرر ومزهر. من الخطأ المقارنة بين مجتمعاتنا ودولنا مع هذه المجتمعات والدول, ففي هذه المرحلة بالذات الشرط الأول للإنطلاق بات مكبلا بنوعية من الأيديولوجيات التي لم يكن بمقدور كنغ حتى أن يحلم في ظل وجودها وإلا لكان طار بأجنحة بن فرناس الشمعية, وإبن فرناس في تصوري هو بالنهاية محاولة هروب فردية فاشلة من سجن وليس محاولة تحرر وبناء مستقبل بديل . الحلم بالحرية في ظل وجود أنظمة الإسلام السياسي والكهنوت الطائفي هو حلم على طريقة بن فرناس وليس على طريقة مارتن لوثر كنغ أو منديلا. ولهذا علينا أن نعي حقيقة أن خروجنا إلى هذه الحرية بات مرتهنا بمدى قدرتنا على الخروج من نطام الأيديولوجيات المقدسة, دينية كانت أم غير دينية, والإلتزام بالنظام العلماني الذي يوفر لنا على صعيد سياسي فصل الدين عن الدولة وعلى صعيد إجتماعي حرية التفكير غير المقيدة.
*
*
*
5.الدولة تملك سلاحا وجيشا مملشا وموجها طائفيا وعرقيا ، متى ستطوى صفحة المرجعيات الغير موجهة للتأقلم والعيش كأخوة ؟
الجواب :

الدولة العراقية لم تتكون بعد, وفي إتجاهاتها الحالية وعقيدة رجالاتها الحاليين ليس في مقدورها أن تتكون على الإطلاق, وأقصد بشكل وأسس تقترب من خواص الدولة العراقية السابقة, التي تأسست في بداية العشرينات وسقطت مع الإحتلال الأمريكي, فالناس الذين يحكمون الآن, يعيشون الحالة ونقيضها في ذات اللحظة, فهم قياديون لهذه الدولة وهم أعداءها في نفس الوقت. هم إذن تركيبة تسقط على الدولة الحالة ونقيضها في نفس الوقت, وهذا الأمر ينطبق على جميع الدول العربية التي تهيأ للإسلام السياسي فيها فرصة الإستيلاء على السلطة, لأنها تشترك في فكر دينوسياسي وإن اختلفت المشارب الطائفية.
خذ مصر على سبيل المثال وسوريا على الطريق نفسه, أما في العراق فلا يمكن تفسير التخلف والسرقة والفساد والتزوير بمعزل عن حالة عدم الإنتماء للدولة التي يقودها السياسي الفاسد, حتى كأني أراه, فيما يعمله, وكأنه يحاول الإنتقام من عدو له,ولا يحاول بناء الدولة والوطن من جديد.. إن فهما حقيقيا لمعنى الصراع الذي يدور والفساد الذي ينتشر لا يجب أن يعبر على حقيقة أن السبب الرئيسي إنما يكمن في التضاد بين فقه الدولة الوطنية وفقه الدولة الدينوطائفية, ولذلك فإن إستقرار الأمور, بأي إتجاه وعلى أي مستوى, إنما يبدأ من خلال فك الإشتباك ما بين الفقه الديني وفقه الدولة, أو إنتصار أحدهما على الآخر, وإلى أن يحدث ذلك فإن الفوضى التخريبية ستظل ضاربة أطنابها, وهي مرشحة للتصعيد في حالة إنتصار الفكر الدينوسياسي..
*
*
*
6. كثيرة هي الأشياء التي أربكت مفاصل الوطن ،ونالت العتمة من حيواته ، فالى متى يصمت الأخيار على الخراب والظلم والفساد وسرقة المال العام ، هل هناك من انفراجة ضمير؟
الجواب
الضمير حتى على صعيد القواعد والنحو هو نوعان, غائب وحاضر, ويبدو أن حظنا من النوعين بات هو الأول. لكن الإقتراب إلى هذا المشهد العراقي الحافل بكل مفاصل التخريب الأخلاقي لا يمكن تفسيره تفسيرا ذا خصوصيات شخصية فردية أو حتى إجتماعية عامة. إن العراق بعد الإحتلال- ولا أبرئ صدام حسين من ذنب وضْعه على هذا الطريق, بل إنني أعتبره المسؤول الأول عما يحدث لنا- العراق هذا صار أقرب لأن يكون جثة محتضرة, أو هكذا أرادتها مختلف القوى, بالرغم من تضادها إلى حدود التصادم. ولعلي أرى أن إخراج العراق كقوة مؤثرة من ساحة الصراع الإقليمي كان هّم الطرفين, الإقليمي والدولي, ومسألة النزاع المختلط بالنقائض يمكن تفسيرها على أساس تشاركية الهموم, أي إجتماع عدوين على عدو ثالث, ولذا ترى أن الهم الإسرائيلي يشتغل سويا مع الهم الإيراني في مساحة معرفة الحدود, ليس بالضرورة بمعنى التنسيق المشترك, فأنا ضد اللجوء إلى حسم مواضيع كهذه على طريقة نظرية المؤامرة, وإنما بمعنى تشاركية الهم من عدو ثالث. صدام إفتخر بأنه قاتل ضد ثلاثة وثلاثين دولة, وفي السياسة نتعلم ضرورة أن نقوم بتحييد الخصوم على الأقل, إن لم ننجح في تحييزهم. القائد الذي يفتخر بأنه وضع بلده في مواجهة ثلاثة وثلاثين دولة لا بد وأن يكون مصابا بلوثة في عقله وفي أخلاقه في نفس اللحظة. حتى حافظ أسد كان قد أرسل جيشه ليحارب مع الأمريكان ضد العراق. صدام كان فنانا في صنع اللحظات التاريخية السيئة, والنتيجة التي آل إليها العراق واضحة, لقد سقط كجسد متهالك لرجل محتضر, وكما في الطبيعة كذلك في السياسة, عادة ما يكون الدود جاهزا لإلتهام الجثة, وهذا ما حدث مع الإحتلال وبعده, صدام سهل كثيرا مهمة تحويل العراق إلى جسد متهالك, وتكفل الدود الذي جاء بمعية الإحتلال, أو ذلك الذي أنجبه بعد ذلك, بمهمة إلتهام الجثة. إذن نحن لا نتحدث عن ضمير هنا بالمعنى الأخلاقي المجرد, ولا يمكن أن نراهن عليه, إذ نحن في المركز من ساحة إقليمية ودولية ملتهبة, والتغيير سوف لن يحدث في العراق بمعزل عن تغيير إقليمي يجدد هو أيضا التغير على الساحات المختلفة.
*
*
*
7. ما الذي حدا بإعلامنا الذي تحركه عجلات المرجعيات ، و يأخذه مد وجزر الآليات الدينية والفكرية والاقتصادية والسياسية والإيديولوجيا، سلبا على مستوى التخاطب ، فلم يك حياديا ، غدى آلة فتك وتفككك عاطفي يحمي ركام من يدفع أكثر ، هل أضحى مسيرا ؟
الجواب :
الإعلام والثقافة لن يكونا بمثابة جزيرة معزولة تعيش خصوصياتها المطلقة بمعزل عن كونهما وليدين شرعيين لحالة الدولة والمجتمع, وإذا إفترضنا أن هذين الوليدين يمتلكان مشاهد خصومة مع الواقع السيئ فإن ما نشاهده حقا أن هذه الخصومة غالبا ما تبقى في مساحتها ولا تعبر إلى مساحة التمرد. العراق ليس وحده يسير في هذا الإتجاه, ولا هو عاش المثلبة في هذه المرحلة وحدها, فطالما كان للسيف والدينار سطوة فإن المقاومة الأخلاقية لمجابهة الفساد تقل كثيرا. وأنا لا أصدق بقصة وجود إعلام مستقل, لأن الإستقلالية هنا لها تفسيرات متعددة, وحتى في الغرب, وخاصة في أمريكا, ما دامت الدولة هي دولة شركات بالمقام الأول, وما دامت هذه الشركات بمختلف أوجه نشاطاتها التجارية هي التي تملك هذه الصحافة, فإن إمكانية أن يكون الإعلام مستقلا هو أمر خيالي.
أنا ضد المراهنة على دور الإعلام في إحداث تغيير حقيقي وذلك للإمكانيات المفتوحة للسيطرة عليه. ومع ذلك فإن هناك "إنفلاتا" حقيقيا ومؤثرا عن هذه القاعدة السياقية, فعلى صعيد الإنترنيت حدث تغيير بإتجاه المشاركات الفردية أو الجمعية المتمردة على إعلام الدولة, ولقد كان لذلك أثرا واضحا على صعيد أحداث ما يسمى بالربيع العربي أو ما يسميه البعض بالصقيع العربي. أما على الصعيد العراقي فثمة اصوات وكتاب إعلاميين يلعبون أدوارا حقيقية في منع التدهور وإيقافه ، تراهم ينشرون في صحف ورقية كالمدى والعالم, وفي صحف إلكترونية كالحوار المتمدن وكتابات. خذي مثلا سرمد الطائي, ومعه على سبيل المثال الدكتور سعيد حيدر وعلي حسين وأحمد عبدالحسين وصالح الحمداني , فهم يؤدون دورا وطنيا وإعلاميا رائعا, وكلما أقرأ لهم كلما أعجب بهم وكلما أخاف عليهم.
وأقول لك لا تراهني على دور إعلامي بارز على صعيد التغيير, فأكثرهم للحق كارهون, والإعلام كما نفهمه ليس وسيلة تغيير إلا بما يريدها الحاكم, وأكثرية الإعلاميين ستبقى جزء من حريم السلطان, حتى إني أكاد أشتق قانونا يقول:" كيف تكون الحكومة يكون الإعلام".
تطالبين بحرية وإستقلالية الإعلام أو تحلمين بإعلام كهذا.. كيف ؟! الإعلام في أغلب حالاته هو أَعلام, أي بمعنى الراية التي تتبع من بيده السيف والدينار, وأفضل ما قرأته أخيرا في وصف الإعلام كان قولا لجمال المظفر الذي قال على صفحته في الفيسبوك: لا تقل إعلامي بل قل إعلاني.
على صعيد إحداث التغيير تحدثي عن مفكر يعمل في صحافة, ولا تتحدثي عن إعلامي يعمل في مجال الفكر, إذ غالبا ما يكون الأخير أَعلامي, بفتح الهمزة, وليس إِعلامي بكسر تلك الهمزة, وكل قاعدة ولها إستثناءاتها.
*
*
*
8. خارج منطق الهيمنة المالكية، كدكتاتور جديد ، ما مدى سوء التفاهم بين الحكومة وحاشيتها لإسقاطها ؟
الجواب:
من قال أن حكومة المالكي ما زالت حية ترزق.. إنها أكثر من ميتة, لكنها فقط تقاوم الدفن,لذلك يتسبب تفسخها في إنتشار الأوبئة. العراق هو البلد" الديمقراطي" الوحيد الذي يعتبر سقوط الحكومة, أو إسقاطها, مؤامرة وحتى أنها مدعومة من الخارج. كل هذا الفساد والطائفية والتخلف والتناحر والتقاتل ويدعون أن أي توجه لإسقاط الحكومة هو من تخطيط الشيخ حمد وزوجته موزة.. المشكلة الحقيقية ليس في سقوط الحكومة وإنما هي في بقائها, لأن بقائها بعد كل هذه الإنفجارات والأزمات وبعد كل هذا الفشل إنما يعبر عن غياب التفكير الجدي لتقديم الحل, لا بل ويعزز القناعة التي تؤكد على أن خلق الأزمات بات هو الحل الذي تقدمه الحكومة لتهريب أزماتها الذاتية, ففي العراق اليوم ليس هناك بحث عن حلول بل هناك بحث عن أزمات. نخرج من أزمة كركوك لندخل في أزمة الأنبار. إن لم تجد لك خصما حقيقيا عليك أن تشيطن صديقك. بدون شيطنة الآخر لا قدرة لهذا النظام الطائفي على البقاء, كان لنا دكتاتور يقول عن نفسه إنه القائد الضرورة وإنه الإنجاب التاريخي, هو بالنهاية يعترف بكونه دكتاتور ولو بصيغة غير مباشرة والآن صار عندنا دكتاتور يدعي بأنه ديمقراطي. مأساتنا تقع اليوم تماما في المساحة الهجينة التي يتحرك فيها مخلوق برأسين, أحدهما لدكتاتور والآخر لديمقراطي.. ما نمر به حقا ليس أزمة حكومة وإنما هي أزمة إعادة تكوين وطن في ظل غياب حقيقي لقوى وبرنامج وطني قادر على لملمة العراق من جديد. سقطت الحكومة أم لم تسقط فالأزمة ليست هنا, وإنما في البنية السياسية التي أنجبتها.عدم سقوط الحكومة بعد كل هذه الأزمات ليس دليل عافية وإنما هو دليل تردي حقيقي, والمطلوب حل جذري يمكن العراق من بناء سلطة المشترك لا سلطة الشراكة. بدون ذلك فإن مسلسل الأزمات سوف لن ينتهي ولن يتمكن النظام الجديد من تخطي مرحلة تكوين السلطة إلى مرحلة تكوين الدولة.
*
*
*
9. ثمة فضاء مشروط خالي من السلطة والاستيهامات يجسد حصيلة بيت مذعور، مرده ضنك العيش وسقف منخور و تتسربلهم اللحظات بكاتم ونعود، وعماد بيت مسجون .. هل هذا هو من طقوس حكومات الخراب العربي؟
الجواب:
كل حاكم عربي يتصور, أو يجعلوه يتصور, أنه الوحيد زمانه, وأنه الإنجاب التاريخي أو مختار عصره. والدكتاتور هو واحد في مختلف العصور ومختلف الأمكنة. أما في المرحلة الحالية فإن ديمقراطية الربيع العربي,وقبلها ديمقراطية الإحتلال في العراق قد شرعنت وجود الدكتاتورية عن طريق الإنتخابات وإستبدلت الدكتاتور المركزي بدكتاتوريين فدراليين, ورموز سياسية وطائفية وقبلية وجهوية وزعماء قبائل وميليشيات.
كل شيء على السطح يظهر ممكيجا بمساحيق لا تفلح بإخفاء الوجه الكالح للثقافة السياسية التي هيمنت على المنطقة في المرحلة الحالية. في مساحة واحدة يطلب من حرية التعبير أن تزدهر في ظل الكواتم والسجون السرية وسيف المادة أربعة إرهاب الجاهزة لتحويل الخصم إلى إرهابي في أية لحظة يرى الحاكم أن هناك رؤوسا أينعنت وحان قطافها.
اسوأ ما في هذه المرحلة هي ديكتاتوريتها الممكيجة بمساحيق الديمقراطية. في مساحة الدكتاتورية القديمة وغير الممكيجة كان يمكن للهوية الوطنية أن تنمو وتتكون بإتجاه معرّف, فالدكتاتور ونظامه في جانب والشعب وقواه الوطنية الديمقراطية على الجانب الآخر, حتى هذه (الميزة) يقضي عليها الديكتاتور الممكيج, الدكتاتور فيه يعيد قصة القمع ذاتها, أما النصف الآخر, وهو النصف الممكيج فيعمل على منع تكوين ثقافة معارضة بهوية مضادة موحدة وواضحة. هذه الشخصية الجديدة, أي الدكتاتور الممكيج, التي نراها تتحرك الآن في مصر والعراق على سبيل المثال, يأتي بحالتين معه في ذات اللحظة, حالة الظلم المركزي العام وحالة تشتيت رد الفعل وإخضاعه على مستويات متعددة لصالح الدكتاتور نفسه. بوجود الأحزاب الطائفية الإسلاموية ضاعت مركزية الإنتماء إلى دولة ووطن وحلت محلها هوية الإنتماءات الجزئية التي يعمل الدكتاتور الممكيج أن تحارب بعضها البعض بدلا من أن تحارب ضده, وفي المساحة ذاتها تمكن الدكتاتور الممكيج من الهيمنة على الفعل ورد الفعل أيضا, وهذه مسألة خطيرة, لأن حتى رد الفعل على الظلم المركزي الذي يتعرض له الجميع منعوا تكوينه, فإن تكَّون فسيتكون لصالح الظلم نفسه.
والحق أن تجربة الإسلامويين الطائفيين هي أبشع من تجربة الدكتاتوريات ( الوطنية), ففي السابق كان يمكن الإشارة بخط مستقيم إلى مصدر الخلل, أما الآن فإن الوصول إلى ذلك يمر من خلال خطوط متعرجة وملتوية ودائرية ونازلة وصاعدة وهي تشكل لدى البعض متاهة تماما مثل لعبة المتاهة التي يصعب عليك الخروج منها, وفي هذه المتاهة سيتعب الكثيرون وهم يفتشون عن طريقة الخروج من المأزق, كما وسيبقى البعض تائها ودائرا على نفسه, وفي زحمة الدوران تلك فإن الدكتاتور الممكيج والقوى الدولية والإقليمية التي تدعمه ستتمكن بسهوله على الحصول على ما تشاء بعد أن تكون جعلتنا كما فئران الكيس الذين فقدوا التركيز بعد ما خضعوا لعملية دوران سريعة أفقدتهم قدرة التوازن.
*
*
*
10. يقول المظفر هل تقوم الحرب الأهلية وهل يتقسم العراق؟
لكن "بريجنسكي"مستشار الأمن القومى الأمريكى” يقول إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن ( 1980) هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى – التي حدثت بين العراق وإيران – تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس- بيكو بحيث يكون هذا التصحيح متسقا مع الصالح الصهيو أمريكي في تفتيته إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية ..
- هل برأيك أن دور الأجندات وتأثيرها على الأحزاب، ستسعى لتنفيذ هذا المخطط ، أم أن إرادة العراقيين ستكون لها كلمة أخرى ؟
الجواب:
في مقالة سابقة لي بعنوان(هل تقوم الحرب الأهلية وهل سيتقسم العراق) قلت فيها أن التحليل النمطي الذي يتمحور حول سايكس بيكو جديدة وحول تقسيم المنطقة ليس من الضرورة أن يكون صحيحا في الحالة العراقية الراهنة. فالتقسيم يحتاج إلى عوامل داخلية وأخرى دولية, والخرائط الجغرافية ليست بالكامل ملك شعوبها, وإنما هي نتيجة لصراع إرادات دولية ترسمها حروب كبرى.
إن عامل التماسك الداخلي بإمكانه أن يعطل نية التقسيم الدولي, لكن عامل التمزق الداخلي ليس كافيا لوحده لرسم خرائط جديدة, أي ليس لوحده قادر على تأسيس دولة من دولة. ثم أن الوضع على الخرائط يرتبط أيضا بالنزاعات الإقليمية التي قد تجد لها موقعا مؤثرا ضمن ساحة الإرادات الدولية.
وعلينا أن نعرف أن ما ينطبق على سوريا ليس بالضرورة ينطبق تلقائيا على العراق, فهذا الأخير يحتفظ بمخزون نفطي إستراتيجي هائل من شأنه أن يمنحه خصوصية قد لا تتوفر لسوريا, إضافة إلى تكويناته الإجتماعية التي سيكون لها عند التقسيم تأثيرات مباشرة على إيران وتركيا, لصالحها أو ضدها.
حينما أشير إلى ذلك فأنا أشير إلى صعوبة التقسيم الجغرافي الذي قد لا يخدم الإرادات الدولية, لكني بطبيعة الحال لا أؤكد على إستحالة ذلك التقسيم حينما يشتغل العاملان, المحلي والدولي, معا في نفس الوقت ويفعلان أحدهما الآخر.
لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن الوحدة القهرية هي أشد ضررا من التجزئة الجغرافية, ولا يلغي حقيقة أن التمزق الإجتماعي المستفحل غالبا ما يستدعي التقسيم الجغرافي كحل, وبهذا قد يتحول التقسيم من مشكلة إلى حل لمشكلة.
في هذه المرحلة وبوجود الأنظمة الدينو سياسية والطائفية قد تكون هناك وحدة جغرافية على السطح, لكن تحت ذلك السطح مباشرة يتحرك التقسيم الإجتماعي المتأسس على العقائد المذهبية, وليس من العقل أن تسلب منا شعارات الدين المشترك ، حقيقة أن الوجه السياسي للمذاهب ومنذ نشأتها الأولى هو وجه تمزيقي وتقسيمي وعراكي, وأن الأحزاب الدينوسياسية لا تمتلك البرنامج الإجتماعي التوحيدي كما أن فقهها السياسي هو فقه إقليمي أو دولي متخاصم في جوهره مع الحالة الوطنية المعرفة بعقيدتها ومساحتها الجغرافية..
نحن إذن, برغم وجودنا في مساحة جغرافية موحدة إلا أننا مقسمون أشد التقسيم, وأخشى أن يتحول التقسيم من مشكلة إلى حل, على الرغم مما يخلقه هذا الحل من مشاكل جديدة للجميع. إن تقسيم العراق بسبب جغرافيته هو أمر صعب حقا وسيكون بوابة لدخول الجميع في معارك وحروب صعبة قد يكون أولها بسبب المياه, ولن يكون أخيرها التشنج الطائفي الذي من المقدر أن يكون وحشا مفترسا على الحدود.
وأعود إلى المقالة لكي أجيب على السؤال, فما أشرت فيها هو تأكيدي على أن تمزيق الإرادات قد يكون هو الحل المستهدف في العراق, وهذا ما هو حاصل. وضمن إتجاه كهذا قد لا يتقسم العراق جغرافيا وذلك بسبب نفطه, أو بسبب تاثيره على جواره, ولكن ستتقسم إرادته إلى إرادات, لهذا السبب, أو لغيره ذاك الذي له علاقة بالصراع العربي الإسرائيلي.
وتقسيم الإرادات هو خطوة أساسية على طريق تقسيم الجغرافيا الذي قد لا يكون هدفا أكيدا أو أنه قد يكون هدفا مؤجلا لـــ "حتى إشعار آخر" .. إن إفشال مخطط تقسيم العراق يعود إلى قدرة العراقيين على إعادة صب إراداته في إرادة وطنية واحدة, وحين يتحقق هذا فإن خرائط التقسيم ومخططاته سوف تبقى مغلقة ومخزونة في صناديقها, وسيهن الأمر كثيرا لو أننا لم نغفل حقيقة أن أغلب دول المنطقة لها ملفات تقسيم في مخازن الإرادات الكبرى, وما ينطبق على العراق ينطبق أيضا على مصر وإيران مثلا, ولهذا نحن لسنا وحدنا الهدف في ساحات التقسيم, الذي قد يكون معطلا في ساحات أخرى تجتمع على الإرادة لتظل مجتمعة على الجغرافيا.
*
*
*
11. الكرسي في الحكومة هو كينونة الديمقراطية الوحيد. مدياته عبوات وأحزمة ناسفة وسيارات مفخخة تمر دون تفتيش ، ويتشدق بفضاء من تلفظ خالي من الوعي، أنه على علم ودراية بمسميات من يشحذ سن التفجيرات الطائفية ، أليس هناك من قانون يحاسبه ؟
الجواب :
المشكلة الحقيقة التي نجابهها اليوم هي ملخصة بوجود نظام ذا عناوين ويافطات ديمقراطية تعمل تحتها قوى غير مؤمنة بالديمقراطية وحتى نقيضا لها. مع الأنظمة الدكتاتورية السابقة لم تكن هناك هذه الإزدواجية البشعة, وكان ممكنا تعريف النظام أو التعرف علية بكل بساطة وبإتجاه واحد. وكما قلت كان الدكتاتور لا يتردد عن الإعلان عن هويته وإن كان ذلك من خلال هويات لا تفترق بالنتيجة عن هويته كدكتاتور, ولا يمكن لها أن تشرعنها. ومن الأكيد أن محاولة الجمع بين فكر دكتاتوري وفكر ديمقراطي تحت ضغط حاجات السلطة سيخلق لنا إشكالات كبيرة وذات علاقة بالصيغ المتخاصمة مع أسس وأخلاقيات العمل السياسي.
في الحقيقة هناك إمكانية مفتوحة لأن يتطور العمل السياسي بشكل إيجابي بما يتناغم مع حاجات السلطة وواقع مغادرة الحزب أو الفصيل من موقع الترف النظري إلى موضوعية الممارسة. لكن ذلك يتطلب بالتأكيد ويشترط أن يكون الحزب نفسه مستعدا للتغيير. لكن ذلك سيكون صعبا وحتى مستحيلاً حينما يجري الحديث عن الأحزاب ذات الطبيعة الأيديولوجية الحديدية, وخاصة أحزاب الأيديولوجيات الدينية المقدسة, فهي دكتاتورية وديمقراطية في نفس الوقت.
ولا يمكن لحزب وتحت مغريات السلطة أن يقدم نفسه مع وجود هذه المعادلة المتخاصمة الأطراف إلا من خلال منطق مرتبك ومهزوز وحتى بصيغ إنتهازية وذات طابع نفاقي وكاذب. وحينما يتقدم كرسي السلطة كثيرا على كرسي المبادئ فإن محاولة الجلوس عليهما في نفس الوقت تصبح محاولة صعبة ومشوهة وسرعان ما تفرز إشكالياتها على الواقع السياسي وعلى المجتمع أيضا.
في زمن صدام أراد لنا النظام أن نؤمن قسرا بأننا إنتصرنا على ثلاثة وثلاثين دولة, وكان معنى ذلك في أبسط حالاته أن نكذب على أنفسنا, ونعيش الحالة ونقيضها في نفس الوقت, فنحن منهزمون في الواقع لكن كان علينا أن ننتصر على السطح لكي لا يتحمل القائد نتائج الخسارة الكبرى, أو تتراجع كثيرا أسهمه في سوق البطولات المزيفة. هل تغيرت الحال.. نعم تغيرت, لكن ذلك لم يكن قد جرى على صعيد جوهري, بل تجسد في نوعية الأكاذيب, فالحاكم ديمقراطي الوجه لكن دكتاتوري القلب والعقل واليدين. وهو من جهة أخرى طائفي وزعيم حزب طائفي ويدعي أنه خصم للطائفية, وهو قائد لدولة قانون ورئيس لدولة قبائل وعشائر في نفس الوقت! إلى ماذا سيؤدي ذلك, إنه يؤدي إلى ما قلته في المداخلة السابقة, وأقصد به الإتيان بفعل سيئ مع مسخ رد الفعل لكي يأتي سيئا أيضا.إنها مصيبة كبيرة وليس هناك ما يساعد العراق على أن يخرج منها ما لم تقدم السلطة نفسها بشكل غير مزدوج وغير كاذب وتتخلى عن النفاق السياسي.
*
*
*
12 يقول المظفر : ناس بلا وطن أم وطن بلا ناس
والحكومة تدير ظهرها للشعب ، سادرة في تكميم الأفواه ديمقراطيا ، وإسْتعار هوة الطائفية والتقسيم لا في ردمها ... في صالح من يكون العراق بلا عراقيين ، ولمن سيسلم على طبق من خواء ؟
الجواب:
العراق بات اليوم في معركة مواجهة بين الإقليمي والوطني. الحقيقة أن العراق لم يخلو تاريخيا من صراعات بهذا الإتجاه, وهي صراعات تضع الوطني ممثلا في دولته الحديثة التي تشكلت في العشرينات من القرن الماضي في مواجهة أو في خدمة الإقليمي أو الدولي أو القومي. مع الشيوعيين كانت هناك محاولة للتوفيق على الأقل بين حاجات العقيدة الأممية وبين العراق الوطني, ومع القوميين والبعثيين كانت هناك محاولات لوضع الوطني في خدمة القومي, أما الآن فإن الإتجاه الواضح هو وضع الوطني في خدمة الإقليمي الإسلاموطائفي. لكن علينا أن نقف أمام ذلك بحذر شديد لكي لا يجري تعويم الأمور وتكييفها بالإتجاه الذي يلغي ويتعارض مع الحقائق التاريخية. فالشيوعيون رغم تقدم أممية فكرهم على وطنيته, إلا انهم كانوا أقدر من غيرهم على تمرحل العمل السياسي تخدمهم في ذلك نظرية إقتصادية علمية تجد أن هناك ضرورة في تقسيم التاريخ إلى مراحل وبما يعني إمكانية إيجاد التناغم بين الحالة الوطنية والحالة الأممية لفترة مفتوحة, ذلك بطبيعة الحال لم يكن ألغى محطات الإنحياز غير الموزون لمعسكر بعينه في الحرب الباردة تأسيسا على أممية مؤدلجة مما أدى إلى صراع مميت بينهم وبين الأيديولوجية القومية, وإلى مشاهد إفتراق مع الحالة الوطنية. البعثيون أيضا كانوا فكريا متضاربين مع الدولة الوطنية إلى حد إدراجها كإحدى النتائج المترتبة على إتفاقية سايكس بيكو التقسيمية وإعتبارها حالة آيلة إلى زوال, كما أن الإيمان بها كحقيقة كان يبوب في خانة القطرية المدانة. ثمة إجتهادات هنا وهناك قد تختلف مع هذا التحديد, ومع إفتراض وجود تفسير مبرر وربما مقنع لحالات التناقض مع الحالة الوطنية فإن من الصعب نكران وجود دخول دولي أو قومي على القضية الوطنية كان قد أضر بها في مراحل متعددة ومنع على الأقل تبلور ونضوج المشروع الوطني بإتجاهاته السياسية والفكرية. غير ذلك يمكن لنا أن نتأكد, أن المشروعين القومي على جهة والأممي الشيوعي على جهة أخرى, لم يضعا العراقيين بعضهم في مواجهة البعض الآخر ضمن نزاع أفقي يقسم الشعب نفسه ويستعمله للقتال ضد بعضه كما يفعل الطائفيون. لكنه في حقيقة الأمر كان وضع السياسيين في مواجهة بعضهم البعض.
وحتى مع القضية الكردية فلم يكن هناك ما يشير على أنها كانت تبلورت على شكل مواجهات قومية, وإنما كانت الدولة العراقية بمختلف أنظمتها تضعها في خانة التمرد والإنفصال, ولم نشهد للأكراد ميلا لقومنة كفاحهم لكي يتخذ طابعا عدائيا للعنصر العربي.
في حالة الإسلام السياسي تطور الأمر بإتجاهات مدمرة لمشروع الدولة الوطنية. من ناحية فقد أتيح لأحزاب إسلاموية معادية بالأصل لمشروع الدولة الوطنية أن تحكم هذه الدولة وأن تكون بالتالي حاكما وخصما لها في نفس الوقت, وهي حالة شاذة ومخربة. ومن ناحية ثانية فنحن لسنا أمام حالات سياسية قابلة لأن تتعدل على ضوء التجربة العملية بل نحن في مواجهة محاور مقدسة لا يجوز المساس بها, المحور الشيعي والمحور السني يفتحان بكل تأكيد باب المعارك الإقليمية التي تتجاوز الوطني وتضعه في خدمتها, وبهذا فإن مشروع الدولة الوطنية بات يواجه خطرا جديا, وأقل ما سيواجهه هذا المشروع أخطار التمزق والتشرذم وإعادة تكوين الدول وفق الفقه الديني الإقليمي, ومن الطبيعي أن لا يمر ذلك إلا من خلال حروب مذهبية مدمرة, ولهذا كنت طرحت تساؤلا كان أيضا عنوانا لمقالة بنص يقول (وطن من دون ناس أم ناس من دون وطن) وهو عنوان لا شك يقترب من نوع المشكلة وحجمها, تلك التي نواجهها, شعبا ودولة وطنية, على يد الإسلام السياسي المذهبي الطائفي, إذ نحن بتنا مهددين بالفعل بين أن يقتل بعضنا البعض فنكون وطنا من دون ناس, أو أن يتمزق العراق لكي نكون ناسا بدون وطن.
*
*
*
13.يُعرّي ويهدد حاكم العراق الجديد ، بفضح من كانت له يد في اغتيال الشعب ، لماذا هذا التوقيت ، ولماذا صمته، ولِم َكان كأصحاب الإخدود ؟
الجواب:
الكل يدعي أن حصته الشعب والأخر يقتله. تشخيص المشكلة يجب أن لا يبدأ فنيا وإنما مبدئيا, وفي حالتنا المشكلة على صعيد المبدأ واضحة وهي تتلخص في وجود الإسلام المذهبي السياسي الذي يعتمد على التاريخ الدامي بين المذهبين كأدوات للقتال, ولذا فإن نزع السلاح يصبح صعبا بوجود الإسلام المذهبي لأنه يقضي بقبول الطرفين أو أحدهما بالتخلي عن تاريخه, ولا أحد مستعد للقبول بحل كهذا, فالتاريخ لا يمكن إلغاؤه وإنما يمكن تعطيل ألغامه, وذلك لا يمكن الوصول إليه إلا من حلال تنحي الإسلام السياسي الذي لا يملك اسلحة قتال أو جدال غير سلاح تاريخ الفرقة الدامي. وحل كهذا لا يمكن أن يجد نفسه إلا من خلال دولة وطنية علمانية سياسية ليبرالية, دون ذلك فحتى السلام النسبي على السطح لن يكون سوى هدنة, لأنها حرب مقدسات لا يمكن حلها إلا بتغلب طرف منها على الطرف الآخر, هل عمرنا سمعنا "بمقدس يقبل الشراكة مع مقدس نقيض" .
كل المحاولات لإقرار حالة سلام إجتماعي وسياسي دائم يستند على معطيات الإسلام السياسي هي حالة كاذبة وهي حرب ممكيجة بمساحيق سلام باهت. لو كان الإسلام المذهبي قادر على بناء دولة سلام داخلي لكان أفلح على الأقل في عملية التقريب بين المذاهب, غير أن أكثر من أربعة عشر قرن من الزمن أكدت على أن الحل هو نزع الألغام عن طريق فصل الدين عن الدولة المتعددة الأديان والمذاهب والقوميات.. حروب الملفات هي تعبير عن الحروب المستمرة تحت يافطة السلام الكاذب.
في مواجهة المشكلة العراقية لا بد من مشروع المسامحة والتصالح, وهو أمر لا يستطيع عليه الإسلام المذهبي ،لأنه هو بطبيعته صيغة إختلاف ومواجهات, فإذا أضيف إلى هذه الصورة المعتمة عامل الصراع الإقليمي فإن تخيل إغلاق هذه الملفات يصبح أمراً صعباً، لأن نية السلام والتعايش والمصالحة غير متوفرة لدى فصائل مذهبية تعيش معارك ثأرية مفتوحة منذ أربعة عشر قرنا.
العلمانية السياسية كانت قد إقتضتها حاجة التطور لدي الأوروبين, أما نحن فلاشك نحتاجها بأشد مما كانت عليه حاجتهم لأنها بالنسبة لنا حالة مساواة وعادلة ووجود قبل أن تكون حالة نهضة, ولا أظن أن الملفات السياسية التي يفتحها الحاكم ضد خصومه منعزلة عن الملفات التاريخية التي لم تعثر على نهاياتها منذ قرون, ولذا فإن غلق الملفات السياسية لا يمكن أن يتم قبل غلق الملفات التاريخية التي كتبها تاريخ من النزاع الدامي الذي يدور معنا مثلما تدور عقارب الساعة, وكل ذلك لا يمكن أن يتم بوجود الإسلام السياسي, بل بوجود الدولة العلمانية التي ستكون مهمتها الأساسية ليس غلق ذلك التاريخ تماما ولكن على الأقل تعطيل ألغامه وشل اليد التي تمسك بصاعق التفجير.
*
*
*
14. ألسنا بحاجة إلى تطبيق مفهوم فصل الدين عن السياسة، أم فصل ( دين المرجعيات) عن السياسة ؟
الجواب:
في العديد من المقالات حاولت أن أؤكد على أن العلمانية نوعان, العلمانية الكلية أو العلمية, والعلمانية السياسية او تلك التي يسميها البعض بالجزئية. أظن أن تسميتي هي الأفضل لأنها أوضح وأدق وهي لا تترك مساحة للتداخل التي يوطفها الإسلام السياسي لتكفير العلمانية بشكل شامل.. العلمانية السياسية لها علاقة ببناء الدولة وليس هناك في مضمارها ما يجعلها على خصومة مع الدين أو المتدينين,فهي بالتالي فصل الدين عن الدولة ومنح المؤسسة الدينية فرص العمل في أماكن العبادة.
لو كانت العلمانية السياسية ضد الدين لأتجهت لإغلاق أمكان العبادة في دولها. ورغم أنها كانت هي المنتصرة في معركتها مع المؤسسة الدينية إلا إنها لم تفرش إنتصارها لكي تضعه في حالة خصام مع الدين, لا بل هي طبقت القاعدة الدينية التي تقول : " لكم دينكم ولي ديني", "وما لقيصر لقيصر" "وما لله لله", أما المؤسسة الدينية حين تدخل على السياسة ، لا بد وأن تدخل عليه بسلاح المقدسات الذي يلغي هوية الآخر أو يرتبها في خانات دُنيا تتناقض ومبدأ العدالة والمساواة الذي لا يفرق بين مواطن وآخر إلا على أساس شروط وقانون المواطنة.
لم تكن شروط العلمانية في وطننا قد نضجت بما فيه الكفاية لتكون على طرف هو غير طرف المؤسسة الدينية. أما اليوم وبعد صعود الإسلام السياسي, وما رافق هذا الصعود من سلبيات تتناقض مع طبيعة وشروط الدولة الوطنية العابرة للهويات الطائفية فإن الحاجة إلى العلمانية أصبحت أحد الشروط الأساسية لإستمرار دولة المشترك الوطني.
*
*
*
15. دعني ارتحل وأخيلتك لنحط في بيوت السياسيين ، فكم سنجد فيها من أجندات خارجية ؟

الجواب:
هذا النظام السياسي لم يتأسس إلا على أجندات خارجية. ليس معنى ذلك أن النظام الصدامي الذي سبقه كان فاضلاً, ففي مطلق الحالات ستظل المقارنة تدور في ساحة من منهما كان الأسوأ, ولذا فقد قلت في مداخلاتي السابقة، أن الساحة الوطنية باتت مجيّرة بالكامل للقرار الدولي وللقرار الإقليمي. ليس من الصعوبة أن تدعي بأنك وطني لكن سيكون واجباً عليك أن تفسر ذلك من خلال فقهك السياسي الوطني ولا سبيل لك أن تفلح في ذلك وأنت ترفع "راية فقه " نقيض إلى حد الخصومة التاريخية الذي لا يمكن أن يجتمع مع الآخرين في غرفة واحدة. لنعترف أن المرحلة ما بعد سقوط صدام كانت معقدة جداً بحيث لا يجوز الدخول إليها دخولاً سهلاً بدون أن تجري عملية ترتيش لمعاني مفردات أساسية كالوطنية والعمالة. بهذا قد تجد أن هناك من يحاول تبرير أو تفسير تعامله مع الأجنبي ضمن حالة المضطر, ولعله لن يعدم وجود شواهد تاريخية تؤكد على أنه لم يكن الوحيد زمانه. أتدرين أين تقع مشكلتنا في هذا الإتجاه ..؟ إنها تقع في المساحة التي يتم فيها إسقاط عناوين وتعريفات مراحل سابقة, بمعطيات معينة, على مراحل لاحقة بمعطيات مختلفة, فما زلنا حتى هذه اللحظة غير ميالين أو غير واعيين لضرورة التمييز بين المعنى المخابراتي للوطنية والمعنى الأخلاقي لها, يظن أن الوطني هو ذلك الذي لا يتصل بدولة أجنبية فحسب, في حين أن الجانب الأخلاقي للوطنية هو الذي يجب أن يتقدم على جوانبها الأخرى وخاصة المخابراتية, فلا وجود للوطنية في حضرة حاكم كاذب ومغامر وفاسد ومرتشي ومحب للسلطة بدون حدود. إن الجانب الأخلاقي للوطنية هو الذي يجب يتقدم على جانبها المخابراتي, والأول هو الذي يجب أن يضع الثاني في خدمته, وكل ذلك لا يمكن فهمه أو الإتفاق عليه دون وضعه في مساحة تضاد "الفقه الوطني" مع" الفقه الأقليمي والأممي " حينما لا تجري ترتيب العلاقة بينهما بشكل عادل ومتوازن.. ما أريد قوله هو علينا أن نقترب بشكل دقيق من معنى الوطنية ونعي عناصرها المركبة والمتفاعلة, ففقدان عنصر منها يفقدها معناها مثلما يفعل ذلك سوء ترتيب "مَن في خدمة مَن".
في فترة إتهمنا نوري سعيد بالعمالة لبريطانيا ثم عدنا نقترب منه كوطني أراد وضع علاقته البريطانية في خدمة العراق. ثم كانت هناك إتهامات للشيوعيين بالعمالة للإتحاد السوفيتي, وإتهامات مقابلة للبعثيين بالعمالة لمصر عبدالناصر, أما الآن فهناك إتهامات للفكر المذهبي الإسلامي بشقيه بالعمالة لدول إقليمية. نحن هنا لا نفرق بين السياسي من جهة والعقائدي أو الفقهي من جهة أخرى, ونغيب عنه في مساحة تغييب الفاصلة بينهما, ولا أرى الحل في محاربة المشترك الفقهي الأممي أو القومي أو الديني, وإنما أراه سياسيا في وضع هذا الفقه في حدمة الوطني الذي يوجب بدوره سياسياً أن يترتب الداخل الوطني من خلال إقترابات خارجية سليمة لا تضع الفقهين على تضاد. بهذا سنكون أقدر بلا شك على تقديم تعريف سليم لمعنى الوطنية والعمالة, فلا الشيوعي مدعو للتخلي عن أمميته ولا القومي العربي أو الكردي أو التركماني مدعو للتخلي عن قوميته, ولا الشيعي أو السني مدعو للتخلي عن مذهبه. هم مدعوون فقط لخلق تفاعل مطلوب هدفه خدمة الوطني المفتوح على علاقاته بما يخدم جميع أطراف المعادلة في ذات اللحظة.
*
*
*
16. - في كل الأزمنة هناك مصطلحات تولد من بطن السياسة ، نشطت مؤخرا الإسلاموفوبيا ، هل هناك من إسلاموتوبيا تختصر رهاب الإسلام؟

الجواب:
يحتاج الإنسان فقط إلى أن يكون متوازنا لكي تكون له مقترباته السليمة إلى الدين أو غيره من المناهج الإنسانية أو السماوية مثلما يحتاج أيضا إلى الموضوعية لكي يحقق التناغم بين المنهج ونواياه. ولعل ذلك لن يكون كافيا ما لم يكن المنهج نفسه قابل لأن يتفاعل مع النوايا الطيبة. ليست مقدسات السماء لوحدها إذا زج بها في السياسة قابلة لأن تتحول إلى إشكالية حقيقية, بل مقدسات الأرض قابلة أيضا لأن تنزلق إلى نفس المطب, فالفكر الأيديولوجي السياسي لا يخلو من مزالق بهذا الإتجاه، لخضوعه لمبدأ الحتميات التي تؤسس لما اسميه هنا (الإيديولووفوبيا), ولعلنا شهدنا المرحلتين اللتين أنتجتا صراعاً دموياً ولم يكن بإمكانهما أن تحققا الإنفتاح المطلوب والتفاعل مع الجديد ومع الآخر.
نحن لا نبحث عن الدينوتوبيا فتلك مهمة رجل الدين التبشيرية التي ما أن تتدخل في السياسة حتى تؤسس للدينوفوبيا بإتجاهاتها المختلفة, إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً. الحل الوحيد الذي يحول دون الدخول في إشكالات مركبة هو في أن نفصل ما بين الدين والسياسة. أن نجعل التبشير لرجل الدين, والسياسة لرجل الدولة, فذلك يجنب السياسي مثلما يجنب رجل الدين مشكلة التداخل والتراكب الذي يؤدي إلى فوبيا أحدهما من الآخر.
ربما هناك من يرى أن مجابهة المسألة الطائفية تتم بشكل مؤثر من خلال إعلان موقف طلاق مع المذاهب. هم يرون أن ذلك سيخلق مذهبا وسطاً ووسيطاً بإمكانه أن يؤسس لحالة الوحدة التي لا يمكن تحقيقها أو الحفاظ عليها من غير سلام إجتماعي, وهو سلام لا يمكن أن تحققه المذاهب التي يعتمر جنودها قبعة معارك تاريخية مفتوحة النهايات إلى الأبد, على المستوى الشخصي, المثقف حر بما يدين أو بما لا يدين, والمعارك المذهبية السياسية لا يمكن تصور وجودها دون وجود ثقافة بنيوية تدعمها, وحيث تبدأ هذه الثقافة الأيديولوجية من خلال مقدسات حديدية لا يجوز المساس بها, فهي إذن مفتوحة النهايات على معارك تاريخية لا يمكن, أو لا يريد الإسلام المذهبي أن يغلقها، لأنها تطيح بمكونه السياسي الهام على صعيد إدامة وتفعيل سلطة المؤسسة الدينية. إن إعلان موقف عابر للمذهبية هو أحد الحلول المطروحة لتجاوز المذهبية وإسقاط فعلها السياسي المدمر للسلام الإجتماعي, وهو الركيزة الأساسية لبناء وطن مستقر ومزدهر. لكني حينما ناقشت الأمر بشكل الحلول المباشرة للمأزق الطائفي الذي نعيشه وجدت أن وظيفة المثقف أو المفكر السياسي ستكون أكثر تأثيراً فيما لو حارب الطائفية في عقر دارها, وحينما يكون "بلا مذهب" فهو سيكون أقل تأثيراً على ابناء طائفته المنتسب إليها ولو بتعريف الموروث لا الإنتماء الإختياري. بهذا فهو سيعطي المؤسسة المذهبية سلاح أن تحاربه كعنصر خارج على الوسط بما يضعف من تأثير سلاحه وعدته. والحل كما رأيته هو سياسي وليس ثقافي مجرد من هدف مرحلي. العلمانية الأوروبية ذهبت بهذا الإتجاه, أي حينما إلتزمت بمفهوم العلمانية السياسية تلك الخاصة ببناء الدولة وتركت لحرية الأختيار أن تأخذ المنحى الشخصي تحت عناوين دولة الجميع. إن علينا في جميع الأحوال, إذا أردنا للثقافة فعلا سياسيا أن نختار هدفا سياسيا محددا وواضحا, وهذا الهدف الجمعي وغير الشخصي لا يمكن أن يتم الوصول إليه ما لم نتعرف إلى خواص المحيط الذي نعمل ضمنه لتغييره.
الخوف من إشكاليات الأديان والمذاهب والذي اسميناه بالإسلاموفونيا والمذهبوفوبيا لا يجب أن يؤسس لرد فعل مثالي, قد يكون مقبولاً على المستوى الشخصي, لكنه مرفوض على المستوى الإجتماعي. وأجد أن الإسلاموتوبيا قد يقابلها مستوى من رد الفعل قد يؤسس لـ " اللاإسلاموتوبيا" أو " اللامذهبوتوبيا ", وهما مذاهب أو مدارس أقرب للثقافة المجردة من عناصر أدائها السياسي . إن حلا كهذا قد يجد له صدى بين جمهرة المثقفين ولكنه لن يجد سوى رد فعل ضدي لدى العامة. علينا أن نذهب إلى موضوعة المثقف السياسي فتلك موضوعة بإمكانها أن تميز بين حق المثقف في إعلان موقف شخصي وبين واجبه على الجهة الأخرى كطليعي بمناهج وأدوات تغيير تحتم عليه التعامل مع الواقع، كما هو لنقله إلى ما يجب أن يكون عليه, والمسألة كلها تتلخص بين حق المثقف في الإختيار الشخصي وواجب المفكر في اختيار أفضل سبل التغيير, والخيارين الشرعيين يمكن تحقيقهما تحت عناوين الدولة العلمانية لا غيرها, وهي عناوين توفر للمثقف والمفكر السياسي الإنتصار على المؤسسة الدينية والمذهبية من خلال تعطيل فعلها السياسي لا تعطيل فكرها الديني ثم أنها أيضا توفر له حق الإختيار الشخصي بأن يكون من هذا الدين أم من ذاك, أو من هذا المذهب أو ذاك, أو حتى أن يكون بدونهما.
من حق المثقف أن يكون بلا مذهب, وحتى ليس من حق أي سلطة أن تدخل إلى عقله لكي تجبره على أن يكون مؤمنا بأي دين أو أن تحدد له طريقة تعامله مع السماء وقضايا الخلق والخالق.. هو حر فيما يعتقده, على شرط أن لا يتقاطع ذلك قمعيا مع إعتقادات الآخرين, أما حينما نتحدث عن المثقف السياسي, الهادف إلى تغييرات ممكنة فإننا هنا لا نتحدث عن (حقه) وإنما نتحدث عن (الحق عليه), أي حق أن يعمل لتحقيق أهداف وطنية إنسانية قد لا يتعطل فعلها السياسي حين طعيان الشخصي على الجمعي, وهذا لن نعثر عليه إلا من خلال العناوين العلمانية السياسية, أي تلك التي تفصل بين الدين والدولة وليس بين الدين والمجتمع والتي يكون هدفها الساسي تعطيل الفعل السياسي للمؤسسة الدينية وليس تعطيل فعلها الفقهي في مساحته.
*
*
*
17. لطم* ونوح* في كرب وبلاء ، ملط* وحون *في لندناء ، لِمَ تفشت شيزوفرينيا أخلاق الساسة في كل الإتجاهات ،وتسربلت حد مفاصل و جسد العراق ؟

الجواب:
العراق بتركيبته الدينية والقومية والمذهبية لا يمكن له الإستمرار واحداً وعادلاً ومعتدلاً ومتعايشاً إجتماعيا من غير الإلتزام بالعلمانية السياسية القادرة لوحدها على إنتاج الحالة الوطنية الجامعة من خلال خلق المشترك وليس الشراكة أو المحاصصة. لكن العراق ليس بلداً سهلاً, من ناحية تاريخه وليس من ناحية تكوينه, لكن هناك شعوب تفوقه عشرات المرات بعدد قومياته وأديانه ومذاهبه لكنها تجتمع من خلال مناهج وطنية وإنسانية, غير أن على أرضه جرت أكثر المعارك دموية في التاريخ الإسلامي وخاصة تلك التي أنتجت بعد ذلك مناج مذهبية سياسية.
الدول بحاجة إلى العلمانية لأغراض النهضة الإجتماعية والعلمية ولأغراض التطور الإنساني بدون حدود وجدران مقدسة عازلة, أما العراق فسبب تعددياته المذهبية المتخاصمة تاريخياً ،فإن العلمانية بالنسبة إليه المنهج الذي يضمن بقاءه وليس تطوره فحسب. خذ تونس والمغرب مثلاً هناك إلى حد واضح وحاسم أحادية مذهب مما يعطل إمكانات الشحن الطائفي. في مصر هناك إختلاف حاسم بفعل وجود ثنائية دينية لا يمكن للإسلام السياسي أن يتصدى إلى حلها دون أن يدخل في إشكاليات على صعيد المواطنة وحريات التعبير والتدين غير المقررة مسبقا بطبيعة إملاءات الدولة الدينية. العراق إذا عدنا إلى التاريخ، فهو يحفل تاريخياً بمعارك من شأن تناولها مذهبياً أن يجعلها مفتوحة النهايات, لكي تجعل (الشيعي) يبحث عن (النواصب) في وجوه السنة, ولكي يجعل السني يبجث عن (الروافض) في وجوه الشيعة, أما ما ينتجه ذلك التوجه فهو ما نراه ملازما لنا. استشهاد الإمامين علي بن ابي طالب والحسين على أرضه ووجود اضرحتهما كذلك يحولهما الإسلام السياسي المذهبي, والمنابر المنتفعة من مشاهد تاريخية عظيمة, إلى مساحات للخصومة مع مشروع المستقبل المشترك الواحد. ليس هناك خلل في موقعتي الاستشهاد العظيمتين وإنما في طريقة الإقتراب منهما وفي إتجاهات توظيفهما. سنة العراق ليسوا على خصومة مع أئمة الشيعة الإثني عشر وفي مقدمتهم العظيمين علي والحسين, بل أرى أن (الكهنوت الشيعي) هو الذي يعيش الخصومة الحقيقية مع أئمة الشيعة وذلك حينما يشيع لثقافة اللطم والزنجيل والتطبير الذي يحول أولئك الأبطال إلى رموز مسكينة لا تستحق سوى البكاء, وكل ذلك ليس بمعزل عن استعمال الحزن كوسيلة من وسائل السيطرة على المجموع. ولا يأتي ذلك من أجل التعبير عن الحزن الحقيقي على الشهداء وإنما لأغراض الهيمنة والمتاجرة وتوظيف البطولات الحقيقة من أجل أهداف متناقضة مع جوهر البطولة ذاتها الذي يجب أن يوضع لغرض تأسيس ثقافة لتعميق الأسس الأخلاقية التي استشهد في سبيلها أولئك العظام. وإلا كيف يوظف إمام نهج البلاغة وخاصف النعل وسيف عظيم الإسلام والإنسانية علي بن أبي طالب وموقعة إستشهاد الحسين في سبيل الكسب المادي والثراء الفاحش وإثارة الثارات وغلق الطرق أمام العقل العراقي لكي يراوح في مساحة مغلقة. إن ثقافة بهذا الإتجاه ليس هدفها الحقيقي إظهار الحزن على علي والحسين وإنما هدفها الحقيقي إلقاء القبض على الناس لكي تبقى داخل دائرة الإستثمار الكهنوتي التي تعطي الناس الحزن وتأخذ منها العقل والمال وتسلب منها قدرة الخروج إلى المستقبل الذي لا شك سوف ينال من هيمنة المؤسسة الدينية ويبطل مفعول معادلة إن لنا كربلاء ولهم لندناء
*
*
*
الأجزاء
الجزء الاول :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=357622
* الجزء الثاني :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=357957
* الجزء الثالث :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=358262


** من وحي الأصدقاء :
ولشهرزاد المظفر وجع من سياسة

1. الدكتور سعد الصالحي ، ممن تحرص اضمامة كف الجليل المظفر على اطباقتها عليهم حباً ..قال في معلمه : "أستغل هذه الدعوة لأتقدم بكل الإحترام والعرفان لأستاذي وأبي ومعلمي الأول الأستاذ الدكتور جعفر المظفر لاختياري من قبله وما أنا إلا من آلاف الأطباء ممن تتلمذوا على يديه الفاضلتين في كلية طب الأسنان / جامعة بغداد منتصف عقد السبعينييات من القرن الماضي ، فكان والله خير الصديق والأستاذ والأب الناصح ومعلم الأخلاق قبل أن يكون معلم الطب ، جزاه الله عنا بخير مايجزي به أنبياء العلم والحكمة والمعرفة ." ..
فراعني عرفانه هذا بمعلمه ، وبما تلاه من بيان رقم "اسكت" في "مَـقـَاتـِلُ تمّوز" قائلاً:
إني عدت من زبد النار برداً وسلاماً، لأرى أرضاً خضراء،
ونساء يهرعن مثل الماء صوب سواحل تلمع من فرط النور، لأرى
أسراباً تكتب هجرتها بالفصول، وصبية يرحلون عني.. فلا أدرك
مغزى هذه المكيدة!!
كانت لنا معه ثلاثة محاور
1.كيف يمكننا أن نصف فضاءات التجربة السياسية الثرية التي مر بها أستاذنا المظفر وصولاً إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة ؟

الجواب:
منذ مطلع شبابنا ونحن نمارس العمل السياسي, أو قل إبتلينا به, وكانت شهرزاد قد بدأت حديثها معنا في السنتين الأخيرتين من عمر النظام الملكي, وقد كنا بعد أطفالا, لقد كبرنا مع تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر. مداركنا لم تكن قد إتسعت وقتها لتجعلنا نتحدث خارج الأحاسيس الوطنية البسيطة التي حركها ذلك العدوان الثلاثي فخرجنا نهتف بهتافات إمتزجت فيها الشعارات الوطنية ب (وكاحة) الطفولة التي تحاول اللحاق بالرجال. ثم سرّعت ثورة الرابع عشر من تموز من ذلك اللحاق المبكر الذي أختصر طفولتنا ومراهقتنا ليجعلنا نعيش الرجولة التي دخلت علينا بلا إستئذان. في تلك المرحلة وما بعدها لم أترك كتابا إلا وقرأته, وكان في معشر الصداقة من كان جعل لقاءاتنا أشبه بحلقة ثقافية دائمة الإنعقاد, ولذا إختلطت السياسة بالثقافة التي أبطأت بدورها جنوح السياسة المنمحور على ذاتيته. يومها تعرفت على نجيب محفوظ والعقاد وطه حسين ويوسف إدريس وسومرست موم وهمنغوي ودستويفسكي وتيولستوي وغيرهم من أساطين الأدب العالمي, ولم أتردد عن قراءات فكرية سياسية تتحدث عن الماركسية وديكارت وهيجل ووجودية سارتر وسيمون ديبفوار ولاإنتمائية كولن ولسن, وصارت لدي إطلالات على الشعراء من أمثال الجواهري والرصافي والزهاوي والأدب القديم ثم وقعت في حب السياب ودرويش والقاسم والماغوط. ثمة مستوى من اللاإنتماء خلقته تلك السياحة, فرغم ميولي السياسية المعرفة الهوية, إلا أن ذلك الخزين الثقافي كان يطل دائما برأسه ليجعلني خاصا في إطروحاتي وتوجهاتي إلى حدود التمرد الواضح الذي كان يعبر عن نفسه من خلال تحدي المقدس الأيديلوجي ومد يد الصداقة والحوار والتفاعل مع المدارس السياسية الأخرى, فلم أقطع صلاتي مع أصدقائي الذين كانوا محسوبين على فئات أخرى, وكانت مرحلة الدراسة الثانوية بعد الرابع عشر من تموز حافلة بالصراعات المحتدمة التي تفاعلت لتأسيس أفكار كانت تميل في طابعها إلى الخروج من مساحة الصدام إلى مساحة التفاعل. لا أدعي بأنني لم أكن جزءا من ذلك المشهد السياسي المحتدم, إذ لم يكن مقدرا لأي شحص بإهتمامات سياسية أن يفعل ذلك. لكن العقل يستدعي الآن ضرورة العودة إلى تلك التجارب لإستخلاص الدروس والعبر ودون تردد عن نقد مشاهد التجربة السلبية. ولعل هذا ما يحتاجه العراق من أصحاب التجارب السياسية السابقة, فالكل أخطأ على مستويات متباينة وصار لزاما أن نستفيد من تلك التجارب لا أن نضعها في خدمة إستمرار النزاعات, وهذا ما أفعله الآن, نقد التجربة بكل صراحة وتجرد وبلا إنحياز, وأعترف بأن وجودي في أمريكا قد منحني فرصة تحقيق ذلك بكل حرية دون خوف, وهذا ما كنت أتمناه على الدوام, أن أتواجد على أرض تمنحني حق أن أكتب بدون توقف, فهناك ثمة الكثير مما يمكن أن يقال ويفيد.
*
*
*

2. هل يمكننا الحديث عن ( التحليل السياسي ) بوصفه فعلاً تحريضياً قائماً بذاته ينبري له مبدعون في فن كتابته وإنتاجه من خلال مقومات أساسية متفق عليها ؟
الجواب:
يحتاج التحليل السياسي إلى قدرة وخبرة, وأظنه مثل العديد من النشاطات الإنسانية الأخرى بحاجة إلى قدرات فردية تضاف إلى المطالعة والمتابعة والكتابة أو المحاضرة والحوار, لكن الخبرة تقف لتعطي التحليل بعدا معقولا وعمليا مثلما يفعل المران على صقل تلك الخبرة وتقديمها بشكل جاذب. إن التحليل هو البحث عن الأسباب العائمة تحت سطح النتائج, وغير الظاهرة للعيان تماما, التي تراها عين المحلل بدقة, وتقديمها للمتلقي كوسائل إيضاحية للوصول بعدها إلى التشخيص المطلوب كدليل سير نحو الهدف الموسوم.ودونما أدنى شك أن الكاتب ذا الإمكانات التحليلية سيكون أكثر قدرة على التأثير على القارئ من الكاتب الذي يعوم كتاباته حتى يجعلها مواضيع إنشائية تجري بإتجاه واحد وتنتهي تماما مثلما بدأت. المحلل هنا ليس هدفه إقناع القارئ فحسب, فتلك هي المرحلة الثانية, أما المرحلة الأولى فهي تستهدف إقناعه لنفسه, ومن خلال عملية الإقناع هذه يعبر المحلل إلى مرحلته الثانية, اي إقناع القارئ.
خلال عملية ديناميكية وجدلية كهذه, إقناع النفس وليس خداعها أو تزيين الأمور لها, يتم إستجلاء الموقف والغوص للتفتيش عن حقائق ما تحت السطح, ولغرض العثور على الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء المشهد الواضح للعيان, ثم تقديم الإسنتاجات التي تدعم الحلول مثلما تدعم عملية النقد الواضحة, فلكي يكون المحلل أمينا مع القارئ يجب أن يمتحن هذه الأمانة مع نفسه أولا ويكون وفيا لها, ومن خلال جسر كهذا يمكن العبور إلى الضفة الأخرى, أي من ضفة الكاتب إلى ضفة القارئ.
*
*
*
3.لمستُ في الآونة الأخيرة لدى سيدي وأستاذي المظفر ميلاً لكتابة الشعر وبخاصة القصيدة الحديثة ، ترى ماذا يشكل الهم الشعري لديه بإزاء الهموم المجاورة التي اعتاد تحديها دائماً ؟.
تقديري واحترامي ومحبتي الدائمة لأبي وشيخي وأستاذي الدكتور جعفر المظفر .

الجواب :
لقد كانت لي محاولاتي الشعرية في مطلع نشاطي الأدبي, ربما لأنني جزء من شعب لا يوجد أحد فيه لم يجرب كتابة الشعر, ولكنها كانت محاولات لا ترتقي إلى مستوى التشجيع على الإستمرار في التجربة التي تعاون لإبعادي عنها إنشغالين, واحد في السياسة وآخر يكمن في طبيعة المهنة التي توجهت لدراستها ومن ثم لتدريسها في كلية طب الأسنان من جامعة بغداد بعد حصولي على الشهادة العليا من أمريكا. ثم أن الإغراق في الكتابة السياسية الذي أمارسه هو طارد للقصيدة التي تحتاجك أن تكون دائم التواجد في ساحتها, لأن القصيدة ليست وحي يوحى, ولهذا فهي لا تهبط من السماء أو الفضاء وإنما تولد من إرهاصات الشاعر وإنفعالاته وبدون قصد اي بدون إستعداد لتصنيعها, عكس الكتابة الفكرية أو التحليل السياسي الذي يحتاج أولا إلى تنمية الإنفعالات الإنسانية التي تحاج القصيدة الحقة إليها. الكتابة الفكرية تحتاج إلى تشغيل الحواس جميعها, وكتابة الشعر ربما تحتاج إلى العكس من ذلك, أي تعطيل الحواس, ربما كمن ينصب فخا لإصطياد القصيدة, التي بنبغي أن لا تراك تراها, ولا تحسك تحسها, ولا تسمعك تسمعها, وحالك في هذا كحال الجسم الوسيط الذي ينبغي تنويمه لإستدعاء الحالة كما هي في العمق من قلبك وبصيرتك. ولذا وجدت أن علي أن أختار, بين تنشيط عملية خلق وإستحضار القصيدة التي تحتاج إلى إلى جلسة خروج من المحيط, وبين الكتابة السياسية التي تتطلب الدخول إلى ذلك المحيط, وسألخص.. القصيدة لا تحضر إلا بعد أن تضمن خروج الكاتب السياسي من صاحبه لأنها لا تقبل الشراكة من أحد, فكيف إذا كان هذا الأحد يشترط تسخين المحيط وهي تشترط تبريده أو حتى تجميده وصولا إلى ولادة مبهرة سيوكل لها فقط مهمة تسخين المحيط من حولها. ولذا تراني قليل العطاء كمن يحرم عليه دينه الزواج بإثنتين, إمرأة الشعر وإمرأة الكتابة
*
*
*
2. الأستاذ إبراهيم أحمد
الذي ينسل المداد من بين أنامله روايات ، إحداهن هجرته ،فاستقرت في جوف المطبعة ،وأخراهن تربو على يديه قصص..
فــــ "بعد مجيء الطير ، المعلمون يتجولون في الليل"
بحثاً عن " زهــور في يــد مـومـيــــاء"
وعـــن
"القبور و الدواجن
أو البحث عن زوجة فاضلة"
وألتقوا بــــــ
" الرجل الذي حاول قتل الصرصر"
و
"الصيد
رغـبة في شـراء البيـض"
هالَـــه
"انفجارات
مُقـعَـدْ في باص مزدحــم"
والمزيد مــن
"صـــفـــــارات الإنـــذار
ضـــــــوء و ظــــلام
بـاتـا في خـدمتـكم "..
سادرا في تجواله بين زهور حرفه ، لتمنحه حق الكتابة على جنح زواجله الثلاث ويسافر عبرها إلى المظفر الساكن في قلب الغيوم .. .
سائلا إياه :
1ـ كلانا أنا وإياك خرجنا من تجربة سياسية محبطة، كم تعتقد أننا نستطيع المكاشفة والاعتراف؟

الجواب:
قيمة التجربة وفائدتها تكمن في مسألة الإستفادة منها بعد وضعها في متناول الجميع. لو كانت هناك ثقة وأمان واطمئنان وميل حقيقي نحو المكاشفة والمصارحة والمصالحة لرأيت لدى البعض استعدادا مفتوحا لحوارات صريحة حول تجاربهم السياسية مع تركيز على الجانب النقدي لها.غير أن هناك خوف متبادل وغياب ثقة يصاعدهما إستمرار الصراعات السياسية على أساس ميليشياوي.. والمقصود بالميليشياوي هنا ليس بالضرورة حمل السلاح مع فصيل خارج إطار مؤسسة الدولة وإنما أيضا خوضه بمنطق فكري وبسياقات خارجة على العمل الإجتماعي المنظم ذا أهداف وطنية واضحة وبصيغ قمعية, ولهذا ترى أن هناك تمرساَ تاريخياَ, ليس مع التجربة لوحدها وإنما مع أخطائها أيضا خوفا من أن تستثمر الآخر هذه الأخطاء بإتجاه تشهيري أو للربح السياسي على حساب الآخرين, ولذا قلت لو كانت هناك مصالحة تشترط هذا الحوار النقدي والمكاشفة والإعتذار عن الأخطاء بطريقة تهدف تجاوزها، فإن مسألة الإستفادة من التجارب السابقة تكون في متناول اليد.
في عدة مقالات كنت نشرتها في الحوار المتمدن تحت عنوان ( البعثيون والشيوعيون أبناء رحم أيديلوجي واضح) أشرت إلى الأخطاء السياسية على صعيد الأفكار, إذ أن كثيرا من جوانب الصراع الذي ساد بين الحزبين في مراحل ما بعد الثامن والخمسين من القرن الماضي، كان قد تأسس على بيت الداء العقائدي - الأيديولوجيات المقدسة والحتميات التاريخية – ومما سيجعل من وقفة كهذه وقفة مطلوبة. أن ما نمر به اليوم من ظروف معقدة ليس خاليا من شكل الصراعات القديمة وذلك بوجود تيارات الإسلام السياسي ذات الأيديولوجيات المقدسة التي تقاتل على الملكية المطلقة للسيرورة التاريخية.. الشيوعيون طرحوا بعض أدبيات النقد لتجاربهم السابقة, وأرى بينهم كتابا يفعلون ذلك. البعثيون ما زالوا في خانة العزة بالإثم, وحركات الإسلام السياسي أمامها الكثير من الأخطاء التي سترتكبها قبل أن يكون هناك تفكير جدي لنقد تجربتها, ومع ذلك فإنه لا يمكن نكران أن بعضاً من ناشطيها قد فعلوا ذلك وأخص بالذكر الإستاذ ضياء الشكرجي
*
*
*


2. دائما يلاحقني هاجس أن أفضل من يستطيع التأثير في الطائفية هو مثقف ينتقد الطائفة التي يحسب عليها، كيف ترى أننا يمكن أن نحقق ذلك؟
الجواب:

نعم, وهذا ما كتبته في باب التعقيب على بيان المثقفين الذين أعلنوا خروجهم من الطائفتين وذلك في مقالة نشرت تحت عنوان ( أيهما أكثر فعلاً سياسياً .. البراءة من المذاهب أم البراءة من المذهبية) وكان مما جاء فيها: إن بإمكان المثقف أن يلعب دورا وطنياً وسياسياً أخطر فيما ظل يتكلم ضد الطائفية من داخل طائفته، فيسقط بالتالي مقدما حجة أنه معادي للطائفة أو خارجاً عليها أو لا علاقة له بها.. وأذكر أن بعضهم من الطائفة التي أحمل هويتها بالولادة قد هاجمني بحجة إنني معادي للشيعة, أو خارجاً على صفوفها, لكن إجابتي التي لا شك أخرسته: إنني بالهجوم على الطائفيين من أبناء (الطائفة) التي أنتمي إليها بالولادة إنما أدافع عن أبناء هذه الطائفة ذاتها, على الأقل كناس وبشر, وإن لم يكن كفقه وتاريخ. إذ أن كل ما نحتاجه نحن (السياسيون) في هذه المرحلة, ليس الصراع مع تلك المذاهب كمذاهب وإنما إبعادها عن عملية بناء الدولة.
من حق المثقف أن يتبرأ من عبثية المذاهب, لكنه إذا شاء أن يكون ذا فعل سياسي أكثر تأثيرا, عليه أن يعلم أن العمل من أجل الدولة العلمانية المتحضرة, ومحاربة تجار الطائفية من داخل الطائفة, سوف يجعله أكثر تأثيراً على عامة الطائفة مما لو كان خارجها, وسوف يجعل ذلك إمكانية محاربته من قبل الطائفيين مسألة صعبة.
إن المثقفين على الجانبين يحتاجون إلى خلق مساحة تبشير وتنوير متداخلة مع العامة من الطائفتين, وليسوا بحاجة إلى تأسيس نادي منعزل لهم, وهم بحاجة أن يحددوا مهامهم المركزية في كل مرحلة ثم يحددوا أفضل الوسائل لتحقيقها.

*
*
*
3. يبدو أن شبح الحرب الأهلية يقرع أبواب بغداد مرة أخرى ،هل معنى هذا أن الجهد الفكري الذي بذله المثقفون على الضفتين كان خاطئاً أو قاصراً أو مبيتاً وفيه الكثير من سوء النية؟

الجواب :
أعتقد أن ما يجري في العراق هو أكبر بكثير من أية مسألة ذات علاقة بتاثير دور المثقفين أو تراجعه, فرغم قيمة الدور التبشيري للمثقف, إلا أن هذه القيمة قد تتراجع كثيرا بوجود ظروف معقدة ومركبة كالتي يمر بها العراقيون, ومع ذلك فإنه لا يمكن نكران أن هناك حركة ثقافية ناشطة ومثقفون مجدون على طريق إيقاف التدهور, وحتى في داخل العراق أرى جمهرة من المثقفين الوطنييين الذين لا يتهيبون عن قول كلمة الحق في زمن سادت فيه ثقافة الكواتم, وهم بالتأكيد يؤدون دوراً رسالياً يساهم فعلياً في فضح الممارسات الخارجة على الأخلاقيات الوطنية, ولذا فإن علينا أن لا نقييم حجم هذا الدور دون أن نخضعه لظروف زمانه ومكانه, وفي ظرف كهذا الظرف أجد أن المثقف العراقي الوطني والإنساني ما زال يقوم بدور يصل إلى حدود الدور الإستشهادي. وليس من الحق نسيان أنه ولولا دوره بهذا الإتجاه لما تفرملت مسيرة التدهور وجرى تخفيف سرعتها نحو القعر, وعلينا أن نتصور رسما يكون التدهور فيه أشبه بصخرة عملاقة تنحدر بسرعة على سفح جبل في حين تكون أجساد المثقفين هي مطبات تعرقل على الأقل من سرعة التدهور على أمل إيقاف حركة تلك الصخرة بإتجاه القعر.
لك وللعزيز مظفر فائق تقديري وأطيب تمنياتي
إبراهيم أحمد
*
*
*

وقفة مع المظفر ، في "غفلة من الذاكرة "

راقبوا بيوت السياسيين..*
ستجدون عند كل بوابة طائرة مروحية
وفي كل حديقة خلفية يوجد مطار
فتشوا حقائبهم
ستلقون أكثر من جنسية وأكثر من جواز سفر
بلدنا لم يعد لهم وطنا
بل فندقا يعقدون في باحاته الصفقات

* * *

سأل الرجل *
لماذا صفعتني..
أجاب الرجل
لأنك قد صفعتني من قبل
أقسم
إننا مَن جعل عليا وعمر يتقاتلان
فلن يتوقف سيل الصفعات
إلا إذا إستدار الرجلان..
ليصفعا الرجل الذي في الخلف


- ما لون وطنية اليوم لبعضهم ؟
الجواب :
الوطنية حقوق وواجبات ومشاعر تعرف بمشروع الدولة الوطنية ذاتها ولهذا فإنها متغيرة مع تغير هذا المشروع. في دولة كالعراق, متعددة الطوائف والقوميات والأديان, الوطنية تعبر عن نفسها من خلال الإيمان بالمشروع الذي يحفظ وحدة العراق أولا, وبالمناهج التي تضع البلد على طريق العدالة والنهضة. الخروج على تعريف على هذا المستوى سيجعل من الوطنية تعبيرا منفلتا من أساسياته المادية والموضوعية.
خلال فترة طويلة من عمر الدولة العراقية المعاصرة جرى تعريف الوطنية بشكل يتناقض مع إعتباراتها الأساسية ومع أهدافها المرجوة, حتى أنها اصبحت مأوى للسياسيين القتلة, فما دمت بلا إرتباط مع الأجنبي فإن وطنيتك تصبح بمنأى عن الشكوك. وهكذا تم حصر تعريف الوطنية ضمن مساحة استخبارية أُريد لها أن لا تتوقف أمام مفاهيمها الأخلاقية والإنتاجية, أي أنها أصبحت نداً أو ضداً للعمالة لا غير. في جزء منها هي كذلك, فالتواصل مع الأجنبي إلى حد عقد التحالفات والتفاهمات المشتركة هو أمر أساسي ومطلوب على شرط أن يوضع ذلك في خدمة الحالة الوطنية ذاتها وعلى شرط أن يتم الدخول إلى القومي والإقليمي والأممي من خلال البوابة الوطنية وليس العكس أبداً.
لكن تعريف الوطنية لا يقف في مساحتها السياسية، لأن الجانب الأخلاقي يتقدم مساحة التعريف لكي يحرم اللص والفاسد والمرتشي من التواجد ضمن ساحتها. سبق وقلت أن الوطنية المختزلة بتعريفها المخابراتي غالبا ما تكون سلاحاً بيد الحاكم للقضاء على خصومه في وقت قد يكون هذا الحاكم نفسه خارج على المعنى الأخلاقي للوطنية نفسها.. صدام حسين بالمعنى المخابراتي للوطنية كان أفضل الجميع لكنه في التعريف الأخلاقي لها ، كان في الصفوف السيئة تماما, إذ على يديه تم زج وطن في مواجهات عبثية وغير متوازنة كان لها أن تجهض على مستقبله وكيانه, وفي عهده كانت الوطنية تعرف بصدام ولم يكن صدام قد عُرِّف بها.
أما على صعيد التمييز بين الناس فقد وصل إلى حد إضافة درجات نجاح لمجموعة جرى تصنيفها كأصدقاء للرئيس، مما أخل كثيراً بميزان العدالة وبحقوق المواطنة نفسها. ناهيك عن جملة من الممارسات الأخرى التي جعلت من جندي وزيراً للدفاع ومن عريف وزيراً لعدة وزارات سيادية.
في زمن الإسلام السياسي الحالي تمزق مفهوم الوطنية كثيراً نتيجة للتناقض القائم بين الفقه الإسلامي المذهبي ذا الطابع الإقليمي أو الأممي والفقه السياسي الوطني المعرف والمحدد بجغرافية الدولة الوطنية حتى أصبح الخروج على الوطنية, وحتى ارتكاب الخيانة بمعناها المتعارف عليه مجرد إختلاف في وجهات النظر.
بطبيعة الحال لا يمكن تعريف الوطنية إلا من خلال الوقوف أمام مكوناتها السياسية والمخابراتية والأخلاقية, وإن فقدان أيا من هذه العوامل سوف يجعل التعريف ناقصاً, إن لم يكن منحرفاً, ولدي قاعدة تقول: "إن الشخص غير العميل لن يكون بالضرورة وطنياً ما لم يستوفي الجوانب الأخلاقية للوطنية, وبالتالي فإن كل عميل هو غير وطني ولكن ليس كل من ليس عميلاً هو وطني بالسياق أو بالإستعاضة".
*
*
*
- لو قُدّر لك أن تحارب طواحين الغربة وتعود ، فأين ستفرش سجادتك وتصلي غيابا؟
الجواب:
على أية بقعة أرض عراقية أصل إليها أولا, سواء كانت في أربيل أو الأنبار أو كركوك أو البصرة, فالأرض العراقية جميعاً تتساوى من ناحية التوحد بين الأرض والإنسان, وإذا كنت قد تمنيت أن أُصلي بالقرب من شجرة آدم وعلى أرض بوابتها العراقية فلأني في ذلك أريد الجمع بين الرمز والنشوء, فالبصرة هي مسقط رأسي العراقي, وشجرة آدم تعطي العراق قدمه الإنساني ولذلك كتبت قصيدتي هنا البصرة, وقلت فيها:

أخذتني نحو عينيك ضياعات دروبي,
بت أراهما كشمعتين في نهاية النفق
إن الذين لا يعرفون طريقهم مثلي
هم من بحاجة إلى شمعتين للإستدلال
شمعتان من طين وماء وأغان عتيقة
وقوارب بابلية
ومسامير كتابة
هناك عند إلتقاء الشمعتين
وفي مضايف الرجال الشاربين من ماء الأهوار
وتحت شجرة بدأت عندها الخليقة
سأفرش سجادتي وأصلي
فأنا على أبواب أن أصل
إلى مسقط الرأس ومسقط الجثة
هنا البصرة
هنا لا شيء بعد البَعْد
هنا عاد سندباد السياب من رحلاته السبعة
لكي يعثر على كنزه بين الضلوع
فمن لي بكنز مثل كنزك يا سندباد
*
*
*
- مع من ستغمض عينيك لتحلم ؟
الجواب:
* معك يا فاطمة, فنحن نتشارك الحلم معاً ونكتبه, أنت قصيدة وأنا مقالة سياسية.
* ومع كل من يشاركنا الحلم نفسه، وإن اختلف شكل الرؤيا وطريقة إعلانها.
* مع زوجتي التي ما زالت تتحدث مع غرف دارها في الغزالية وجيرانها عبر السياج ومع
حديقتها التي لا تدخل منها إلا بعد أن تفرغ فيها كل محبتها للورد الذي زرعته.
* مع أصدقاء العمر الذين تركتهم في بغداد، وكأني تركت قطعة من فؤاد هناك وقطعة
من قلب في مكان آخر.
* مع مراجعي عيادتي الذين كنت أتعامل معهم كما أتعامل مع أهلي.
* مع أصدقاء ابني الذين يطرقون الباب متسائلين ( عمو.. غيث موجود).
* مع صديقات بناتي اللواتي كن طالبات معهما في طب وطب أسنان بغداد..
* مع ، ومع ، ومع..إلى ما لا أتستطيع عده....
* أملك قائمة واسعة من الأحبة ،يسعهم قلبي ، وها هو حلمي يتسع لهم أيضا ليصعدوا معي على جناحه.
*
*
*
- بين جنبات الروح قصائد شوق ، أمام من ستنثرها ؟
الجواب :
الرجاء إحذفي هذه ال (سين) التي سبقت كلمة (تنثرها) فأنا لم أكن بإنتظار الآتي لكي أنثره قصائد شوقي, بل أمارس حرفة نثر الشوق يومياً, وخاصة منذ أن غادرت العراق..
قيل لي لماذا هذا التمسك ببلد معروف بقسوة مناخه وسمائه وأهله وتخلفه, وأنت الآن تعيش في بلد كل ما هو فيه جميل, إنساناً وخضرة وماء..
قلت سأحكي لكم رواية.. حينما بدأ مشروع بناء عمارات شارع حيفا في منتصف السبعينات على حساب البيوت القديمة المتداعية امتنع (شيوخ) حارة "سوق حمادة " التي عشت فيها لسنوات ثلاث ،عن تنفيذ أمر الإنتقال إلى دور حديثة، أعطيت لهم كتعويض عن دورهم التي شملتها حملة الإزالة.. لم يتصوروا أن الحارة المتلاصقة البيوت والتي كانت النساء يتبادلن الحديث من خلال جدران سطوحها سوف تزال, أو أن المقهى الذي إعتادوا اللقاء به ليلعبوا " الدومينو " سوف يهدم , وحتى سواقي الأزقة الضيقة ، كان لهم رأي شاعري بها.
منذ أن غادرت بلدي، وأنا أشعر نفس شعور شيوخ سوق حمادة, الذين ظلوا ينثرون أشواقهم من نوافذ البنايات العالية الجديدة صوب بيوتهم القديمة المتلاصقة، ولأزقتها التي تنتصفها السواقي ،ولمقاهيهم التي تفوح منه رائحة الشاي وتعلو فيه ضربات قطع الدومينو.
قصائد شوق أنثرها يوميا من شرفة المبنى العالي، الذي أسكنه حالياً، صوب أزقة سوق حمادة, وأزقة مدينة الثورة، والحيدرخانة، وأزقة المعقل، وأهوار العراق , وكل حارات العراق التي ما استطاع الماء والخضراء والوجه الحسن القضاء على شوقي إليها.
" أنا ذاك المعلق على شرفة بناية ، مطلاً منها على وطن يسكن في سويداء القلب."
شكرا للأستاذ جعفر المظفر ، أتحفنا بشساعة ثقافته وحسه الأدبي وأفقه السياسي المعتدل .. وعلى أمل في حوار قادم مع شخصية جميلة أخرى..

________________
إسلاموفوبيا استحدثت منها إسلاموتوبيا بدلا من إسلاموي
تلاعبت في المفردتين "لطم ، ونوح " قرائتها بالمعكوس
لطم تقابل ملط
نوح تقابل حون
المِلْطُ: الخَبِيثُ من الرّجال الذي لا يُدْفَع إِليه شيء إِلا أَلْمَأَ عليه وذهَب به سَرَقاً واسْتِحلالاً " لسان العرب "
حون :الحانوتُ معروف، يذكّر ويؤنّث. الحاناتُ: المواضع التي يباع فيها الخمر. " الصّحّاح في اللغة"
من قصيدة المظفر "تفخيخ" : "بتصرف "
من قصيدة المظفر " الرجل الذي إلى الخلف " : "بتصرف "
من قصيدة " الزايمر" بتصرف



#فاطمة_الفلاحي (هاشتاغ)       Fatima_Alfalahi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر ا ...
- إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر ا ...
- أنت الوحيد
- إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر ا ...
- إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر ا ...
- إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر ا ...
- مراغ أفكار
- إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر ا ...
- عبث المرايا
- أخلد إليك
- خلف أسوار الذكريات
- التسول في محرابك
- ذات صحو من - رسائل شوق حبيسة منفى -
- طقوس عاشقة
- بسملة غروب
- شهقات وريد
- امرأة استثنائية
- أيامكن مندّاة بعطر الخزامى وبخور الرند - 8 آذار
- الخديعة في مخبأ العلّيةِ المهجور ..ل فيليب لاركن من الأدب ال ...
- الناقد الأكاديمي د. ثائر العذاري ، تتناسلنا قراءاته وتحرضنا ...


المزيد.....




- فرنسا: الجمعية الوطنية تصادق على قانون يمنع التمييز على أساس ...
- مقتل 45 شخصا على الأقل في سقوط حافلة من على جسر في جنوب إفري ...
- جنرال أمريكي يوضح سبب عدم تزويد إسرائيل بكل الأسلحة التي طلب ...
- شاهد: إفطار مجاني للصائمين في طهران خلال شهر رمضان
- لافروف عن سيناريو -بوليتيكو- لعزل روسيا.. -ليحلموا.. ليس في ...
- روسيا تصنع غواصات نووية من جيل جديد
- الدفاع الأمريكية تكشف عن محادثات أولية بشأن تمويل -قوة لحفظ ...
- الجزائر تعلن إجلاء 45 طفلا فلسطينيا و6 جزائريين جرحى عبر مطا ...
- لافروف: الغرب يحاول إقناعنا بعدم ضلوع أوكرانيا في هجوم -كروك ...
- Vivo تكشف عن أحد أفضل الهواتف القابلة للطي (فيديو)


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - فاطمة الفلاحي - إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر المظفر - بؤرة ضوء ..