أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صبري المقدسي - المسيحية: المنشأ والجذور والعقائد الدينية(الجزء الاول)















المزيد.....



المسيحية: المنشأ والجذور والعقائد الدينية(الجزء الاول)


صبري المقدسي

الحوار المتمدن-العدد: 4085 - 2013 / 5 / 7 - 16:54
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


المسيحية:
المنشأ والجذور والعقائد الروحية
هناك تفاسير وتعاريف عديدة في الموسوعات والقواميس العالمية، للديانة المسيحية. تتجنب البعض منها استخدام مصطلح (الديانة)، ذلك بإعتبار المسيحية مجرّد تعاليم أخلاقية، ليس فيها تشريعات وقوانين كما هي عليه الحال في بعض الديانات العالمية كاليهودية والاسلام.
ولكن مع ذلك هناك تعاريف عديدة للمسيحية إذ كل مذهب له تعريفه الخاص فالمذهب الارثوذكسي يرى بأن المسيحية: "ديانة مؤسسة بموجب تعاليم السيد المسيح الذي جاء لخلاص البشرية من عبودية الخطيئة ولجعل كل من يؤمن بها أو به حرّا من قيود الشر والخطيئة". وينظر اللاهوت البروتستانتي للمسيحية على أنها:"تعاليم أخلاقية سامية جاءت لرفع الانسان روحيا وسلوكيا". واللاهوت الكاثوليكي المعاصر يصنفها على أنها: "ديانة تاريخية تعبر عن ظهور الله في التاريخ في شخص إبنه يسوع المسيح الذي يريد أن جميع الناس يخلصون ويبلغون الى معرفة الحق". وأما المصادر العلمانية الغير المسيحية فتعدها على أنها: "ديانة سماوية، والمسيح يسوع، الشخصية الأساسية فيها".
مع تعاريف أخرى كثيرة توضح وجهات النظر الكنائسية المختلفة التي تجمع على حقيقة واحدة وهي: "أن المسيحية ديانة إلهية وإنسانية لكون مؤسسها يسوع المسيح هو إله وإنسان معا. أو هي تعاليم إلهية تدور حول شخص حيّ هو يسوع المسيح تجسّد في إنسان من مريم العذراء".
ومع ذلك يجب أن لا ننسى على أن المسيحية تتضمن طقوسا وأنظمة ووصايا وعقائد ومراسيم ملزمة مع نصوص مقدسة، وهي كلها من متطلبات المجتمع الذي تعيش فيه المسيحية، ويعيش فيه المسيحيون. فالافضل إذن إستخدام مصطلح (الديانة) للتعبير عنها، لأن المصطلح مستخدم في كل التجمعات الروحية في العالم والتي لها دلالة تاريخية، وتتطلب وجود نظام رموز يعمل في الجماعة ويثير لديهم حوافز قوية وعميقة ومستديمة عبر صياغة مفاهيم روحية تؤدي بالانسان والمجتمع الى التماسك والتعاون المشترك. ولما كانت المسيحية فيها من تلك العوامل ومعروفة بتاريخيتها وعطاءها وروحيتها فمن الممكن إذا القول انها بالاضافة الى كونها طريقة حياة جديدة فهي أيضا ديانة كغيرها من الديانات.
تذكر الاناجيل أن المسيحية جاءت لترفع البشرية الى الله ولتسمو بهم. فهي ليست تشريعات وقوانين بل تعاليم اخلاقية وسلوك روحي داخلي في روحها وجوهرها، تهتم في الاغلب بالقلب وبتغييره من الداخل أكثر مما تهتم بالخارج من طقوس تطهيرية ظاهرية كما في اليهودية التي تفرض الوضوء بالماء قبل الصلاة. فالماء الذي كان يغتسل به اليهود ويُعمّد به يوحنا المعمدان، يُطهّر الجسد فقط، وأما الروح الذي تتكلم عنه المسيحية، فهو لتطهير القلب من الخطايا. والغاية من المعمودية في المسيحية هي للتطهير من الداخل ولتجديد الحياة الروحية. وما تقوم به اليهودية من ختان للاطفال الذكور هو تطهير جزء زائد من جسم الذكور فقط، بإزالة جزء من الغرلة. ولكن الختان في المسيحية يختلف إختلافا كليا وجوهريا، إذ هو تطهير للجسم كله. ويجب الاشارة على أن التطهير المسيحي لا يقتصر على الذكور فقط بل يشمل الذكور والإناث معا في ما يُسمى بالولادة الجديدة. والغاية الرئيسة منه هي للتغيير من الداخل، فمن يُغيّر داخله فإن التغيير يشمل خارجه أيضا. ولكن إذا غيّر الانسان خارجه، فالتغيير قد لا يشمل داخله بالضرورة. ولهذا يسمي الكتاب المقدس المسيحيين بالقديسين. ومعنى ذلك أن المسيحي المُعمّد يكون قديسا، إذ يصبح إبناً أو بنتاً لله. وتتطلب هذه البنوة لله، الإقتداء بالمسيح يسوع وبأعماله. ولا يمكن للمسيحي بعد أن يؤمن إيمانا صادقا أن يقف موقف اللامبالاة تجاه السلوك والقيّم التي يدعو اليها المسيح، ولهذا فلا تكفي ممارسة الطقوس مثل الصوم والصلاة والعبادات المختلفة بل يتطلب من المؤمن التشبه بالمسيح والنظر الى ذاته والسعي الى الكمال الروحي المطلوب، والتسليم له كليا، والتزود بروح جديدة ملؤها المحبة والتضحية والتواضع.
فالمسيحية إذا لم تأتِ لتحط من قيمة الانسان وطموحاته بل لتحفظ كرامته وكرامة الانسانية. ولم يأتي يسوع المسيح الى العالم ليدين العالم بل ليرفعه ويعطيه الحياة الجديدة. ولذلك يبقي المسيح أملاً للبشر، كل البشر، في التغيير نحو الاحسن كما يقول الكاتب (هانس كونغ) في كتابه (هوية المسيحي) لمترجمه الاب صبحي الحموي اليسوعي ص 13: "المسيح أمل للثوار والمصلحين، يسحر رجال الفكر والبسطاء، وينادي الموهوبين وقليلي المواهب، ويحث على التفكير علماء اللاهوت والملحدين على السواء". ويضيف الكاتب في المصدر نفسه قائلا: "ان المسيحية ترتبط بشخص المسيح وقد تستطيع فصل مذهب عن صاحبه أو نظرية عن واضعها ولكنك لا تستطيع فصل المسيحية عن المسيح لأن تعاليمها وعقائدها تشكل وحدة واحدة مع مصيره وحياته وموته الى درجة أن الشخص والقضية يتطابقان تماما في يسوع الذي عاش على الارض وبالأحرى في يسوع الذي دخل في حياة الله".
يظن البعض خطأً أن المسيحية هي ديانة الغرب والغربيين أو هي ديانة الجنس الاوربي مع أنها إنطلقت من أورشليم(القدس) في اليهودية(فلسطين) وترعرعت في ربوعها وإرتوت من مناهلها وجداولها الغنية. ولعل مرجع هذا الاعتقاد يعود الى سيادة المسيحية في أوروبا ولقرون عديدة، مع أن المسيحية نشأت منذ بدايتها ديانة أممية، ولم تنشأ ديانة قومية، إذ لم تحصر نشاطها التبشيري في طائفة معيّنة، ولم توجه رسالتها لشعب واحد فقط، بل وجهت رسالتها لكل الشعوب والامم. والمسيح نفسه وإن كان إنساناً شرقيا في ثقافته إلا أنه كان أمميا وعالمياً، إذ لم يوجه خطابه لليهود فقط أو لجماعة ضد جماعة أخرى بل للإنسانية جمعاء. ولذلك خاطب من خلال تعاليمه كل الشعوب البشرية، وخرج من نطاق الفكر اليهودي الضيّق في رسالته الى النطاق العالمي الواسع، وعرف بكونه عولميا وثوريا من الدرجة الاولى، ومُجدّدا بإمتياز. وكل ما جاء به من تعليم، وإن كان تتمة للعهد القديم، إلا أنه كان جديدا بنفَسه وروحه وجوهره.
وتؤكد العقائد المسيحية على أن المسيحية ديانة الإله المُتجسد الذي جاء لكي يدعو البشرية اليه من خلال البشارة الحيّة والتي هي منبع كل حقيقة، ومصدر كل نظام خلقي بشر به يسوع ووضع أسسه للبشرية جمعاء وأمر رسله وتلاميذه ومعاونيهم وأتباعهم المؤمنين من بعدهم، بتطبيق وصاياه وتدوينها لكي تبقى ذخرا حيّا للعالم أجمع والى منتهى الدهور.
ويتبيّن للمطلعين على المسيحية وكتبها المقدسة على أن المسيحية لا تستند في تطبيقاتها العملية على ما يصنعه الانسان تجاه الله، بل على ما يصنعه الله تجاه الانسان، وعلى أنها لم تأتي الى العالم لكي تعمد البشر فقط، وإنما جاءت لكي تغير البشر نحو الاحسن، لأنها ديانة إلهية وإنسانية معا. والمسيح مؤسسها هو الإله الكامل والانسان الكامل الذي جسّد كلامه في محبته وأعماله ومعجزاته التي لا تزال حيّة في الجماعة التي تؤمن به. فهي بحاجة ماسة الى أن يُنيرها في أمور الحقائق الدينية والاخلاقية، وأن يجعلها معروفة لدى الجميع في تدبير إلهي، أبدي غير زائل زرعه (المسيح) في الكنيسة، وهو تدبير لم يتم الإفصاح الكامل عن مضمونه وسرّه ولكنه سوف يتم الكشف عن فحواه الكامل عبر الاجيال(التعليم المسيحي الجديد). ولذلك تحمل الكنيسة (عروس المسيح) هذا التدبير وتعتبره أمانة مقدسة عليها أن تحمله معها في كل مكان، فهي إذاً مسؤولة من نشره بين الناس الى أقاصي الارض "وأبواب الجحيم لن تقوى عليها". ويثبت التاريخ والتقاليد الكنسية على أن الكنيسة قاومت حقاً كل أنواع الاضطهادات عبر تاريخها الطويل، ولا تزال تعاني في كثير من المناطق، وتواجه المنع والاقصاء والتشريد ولكنها صمدت بقوة سيّدها الفادي الذي لا يمكن أن تذهب تضحيته عبثاً وهباءأ.
وكان للروحية المسيحية وأخلاقياتها تأثير كبير على المسيرة البشرية منذ القرن الميلادي الاول. إذ إتجهت وجهة دينية روحية سامية أساسها الكتاب المقدس والعمل بما يحض عليه من التسامي بالروح والتحلي بالفضيلة ونبذ الرذيلة والسعي في طريق حب الله والقريب. ولا تزال الاخلاقيات المسيحية تنتشر بين الافراد والشعوب وتؤثر إيجابيا على الاخلاقيات البشرية والتي لها صداها العميق بين البشر، والتي تبقى ينابيع حيّة تنهل منها المجتمعات البشرية الى منتهى الاجيال.
البدايات والتكوين:
لا نجد ذكر كلمة (فلسطين) في الكتاب المقدس. ولكن نجد ذكر الفلسطينيين لمرات عديدة، ونجد ذكر (أرض الكنعانيين) لأكثر من مئة مرة. وأما ذكر (أرض اسرائيل) فيأتي لمرة واحدة فقط، وذلك في انجيل متى وحده. وكانت تبلغ مساحة الارض التي يقال عنها اسرائيل واليهودية 235 كيلومتر مربع، ولم تبلغ أكثر من هذه المساحة في أي يوم من الايام. وكانت الارض تتقاسمها الشعوب التي كانت تعيش في سلام ووئام تارة، وفي نزاع وخصوم في معظم الاحيان، كما هي عليه الحال في وقتنا الحاضر.
يؤرخ اليهود تاريخهم ابتداءً من أبي المؤمنين (أبرام) الذي سُمي (ابراهيم) ومعناه أبي المؤمنين أو الأب الأكبر. ولهذا نجد مصطلح أبناء ابراهيم أو نسل ابراهيم في الكتاب المقدس مرارا وتكرارا. وكان منشأ ابراهيم الجد الاول لشعب اسرائيل في مدينة (أور) الكلدانية في جنوب العراق والواقعة على ضفاف نهر الفرات. حين دعى الله (أبرام) الى ترك عبادة الاوثان والايمان بإله واحد كلي القدرة، وأمره بالذهاب الى أرض جديدة، وإنشاء أمة جديدة في أرض كنعان. وغيّر الله أسم أبرام الى ابراهيم الذي يعني أبا لشعوب كثيرة، وأمره بختان كل ذكر من عشيرته كعلامة للعهد المُبرم بينه وبين الله. وتناقل الايمان بإله واحد من جيل الى جيل حتى مجىء المسيح ابن مريم.
كانت أرض اسرائيل في أيام يسوع يحكمها هيرودس الأدومي من سنة 37 ق. م الى سنة 4 ق. م ويرتبط اسم الملك هيرودس في ذاكرة المسيحيين بمذبحة أطفال بيت لحم، كما رواها متى الانجيلي. وقد حكم هيرودس الكبير، اسرائيل ببأس شديد، إذ كان سياسيا بارعا يميل كثيرا الى الرومان ويؤيد وجودهم. ولذلك ساعده الرومان في توسيع ممتلكات مملكته، فسموه بالكبير. ولم يكن هيرودس محبوبا بين اليهود لأنه كان ادومي الاصل ودخيلا على اليهودية. وعرف بكونه شديد القلق على حكمه، إذ كانت المعارضات المسلحة تشتد بين الحين والآخر ضد حكمه. وكان يقتل كل خصومه حتى إذا كانوا من أهل بيته وأولاده. والشىء الوحيد الذي كان يقلقه كثيرا كيفية السيطرة على كهنة اليهود.
وانقسمت مملكته بعد وفاته الى ثلاثة أقسام حكمها أولاده الثلاثة، إذ حكم ابنه أرخيلاوس القسم الاوسط من البلد والذي دام حكمه من 4 ق.م الى 6 م، ونُزع من منصبه ونفي الى غاليا(فرنسا)، بسبب الشكاوي الكثيرة ضده. وهيرودس أنتيباس الذي إستلم قسم الجليل والذي تهمنا فترة حكمه على الاكثر بسبب ظهور يوحنا المعمدان في عهده والذي كان أكثر إخوته شبها بوالده قسوة، ولقسوته سماه يسوع بالثعلب (لو 13 /32). وفيلبس الذي استلم الحكم في جزء من منطقة جناسرت الى آباشان الجبلية، وهي في معظمها من المناطق الجبلية في الشمال والشرق من البلاد، وغالبية ساكنيها من غير اليهود.
ومع كل هذه التقسيمات الجغرافية والسياسية في زمن يسوع المسيح، إلا أن الحكم في اسرائيل كان في الحقيقة بيد رجلين، هما هيرودس أنتيباس اليهودي، الذي كان واليا على الجليل، وبنطيوس بيلاطس الروماني الذي كان واليا على اليهودية والسامرة، والذي عُرف بجبنه وضعفه الشخصي وعجزه حتى عن معالجة المشاكل في ولايته. وبلغ عجزه الى درجة أن رؤساء اليهود أجبروه على إصدار الحكم بالصلب على يسوع مع علمه اليقين ببراءته. ومن شدة استيائه في حكم اليهود علق على الصليب صيغة (يسوع الناصري ملك اليهود) ليعبر عن كرهه لهم. وتوالى الحكام على السامرة واليهودية بعد بيلاطس حتى سنة 37 ميلادية الى أن توحدت ادارة الولايات تحت حكم هيرودس أغريبا الاول، وهو حفيد هيرودس الكبير الادومي الاصل، والذي كان آخر ملوك اليهود. ويعتبر المؤرخون، هيرودس أغريبا الاول، إنسانا حاذقا في الحكم وفطنا في الادارة مثل جده هيرودس الكبير، إذ إسطاع توحيد مملكة جده الاكبر. وكان الملك أغريبا يهتم بالديانة اليهودية ظاهريا ويصلي في الهيكل يوميا ويطارد المسيحيين ويسجنهم وينكل بهم شر تنكيل.
حكم بعد أغريبا الاول ابنه أغريبا الثاني الذي كان ضعيفا. وفقدت المملكة اليهودية في عهده كل قوتها، وباتت الامور في يد الولاة الرومان الى أن دمروا هيكل اورشليم سنة 70 ميلادية، بعد الازمات السياسية الشديدة مع اليهود الثائرين. وفي سنة 135 ميلادية أنهى الرومان كل وجود سياسي لليهود في المنطقة. وإستمر وضعهم في الشتات الى أن أسسوا دولتهم في سنة 1948 ميلادية، وهي قائمة الى يومنا هذا ولكن في حالة صراع دائم مع جيرانها العرب الذين لم يعترفوا بها كدولة شرعية لها الحق في الوجود.
كانت الثقافة الهيلنستية اليونانية الاغريقية قد إنتشرت في الشرق بسبب احتلال جيش أسكندر المقدوني لهذه المناطق بأكملها، حيث أراد اسكندر المقدوني السيطرة على هذه الشعوب سيطرة فعلية، وحاول صهرهم في شعب واحد وثقافة يونانية واحدة. ولكن الاحتلال الروماني لحوض البحر الأبيض المتوسط سنة 30 ق. م، غيّر مقاليد الأمور، إذ أن الفترة التي بدأت من طيباريوس(14 ـ 37 ) الى ترايانوس(98 ـ 117 )، هي فترة العهد الجديد، كان فيها المؤمنون المسيحيون يعيشون في بيئة يهودية آرامية هيلينستية(يونانية) رومانية. وكان الناس ينظرون إليهم على أنهم يشكلون بدعة من البدع اليهودية.
وأصبحت أرض يهوذا واسرائيل خاضعة لحكم الرومان، شأنها شأن معظم البلدان، من المحيط الأطلسي في الغرب إلى الشرق الأوسط، ومن الجزر البريطانية حتى الشواطىء الأفريقية. وكانت الضرائب تُثقل على كاهل الناس الذين كانوا يعيشون حالة يُرثى لها من الجوانب الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولم تكن الأوضاع الداخلية للمجتمع اليهودي الاسرائيلي في حال تفتخر بها الأمة الاسرائية، إذ كان الشعب في صراع بين التيارات الدينية المتشددة، وبين التيارات القومية المتشددة، وكذلك بين (الفريسييّين)، التيار الديني المُتشدّد وبين (الصادوقييّن)، التيار الديني المُتحرّر.
ففي هذه البيئة المليئة بالتناقضات الدينية والسياسية واللغوية والاجتماعية والثقافية جاء الى العالم المعلم الاعظم يسوع المسيح الذي كان عليه أن يأخذ موقفا من كل هذه الامور، وأن يكون حاضرا لشعبه بجميع طبقاته، ليداوي جروحهم ويشفي أمراضهم ويعزي تعساءهم، ويقف موقفا داعما للبؤساء والمظلومين ورافضا للظلم والعدوان ومبشرا للجميع بقرب ملكوت الله وبشمول البشرى السارة لكل البشر.
النصوص المقدسة:
تعود المسيحية بجذورها الروحية والاخلاقية الى اليهودية، التي تتشارك معها في الإيمان بكتاب يسمى العهد القديم، والذي يتكون من كتب التوراة الخمسة (توراه) وكتب الشريعة(كتوبيم) وكتب الانبياء (نبويم). بالاضافة الى الكتب المسيحية الاساسية التي تسمى بالاناجيل مع رسائل بولس الرسول وأعمال الرسل والرسائل الرعاوية وكتاب سفر الرؤيا للقديس يوحنا الانجيلي.
وتعني كلمة العهد: الميثاق أو الوصية Covenant (الميثاق بين الله والانسان)، الذي بدأ مع ابراهيم وتجدد مع النبي موسى حينما تلقى الناموس (لوحي الوصايا)، وتمّ كمال العهد مع المسيح يسوع (إبن الانسان ـ ابن الله).
وينظر بعض المسيحيون الى العهد القديم والى تاريخه وأنبيائه على أنه الكتاب الخاص باليهودية(الكتاب العبراني)، ولا يحتاج المسيحي الى إستعماله في صلواته أو طقوسه الدينية مع ان الكثير من الكنائس تستخدمه في الصلوات والطقوس الدينية. إذ يرى معظم الآباء المفكرين واللاهوتيين أنه من الضروري إستخدام العهد القديم مع العهد الجديد لمعرفة خطة الله الخلاصيّة وجذورها العبرية اليهودية. وأما العهد الجديد فهو الكتاب الخاص بالمسيحية وتجد الكنيسة فيه غذاءَها وقوتها إذ أنها تتلقى فيه كلمة الله.
ويحتوي العهد الجديد مع العهد القديم في نظر المسيحيين على الحقيقة الموحى بها من اللهً، والتي دونت بإلهام من الروح القدس. ولهذا تحيط الكنيسة الكتاب المقدس بالاحترام والإجلال. ولكنها لا تنظر الى كتابها المقدس بأنه منزل من السماء، بل تعتبره كتاباً موحىً به من الله. فالمسيحية إذا هي ديانة الكلمة المُتجسد(يسوع المسيح) الذي تدور حوله الكتب المقدسة جميعها من سفر التكوين في التوراة الى سفر الرؤيا اليوحناوي.
كان المسيحيون الأوائل يستخدمون النصوص المكتوبة من قبل بعض الرسل والمفكرين المسيحيين في طقوسهم الكنسيّة ويعدّونها نصوصا مقدسة، وذلك منذ القرن الميلادي الأول. وأختار آباء الكنيسة 27 نصا من هذه النصوص وجمعوها في ما سُمي بالعهد الجديد. ويتكون العهد الجديد من الأناجيل الأربعة ـ متى ومرقس ولوقا ويوحنا، وسفر أعمال الرسل، ومن الرسائل الرسولية المُرسلة الى الكنائس 21 رسالة، مع سفر الرؤيا ليوحنا الانجيلي). ويعطي آباء الكنيسة وعلماء الكتاب المقدس (الكاثوليك والبروتستانت)، تواريخ تقديرية عن كتابة الاناجيل:
انجيل مرقس: كتب بين سنة 68 ـ 73 ميلادية.
انجيل متى: كتب بين سنة 70 ـ 100 ميلادية.
انجيل لوقا: كتب بين سنة 80 ـ 100 ميلادية.
انجيل يوحنا: كتب بين سنة 90 ـ 110 ميلادية.
ويُسمي العلماء، الأناجيل الثلاثة الأولى بالأزائية synoptic Gospels ، لكونها تتشابه في القواعد الأساسية نفسها مع الاختلاف في الخصوصيّات وفي طريقة التحليل والعرض. في ما عدا انجيل يوحنا الذي له خصوصيّته الفريدة من نوعها، إذ تختلف طريقته اللآهوتية عن الثلاثة الأولى، مع الاحتفاظ في طبيعة الحال على الركائز الأيمانية نفسها كما في الأناجيل الأزائية.
فالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد إذا: "قد أوحي به من الله وهو مُفيد للتعليم وللتقويم وللتهذيب بالبر" 2 تيموثاوس 3/ 16. والغاية منه هي لتعليم المؤمنين، وهو المرجع الوحيد مع التقاليد الكنسيّة (بحسب الكنيسة الكاثوليكية) للدين والأيمان. ويعدّ الكتاب المقدس بأسفاره الثلاث والسبعين(46 سفراً للعهد القديم و27 سفرا للعهد الجديد)، كتاباً متكاملا في وحدته، نوراً ومصباحا لسبيل المؤمنين في كل أمور حياتهم الروحية والتربوية والأخلاقية، لا يناله الزوال الى المنتهى، لأن أسفاره من وحي إلهي، تحتفظ بقيمتها الروحية والخلاصية الى الأبد. ولذلك من يقرأ الكتاب المقدس بصدق وحسن نية يرى بأنه كتاب واحد يجمعه وحدة الموضوع والهدف، ويدور بأسفاره حول شخص واحد هو يسوع المسيح. والوحدة الموجودة في مواضيعه، يعتبرها المفكرون معجزة حقيقية رغم أنه كتب في فترة زمنية تتجاوز 2600 سنة، وإشترك في كتابته 49 كاتباً، وفي مختلف المهن والاختصاصات البشرية، ومن مختلف الخلفيات الاجتماعية والأدبية والاقتصادية، إذ منهم من كان ملكاً وراعياً وطبيباً وصياداً وفيلسوفاً وشاعراً وقائداً عسكرياً وعشاراً ورئيساً للوزراء. وتمت كتابته في أماكن متنوعة مثل روما وبين النهرين ومصر، أي أنه كتب في ثلاث قارات (آسيا وأفريقيا وأوروبا). وتختلف مواضيعه من الأخلاقية الى الأدبية والتاريخية والحكمية والتربوية والتشريعية والنبوية والسير الذاتية مع أسلوب الشعر والمقالة والمثل والحكاية والقصة والاقصوصة والاسطورة وتراجم حياة ومراسلات ومذكرات شخصية وألوان من الاسلوب المسرحي المأساوي.
عملت الكنيسة على تثبيت قانونية الكتاب المقدس في القرن الخامس الميلادي، وفي زمن البابا (إينسنت الأول Pope Innocent I ) واختارت بالاجماع الأناجيل الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا). وكان ذلك من خلال مجامع عديدة مثل(مجمع روما سنة 382 Council of Rome) ومجمع (هيبو سنة 393 Synod of Hippo ) ومجمع (كارثيج سنة 397 و 419 Synods of Carthage). وأعطت تلك المجامع الشرعية لتثبيت قانونية الكتب المقدسة، وأصبحت الحافز القويّ لظهور الترجمة الأولى للكتاب المقدس من قبل المطران ايرونيموس جيروم وتحت إدارة البابا داماسوس سنة 382 ميلادية الى اللغة اللآتينية والمعروفة بترجمة (الفولغاتا Vulgate).
وتعتبر (العبرية والآرامية) للعهد القديم، اللغتات الأصليتان بالنسبة الى العهد القديم وأما اللغة اليونانية فهي اللغة الاصلية بالنسبة الى العهد الجديد. وظهر الكتاب المقدس بكامله في اللغة الانجليزية ولأول مرة في القرن الرابع عشر. وترجم المُبشرون المسيحيون الكتاب المقدس بعد ذلك التاريخ الى كل اللغات المكتوبة في العالم.
وهذه نبذه عن تاريخ الترجمات للكتاب المقدس:
الترجمة السبعينية للعهد القديم الى اليونانية وهي ترجمة الكتاب العبراني الذي يُسمى في المسيحية بالعهد القديم الى اللغة اليونانية لأول مرة في التاريخ البشري، وهي من أشهر الترجمات اليونانية. وقد بدأت بترجمتها لجنة من العلماء اليهود تحت رعاية بطليموس فيلادلفوس عام 285 ق.م. وسُميّت بالسبيعنية بسبب اشتراك سبعين شيخا يهوديا قاموا بالترجمة في مدينة الاسكندرية المصرية.
الترجمة القوطية سنة 312 ميلادية والتي قام بها الاسقف أولفيلاس وهي لا تزال محفوظة في المخطوطات.
الترجمة الى اللغة اللاتينية في سنة 382 ميلادية، من قبل المطران ايرونيموس جيروم والتي سُميّت بالفولغاتا(الشعبية) وهي الترجمة الكاثوليكية الاولى التي تعتز بها الكنيسة وتعدّها دليلا قويّا على شرعيّتها الرسولية القديمة وتاريخها العريق.
الترجمة القبطية الاولى والتي أنجزت في القرن الميلادي الثالث، والتي ما تزال تستعمل في الطقوس المسيحية للكنيسة القبطية في مصر والسودان واثيوبيا والكنائس القبطية في المهجر.
الترجمة السريانية الاولى للكتاب المقدس والتي انجزت في القرن الرابع الميلادي والتي سُميّت بالبشيطا(البسيطة) والتي ما زالت تستخدم في الطقوس الكنسيّة للكنائس الشرقية الآشورية والكلدانية والسريانية.
الترجمة الى اللغة الصينية والتي انجزت من قبل المبشرين المشرقيين(كنيسة المشرق) في سنة 640 ميلادية والتي قدمت هدية الى الامبراطور الصيني(تاي تسونغ).
الترجمة الأرمنية في القرن الخامس والتي تستعمل من قبل الكنيسة الأرمنية الارثوذكسية والأرمنية الكاثوليكية في طقوسها الكنسية الى يومنا هذا.
الترجمة السلافية القديمة والتي أنجزت في القرن التاسع الميلادي والتي ما تزال تستعمل في الكنائس الارثوذكسية في روسيا والبلدان التي تنتشر فيها الجاليات الروسية.
الترجمة الانجليزية من اللغة اللاتينية والتي أنجزت من قبل (جان ويكليف) سنة 1384 ميلادية، والتي مُنعت من التداول في مجمع اكسفورد سنة 1408.
الترجمة الالمانية باستعمال الحروف المعدنية ولأول مرة في ماينز بألمانيا والتي أنجزت في سنة 1450 ميلادية. وطبعت بعد ذلك بالايطالية في سنة 1471 ميلادية، ثم بالفرنسية والهولندية والاسبانية.
الترجمة الى الالمانية والتي إعتبرت من أشهر الترجمات جميعها والتي تمت من قبل المصلح البروتستاني الكبير (مارتن لوثر) في سنة 1532، وترجم الكتاب بكامله الى الانجليزية في سنة 1526 م. وأشتهرت بعدها ترجمة (مايلز كوفردال) التي عرفت بأسم الملك هنري الثامن.
الترجمة الى اللغة الصينية سنة 1615 ميلادية، مع ترجمة النصوص الطقسيّة والتي أثرت على انتشار المسيحية السريع في هذه الفترة وأوقفتها الاضطهادات القاسية من قبل الأباطرة الصينيين.
الترجمة العربية الاولى التي أنجزت في اشبيليا(اسبانيا) سنة 724 ميلادية. والترجمة التي انجزها ابن العسّال من اللغة القبطية الى اللغة العربية في 1250 ميلادية، إذ طبع الكتاب المقدس ولأول مرة سنة 1645 ميلادية، ثم تلتها الطبعات الاخرى في لندن سنة 1657 م. وتلتها كذلك الطبعة التي أشرف عليها المطران سركيس الرزّي في روما سنة 1671م. ثم طبعة فارس الشدياق سنة 1865 والمعروفة بترجمة البستان ـ فاندايك.
ترجمة الآباء الدومنيكان في الموصل عام 1878 ومن بعدهم ترجمة الأباء اليسوعيين في بيروت سنة 1880 ميلادية.
مع الترجمة العربية الحديثة الصادرة عن جمعيّات الكتاب المقدس والترجمات الكاثوليكية الجديدة. والترجمة المشتركة لجمعية الكتاب المقدس من قبل لجنة من اللاهوتيين الكاثوليك والإرثوذكس والبروتستانت بصياغة الشاعر يوسف الخال. والترجمة التفسيرية وهي ترجمة مشتركة لدار الكتاب المقدس وضعتها لجنة مؤلفة من علماء الكتاب المقدس ولاهوتيين من مختلف الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية.
وبلغت الترجمات العالمية للكتاب المقدس أكثر من 2.200 لغة ولهجة، ويُمثل هذا الرقم ثلث اللغات المعروفة في العالم والتي يبلغ عددها أكثر من 6.500 لغة ولهجة.
الكتب المنحولة:
كتب المسيحيون الأولون قصة المسيح بإسلوب جديد سموه الأنجيل ومعنى الكلمة في اللغة اليونانية (البشرى السّارة)، إذ أخذ الكثير من المسيحيين بتأليف قصة في الأمور التي حدثت بخصوص المسيح، كما يقول الانجيلي لوقا في بداية إنجيله:"اذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المُتيّقنة عندنا، كما سلمها الينا، الذين كانوا منذ البدء معاينيّن وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضا، إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحّة الكلام الذي علمّت به". ويُؤكد هذا المقطع من انجيل لوقا على وجود أناجيل كثيرة عن المسيح منذ القرن الأول للمسيحية. وكان للكنيسة أسبابها الشرعيّة بقبول الأناجيل الاربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) دون غيرها من الأناجيل، بإعتبارها الكتب القانونية الوحيدة عن المسيح ورسالته دون غيرها. إلا أن الجماعات المسيحية كانت تتداول كتبا اخرى تتناول فيها قصة المسيح وأقواله وعجائبه، ولم تقبلها الكنيسة بسبب الشكوك حول مؤلفيها والوقت الذي كتبت فيه وضعف شهادات كاتبيها وعدم دقة الحوادث التي كتبوا عنها وبُعدهم عن الأيمان القويم. لذلك رفضتها الكنيسة ورفضها الآباء اللآهوتيين الأوائل والشعب المؤمن.
وهذه قائمة بالكتب غير القانونية، وهي الأناجيل التي لم تقبلها الكنيسة بإعتبارها شهادات غير حيّة وغير دقيقة عن المسيح وعن العقائد المسيحية، ولهذا تسميها الكنيسة بالأناجيل المزوّرة أو المنحولة: Gospels Apocrypha
انجيل توما.
انجيل الحق.
انجيل فيليب.
انجيل بطرس كتب بين سنة 90 ـ 120.
انجيل مريم المجدلية.
انجيل المصريين.
انجيل العبرانيين.
انجيل يعقوب.
انجيل يهودا.
انجيل برنابا ( كتب في القرون الوسطى).
الطوائف اليهودية في عهد المسيح:
إنقسمت اليهودية الى طوائف ومذاهب منذ الأيام الاولى من تأسيسها مثل غيرها من الأديان في العالم. وكانت اليهودية تنقسم الى جماعة الفريسيين والصادوقيين وفرقة الغيارى والأسينيين في فترة نشوء المسيحية. ولكي نفهم المسيحية التي نشأت وترعرعت في اليهودية علينا أن نكون على علم بطوائفها في تلك الفترة الزمنية.
الفريسيون، هم طائفة من المُعلمين للشريعة ومن المُحافظين على القوانين والنواميس الشرعيّة بحسب حرفية التوراة والناموس الموسوي، لاسيّما في ما يتعلق بيوم السبت والطهارة الطقسيّة ودفع العشور ومُمارسة الشريعة ممارسة ًدقيقة. سماهم خصومهم بالفريسيّين بمعنى المنعزلين، وفي الآرامية (بريشى). أما إسمهم الحقيقي فهو الأحبار(حباريم ـ رفاق)، إذ كانوا هكذا يُسمّون أنفسهم. وكان للفريسيين تأثير كبير على المجتمع اليهودي لأنهم كانوا القوة الدينية الحقيقية التي تدير الشعب روحيّا. ولم يكن هدفهم سياسيّا بل روحيّاً محضا. ويذكر الخوري بولس الفغالي في كتابه (مسيرة الكتاب من التكوين الى الرؤيا) ص 62 ما يلي: "تعود جذور الفريسية العميقة الى أيام عزريا ونحميا مع إعادة بناء الهيكل وأسوار أورشليم ... ويبدو أنهم تأسسوا بصورة رسمية في أيام المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد". وقال فيهم يسوع:"تؤدون عشر النعنع والشمرة والكمون وتهملون أهم ما في الشريعة أي العدل والرحمة والأمانة" 23 /23. وندد بهم يسوع مرارا وتكراراً قائلا لهم: تحبون الفضة ومال الأرامل، والمظاهر الخارجية وقبول التحية في الاسواق والبحث عن المقاعد الاولى في المجامع والولائم. ومع كل الجدالات والمواقف الحادة بينه وبينهم إلا أنه لم يمتنع دخول بيوتهم، حيث دعاه فريسي للطعام في بيته فدخل وجلس معه للطعام" لوقا 11 / 37 ". ودعا أيضا نفسه الى بيت أحد رؤساء الفريسيين "لو 14 / 1" . وصادق بعضا منهم وأعجبوا بشخصيته ودافعوا عنه مثل نيقاديموس ويوسف الرامي كما في يو 19 / 37 .
الصادوقيون: طائفة من اليهود الكهنة التي نشأت قبل الهدم الثاني لهيكل سُليمان بقرنيين (كان التدمير الأخير للهيكل سنة 70 ق.م). وكانوا معظمهم من عوائل ارستقراطية وتجارية، يتعاملون مع الرومان بوّد وإحترام من دون أن يحاولوا مُحاربتهم وإخراجهم من البلد. وكان الصادوقيون ينتمون إجمالا إلى الكهنة، ولا يرتبط إسمهم بكلمة صاديق بل بكلمة صادوق الذي جعله سليمان على رأس كهنة أورشليم، فأمّنوا خدمة الهيكل منذ ذلك الحين الى وقت الجلاء. وعرفوا بإختلاف عقائدهم وتفسيراتهم الخاصة للتوراة وإختلافهم مع الفريسيين ولاسيما في نكرانهم لوجود الملائكة والارواح وقيامة الأموات. ولم يتصادم (الصادوقيون) مع يسوع مثلما فعل الفريسيّيون، ومن الممكن أن يكون هذا هو السبب في عدم ذكرهم كثيرا في الأناجيل. والشىء المعروف عنهم من خلال الاناجيل أنهم كانوا من أغنياء اليهود (الطبقة الأرستقراطية)، إذ كانوا يتبنون موقفا علمانيا مُتحرّراً تجاه ممارسة الفريسييّن الدينية المُتشددة.
الكتبة: يرتقي عملهم الى زمن العودة من الجلاء البابلي وعرفوا بكونهم طبقة من مفسري الشريعة، من الكهنة واللاويين، مع وجود طبقة من أفراد الشعب الذين إختصوا بدراسة الشريعة وتفسيرها بينهم أيضا.
الأسينيّة: كان الاسينيون طائفة دينية يهودية، يجمعون النظام الرهباني مع ميول نسكية لأول مرة في التاريخ اليهودي. وعُرفت هذه الطائفة حديثا بعد إكتشافات كهوف قمران سنة 1945 ميلادية في منطقة بحر الميت (أريحا) في الصحراء الاردنية. ويظهر إسمهم في شكلين: أسانوي أو أسيني، أو الساكتين. والرأي الأصح (بحسب المحيط الجامع في الكتاب المقدس) هو الشفائين من اللفظة السريانية: أسيا(طبيب). كان الأسينيون يعيشون في مُجمّعات صغيرة، يُفضلون البتولية ويتقاسمون كل شىء مع بعضهم البعض في نظام اشتراكي رهباني وذلك في حوالي سنة 100 ق. م. وكانوا يمتنعون المشاركة في الحروب والاعمال التجارية، ويعملون من أجل قوتهم البسيط في الزراعة والأعمال اليدوية. ويستعملون الوضوء ويحترمون السبت إحتراما شديدا، ولم يكونوا يؤمنون بالذبائح الحيوانية.
الغيارى: كان الغيارى جماعة سياسية قومية، يُؤمنون بمجىء المسيح القريب كمخلص يُحارب الرومان بأستعمال القوّة، ومن المنتمين الى هذه الجماعة في عهد المسيح: سمعان الغيور ويهوذا الاسخريوطي وباراباس الذي اطلق سراحه بيلاطس البنطي في عيد الفصح، مع انه كان مجرما وقاتلا. عرف هذا الحزب بأصوليته وتعصّبه الشديد لليهودية إذ كانوا يمزجون الدين بالسياسة ويؤمنون بالثورة التحريرية ضد الرومان بأستعمال كل الطرق الإرهابية للوصول الى غايتهم السياسية. بدأت قوّة الغيارى السياسية تظهر في سنة 44 ميلادية، إذ اشتدّ دورهم في الثورة الشعبية سنة 66 ميلادية والتي أدت الى تدمير هيكل اورشليم سنة 70 ميلادية.
كانت تلك الطوائف تمثل معظم اليهود الذين إنتشروا في الامبراطورية الرومانية في جميع ممالك الشرق منذ القرن السادس قبل الميلاد، بسبب الحروب وسياسات الأسر التي كانت تستخدمها الدول القديمة ضد بعضها البعض. ولما نشأت المسيحية في فلسطين توجه الرسل الجليليون ببشرى الخلاص الى هؤلاء اليهود والى اليهود الذين كانوا في الشتات(المهجر) أولا، ومن ثم الى الوثنيين(الهلينستيين)، الرومان، المصريين، الرافدينيين، الفرس، الهنود وغيرهم. فأقبل الكثيرون على هذه العقيدة الجديدة وأصبحوا في عداد تلاميذ المسيح. وهكذا ولدت المسيحية التي إنفتحت على كل الأجناس البشرية وبسرعة شديدة. وكان مجمع أورشليم سنة 49 ميلادية، بمثابة أول مجمع مسيحي يأخذ قرارا هاما جدا حول أممية الديانة المسيحية بإعطائها زخما قويّا لكي تنتشر في المناطق الرومانية والمناطق المجاورة. وبقيت الجاليات اليهودية النواة الاولى لنشر المسيحية في القرن الميلادي الأول.
ولقد تم انتشار الإيمان المسيحي بحسب كتاب أعمال الرسل بدافع من الروح القدس وبتشجيعه للخروج من حرفية الشريعة والإنطلاق نحو العالمية، من دون المرور في الشريعة اليهودية الضيقة والمتشددة. وكان الروح القدس(الاقنوم الثاني من الثالوث الأقدس)، الدافع والمُشجع والمؤيّد، الذي يمنح الحكمة والجرأة والقوة في مواجهة المصاعب، لسماع الكلمة وخدمة الجماعة بتضحية كبيرة وبتواضع عميق.
المهيىء لطريق الرب:
كان الانسان موضوع الخلاص الاهم الذي أراد الله تحريره من عبودية الشر والخطيئة من خلال تاريخ شعب الله، ومن خلال تاريخ تطور النبوءة في الكتاب المقدس. وبلغت النبوءة في اسرائيل معناها الحقيقي كدعوة خاصة، إذ لم يكن النبي إلا رائيا ينادي وينطق بإسم الله من خلال كرازاته وحياته، والناطق الحيّ عن وحي الله والمستقبل. وأعتبر النبي موسى أول حلقة من الانبياء كما جاء في سفر تثنية الاشتراع: "وأقيم لهم نبيا من بين اخوتهم مثلك والقي كلامي في فمه فيخاطبهم بجميع ما أمره به"، تث 18 / 18. حيث أقامه الله وسيط العهد وإختاره مخلصا لشعبه من عبودية مصر. وأصبح قائداً تاريخياً وصاحب دعوة امتزجت بشخصه حتى عُرف بها وعُرفت به. ولم يقم من بعد نبي في اسرائيل كموسى الذي عرفه الرب وجها الى وجه ((سفر تثنية الاشتراع 34 / 10). مع انبياء آخرون كثيرون أقامهم الله وتنبأوا عن مجىء المسيح الى أن جاء يوحنا المعمدان الذي دعاه المسيح في انجيل متى 11 / 9 نبيا وأعظم من نبي.
تكلم الانبياء في العهد القديم جميعهم عن مجىء المسيح الفادي والمخلص. وكانت النبوات حيّة وناطقة وهي أقرب على أذهاننا اليوم من سامعيها في عهد الانبياء، وذلك لبعدها عن فهمهم ولبعدها الزمني الفاصل لتحقيقها في تلك الفترة، كما يثبت قول المسيح لتلميذي عماوس في لوقا 24 / 25 :"ما أقصر ابصاركما وما أبطأ قلوبكما في الايمان بكل ما نطقت به الانبياء، ثم فسر لهما ما يختص به في الاسفار كلها ذاهبا من موسى الى جميع الانبياء".
ولما كان المعمدان النبي الاخير في سلسلة الانبياء، كما يؤكد على ذلك قول أبوه زكريا في انجيل لوقا:"أنت أيها الصبي نبي العليّ تدعى لأنك تسبق امام وجه الرب لتعد طرقه وتعطي شعبه علم الخلاص لمغفرة خطاياهم". لذلك كان من الصعب الحديث عن المسيح من دون التكلم عن يوحنا ورسالته، وهو القريب للمسيح من طرف والدته، إذ ولد يوحنا قبل يسوع بنحو ستة أشهر، من اليصابات التي منيت بالعجز في الانجاب الى درجة أنها وزوجها بلغ بهما اليأس ودخل الشك في قلبيهما، إلا أن الله تذكرهما واعطاهما ابنا وسمياه يوحنا والذي معناه (تحنن الله أو حنان الله) لكي يكون خاتمة انبياء العهد القديم والحلقة التي تربط بين العهد القديم والعهد الجديد، وبين عهد الناموس وعهد النعمة. ولقد امتلأ يوحنا من الروح القدس وهو جنين في بطن أمه، ليحضّر الطريق ليسوع بكر الانسانية الجديدة. وفي لقاء مريم مع أمه اليصابات إهتز الجنين (يوحنا) في بطنها وإمتلأ من الروح القدس بعد أن وقع سلام مريم في أذنيها. وكان يوحنا رمزا للفرح والبهجة لعائلته وجيرانه وشعبه وللعالم أجمع بحيث كل من سمع بولادته العجيبة كان يقول في نفسه:"ماذا عسى أن يكون هذا الصبي؟ وفي الحقيقة، كانت يد الرب معه" لوقا 1 / 66 . فأبوه وأمه كانا سليلا أسرة كهنوتية مرموقة، وأبوه الذي رأى فيه الخلاص كان يعده لكي يكون كاهنا يخلفه في وظيفته الكهنوتية ويواصل مسيرة الاسرة الكهنوتية. ولكنه نشأ في الصحراء وعاش حياة الزهد وإنكار الذات التي تميز بها أنبياء الله الذين سبق وأن أرسلهم الله عبر التاريخ الاسرائيلي العريق لتقويم مسيرة الشعب الايمانية وتذكيره بوعود الله الخلاصية.
كان يوحنا يمثل الرحمة الإلهية التي احتاجت اليها البشرية إذ كان: "الخير والرحمة يتبعانه كل أيام حياته" مزمور 23 / 6. وأظهر الله في شخص يوحنا المعمدان رحمته لشعب اسرائيل بعد انقطاع النبوءة لفترة طويلة، وتذكر الله ميثاقه مع ابراهيم واسحق ويعقوب، واستعاد الشعب ثقته في الله وفي كلمته بمجيء المعمدان، وتمم الرب عهده المقدس وصنع الرحمة التي وعد بها.
وقد سبق يوحنا المسيح بالولادة والكرازة، وإختار الخدمة في العراء التي أراد أن يجعلها معبدا مقدسا لتفرح به البرية والارض اليابسة، ولتبتهج به الطبيعة ابتهاجا ولترنم ترنيمات روحية للرب كما جاء في مزمور داود النبي 63: "عطشت اليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء ....". وكانت تخرج اليه الجموع ليتوبوا وليعتمدوا. ومن الذين خرجوا لسماع خطاباته قادة اليهود والفريسيين الذين لم يرتاحوا له واعتبروه خطرا على سلطتهم الدينية، والهيرودسيين الذين اعتبروه رمزا للثورة ضد هيرودس، والصدوقيين الذين لم يرتاحوا له لأنه كان يقلب أفكار الشعب في القيامة والدينونة، فقرر الجميع التخلص منه بكل الوسائل الممكنة، الى أن قتله هيرودس بقطع رأسه هدية لسالومي الراقصة إبنة هيروديا عشيقته.
حافظ يوحنا على حياة التقوى والطاعة والزهد والتضحية المستمرة، طامعا بالخلود ومعلنا بوجود قيّم روحية أسمى وأرفع من القيم المادية والزمنية، مناديا بأعلى صوته بالرجوع الى طاعة الله والى طاعة شريعته، مشيرا الى يسوع المسيح الذي دعا الى اتباعه لكونه ابن الله. وكان يوحنا شاهدا للحق لم يكن يحابي الوجوه، ولم يكن يخاف الحكام والسلاطين بل كان يطلب منهم تغيير سلوكهم بنبرة صوتية نبوية وبغيرة ايمانية أواخرية. وإهتمامه الوحيد كان في تأسيس ملكوت روحي وليس أرضي وزمني.
عاش المعمدان حياة قريبة في شكلها وزهدها لحياة الجماعات الاسينية الذين انعزلوا عن اليهود ومدنهم، ليعيشوا حياة جماعية رهبانية مشتركة في منطقة قمران شمال غرب البحر الميت. ويقال أنه كان على إتصال بهم أو لربما كان منتميا اليهم في فترة من فترات حياته. ويثبت على ذلك التشابه الكبير بين زهده وزهد تلك الجماعة، وبين تعاليمه عن التوبة وتعاليمهم، وأسلوبه في التحضير لمجىء المخلص وأسلوبهم، إذ لم ينعزلوا العالم إلا ليهيئوا الطريق لمجىء المسيا أي المسيح.
وكان المعمدان يُعمّد كل من يأتي اليه معمودية التوبة التي ترمز الى العهد الجديد الذي يبدأ بالمسيح المنتظر. ولم يكن لمعموديته أن تهب البنوّة لله، لأنه كان يعمد بالماء وليس بالروح القدس. ومن الممكن القول بأن المعمدان طوى الحياة ما بين عهدين مقدسين، إذ به خُتم العهد القديم، وبه أيضا بدأ العهد الجديد. فهو النبي والرسول وخاتم الانبياء بالنسبة الى أنبياء العهد القديم، وأول المرسلين بالنسبة الى رسل العهد الجديد. كان يوجه كلامه مباشرة لسامعيه طالبا منهم تبديلا في المواقف. ويوجه تحريضاته المضطرمة الى الفريسيين والصادوقيين والقوافل التجارية المارة بالقرب منه. لهذا ذاع صيته في كل مكان بخطاباته النارية في كل فرصة تسنح له، كما جاء في انجيل يوحنا 1/ 24 ـ 27 :"أنا صوت صارخٍ في البريةِ قَوموا طريق الرب... أنا أعمدكم بالماء، وبينكم من لا تعرِفونه، الذي يأتي بعدي، وهو أعظم مني، وأنا لست أهلا لأحل رِباط حِذائه". وكان يخطب بقرب مجىء ملكوت الله وقرب مجىء الرب ليسود شعبه، الذي يأخذ بيده المذراة التي تفرز الحنطة عن القش، فيحفظ الحنطة في الاهراء، ويحرق القش في النار التي لا تطفأ. فالمعمدان يقدم المسيح كديان يأتي ليقوم بالتذرية بنفسه. ويراه بأنه العارف بالقلوب والقادر بفصل الناس بحكمة وعدل من دون أن يخطىء.
لم يكن المعمدان يطالب أحدا بما يفوق طاقته، بل كان يدعو الجميع الى المحبة والرجوع الى الله من دون رياء ولا تكبر مع إنه كان ينذر الجميع بالتوبة وبقبول المعمودية، مندداً بالفريسيين بالبر، والعشارين بالإستقامة، والجنود بعدم الظلم، والهيرودسيين بعدم الوشاية بالابرياء، والاثرياء بالعدل والرحمة، والحكام والمتسلطين بالعدل بين الناس. وكان لخطاباته تأثير كبير على الشعب، إذ كانت تهز ضمائرهم وتشعرهم بالخوف والرهبة وبالرغبة الى البر والعدل والقداسة. وكانت مهمته ببساطة محدودة ومعروفة، وذلك لإعداد الناس لمجىء المسيح، ولم تكن لجذب التلاميذ ولتأسيس ديانة أو طائفة خاصة به. وشهد يوم العماد على أن المسيح يسوع هو ابن الله الذي سبق للنبوات أن تحدثت عن مجيئه الى العالم كما جاء في لوقا: "أنا اعمدكم بالماء وسيأتي بعدي من لا أستحق أن أحل سيور حذائه. هو يعمدكم بالروح القدس والنار". وكانت لحظة مجيىء المسيح الى يوحنا ليعتمد لحظة مركزية مهمّة وحاسمة في رسالته، إذ تردد لبرهة وتفاجأ في كيفية القيام بمهمة عمله كمهيىء لمجيىء المنتظر الذي كان يعرفه جيدا بسبب قرابته له وبقوة الروح القدس وقوة روحه النبوية وقوة مهمته التي اختاره الله من أجل تكميلها. ولكنه قام بواجبه وعمده كما جاء في متى 3 / 14 ـ 15 : "فمانعه يوحنا وقال لَه أنا أحتاج أن أَتعمد على يدك، فكيف تجيء أنت إلي فأجابه يسوع ليكن هذا الآن، لأننا بِه نُــتمم مشيئة الله. فَوافَقَه يوحنا". وجاء رفضه وإستغرابه بسبب معرفته لشخص المسيح الطاهر إذ كيف يعمد معمودية التوبة من الخطايا؟ من لم يرتكب خطيئة أو زلة في حياته؟ ولكن المسيح أصرّ على قبول العماد من يده لمعاني قد تكون مهمة في فهمنا لرسالته الارضية. وهي أنه أراد من ذلك إعلان بدء رسالته الالهية وذلك بشهادة الآب والروح القدس وبأخذه مكان الخطأة مع أنه الكامل الذي لا يحتاج الى التوبة وبأنه الحمل الحامل خطايا العالم.
ميلاد المسيح:
تعد مواسم الاعياد الفترة الاهم في حياة الناس الاجتماعية، إذ يتحين الناس ولاسيما في الشرق المسيحي حلول هذه المواسم لإزالة ما قد حدث من مشاحنات وخصومات وأسباب التفرقة المختلفة بين الاهل والعوائل والاصدقاء. ويقوم البعض عادة بنشر بذور المصالحة والالفة والوفاق حبا بالطفل يسوع الملك السماوي. وتدعونا الاناجيل في قصص الطفولة الى أن نهرع الى طفل المغارة مثل الرعاة والمجوس، فرحين من دون خوف ولا تردد لكي نلقاه في المذود.
ولد يسوع في مغارة للرعاة في بيت لحم اليهودية، ومن عائلة يهودية فقيرة. من مريم ويوسف اللذين كانا من ناصرة الجليل. وتمت ولادته حينما كانا أبواه في سفرة إجبارية ليكتتبوا في بيت لحم مسافة مائة وثلاثين كيلومترا، حتى يدفعوا الضريبة في تلك السنة التي تدعى السنة الميلادية الأولى. وكانت مريم العذراء على وشك الولادة في أي لحظة، ولكن عند وصولهما الى بيت لحم كان صعبا عليهما أن يجدا مكانا للأقامة، فأقاما في حظيرة للحيوانات حيث ولد يسوع هناك في مذود بسيط.
ولقد بشّر الملاك جبرائيل، الرُعاة المتواجدين بالقرب من المغارة التي ولد فيها المسيح قائلا لهم: "اليوم في مدينة داود وُلد لكم مُخلص هو المسيح الرب" لوقا 2:11. فاشتركت السماء بالهتاف في اليوم المشهود الذي يُعد وبحق أعظم يوم في تاريخ البشرية، وأعظم ليلة على الاطلاق، إذ فيها ولد رب المجد في العالم ولخلاص العالم. ولد رب البشر وفاديهم في أكثر المطارح قذارة، ولم يكن من حواليه غير الرعاة والحيوانات التي كانت تتخذ من الزريبة مأوى ليلي لتحمي نفسها من برد الشتاء القارس مع رعاتها البؤساء.
يستهل متى الرسول في انجيله بمخاطبة اليهود، ويبدأ كتابه بالحديث عن سلسلة نسب يوسف. وأما في انجيل لوقا الذي يُخاطب الهيلينيّين(اليونانيين) والرومان، فإنه يستهل كتابه عن نسب مريم. وكانا كلاهما (يوسف ومريم) من نسل داود الملك. وأما من الوجهة التاريخية، فتظل طفولة يسوع أمرا خفيّا، وليس هناك أية وثيقة تتكلم عن طفولته فيما عدا كونه ورث مهنة والده أو مربيه(يوسف) الذي كان نجارا. فهو على الأغلب كان يعمل في النجارة الى أن أصبح في سن الثلاثين. ويذكر إنجيل لوقا على أنه ناقش علماء الشريعة في الهيكل حينما كان عمره اثنتي عشرة سنة، ولم تتطرق الأناجيل إلى السنوات الثماني عشرة اللاحقة التي كان فيها يسوع بين الثانية عشرة والثلاثين من عمره. وما أن بلغ يسوع الثلاثين من عُمره حتى ترك أهله وعائلته في الناصرة، مُعلنا نفسه مُعلما بعد أن إعتمد على يد النبي يوحنا في نهر الأردن، وكأنه بعماده قدم أوراق إعتماده كرسول من السماء الى الأرض. وبدأ يتحدث مع الناس ويخطب فيهم ويصنع لهم المُعجزات ويُخاطبهم بلغة بسيطة ويُنبّههم تنبيها علنيّا:"إن لم يتب الشعب ويتبدل، فهو ذاهب الى الهلاك" مت 3 : 7ـ 10
إختار الله ولادة المسيح الاله المتجسد في المذود ليحمل للبشرية رسائل في التواضع والبساطة والحرية والاخوة والعدالة والفرح والسلام. وبالاضافة الى هذه الفضائل العظيمة التي نتعلم منها الكثير، إلا ان هناك ألواحا فنية رائعة يمكن رسمها من خلال المشاهد الانجيلية عن قصة ميلاده وخاصة القصة المروية من قبل متى الانجيلي حيث المغارة والمذود والرعاة والمجوس والنجم والحيوانات. فهي رموز تدل على أن الخليقة التي خلقها الله بكافة أنواعها وأجناسها وألوانها وطبقاتها، إحتفلت حول المغارة في بيت لحم بميلاد ابن الله. فمن طرف نقف مع الملائكة الذين يرتلون انغاما سماوية قائلين:"المجد لله في العلى وعلى الارض السلام وفي الناس المسرة" لوقا 2 / 13 ـ 14. ومن طرف آخر نشهد المجوس لميلاده يهدونه الهدايا: ذهـب ولبان ومر، رمزا للملوكية والكهنوتية والآلام من أجل البشر وخلاصهم. ومع كل هذه الرموز الجميلة إلا أن الرسالة ليست في كل ما يحيط بالولادة بقدر ما هي بحادث الولادة نفسه.
يحتفل المسيحيون في عيد الميلاد ومعهم العالم كله بميلاد ملك السلام الذي يرغب كل فرد من البشر أن يعمّر في قلبه. ولذلك يعتبر عيد الميلاد فرصة لتجمع الاحبة ولتلاقي الاصدقاء والاقرباء، ومناسبة لتفقد أحوال الناس وتبادل الزيارات التي تضفي رونقا وجمالا على معنى وجوهر هذا العيد. ويُجسّد العيد أيضا روح الاخوة والمحبة والفرح والسلام بالاضافة الى كونه علامة الهية تدل على محبة الله لنا وعلى وقوف الله في جانبنا في كل مراحل حياتنا، لكي يبين افتقاد الله لنا وللبشرية جمعاء. وقد أراد الله بميلاده فى بيت لحم أن يعلمنا أن الكرامة الحقيقية تنبع من الداخل وليس في المظاهر الخارجية.
عاش المسيح طفولته وحداثته في كنف عائلة مُتديّنة تتقي الله، ويثبت لوقا الانجبلي في كتابه قائلا:"أما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة، وفي النعمة عند الله والناس". ونلاحظ من خلال القصة في انجيل لوقا، تشابه عملية خلق الطفل يسوع مع عملية خلق الانسان الاول(آدم)، ويشير الكتاب المقدس من خلال الميلاد العذراوي الى بشرية يسوع والى ظهوره كآدم الجديد أو آدم الثاني. ويشير الكتاب أيضا الى طبيعته الإلهية لولادته من مريم البتول ومن دون تدخل بشري. وما يشير اليه أيضا في ولادة المسيح في المذود على أنه إذا لم يكن له مكانا لائقا وكبيرا لكي يولد فيه إلا أنه كان له مكانا كبيرا في قلوب الرعاة المساكين الاطهار في المغارة الصغيرة، لأن ترتيبات الله تختلف عن ترتيبات البشر.
كان يسوع مثال الطاعة والخضوع في البيت العائلي وفي المجتمع الذي عاش فيه وللحكام الذين كانوا يحكمون مثل هيرودس وبيلاطس، إذ لم ينادي بقيام الثورة ضدهم ولم يشجع الناس بعدم دفع الجزية لهم. ولطالما فضل تسمية إبن البشر على الاسماء الاخرى إذ فيه يكمن سر محبته لنا وتعلقه بنا كإنسان مع إنه إله مُتجسّد. ويظهر ذلك جليا واضحا من خلال قراءتنا لرسائل بولس الرسول الذي تكلم بوضوح عن الطبيعتين الإلهية والإنسانية في المسيح ولاسيما في رسالته الى أهل فيليبي 5:2 – 8: "المسيح يسوع ... الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله. لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب". ومما لا شك فيه أنه لا يستطيع أحد أن يعرف الآب (الإله الحقيقي) إلا عن طريق معرفته لابنه يسوع المسيح: "الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر" يوحنا18:1.
وسعى يسوع كذلك في مشوار حياته الى إعطاء الشريعة معناها الحقيقي ضمن نطاقها الاساسي الذي هو العلاقة بين الله والانسان. وسعى كذلك من خلالها الى إلغاء الحواجز التي تمنع من التوجه الى الامم الوثنية والتوجه نحو البشر وتوحيدهم وذلك بمنع العنصريّات القبلية والعداوات بين الشعوب والافراد. وإهتم كثيرا بدعوة المؤمنين للإقتداء به والى عيش الانجيل بكل معانيه ورموزه من التواضع والقداسة والمجد والمحبة والتضحية والفرح. والايمان الذي يدعو اليه هو الحياة بكل معناها كما يقول بولس الرسول: "أنا أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في".
وجدير بالذكر أن يسوع المسيح دعا في رسالته الى المحبة والرحمة والغفران والى اهتداء القلب والانقلاب من الانانية والكبرياء والانفتاح الكامل لله والقريب والى نزع الانسان القديم ولبس الانسان الجديد. ولم يدعو الى ديانة بطقوس ومعتقدات ولا دعى الى إنشاء شرائع ونواميس تثقل كاهل الناس بترديد الصلوات وتطويل المراسيم كما نرى في كثير من الكنائس التقليدية التي تحتاج الى تجديد حقيقي في طقوسها وجعلها أقرب الى قلوب الشعب المؤمن.
ولقد حاول العلماء ايجاد طريقة دقيقة لمعرفة اليوم والسنة التي ولد فيها يسوع المسيح. وتشرح الاناجيل ميلاد يسوع التاريخي كإنجيل متى ولوقا، وتجعل ميلاده يقع في وقت حكم الملك هيرودس الذي توفي في سنة 4 قبل الميلاد. وقد شرح انجيل لوقا التعداد السكاني الذي حدث في السنة 6 قبل الميلاد، مما يجعل العلماء يتصورون حدوث الميلاد بين السنة 4 ـ 6 قبل الميلاد. ويختلف المسيحيون اليوم وللأسف الشديد في تحديد يوم واحد للإحتفال بهذا العيد المبارك والملىء بالبركات الروحية. فالمسيحيون الغربيون الذين يؤلفون غالبية المسيحيين من الكاثوليك والبروتستانت، يحتفلون في يوم 25 ديسمبر (كانون الاول)، وأما المسيحييون الشرقيون الارثوذكس يحتفلون في 7 (كانون الثاني) من كل عام. ولا بد من الاشارة على أنه لا يوجد إثبات تاريخي على إحتفال المسيحيين الأوائل بعيد الميلاد إذ لم يبدأ الاحتفال به الا في منتصف القرن الرابع الميلادي، ولا سيما بعد أن تحولت الدولة الرومانية الى الديانة الجديدة على يد الامبراطور قسطنطين.
ولكي نفهم ولادة يسوع المسيح وتجسده لابد من قراءة النبوات الواردة في العهد القديم التي تكشف عن تدبير الله الذي ألهم به أنبياءه لكي ينطقوه ويسجلوه في أوانه شهادة أزلية من السماء. فالانبياء لم ينطقوا إلا بما وضع الله في فمهم:"إذ لم تأت نبوة قط بإرادة بشر، ولكن الروح القدس حمل بعض الناس على أن يتكلموا من قبل الله". وتنبأ الانبياء بولادة المسيح في كتب العهد القديم، وكان المسيح قبلة أنظار العهد القديم إذ عليه علقت الآمال الكبار لأنه كان مزمعا أن يحقق جميع المواعيد، وبه تتم كل العهود التي أبرمها الله مع شعبه عبر التاريخ. وتنبأ اشعيا النبي الذي عاش في الفترة 750 سنة قبل الميلاد عن المسيح فقال:"فلذلك يؤتيكم السيد نفسه آية: ها إن الصبية تحمل فتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل" 7: 14. وكذلك النبي ميخا الذي تنبأ عن ولادة المسيح في بيت لحم وذلك 700 سنة قبل الميلاد قائلا: "وانت يا بيت لحم أفراتة إنك أصغر عشائر يهوذا ولكن منك يخرج لي من يكون متسلطا على إسرائيل وأصوله منذ القديم منذ أيام الازل" 5: 1. وتنبأ النبي ملاخي 400 سنة قبل الميلاد عن يوحنا المعمدان ليمهد الطريق لمجىء المسيح قائلا:"هاءَنذا مرسل رسولي فيعد الطريق أمامي، ويأتي فجأة الى هيكله السيد الذي تلتمسونه، وملاك العهد الذي ترتضونه به ملاخي" 3: 1. ومن أعظم النبواة قاطبة عن ميلاد المسيح ما جاء في اشعيا الذي يصف ميلاده نور يشرق على العالم، وقد تحققت النبوءة في لفضها وحرفها وروحها وذلك في المسيح يسوع فقط كما قال في 9: 1 و5: "الشعب السائر في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا... قد وُلِدَ لنا ولد، وأُعطِيَ لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه ودُعِيَ اسمه عجيبًا مشيرًا، إلهًا جبّارًا، أبا الأبد، رئيس السلام". ولا تنطبق هذه النبوءة على أي شخص آخر غير المسيح لأنه هو الوحيد الذي كان حقاً ملك السلام وابن الانسان والإله الجبار الذي جاء نوراً للعالم كله. ولا يمكن أن يليق مصطلح (ملك السلام) لأي شخص في التاريخ القديم والحديث كما يليق بالمسيح يسوع. ولا يستطيع أي تعليم أو دين أو معتقد الادعاء برسالة السلام الحقيقي للفرد وللشعوب والامم كما تدعو المسيحية الى القيم الداعية للالفة والمحبة والسلام بين أعضاءها وأتباعها والبشر الآخرين.
فالميلاد الذي صار في تاريخ البشرية بكل هذه المواصفات الجميلة قد صار بالجسد لكي ننال التبني في المسيح يسوع، الاله والانسان، الذي يولد كل يوم في القربان المقدس ويتحد في المؤمنين المشتركين في السر المقدس. ويتجدد هذا الحضور أو هذا الميلاد في الكنائس كلها أثناء الاحتفال بالذبيحة الالهية (الافخارستيا). ويحدث الميلاد الآخر في كل نفس بشرية تائبة تنتقل من الخطيئة الى النعمة ومن الموت الى الحياة، وتقبل المسيح مخلصا وفاديا في ما نسميه الميلاد الروحاني أو الولادة الجديدة بالروح القدس، والتي من ثمارها: (المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والايمان والوداعة والتعفف). ومعنى الولادة الروحية في المسيح، أن الله أصبح بشرا واتخذ اسم (يسوع) الذي معناه (المخلص)، الذي يخلص شعبه من خطاياهم. ويسمى كذلك (عمانوئيل ـ الله معنا) والذي به يستطيع البشر معرفة الله بالجسد ويكون فرصة جديدة لحياة جديدة بوجوده البشري، الذي عرف الفقر منذ اليوم الاول من ولادته، وكان شفيع المشردين الذين لا مأوى يأويهم غير الكهوف، واضطر للهرب الى مصر منذ صغره، فكان لاجئاً على مثال اللاجئين والمغتربين، ولكنه كان من الذين رجعوا الى وطنهم وتجول في طول البلاد وعرضها معلما ومبشرا، وغيّر التاريخ البشري، وقسمه الى شطرين، الى ما قبله (القديم) والى ما بعده(الجديد).
تعاليم يسوع:
تأسست المسيحية كجواب نهائي ومستفيض عن الاسئلة التي يطرحها كل إنسان عن نفسه في موضوع الحقيقة والحياة ومعناها ومغزاها. وتأسست كذلك من خلال تعاليم المسيح الذي عُرف بتفاؤله في الحياة وثقته بنفسه وإتزانه في وضوح الهدف الذي من أجله جاء الى العالم، ألا وهو خلاص البشر. وكان الصليب وسيلته الى ذلك مع علمه اليقين بالطريق المليىء بالاشواك والعذابات والآلام والاهانات الكثيرة. ولكن المسيح لم يُساوم على الحق بُغية الحصول على شعبية رخيصة أو دور سياسي يجعل منه ملكا لليهود. وعُرف المسيح أيضا في قابليته للتآلف بين الوداعة والجرأة، وتمسكه بالشريعة والتجديد، وتمييزه بين العبادة والتزييف، إذ غضب مرة عندما دخل الهيكل وطرد الباعة والتجار والصيارفة قائلا: "بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص" متي 21: 12.
كان الجميع يتعجب من كلام المسيح الكلي الإتزان المُعبّر عما يريده من خلال الامثال والمعجزات والخطب، ويعجز القلم أحيانا في تحديد جوهر الكلمات التي علمها يسوع. والرسل أنفسهم كانوا متعجبين من كلام الحكمة الذي يخرج من فمه. مع أن تعاليمه لم تخرج من نطاق تعاليم الكتاب المقدس سواء عن الله أو المحبة أو الغفران أو الشريعة أو السلوك والاخلاق. وقد يبدو لأول وهلة أن المسيح لم يأتِ بشىء جديد في تعاليمه إلا أنه في الحقيقة، كل ما جاء به كان جديدا في روحه ونفَسه وجوهره مع أنه لم يخرج من روح الشريعة التوراتية، إذ ركز على الاغلب بتغيير الاطر القديمة فقط، والتي أصبحت عاجزة عن احتواء فكره التجديدي الذي يدعو البشر الى عبادة الله بالروح والحق، وببناء انسانية جديدة على صورة الله ومثاله. وكانت قضية الله حاضرة دائما في تعاليمه وخطاباته ومعجزاته وفعالياته اليومية وفي تعامله مع التلاميذ والآخرين. وكانت الجموع البشرية تصغي له وتتعجب من كلام الحكمة الخارج من فمه وكانوا يتساءلون مبهوتين: "ما هذا؟ إنه تعليم جديد، تعليم من له سلطان" لوقا 1 / 22 و 27 . ولكنه أكد دائما بأنه ممثل الله على الأرض، وعلى أنه أعظم من الرسل والأنبياء والكتبة والفريسيّين. فالأنبياء كانوا يتكلمون بأسم الله ويُشرّعون بأسم الله، ولكنه تكلم بأسم نفسه وشرّع من سلطته الخاصة. ولذلك كان يستخدم الصيغة(وأنا أقول لكم) في أغلب خطاباته للشعب وللتلاميذ. وليس غريبا أن يقول في انجيل متى على أنه:"أعظم من يونان، وأعظم من سليمان، وأعظم من ابراهيم" 12/ 41 ـ 42. وأكد المسيح أيضا بأنه جاء لكي يكمل الناموس ويعمل بسلطان وقدرة إلهيين، إذ عندما غفر الخطايا وشفى المرضى وأقام الموتى، تصرّف كإله كامل، جاء ليكمل ما أصاب الخليقة من تلف ونقصان. وعندما جاع وعطش وبكى وتعب وغضب وتعرض للألم وخضع للموت وغيرها من الاعمال البشرية الاخرى، فإنه تصرف كإنسان كامل.
ولطالما أتهم رجال الدين اليهود المسيح بنقضه للشريعة، ولكنه أكد دائماً بأنه لم يكن ممكنا أن ينقض الشريعة لأنه رب الشريعة ومؤسسها. وبأنه ابن الله المتجسّد الذي جاء ليتحقق من شريعته ومفاعيلها وكيفية تطبيقها وتفسيرها وإحيائها.
ركز المسيح في تعاليمه على خدمة الفقير والبائس والمسكين، ويتبين ذلك في تعامله مع رسله ومع مختلف طبقات البشر. وجسّد تعاليمه بصورة أكثر عملية في حياته اليومية، ولم يوصِ شيئا لم يطبقه بنفسه في حياته. فالتواضع مثلا جسّده المسيح عندما غسل أرجل تلاميذه وقبّلها، متمما من خلال هذا الفعل ناموس الطاعة الحقيقية لله ومجددا ما صار باليا وعتيقا، وذلك بخلع الانسان العتيق المتكبر والمتشامخ من كل الميول والرغائب البشرية الدنيئة، ولبس الانسان الجديد بروح مشبعة بالتواضع والبساطة والتجرّد والفقر والقناعة. وعُرف أيضا بكونه وديعا ومتسامحا، ولم تكن وداعته ضعفا وخنوعا أمام الأقوياء، إذ كان يتحّنن على الشعب فيصنع المعجزات ويزرع الإبتسامات على الوجوه الحزينة بشفاء المُرضى وإقامة الموتى وإشباع الناس الجياع في البرية. وكثيرا ما نلمس عطفه على الخطأة والفقراء والمساكين وحتى الأغنياء الذين لا يهتمون إلا بجمع الأموال. وقد أرسى في تعاليمه وتجواله وتضحياته الكثيرة، أسس ملكوت الله على الارض.
لم يكن يسوع تقليديا مقيّدا بالسنن والقوانين والتشريعات الناموسية، بل كان تقدميّا من الدرجة الأولى، إذ حارب العقلية العنصرية التي كانت تُسيّطر على عقول معظم اليهود، وأعلن المساواة بين الناس جميعا. وأحدث أكبر ثورة روحية وأخلاقية في التاريخ البشري على التقاليد البالية والشكليّات الخارجية وعلى العقليّات الجامدة والمُتحجّرة ومن دون إستخدام القوّة أو أي وسيلة ضغط أو خدعة أو إجبار. وكان سلاحه الوحيد الى ذلك البُشرى السارّة لجميع الأمم، مع المحبة والغفران بلا حدود. ونَلمسُ في شخصيته تفاؤلا عجيبا في قبوله الآخر بغض النظر عن خلفيّة هذا الآخر الاجتماعية والاقتصادية، وبالرغم عن كونه رجلا أم إمرأة، خاطئا أم تقيّا، يهوديا أم وثنيا. فما خاطب الناس من علوٍ وكبرياء. وطريقته الوحيدة كانت: التخيير في التباعة من دون القسّر والأجبار.
لم تكن تعاليم المسيح سلبية أبدا إذ ركز منذ بداية رسالته على رفع المعنويات والسموّ في الاخلاق والصدق في التعامل والاخلاص والابداع في العمل. ويبدو هذا واضحاً في جميع أعماله وأمثاله وحتى في قيامته التي تدل على الانتصار الدائم وبعث الحياة الجديدة. وبلغت تعاليمه قمتها في التسامح والغفران وفعل الخير تجاه القريب وفي مواقفه تجاه الآخر.
أكد يسوع دائما بكونه ممثل الله على الأرض، وعلى أنه أعظم من الرسل والأنبياء والكتبة والفريسيّين. فالأنبياء كانوا يتكلمون بأسم الله ويُشرّعون بأسم الله، ولكنه تكلم بأسم نفسه وشرّع من سلطته الخاصة. ولذلك كان يستخدم الصيغة(وأنا أقول لكم) في أغلب خطاباته للشعب وللتلاميذ. وليس غريبا أن يقول في انجيل متى على أنه:"أعظم من يونان، وأعظم من سليمان، وأعظم من ابراهيم" 12/ 41 ـ 42. وأكد المسيح أيضا بأنه جاء لكي يكمل الناموس ويعمل بسلطان وقدرة إلهيين، إذ عندما غفر الخطايا وشفى المرضى وأقام الموتى، تصرّف كإله كامل، جاء ليكمل ما أصاب الخليقة من تلف ونقصان. وعندما جاع وعطش وبكى وتعب وغضب وتعرض للألم وخضع للموت وغيرها من الاعمال البشرية الاخرى، فإنه تصرف كإنسان كامل.
لم يُحوّل المسيح العلاقة الخاصة مع الله أبيه الى وسيلة للتسلط على الناس ولإغتصاب حرّيتهم، بل بقي طول الوقت يُكمل مسيرته الأنسانية خادما للبشر رغم التجارب المُرة والظروف الصعبة التي كان يُواجهها في أيام الرسالة التبشيرية. ويؤكد العهد الجديد على علاقة الله بالانسان وخلاصه من خلال تجسّد المسيح يسوع الذي هو كلمة الله الخلاصية الذي أظهر وجه الله الحق وكيفية تحقيق الانسان غاية وجوده ومصيره.
ركز المسيح في تعاليمه لجعل البشر أكثر انسانية وذلك بإنتشالهم من ضعفهم ومساعدتهم لكي يصبحوا ما هم وما ينبغي أن يكونوا. وكان يتجوّل في اليهودية داعيّا الى التوبة والى قرب مجىء ملكوت الله. وفي أثناء تجواله أختار تلاميذه الأثني عشر وسماهم الرُسل الذين علمهم تعليمه الجديد حول ملكوت الله والتعاليم الاخلاقية الجديدة التي تؤكد على الأخوّة البشرية وأن يصلوا لله ويدعوه (أبانا) بحب وإحترام وعلى إختلاف مقامهم وأجناسهم، إذ هم كلهم عنده إخوة وأخوات، والله أبوهم الروحي الذي خلقهم. ولم يدعُ تلاميذه عبيدا لكنه سمّاهم أصدقاء: "لا أسميّكم عبيدا بعد لان العبد لا علم له بما يصنع سيّده، بل سميّتكم أصدقاء لأني اطلعتكم على كل ما سمعت من أبي" يوحنا 15/ 15.
كان يسوع مثالا أعلى في كل شىء قاله وفعله ولاسيّما في مثال الطاعة، إذ أطاع أباه حتى الموت على الصليب:"لأني نزلت من السماء لا لأعمل مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني" يوحنا 6/38. وكان خير وسيط بين السماء والأرض ووساطته مُنبثقة من صميم طبيعته الآلهية والبشرية: "لأنا اذا صولحنا مع الله بموت إبنه ونحن أعداء فبالأحرى كثيرا أن تغزر نعمة الله التي لأنسان واحد هو يسوع المسيح" روم 5/ 10ـ 16. فوساطة يسوع فريدة في نوعها:"لأن الله واحد والوسيط بين الله والناس واحد وهو الأنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فداء عن الجميع" 1 تيموثاوس 2/ 5ـ 6.
وتبرز شخصية المسيح من خلال تعاليمه الخلقية والسلوكية التي نقلها التلاميذ في الاناجيل والتي ما كتبت إلا لتكون منهلا ينهل منها المؤمنون لكي يقتدوا بالمعلم يسوع المسيح الذي ختم كل ما قاله بشهادة الدم للفداء العظيم من أجل جميع البشر. إذ كما علم المسيح في حياته الصداقة الحقيقية التي جسدها في وقوفه مع تلاميذه ومع المحتاجين اليه، علمنا أيضا، كيفية الإقتداء به وبتعاليمه وكيفية ممارسة الصداقة الحقيقية وعيشها بصدق وإخلاص ومن دون أدنى شائبة. وكما علم المسيح التسامح الحقيقي الذي تجلى في حكمه على الزانية وعلى الخطأة الآخرين، وعلم الرحمة في مواقفه المؤيّدة للبؤساء والمحتاجين (لوقا 16)، هكذا علينا أن نتسامح مع بعضنا البعض ومع الذين يحتاجوننا والذين ليسوا بالضرورة من أقربائنا أو من أتباع جنسنا وديانتنا وأن نترحم بهم ونساعدهم. وكما علم المسيح التعامل على أساس الاحترام والكرامة الحقيقية ولاسيما في تعامله مع الاطفال والشيوخ والنساء والارامل والمعوزين، ودعا في دعوته الى إحترامهم والى مد يد العون لهم ومنع تعريضهم للاذى والشكوك، هكذا علينا أن نكون مع الاطفال والشباب والشيوخ والنساء والارامل والمحتاجين الينا.
فالمسيح الذي كان النسخة الأكثر تألقا للجمال الآلهي الأسمى في أعماله وأقواله ونظراته وأحكامه، وجميع إختياراته الحياتية منذ طفولته حتى موته على الصليب وقيامته المجيدة، ثبت لسامعيه بأنه أعظم من جميع المرسلين، إذ لم يستطع شخص أو نفر ما أن يثبت عليه لوما أو جرما أو خطأ أو خطيئة. ولا يزال المسيح المثال والقدوة للملايين من البشر الذين يتبعون تعاليمه بإيمان وإخلاص. ويشهدون له بالقول والفكر والعمل، مستعدين لحمل الشهادة حتى الموت من أجله. ويثبت تاريخ المسيحية وجود هذا النوع من الرسل والمؤمنين وهذا النوع من الشهادات الحيّة، وسيبقى دوما من يتبع المسيح ويُجسد أقواله وأعماله في حياته ويصبح مسيحا آخر.
لقد دعى المسيح كنيسته للإقتداء به وبحياته في خدمة الكلمة من خلال المشورات الانجيلية التي نقلها الرسل والتلاميذ والتي هي الآن معروضة للجميع. ودعى المسيح أيضا كل البشر الى حياة الخدمة التي تفرعت من نواة اولى زرعها، والتي نمت وانتشرت وأصبحت شجرة باسقة، منها تفرعت فروع اختصت بعضها في الحياة الرهبانية للصلاة والتأمل ونشر الكلمة، وإختصت بعضها الآخر في الحياة الرعاوية لخدمة الجماعة وفعل الرحمة بين الناس، وأخرى في ممارسة الرسالة في العالم كالخميرة في العجين وهم العلمانيون الذين مارسوا ايمانهم بفضل قوّة روحهم كشهود للمسيح بتقشفهم وقداسة أعمالهم.
وأعلن يسوع في تعاليمه مرارا وتكرارا أنه لم يأت ليُبطل الشريعة والناموس، بل جاء ليُفسّر ارادة الله ويُعمّق وبطريقة جذريّة معناها في حُب الله والقريب. وطريقه الى ذلك هو الدخول في البنوّة الآلهية عبر السلوك اليومي العملي والأختبار الشخصي في الحياة. وبلغ تعليمه القمة في الموعظة على الجبل (التطويبات) والتي تعد روح الأنجيل أو بالأحرى الأنجيل المُصّغر الذي ليس فيه انتصارات دنيوية زائلة، ولا معاني المجد الزمني الباطل ولا العظمة الدنيوية الفارغة.
ـ طوبى للفقراء بالروح، فإن لهم ملكوت الله.
ـ طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض.
ـ طوبى للحزانى، فإنهم يُعزون.
ـ طوبى للجياع والعطاش الى البر، فإنهم يشبعون.
ـ طوبى للرحماء، فإنهم يرحمون.
ـ طوبى لأنقياء القلوب، فإنهم يُعاينون الله.
ـ طوبى لمن يسعون من أجل السلام، فإنهم بني الله يُدعون.
ـ طوبى للمضطهدين من أجل البر، فإن لهم ملكوت السماوات.
ـ طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء من أجلي، افرحوا عندئذ وابتهجوا، فإن أجركم عظيم في السماوات، لانهم هكذا اضطهدوا الأنبياء الذين سبقوكم. (انجيل متى 5/ 3ـ 12).
لقد لخص المسيح تعاليم الملكوت وأخلاقياته في هذا الخطاب (العظة على الجبل)، وأكد من خلاله على الخضوع لملك الله دائما، والقناعة في الحياة المادية من دون كسل في العمل، والتقدم الى الأمام من دون تخلف وتخاذل، والاصرار على قول الحق في وجه الأقوياء، إذا تطلب الامر من دون جبن ولا خنوع، والعمل على تحقيق السلام الداخلي من دون مجاملات فارغة، والقضاء على العداوات وروح البغضاء والانتقام وكل أنواع النميمة والافتراء من دون جبن ولا خنوع.
لطالما تبع المسيحيون هذه التعاليم السامية وضحوا بكل غال وثمين من أجل جوهرة الايمان الثمينة، وقدموا حياتهم فدية، ولم ينكروا مسيحهم، ولم يتركوا ايمانهم العزيز على قلوبهم مهما كان الثمن. ونتأسف في الوقت نفسه رؤية الكثير من الذين يُسمون بالمسيحيين وهم لا يمثلونها بشىء لا من قريب ولا من بعيد. ونتأسف كذلك لحكم الآخرين على المسيحية من خلال تصرفات هؤلاء. ولطالما حكم البعض على سلوكيات وتصرفات بعض الدول التي يظنون أنها دولا مسيحية، والتي لا تمثل المسيحية بشىء لأنها دول علمانية صرفة لا علاقة لها بأي دين من الاديان. وتجدر الملاحظة على عدم وجود دول أو شعوب مسيحية في العالم وإنما هناك فقط جماعات مسيحية تحاول التعبير عن إيمانها بصدق وإخلاص، وتحاول الاقتداء بأخلاقيات المسيح يسوع معلمها. وتحاول جهدها لتطبيق تعاليمه الالهية التي تؤكد في مجملها على صون كرامة الانسان وحفظ قيمه السامية.
ونستنتج من خلاصة تعاليم المسيح أنه يختلف عن كل الانبياء والمصلحين والمعلمين والفلاسفة في العالم. ويتميز بكونه معلم جديد جاء ليعلم تعليماً جديداً، وبأنه يتكلم بسلطان ذاتيّ فائق يهدي الى روح جديدة والى هيكل إلهي جديد والى عهد إلهي جديد والى ولادة أخلاقية جديدة للإنسان الذي يُريده محرابا لعبادة الله بالروح والحق.
التلاميذ الاثني عشر:
تذكر الأناجيل الإزائية Synoptic Gospels أن المسيح أرسل الرسل الأثني عشر، وأرسل كل إثنين منهم الى القرى والمدن في الجليل ليُبشروا بالخبر السّار حول قرب ملكوت الله. وكانت مهمّتهم شفاء المُرضى وطرد الشياطين، ونشر البشرى السارة بين الناس وتأسيس ملكوت الله على الارض.
والرسول هو(من يُرسل الى) للعمل في رسالة مُعيّنة. والبعثة الاولى التي أرسل يسوع رسله الى الجليل كانت بمثابة بعثة تجريبية، ولكنه أرسلهم بعد ذلك للكرازة والتبشير الى العالم كله وأمرهم بالتعميد:"وقال لهم اذهبوا الى العالم اجمع واكرزوا بالانجيل للخليقة كلها من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدان" مرقس 16/15ـ 16. وأوصى رسله أن يحملوا معهم العصيّ، وقد أصبح هذا تقليدا يتوارثه المطارنة التي ترمز الى السلطة والى وراثة الرسل.
وجدير بالأشارة، أن الرسل كانوا من الجليلييّن اليهود، إلا أن عشرة منهم كانوا يحملون أسامي أرامية وأربعة يونانية. وبحسب الأناجيل الازائية (مرقس 3/ 13ـ 19 ومتى 10/ 1ـ 4 ولوقا 6/ 12ـ 16 )، فإن القائمة بأسماء الرسل التي اختارها يسوع في بداية خدمته، هي القائمة الرسمية والموثوقة في كل المصادر الكتابية في العالم. ونختار هنا القائمة كما جاءت في انجيل مرقس لكونها من أقدم القوائم ولأن مرقس هو الأول بين الأناجيل: "وجعل لسمعان اسم بطرس ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخا يعقوب وجعل لهما اسم بوانرجس اي ابني الرعد واندراوس وفيلبس وبرثولماوس ومتى وتوما ويعقوب بن حلفى وتداوس وسمعان القانوني ويهوذا الاسخريوطي الذي اسلمه" 3 / 13 ـ 19. انتخب يسوع هؤلاء الاثني عشر من بين أتباعه ليمثلوا الأسباط اليهودية الاثني عشر ولكي يعلنوا البشرى السارة بين أبناء ابراهيم ولكي يجعلوا العالم كله ميدانا لرسالتهم.
شمعون (سمعان) الذي يُدعى بطرس petros, petra وكان يُدعى أيضا (شمعون بار يونا)، أصله من بيت صيدا الواقعة على بحيرة طبرية والتي كانت قرية للصيّادين واسم أخيه أندراوس. سمي عند ولادته شمعون، وهو إبن يوحنا الذي كان يسمى محليّا يونا وكان من الرسل المتزوّجين، إذ شفا يسوع حماته من مرض الحمى. وكانت أعمال شمعون (بطرس) وإدارته الحكيمة للجماعة المسيحية الأولى، مع أعمال بولس الرسول التبشيرية، الأساس المهم في بناء الكنيسة وإنتشارها في القرن الأول الميلادي. والمسيحية تبقى مدينة لنشاط هذين الشخصين في العهد الجديد والى الابد. وكان شمعون على إطلاع واسع بالكتاب المقدس مع انه لم يلتحق بالمدارس الدينية أبدا، ولم يكن يتقن اللغة اليونانية على الأغلب. وكان يعيش في كفرناحوم وهي مدينة تقع في الشمال الغربي من نهاية بحر الجليل. ويُحتمل أن يكون بطرس وشقيقه أندراوس في شراكة صيد مع إبني زبدى (يعقوب ويوحنا). وكان شمعون(بطرس) من التلاميذ المُقرّبين جدا ليسوع، إذ كان مسموحا له أن يُرافق يسوع دائما، وقد ذكر على رأس القوائم بأسماء الرسل في الأناجيل الأربعة. وهو من الشهود المُهمّين لقيامة يسوع. كان يقود الجماعة المسيحية الصغيرة العدد في اورشليم مع اخوته الرسل، ثم ذهب الى روما ليُبشر بالمسيحية هناك ولكننا لا نملك معلومات أكيدة عن زمن مجيئه اليها، وأما عن موته فيُعتقد أنه مات مصلوبا في روما بين سنة 64 ـ 67 ميلادية. ويؤكد على هذه الحقيقة آباء الكنيسة مثل القديس اقليمنس ثالث اسقف في روما سنة 96 م، والقديس اغناطيوس اسقف انطاكيا سنة 107 م، وايريناوس اسقف ليون سنة 177 م، مع مصادر اخرى كثيرة تؤكد موته مصلوبا في روما منكس الرأس ولا يوجد أي مصدر ينفي هذا التقليد.
أندراوس: كان أول من دُعي رسولا وهو شقيق بطرس من مدينة (بيت صيدا) في الجليل وكان تلميذاً ليوحنا المعمدان قبل أن يدعوه يسوع في الوقت نفسه مع بطرس الى التلمذة. وعُرف بالطيبة والصدق والإخلاص، وقاد عددا كبيراً من الناس الى يسوع. وتذكر التقاليد الشرقية بأن الرسول أندراوس بشر في المناطق الواقعة في شمال تركيا الحالية وجنوب روسيا، وبأنه استشهد على صليب متقاطع العارضتين والتي كانت إحدى الطرق الرومانية في قتل وتعذيب المتمردين الاجانب والعصاة. وتقول بعض التقاليد بأن القديس نال اكليل الشهادة في (بتراس) بحكم صدر من الحاكم الروماني. ونقل الامبراطور قسطنطين جثمانه سنة 357 م الى القسطنطينية ليوضع في كنيسة الرسل الملكية التي شيدها ونقل جثمانه بمرور الزمن الى روما. ولكن في سنة 1964 كبادرة حسنة من الكنيسة الكاثوليكية للكنيسة الارثوذكسية نقلت ذخائره بإحتفال مهيب الى مكانها الاصلي.
يعقوب الكبير: نجد في قائمة الرسل تلميذين بإسم يعقوب، الأول ابن زبدى ويُلقب بالكبير والثاني إبن حلفى ويُلقب بالصغير. وكان يسكن في بيت صيدا ثم تحوّل الى مدينة كفرناحوم. واسم أبيه زبدى حيث كان من أحد المقرّبين الحميمين الى يسوع، إذ حضر مع بطرس وأخوه (يوحنا التلميذ الحبيب ليسوع)، معجزة إحياء ابنة يائيروس وصعد مع يسوع الى جبل طابور، وكان أحد الشهود لمشهد التجلي الالهي. وقضى يعقوب كل حياته التبشيرية في اورشليم الى أن استشهد فيها سنة 43 ميلادية.
يوحنا ابن زبدى: هو من التلاميذ المُقرّبين جدا الى يسوع، يُعتقد أنه استشهد وهو شيخ كبير في السن، وكتب الأنجيل الرابع من العهد الجديد والسفر الاخير من الكتاب المقدس والمسمى بسفر الرؤيا. بقي يوحنا مع يسوع منذ اليوم الأول من بشارته وفي يوم عماده وفي عرس قانا وفي يوم صلبه. كان شاهدا قويّا على قيامته من بين الأموات. وتذكر التقاليد بأن الرسول يوحنا سجن مرات عديدة ونفي الى جزيرة بطمس. ويُقال بحسب ترتليانوس بأنه ألقي في زيت مغلي من دون أن ينكر معلمه يسوع. وقيل أيضا بأنه أعطي شرابا مسموماً. وفي بعض المصادر الاخرى قيل بأنه مات مصلوبا وهو يتجرّع الآلام.
فيليبس: هو من مدينة (بيت صيدا) في الجليل وكان من تلاميذ يوحنا المعمدان. ودعاه يسوع الى التلمذة، فتبعه حالما سمع نداء الدعوة. ويحتل فيلبس الموقع الخامس من بين الرسل في الجداول الخاصة بهم في العهد الجديد. وكان من طبعه خجولا ونبيلا وفرحا جدا بلقائه بيسوع. ويُعتقد أنه استشهد مُنكس الرأس، وكان له من العمر 87 سنة أي في سنة 98 ـ 117 م ودفن في هيرابوليس. وقسم من ذخائره محفوظ في القسطنطينية وقطعة من ذخائره في روما في دير للآباء الفرنسيسكان.
برتلماوس: كان صيّادا مثل سائر الرسل. ويُقال أنه ونثنائيل هما الشخص نفسه، لكون اسم برتلماوس ليس في الواقع إسما شخصياً. وآمن برتلماوس بسبب معرفة يسوع الخفيّة عن إجتماعه مع مُريده تحت الشجرة ومعرفته بتفاصيل الأجتماع. فأنبّهر به برتلماوس قائلا: هو بالحقيقة (ابن الله ـ ملك اسرائيل)، وأجابه يسوع قائلا: سترى أمورا أعظم من هذا. وأما عن موته فالتقليد يؤكد لنا أنه استشهد بسلخ جلده وهو حيّ، ثم بقطع رأسه من دون أن ينكر معلمه يسوع.
توما: لا نملك شيئا أكيدا عن أصله وعائلته، وكل ما هناك أن الأناجيل تذكر اسمه في جداول الرسل من دون تفصيل كبير لعائلته ولدعوته الرسولية. ويُدعى في الآرامية توما ويعني (التوأم). وكان منطقيا ولحوحا، يلح في رؤية الامور بنفسه والتحقيق بشأنها، إذ كان شكوكا لا يُصدّق الأمور بسرعة مثل غيره من الرسل، مما جعله يُفيدنا في تحقيق الأمور الدينية وتصديقها عقلياً. ويُقال أنه بشر في ما بين النهرين وايران والهند. ويُعتبر المؤسس الفعلي للكنيسة المشرقية الآشورية ـ السريانية ـ الكلدانية ولذلك تتخذه الكنيسة الشرقية شفيعا لها. ويفتخر المسيحيون الهنود التقليديون برسالة القديس توما في بلادهم، وهناك أسَر تدعّي بإنحدارها من العهد الرسولي وتفتخر بذلك. وتؤكد التقاليد الكنيسة الشرقية العريقة في الهند (الملبارية والملنكارية) في ولاية كيرالا على وفاة القديس توما أو قتله في الهند. وتحتوي كنيسة مار توما الرسول للسريان الارثوذكس في الموصل على الذخائر الحقيقية التي نقلت اليها من جنوب الهند.
يعقوب الصغير: كان يحتل موقعا مهمّا في الجماعة المسيحية الأولى، ويُعتقد أنه كان الأسقف الأول لكنيسة اورشليم ورئيس جماعتها. وهو شقيق يهوذا ـ غير الأسخريوطي ـ وتسميّته أحد أخوة يسوع تشير الى قرابة أو نسب بينهما، إذ ربما كان ابن عمه قليوبا أو ابن خاله. ويعتقد يأنه قتل من قبل اليهود رجما بالحجارة الى أن مات.
تداوس: يلف شخصية تداوس غموض كبير في العهد الجديد، إذ كان من الغيّورين للشريعة اليهودية، حيث كان ينظر الى التمسك بتقاليد العهد القديم مع التعاليم المسيحية الجديدة. ويُسمى في العهد الجديد(يهوذا) وهو اسم كان مُنتشرا في عهد يسوع. ويعدّه البعض من أقرباء يسوع والبعض الآخر من أشقائه، من طرف مُربيه يوسف النجار. ولا نعرف الطريقة التي استشهد فيها تداوس، مع أن البعض من الكتاب اليونانيّين قالوا أنه مات ميتة طبيعية.
متي: كان عشارا، يجمع الضرائب للرومان، وهو ابن حلفى. دعاه يسوع في كفرناحوم فترك عمله وتبعه (متى 9/9). ولأنه كان يعمل في الضرائب، لذلك نجده يشرح في انجيله شرحا دقيقا، أمور المال والكنز الدفين والوزنات والدرهم الضائع. يُقال أنه بشر في الحبشة، وقتل هناك رجما حتى الموت.
شمعون الغيّور: كان مُنتميّا الى فئة الغيّارى ومن اليهود الذين كانوا يُخططون في تغيير النظام والقيام بالثورة السياسيّة ضد الرومان. ويُعتقد أنه أحد أقرباء يسوع، ويأتي أسمه في آخر الأسماء في قائمة الرسل. ليست لدينا معلومات كثيرة في العهد الجديد عن هذا الرسول سوى أنه من الغيارى، ولكن التقاليد الكنسية تؤكد دائما أنه اسندت اليه اسقفية الكنيسة في أورشليم بعد استشهاد القديس يعقوب. وتذكر التقاليد أنه تقدم في السن كثيراً ولكن شيخوخته العميقة لم توفر له ان يموت ميتة طبيعية إذ يذكر أوسابيوس بأن عذب الى أن استشهد وهو شيخ طاعن في السن.
يهوذا الاسخريوطي: كان الوحيد من بين التلاميذ من أرض اليهودية بينما الآخرون كانوا من الجليل. عُرف بخيانته لمعلمه يسوع وتسليمه للرومان. وكان ينتظر خلاص اسرائيل من الاستعمار الروماني بالقوة الثوريّة الشاملة. ولم يجد في يسوع المسيح الشخص الثوري الذي يقود هذه الثورة. ولربما كان هذا السبب في خيانته له. ويبدو أنه كان شخصا قوميا وثوريا مُتقلبا ومُحبا للمال. وتذكر الاناجيل بأنه ندم على خيانته لمعلمه فشنق نفسه بعد حادث الصلب.
متيّا: انتخبه الرسل بالقرّعة بعد خيانة يهوذا لإعادة عدد هيئة الرسل الى سابق عهده أي الى اثني عشر رسولا، ليحل محل يهوذا الشاغر بعد خيانته وإنتحاره. وتدل القرائن الموجودة في التقاليد واعمال الرسل 1 / 21 ـ 23 على أن متيا كان واحدا من بين الذين تركوا أعمالهم من بداية رسالة المسيح ليعيش مع الجماعة المحيطة به. وبحسب تاريخ أوسابيوس كان متيا واحد من الاثنين والسبعين تلميذا. ويُقال أنه قتل في منطقة (اليهودية) رجماً بالحجارة بسبب إيمانه المسيحي، وفي بعض المصادر الاخرى انه بشر في اليهودية ومات ميتة طبيعية.



#صبري_المقدسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليهودية: المنشأ والجذور والعقائد الروحية
- الزرادشتية: المنشأ والجذور والعقائد الروحية
- الزواج: واحد + واحد = واحد
- الهندوسية: المنشأ والجذور والعقائد الروحية
- الأمل نزعة فطرية تعلم التشبث بالحياة
- سعادتي في الايمان
- الثقافة الصحية ركن من اركان المجتمع المتمدن
- لا نظام من دون منظم ولا حركة من دون محرك
- هل وجد الكون بالصدفة، أم هو أزلي، أم هو مخلوق؟
- الكون في نظر العلم والاساطير الدينية
- العمل قانون الحياة
- لماذا نحتاج الى الصداقة والاصدقاء؟
- مفهوم الزمن وقيمته في العلم والحياة اليومية
- بدأ الكون من نقطة كان الزمن فيها صفرا
- التفاؤل: مفتاح النجاح في الحياة العملية
- الحضارة المعاصرة: وليدة الحضارات القديمة مجتمعة
- الحداثة: الضامن الرئيسي لتحرير العقل
- اللغة: اهم ركيزة لتحصين الثقافة والهوية
- معرفة الذات: الطريق الامثل لمعرفة الآخرين
- الحضارة المعاصرة بنت الحضارات القديمة مجتمعة


المزيد.....




- مصور بريطاني يوثق كيف -يغرق- سكان هذه الجزيرة بالظلام لأشهر ...
- لحظة تدمير فيضانات جارفة لجسر وسط الطقس المتقلب بالشرق الأوس ...
- عمرها آلاف السنين..فرنسية تستكشف أعجوبة جيولوجية في السعودية ...
- تسبب في تحركات برلمانية.. أول صورة للفستان المثير للجدل في م ...
- -المقاومة فكرة-.. نيويورك تايمز: آلاف المقاتلين من حماس لا ي ...
- بعد 200 يوم.. غزة تحصي عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية
- وثائق: أحد مساعدي ترامب نصحه بإعادة المستندات قبل عام من تفت ...
- الخارجية الروسية تدعو الغرب إلى احترام مصالح الدول النامية
- خبير استراتيجي لـRT: إيران حققت مكاسب هائلة من ضرباتها على إ ...
- -حزب الله- يعلن استهداف مقر قيادة إسرائيلي بـ -الكاتيوشا-


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صبري المقدسي - المسيحية: المنشأ والجذور والعقائد الدينية(الجزء الاول)