أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - أسطورة روح الثمانية عشرا يوما المجيدة















المزيد.....



أسطورة روح الثمانية عشرا يوما المجيدة


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 4083 - 2013 / 5 / 5 - 22:59
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


1: تُولد الأسطورة وتُولد منها أسطورة وتتوالد أساطير لا نهاية لها ونجد أنفسنا إزاء ميثولوچيا كاملة تفترس العقول والأرواح فتصيبنا بعمى الألوان وعمى البصيرة والعمى من كل نوع. ومنذ أكثر من حَوْلَيْن كاملين نشرب هذه الأسطورة كما شربنا من قبل أسطورة روح أكتوبر وكل الأساطير الأخرى. وإذا كان الجيش والشعب قد صنعا بالفعل روح أكتوبر أىْ تلك الوقفة الحافلة بالبطولات والتضحيات والشهداء فى مواجهة العدو الصهيونى المحتل؛ فنحن نعرف كيف جرى تحويل روح أكتوبر إلى أسطورة وكيف جرى استخدام تلك الأسطورة ضد الشعب والجيش على السواء، وكيف تمخض الجبل فولد فأرا فى صورة معاهدة كامپ ديڤيد، وكيف حَكَمَنا السادات "بطل الحرب والسلام" قبل اغتياله، وكيف حَكَمَنا بعد ذلك على مدى قرابة ثلاثين سنة بطلُ أسطورة صاحب الضربة الجوية الأولى المزعوم فى تلك الحرب. وتقول أسطورة روح الثمانية عشر يوما (جعلها الله آخر الأساطير) أن الشعب المصرى بكل طبقاته الاجتماعية وقواه السياسية وقف فى تلك الأيام المجيدة حقا رافعا رايات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. هكذا بدت الأمور بالفعل. ومن المفارقات أن هذه الأسطورة لم تبرز وتترسَّخ إلا عندما اكتشف الفرقاء أن الأسطورة انقلبت إلى كابوس وأن العلاقة الفعلية على أرض الواقع هى القتل بوحشية. ولا يمكن بالطبع أن يكون القتل بوحشية نتيجة طبيعية لإخاء أسطورى جمع مختلف طبقات المصريِّين وقواهم السياسية فى وقفة أسطورية ضد الطغيان. وتقول أسطورة روح الثمانية عشر يوما إن اليمين واليسار، المسيحى والمسلم، النساء والرجال، الشباب من الإناث والذكور، الأطفال والشيوخ، الأغنياء والفقراء، ومختلف الطبقات والقوى الاجتماعية والسياسية الديمقراطية واليسارية والليبرالية اليمينية والإسلامية الإخوانية والسلفية وقفوا فى تلك الأيام "على قلب رجل واحد" كما يقال، أو "على قلب امرأة واحدة" كما لا يقال، إلى أن تَحَقَّقَ خلعُ الطاغية. غير أنه جنبا إلى جنب مع تلك الوقفة التى تبدو على السطح ثورية بكل مكوناتها وعناصرها، كان هناك القتل: فى البدء قَتَلَ مبارك بنات وأبناء الشعب بوحشية! ثم قَتَلَ المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية أيضا بنات وأبناء الشعب بوحشية! ثم قَتَلَ الإخوان المسلمون كذلك بنات وأبناء الشعب بوحشية! فكيف حلَّ القتل محلَّ الإخاء؟ أمْ كان هؤلاء القتلة جميعا يقتلون معا ودائما بنات وأبناء الشعب؟!
2: وهناك بالطبع أسطورة أن مبارك سيبقى له مجد أنه رحل فى سلام بدلا من تعريض شعبه لحرب أهلية لا تُبقى ولا تذر كتلك التى شهدتها بلدان أخرى هى اليمن وليبيا وسوريا فى مجرى ما يسمى بثورات الربيع العربى. غير أن واقع الأسطورة، ويا للمفارقة!، هو أن مبارك أغرق الشعب فى الدم فى افتتاحية حرب أهلية أنقذت البلاد من استمرارها هزيمةُ وزارة الداخلية المصرية هزيمة ساحقة على يد الشعب الأعزل. وهناك مفهوم عن الحرب الأهلية يجعلها تقتصر على الحرب الداخلية بين طوائف دينية أو بين قوميات أو إثنيات. غير أن هذا المفهوم عن الحرب الأهلية خاطئ تماما وهو يمثل أسطورة أخرى فالحرب الأهلية إنما تكون بين سلطة الدولة والشعب كما نفهم من العلم السياسى. وإذا كان قد سقط حوالى ألف قتيل وآلاف الجرحى وآلاف المعتقلين والمخطوفين مع هزيمة قوات وزارة الداخلية البالغة الضخامة وأجهزتها باستثناء أجهزتها غير الخفية فى سياق حرب حقيقية فى تلك الأيام المجيدة فإن علينا أن ندرك أن الحرب التى شنها مبارك على الشعب كانت حربا أهلية بمفهومها الحقيقى.
3: فهل كان مبارك يحارب وحده تلك الحرب؟ الواقع أن نظامه بالكامل كان يشن معه تلك الحرب. وإذا كان القتل قد استمر بعده على أيدى العسكر والإخوان فلا مناص من أن نستنتج أن القاسم المشترك بين مبارك والمجلس العسكرى الأعلى والإخوان المسلمين هو فعل القتل الواحد ضد الشعب الواحد. فكيف يكون هناك قاسم مشترك بين مبارك والمجلس العسكرى الأعلى مع أنه هو الذى أوقف تلك الحرب الأهلية بانقلابه العسكرى على مبارك تحت ضغط الثورة؟ وقد تحوَّل واقع ذلك الانقلاب العسكرى إلى أسطورة المجلس العسكرى الأعلى المنقذ للشعب وثورته والذى كان عامل نجاح الثورة فصار الممثل الرسمى للثورة مع الاستمرار فى قتل الثوار. وكيف يكون هناك قاسم مشترك بين مبارك والإخوان المسلمين مع أنهم نزلوا على رأس قوى الإسلام السياسى إلى الميدان بكل قوتهم العددية والتنظيمية فصاروا عاملا رئيسيا أو العامل الرئيسى لنجاح الثورة وفقا للأسطورة؟ وقد تحوَّل واقع نزول الإخوان المسلمين فى أيام الثورة إلى الميدان إلى أسطورة القوة الثورية الإخوانية التى أضْفَتْ على الثورة طابع الثورة الإسلامية وكان من حقهم الطبيعى بالتالى أن يحكموا البلاد والعباد، باعتبارهم هم الثورة مع الاستمرار فى قتل الثوار. ولأنه لا يصحّ إلا الصحيح، ولأنه لا يمكن أن تكون كل هذه القوى الشيء ونقيضه معا فى وقت واحد، فلا مناص من العودة إلى تلك الأيام وربط تطوراتها بالتطورات اللاحقة فى محاولة لفهم واقع الثمانية عشر يوما المجيدة تحت أسطورة روحها.
4: وفيما يتعلق بالمجلس الأعلى على رأس الجيش المصرى الذى هو مؤسسة من مؤسسات الدولة فإن حكمه العسكرى بعد الإطاحة ب مبارك لا يحتاج إلى تفسير لأنه قام بوظيفته البديهية التى تتمثل، جنبا إلى جنب مع حماية حدود البلاد، فى حماية الطبقة المالكة/الحاكمة وسلطة دولتها ونظامها ورئيسها وما يسمى بشرعيته أو بشرعية هذه المؤسسات. إن ما يحتاج إلى تفسير هو انقلابه العسكرى على الرئيس الشرعى للبلاد ووقف الحرب الأهلية التى شنها ذلك الرئيس الشرعى لإنقاذ نظامه وسلطة دولته وطبقته. والواقع أن هذه التطورات بدأت بهزيمة وزارة الداخلية وكسرها تماما عندما تصدت لوظيفتها الطبيعية المتمثلة فى حماية النظام عن طريق سحق الثورة. وكان أمام المجلس العسكرى الأعلى الذى كان عليه إنقاذ النظام من الثورة فى كل الأحوال خيار حاسم: حماية النظام عن طريق استئناف الحرب الأهلية التى هُزمت فيها وزارة الداخلية، أو حماية النظام عن طريق الإطاحة بالرئيس الشرعى. وكان الثالث المرفوع كما يقال هو إجبار ذلك الرئيس على سيناريو التنصُّل من الحرب الأهلية التى هُزمت فيها قواته والبدء فى تحقيق إصلاحات واسعة النطاق. ذلك أن الأوان كان قد فات لأن الرئيس الشرعى كان قد صار الرئيس القاتل بوحشية الذى تلطخت يداه بدماء آلاف الشهداء والجرحى فكان لم يَعُدْ أمامه أىّ مجال للتراجع وبالأخص فإن أداة بطشه ممثلة فى وزارة الداخلية كانت قد كُسرت وكان الطريق قد صار مفتوحا إلى قصر العروبة الرئاسى وإلى كل قصور الدولة. ويجب أن يكون واضحا أن الهزيمة الساحقة لوزارة الداخلية هى التى أوقفت الحرب الأهلية، وإنْ شئنا الدقة فإن المجلس الأعلى لم يوقف الحرب الأهلية بل نزع فتيلها بالتخلص من مبارك، ورفض "استئناف" الحرب الأهلية بالاستخدام المباشر للجيش لمحاربة الشعب، وآثر مواصلة الحرب ضد الثورة بوسائل أخرى وهى وسائل التصفية التدريجية للثورة.
5: ومن الجلى أن ما جعل الانقلاب العسكرى ضد مبارك أمرا لا مناص منه إنما يتمثل فى قرارٍ غير معلن ومسكوت عنه اتخذه المجلس العسكرى الأعلى بالرفض الحاسم للحرب الأهلية. فلماذا رفض المجلس المذكور مواصلة الحرب الأهلية باستخدام الجيش هذه المرة، مع أن من الواضح أنه كان لم يَعُدْ من الممكن تفادى مستويات من العنف والقتل لإرجاع الجنِّىّ إلى القمقم، والشعب إلى حظيرة النظام؟ وهنا بالذات يكمن ما يحتاج إلى تفسير. والحقيقة أنه كان هناك أمران فى غاية الأهمية: أحدهما واقع فعلىّ هو هزيمة وزارة الداخلية، والثانى درس "نظرى" لا مهرب منه حول النتائج المنطقية للحروب الأهلية فى مجرى الثورات. وكانت هزيمة وزارة الداخلية تعنى أننا إزاء ثورة شعبية جبارة وليس إزاء انتفاضة أو هبة أو هوجة يمكن القضاء عليها بسهولة. وإلى جانب هذا الواقع العملى كان هناك العنصر "النظرى" الذى مؤداه أن الحرب الأهلية التى تأتى فى مجرى ثورة تؤدى إذا تواصلت ليس فقط إلى خلع الرئيس "الشرعى" أو عصابته "الشرعية" بل إلى خلع الطبقة المالكة/الحاكمة وسلطتها ونظامها وجيشها وشرطتها وكل مؤسساتها "الشرعية". ولم يكن مصير الحرب الأهلية فى ليبيا قائما بعدُ، ولم يكن المصير الذى لا مناص منه للحرب الأهلية فى سوريا قائما بعدُ، غير أن درس الحروب الأهلية فى مجرى الثورات السياسية الشعبية كان كتابا مفتوحا أمام كل مَنْ يقرأ فى مناطق كثيرة من العالم. فالثورة تنتصر "عسكريا" حتى إنْ لم تكن ثورة مسلحة، ورغم سلميتها، عندما تشن حربا دفاعية ضد عنف الدولة وحربها وهجومها العسكرى. إنها تدخل فى حرب دفاعية حقيقية ضد الحرب العدوانية الهجومية التى تشنها الدولة ضد الشعب رغم أنها سلمية وليست مسلحة بالبنادق والرشاشات والدبابات والجنود والضباط المدرَّبين وقنابل الغاز المُسِيل للدموع حيث يعتمد القتال فى الحرب الأهلية الدفاعية على الكثرة العددية للجماهير الثائرة الغاضبة وعلى الطوب والحجارة وقبل كل شيء على إرادة الصمود والانتصار.
6: وبطبيعة الحال فإن كل حرب أهلية واسعة النطاق طويلة الأمد (الصين، ڤييتنام) أو حتى قصيرة الأمد (إيران) تنتهى إلى تمزيق الطبقة المالكة/الحاكمة وسلطتها ونظامها وجيشها وشرطتها لتحلَّ محلها طبقة مالكة/حاكمة جديدة بمؤسساتها الجديدة. وكان المجلس العسكرى الأعلى يريد إنقاذ النظام من الثورة وليس تدمير النظام. وقد أظهر المجلس العسكرى الأعلى حكمةً ونضجا حقيقييْن من وجهة نظر ما يتفق مع مصلحة النظام فى البقاء عندما اختار الانقلاب العسكرى والإطاحة ب مبارك بعد قليل من التردُّد. ولا شك فى أن المجلس أنقذ البلاد بانقلابه العسكرى من حرب أهلية مدمرة للجميع؛ ربما مرحليا فقط حيث لا يمكن استبعاد خطر أن يعود نفس خيار الحرب الأهلية ليسود من جديد. وكان الهدف بصورة قاطعة التحدُّد هو إنقاذ الطبقة والنظام والجيش والرأسمالية المصرية التابعة. غير أن الواقع الفقير البائس لا يستمر إلا بعون الله والأسطورة. وحلقت الأسطورة فوق الدماء والدموع. فالجيش هو منقذ الثورة والشعب والوطن وحقَّ له بالتالى أن يحكم ويقتل ويحمى ويجدِّد الاستبداد والفساد ويحتفظ بمكانته كدولة داخل الدولة ويعمل على توسيع سيطرته الاقتصادية والسياسية. غير أن الثورة كانت بحكم سياقها التاريخى ثورة ضد حكم العسكر طوال ستين سنة؛ ولهذا فإنه كان لا مناص من النضال الثورى فى سبيل رحيل المجلس العسكرى الأعلى عن السلطة وتركها للمدنيِّين. وهنا تُولد بدورها أسطورة مؤداها أن المجلس المذكور قد رحل وكأن السلطة الإخوانية لا تستند إلى السيطرة الفعلية للمؤسسة العسكرية.
7: ومن الضرورى أن نلاحظ هنا أن العسكر لعبوا دورا بالغ الأهمية فى نجاح الثورة فى مرحلتها الأولى رغم عملهم الممنهج اللاحق المتواصل إلى الآن على التصفية التدريجية للثورة على طول الخط باستخدام الإطاحة ب مبارك فى إخلاء الميدان من الجماهير الشعبية الثائرة فور الانقلاب العسكرى ثم بالقتل والمذابح بعد ذلك بعد إفشال كل إدارة ثورية توافقية (لا تشمل الإسلام السياسى فى ملّتى واعتقادى) للبلاد بعيدا عن الحكم العسكرى. الإسهام فى إنجاح الثورة ثم العمل المنهجى على تصفيتها: هذا التناقض الظاهرى يجد حلَّه فى شيء واحد وحيد وهو أن الانقلاب العسكرى إنما كان "انقلاب قصر" لإنقاذ النظام وتصفية الثورة. ومعنى هذا أن الانقلاب كان عملا من أعمال الثورة المضادة فلم يكن عملا من أعمال الثورة بحال من الأحوال ولكنه ساعد مع هذا على نجاح الثورة لأنه كان يمثل الثورة المضادة ولكنْ عن طريق حلّ تناقض طارئ بين قوتين من قوى الثورة المضادة هما المؤسسة العسكرية من ناحية والرئيس ورجاله من ناحية أخرى؛ ذلك أن ولاء المؤسسة العسكرية إنما هو للطبقة الرأسمالية التابعة والنظام قبل وبعد رئيس الجمهورية. وهذا درس آخر مهم من دروس الصراع الطبقى فالتناقضات داخل قطاعات من الطبقة الرأسمالية الكبيرة الواحدة يمكن أن تتحول إلى صراع مرير وحتى إلى صراع مسلَّح وحتى إلى حرب أهلية فيما بينها؛ الأمر الذى يجعل مثل هذا الصراع بين قوى الثورة المضادة عاملا مهمًّا للغاية لصالح الثورة.
8: غير أن إنجاح الثورة عبارة غامضة بل ملغزة: هناك من ناحية النجاح فى إسقاط مبارك وهذا النجاح ينطوى على تناقض وعلى طابع مزدوج فالثورة نجحت فى خلع الرئيس لأن الانقلاب العسكرى كان نتيجة مباشرة لضغط الثورة. غير أن خلع الرئيس لم يأتِ على يد الثورة بصورة مباشرة بل جاء على يد مؤسسة من مؤسسات الدولة لم تُرِدْ من وراء الإطاحة بالرئيس إنقاذ وحماية الثورة أو الشعب بل أرادت على وجه التحديد إنقاذ النظام والسلطة والطبقة لإضعاف الثورة واستئناف الحرب ضدها بوسائل التصفية التدريجية للثورة.
9: وينطبق الشيء ذاته على الإسلام السياسى فهو تعبير أيديولوچى سياسى عن قطاعات من الرأسمالية الكبيرة التابعة وإذا كان يضمّ مئات الآلاف من الفقراء بصورة عضوية ويضم عدَّة ملايين من الفقراء ككتلة انتخابية تصويتية، فهذا هو الوضع الطبيعى لعضوية كل الأحزاب الرأسمالية والإمپريالية بحكم السيطرة الفكرية للرأسمالية الكبيرة على مختلف طبقات المجتمع. وهنا يكون الحزب السياسى فى حقيقة الأمر العدوّ اللدود للأغلبية الساحقة من أعضائه. والواقع أن الإخوان المسلمين ومختلف قوى الإسلام السياسى نأوا بأنفسهم عن الثورة فى أيامها الأولى تفاديا لاستهدافهم بل استنكروها وتهجموا عليها ثم انضموا إليها بعد طول تردُّد على مدى أيام عندما اطمأنوا على الأرجح إلى أنهم إزاء ثورة جبارة قادرة على حمايتهم وليس من المستبعد أن تكون قادرة على خلع الرئيس مبارك وفتح الطريق أمام احتمالات متنوعة لحكم قُوًى سياسية من خارج عصابة الرئيس.
10: ولا أستطيع الجزم، رغم الشكوك الكثيفة التى تُلقيها التطورات اللاحقة التى بدأت على كل حال منذ البداية، أو منذ البداية تقريبا، بأن نزول الإخوان المسلمين وحلفائهم إلى الميدان كان من تلقاء أنفسهم لأنهم اطمأنوا إلى قدرة الثورة على حمايتهم وعلى الانتصار فى مجازفة كبرى لاستخدام مشاركتهم فى الثورة للقفز على السلطة. ذلك أن تلك الشكوك التى تثيرها التطورات اللاحقة تثير معها احتمال أن يكون الإخوان المسلمون قد تمَّ استدعاؤهم بصورة مباشرة للنزول إلى الميدان من جانب مبارك فلم ينزلوا إلا بعد تلقِّى الضوء الأخضر من النظام. فقد وقف الإخوان ليس فقط بعيدا بل رفضوا الثورة وتهجموا عليها قبل النزول، ثم ذهبوا بعد النزول مباشرة إلى التفاوض مع مبارك فى شخص اللواء عمر سليمان، ثم واصلوا التفاوض مع المجلس العسكرى الأعلى لبلورة وتطوير أسس التحالف التى توصلوا إليها مع عمر سليمان للمشاركة فى السلطة.
11: وقد يبدو احتمال قيام مبارك ثم المجلس العسكرى الأعلى بالاستدعاء المباشر للإخوان المسلمين والاستنجاد المباشر بهم ضربا من الخيال وإغراقا فى التوهُّم وإيغالا فى التوجس وسوء الظن بالإخوان المسلمين غير أن الانتقال الفورى من النزول إلى الميدان إلى التفاوض إلى التحالف الإستراتيچى ضد الثورة بكل تلك السرعة المُدَوِّخة يدعوان إلى بحث هذا الاحتمال بحثا جديا، وخاصة فى ضوء الدور الذى قاموا وما يزالون يقومون به، قبل وبعد تمكين المجلس العسكرى الأعلى إياهم من مختلف مؤسسات الدولة، وإنْ بصورة اضطرارية لأن تقدير رجال النظام، فيما يمكن أن نستنتج بسهولة، هو أن تخلُّصه من الإخوان المسلمين سيكون، بالمقارنة، أسهل من تخلُّصه من الثورة.
12: ثم شرع العسكر والإخوان والسلفيون، مستفيدين أيضا بالدور الذيلى للِّيبرالية اليمينية وحلفائها من القوميِّين واليساريِّين، فى تطبيق خطة إستراتيچية من شقين للتصفية التدريجية: شقٍّ تمثلَ فى الخروج من الثورة وتوفير غطاء فكرى وسياسى وإعلامى هجومى وعدوانى ضد الثورة وتطورات نضالاتها فى سياق تأييدٍ ودعمٍ على طول الخط للمجلس العسكرى الأعلى فى القمع العسكرى للثورة، وشقٍّ تمثلَ فى إغراق الثورة، إلى جانب إغراقها فى الدم، فى سلسلة طويلة من إجراءات عملية دستورية تشريعية قانونية من الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية المتكررة المتواصلة والانتخابات الرئاسية لتلفيق شرعية للحكم العسكرى الإخوانى؛ وتمثلت وظيفة هذه العملية فى إبعاد الثورة عن إستراتيچيتها الثورية الإضرابية الطبيعية لتتبنى إستراتيچية الثورة المضادة، إستراتيچية الانتخابات بدلا من الإضرابات. وعلى هذا النحو توجَّهت الجماهير الشعبية بفضل تضليل العسكر والإخوان والسلفيِّين والليبراليِّين اليمينيِّين إلى صناديق تزييف إرادة الشعب. وبالطبع فإن الثورة مستمرة بفضل إستراتيچية النضال الثورى الإضرابى غير أن الإستراتيچية الأخرى العسكرية الإخوانية السلفية الليبرالية ظلت تُضْعِف إستراتيچية الثورة فى زمن الثورة، وظلت تَصُبُّ فى صالح العسكر والإخوان بصورة مباشرة وفى صالح الليبرالية اليمينية بصورة إستراتيچية ما دام الهدف الإستراتيچى للثورة المضادة بكل قطاعاتها هو إنقاذ الطبقة الرأسمالية التابعة من الثورة، وهو هدف يتساوى فيه الليبراليون اليمينيون مع العسكر والإخوان والسلفيِّين بحكم انتمائهم الطبقى الواحد رغم التلاوين الفكرية المتباعدة بين الحكم القومى العسكرى الموروث والحكم الليبرالى أو الحكم الإخوانى أو الحكم السلفى الوهابى.
13: كانت تلك الوقفة المشتركة فى الأيام المجيدة للثورة إذن كذبة وخرافة وأسطورة روَّج لها الإخوان والسلفيون والليبراليون اليمينيون والعسكر ووقع فى فخاخها الثوار. وبالطبع فقد كان هناك روح الأيام الأولى للثورة غير أنه كان روح الشعب وروح الشباب وروح الفقراء وروح التطلع إلى لقمة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية غير أن علينا أن نتحرر من كذبة الوقفة المشتركة لجميع الطبقات الاجتماعية ومختلف القوى السياسية ومختلف الأيديولوچيات، بدليل التطورات منذ تلك الأيام إلى يومنا هذا، وهى تطورات تؤكد أن الطبقات تدرك جيدا بالوعى وبالغريزة حقيقة التناقضات بينها، وبالأخص فإن الأغنياء لا يمكن أن يقفوا مع الفقراء، ولا الحكام مع المحكومين. وحتى عندما تقف طبقة رأسمالية محلية أو قومية أو وطنية، سَمِّها ما شئتَ، مع باقى الشعب فى بعض مراحل الاستقلال الوطنى ذاته ضد عدوٍّ محتلّ فإنما يكون ذلك لاستخدام وتوظيف الاستقلال لمصلحة تلك الطبقة.
14: وانطلاقا من هذه الكذبة أو الأسطورة كان التصويت بنعم على الاستفتاءات العسكرية الإخوانية السلفية، وكان انتخاب الإخوان وحلفائهم لمجلسىْ الشعب والشورى، وانتخاب محمد مرسى رئيسا للجمهورية، فى استفتاءات وانتخابات پرلمانية ورئاسية بعيدة كل البعد عن النزاهة المزعومة. وقد تمثَّل رأس الرمح ضد الثورة فى المجلس الأعلى والإسلام السياسى وكان يضاعف من قوتهما موقف القوى السياسية المسماة بالمدنية: الليبرالية اليمينية والقومية والديمقراطية واليسارية وحتى أصلب قيادات التيارات والحركات الثورية الشبابية؛ لأن هذا الموقف المتواطئ مع الطريق الپرلمانى والانتخابى، والبحث الحثيث عن استقرار يضع حدا لاضطرابات الثورة عن طريق ما يسمى ببناء مؤسسات الدولة، الذى تجسَّد من الناحية الفعلية فى بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة إنما كان يَصُبُّ فى مصلحة الثورة المضادة بكل قطاعاتها. وبتبنِّى تقريبا كل القوى السياسية والثورية لإستراتيچية الثورة المضادة المتمثلة فيما يسمى ببناء مؤسسات الدولة على حساب الفعل الثورى بنضالاته الإضرابية انحرف مسار الثورة رغم استمرارها بحيوية؛ ذلك أن الثورة زاوجت بين إستراتيچية الثورة والإستراتيچية الانتخابية للثورة المضادة بالنتيجة المنطقية المزدوجة التى تمثلت، من جهة، فى إضعاف الثورة بالاستفتاءات والانتخابات فلم تعُدْ قادرة على التركيز على قضاياها الحقيقية نتيجة لفقدان الاتجاه، ومن جهة أخرى، فى العرقلة المتواصلة لبناء مؤسسات الثورة المضادة بفضل الفعل الثورى المقاوِم دون القدرة على فرض مسار الفعل الثورى بالكامل والإسقاط الكامل لمسار بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة. وكمحصلة للتفاعل بين هاتين الإستراتيچيتين المتعاديتين انتهى الأمر إلى تسلُّم الإخوان المسلمين رئاسة الجمهورية بكل سلطاتها الفرعونية إلى جانب سيطرتهم على مختلف مؤسسات الدولة وإلى انطلاق القطار الإخوانى السلفى بالسرعة القصوى فى طريق "الأخونة" الشاملة للمناصب القيادية فى كل مؤسسات وأجهزة ومصالح الدولة. غير أن الجانب الحسن أىْ استمرار الفعل الثورى رغم التشويش عليه وإضعافه نتيجة لتبنى إستراتيچية وتاكتيكات الثورة المضادة ظل يقاوم ويعرقل تلك الإستراتيچية الأمر الذى ينتهى الآن إلى ترنُّح الحكم الإخوانى تحت ضربات الفعل الثورى بالذات، وتحت ضربات الجناح الآخر القومى للثورة المضادة، غير أن تلك الإستراتيچية أضاعت على الثورة احتمالاتٍ وفُرَصًا قد يصعب تعويضها وكان من شأنها أن توفِّر مغزى مختلفا حتى لإسقاط الحكم الإخوانى فالمهم للغاية هو فى أىّ سياق سياسى عام يحدث هذا الإسقاط: مثلا فى سياق بناء متين تحقَّق لمؤسسات الثورة والديمقراطية الشعبية من أسفل أمْ فى سياق غياب تلك المؤسسات مع العراقيل الجديدة المتمثلة فى الحفر العميق لمنطق الطريق الپرلمانى، وقيام مؤسسات دولة الثورة المضادة، وتبدُّد كل ما كان بوسع رسوخ مؤسسات وأدوات الديمقراطية الشعبية أن تكون قد حققته بالفعل فى مجال العدالة الاجتماعية ومستويات المعيشة والحريات والحقوق.
15: وبالعودة قليلا إلى الوراء سنجد أن كل فترات هذه التطورات شهدت تحالفا بين مختلف الممثلين السياسيين للطبقة المالكة فعلا/الحاكمة اسمًا. وإذا كان مبارك قد بادر إلى شن الحرب الأهلية ضد الشعب باستخدام وزارة الداخلية بمختلف قواتها وأجهزتها الظاهرة والخفية، بالإضافة إلى أجهزة أخرى دون شك، فإنه لم يكن يحارب وحده تلك الحرب. ذلك أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ظل يراقب الحرب الأهلية بدم بارد ولم يتدخل بانقلاب القصر الذى أطاح بالرئيس مبارك إلا عندما تمَّ إلحاق هزيمة نهائية بوزارة الداخلية وصار مُطالَبًا إما باستئناف الحرب الأهلية بالجيش أو بتفادى النتائج الخطيرة لخوض تلك الحرب على النظام عن طريق الإطاحة بالرئيس وتقديمه وعصابته كباش فداء للنظام. وفى الوقت نفسه كانت جماعة الإخوان المسلمين تتفاوض مع مبارك قبل رحيله ومع نظامه ومع المجلس الأعلى من بعده فيما كانت الحرب الأهلية على أشُدِّها. ويعنى هذا أن مبارك لم يحارب وحده تلك الحرب الأهلية بل كان هناك المجلس الأعلى الذى ظلّ يراقب مكتوف اليدين وكذلك الإخوان المسلمون الذين كانوا يتفاوضون على أُسُس التحالف مع القتلة قادة الحرب الأهلية، كما يعنى أن المجلس الأعلى لم يحارب وحده حرب التصفية التدريجية للثورة. ذلك أن التحالف رغم التناقضات والتوترات والصراعات مع الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المسلمين كان قد تحوَّل إلى واقع سياسى راسخ يشهد عليه كامل السلوك السياسى للإخوان المسلمين وحلفائهم الذى تمثل فى توفير غطاء سياسى وفكرى وإعلامى هجومى عدوانى لكل إجراءات وجرائم الحكم العسكرى المباشر، بالإضافة بالطبع إلى بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة والعمل على ترسيخها وإغراق الثورة فى إجراءات وتدابير هذه الإستراتيچية.
16: الأسطورة إذن هى روح تلك الوقفة الثورية المشتركة فى الأيام الحاسمة للثورة، أما الواقع فهو، على العكس من ذلك، قيام الإخوان المسلمين وحلفائهم بتوظيف "دور" مريب قاموا به فى الثورة فى القفز على سلطة الدولة وإقامة الحكم المباشر لجماعة سياسية دينية على طريق إقامة الدولة الدينية التى تشمل بخلافتها الإسلامية العالمية كل المسلمين على وجه الأرض. وكما كررتُ فى مقالات سابقة فإن مشهد تلك الوقفة الثورية المشتركة كان أشبه بشخصين متلاحمين فى صراع مرير يراهما المرء من بعيد فى عناق أخوىّ جميل ولا تنكشف حقيقة الصراع المرير بينهما إلا من قريب وقريب جدا. وإذا كان القُرْب والبُعْد يتعلقان فى مثل هذا المشهد بالمكان فإنهما يرتبطان فى عمق المشهد السياسى الفعلى لتلك الوقفة الفعلية فى بداية الثورة بالتحليل السياسى الطبقى والرؤية الفكرية الطبقية؛ فقد ترى النظرة التافهة التى تحكم بما يبدو على السطح روح التآخى والإخاء والمؤاخاة والأخوَّة على حين ترى الرؤية المتروِّية العميقة التى تحكم بالجوهر الفعلى الذى يغوص عميقا تحت السطح أن التحالف الجماعى الذى بدا بين كل الطبقات فى بداية الثورة إنما كان وَهْمًا يُخْفِى فى الواقع تحالفات اجتماعية سياسية أخرى خفية حيث كانت الأسطورة تُخْفِى واقع أن الوقوف معا إنما كان بين أعداء طبقيِّين وفكريِّين وسياسيِّين بدوافع وأهداف وغايات متناقضة ومتعادية ومتناحرة.
17: والأسطورة الأساسية التى نتحدث عنها هنا بشأن العلاقة بين الإخوان المسلمين والإسلام السياسى، من جانب، والشعب والثورة، من جانب آخر، أمٌّ مُنْجِبة وولَّادة خصبة لشبكة واسعة من الأساطير من المستحيل أن نتناولها جميعا هنا؛ ولهذا أكتفى بالإشارة إلى قليل منها. هناك على سبيل المثال أسطورة الخروج الآمن للمجلس الأعلى وتزعم هذه الأسطورة أن التحالف بين العسكر والإخوان بلغ عند نقطة ما اضطرار المؤسسة العسكرية أمام ضغط الثورة إلى تسليم السلطة إلى الرئيس الإخوانى "المنتخب" مقابل ضمانات الخروج الآمن أىْ تحصينها من المساءلة والمحاكمة فضلا عن التأمين الدستورى لوضع المؤسسة العسكرية كدولة داخل الدولة. وتغيب عن هذه الأسطورة حقيقة أن هذه المؤسسة ظلت بالفعل دولة متوسعة دوما داخل الدولة منذ انقلاب 1952 العسكرى وأنها ليست بحاجة إلى ضمانات من أحد بل هى التى تمنح أو تمنع الضمانات وتفرض الشروط مستندة هذه المرة على أسطورة وقوفها مع الشعب والثورة ضد مبارك إلى حد الإطاحة به وزَعْم أن ولاءها للشعب والوطن؛ هذان الكيانان الأسطوريان الملغزان بدورهما. وفى ضوء أسطورة الخروج الآمن لقادة الجيش جرى فَهْم تسليم السلطة للرئيس الإخوانى بعد السماح بالسيطرة الإخوانية على باقى مؤسسات الدولة لنفس الغرض مع أن الحقيقة الفعلية تمثلت فى السيطرة الفعلية للمؤسسة العسكرية. وفى ضوئها أيضا جرى فَهْم إقالة الرئيس مرسى للمشير طنطاوى والفريق سامى عنان وغيرهما، مع أن هذه الإقالة كانت فى سياق حركة ناعمة من داخل المؤسسة العسكرية ذاتها استخدمت سلطاتٍ لرئيس الجمهورية الذى استفاد بدوره بإطلاق أسطورة قيام الزعيم الإخوانى بتخليص وتحرير مصر من حكم العسكر الذى امتدّ وتمدَّد ودلدل رِجْلَيْه على مدى ستين سنة، وإعادة الجيش إلى ثكناته وإقامة حكم الرئيس المدنى المنتخب كما تزعم أسطورة أخرى تتعلق بذلك.
18: كل هذا رغم أن تسليم السلطة من المجلس الحاكم إلى الرئيس المدنى المنتخب لم يكن سوى مسرحية هزلية أوِّلًا وقبل كل شيء لأنه إذا كان هناك سبيل إلى التخلص من الحكم العسكرى المباشر فإنه لا سبيل إلى التخلص، بصفة عامة ولكنْ بصفة خاصة فى عالمنا الثالث، من الحكم العسكرى غير المباشر. فالتخلص من الحكم العسكرى المباشر أو غير المباشر لا يمكن إلا أن يكون بتدمير هذه الآلة الجهنمية وبأن يحل محلها البديل المتمثل فى المجتمع اللاطبقى، وبدون المجتمع اللاطبقى فإن تدمير الدولة الطبقية من شأنه أن يحوِّل المجتمع إلى غابة حقيقية. وكان ولا يزال الأمر الجوهرى يتمثل فى بناء أدوات وأسلحة ومؤسسات الديمقراطية الشعبية من أسفل بعيدا تماما عن المشاركة فى بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة، وعن وَهْم دولة طبقة رأسمالية تابعة تُدْخِل الديمقراطية فى الوقت نفسه فى صميم بنيانها من حيث كونها دولة. وبالطبع فإن الديمقراطية الشعبية من أسفل، بوصفها قبل كل شيء أداة حاسمة للنضال ومستويات معيشية وحرياتٍ وحقوقًا جرى بلوغها مع النضال المتواصل فى سبيل تحقيقها، لا يمكن أن تتحقق إلا بفضل النضال الثورى فى زمن الثورة ضد كل قطاعات رأسماليتنا التابعة وقواها السياسية من عسكر وإسلام سياسى وليبرالية يمينية وقوى قومية تتحالف مع أىّ فريق منها.
19: وهناك أسطورة تزعم أن الطبقة الرأسمالية المصرية التابعة تشكل بكل قطاعاتها كتلة جرانيتية واحدة دوما. وفى ضوء هذه الأسطورة يجرى فَهْم التطورات التى تبدو مناقضة لفكرة الكتلة الواحدة دوما على أنها تمثيليات ومسرحيات وأفلام وتوزيع أدوار: فالإخوان المسلمون وحلفاؤهم الإسلاميون شيء واحد، ونظام مبارك ظل متحالفا مع الإخوان المسلمين ثلاثين سنة، والعسكر والإخوان شيء واحد بدليل تحالفهما معا ضد الثورة ثم تسليم السلطة من المجلس الأعلى للرئيس الإخوانى المنتخب، والليبرالية اليمينية والإسلام السياسى والعسكر كيان واحد لا يتجزأ. ومن خطايا الثوار أنهم كانوا لا يرون حِينا التناقضات فى صفوف قطاعات الطبقة الرأسمالية التابعة باعتبارها كتلة واحدة، ويبالغون حِينا آخر فى وجودها: المطالبة برحيل المجلس العسكرى خلال مهلة قصيرة وتسليم السلطة لقوة "مدنية" كان من الواضح أنها تتمثل فى الإخوان. ذلك أن الثورة لم تُبَلْوِر مفهوما واضحا عن الثورة المضادة باعتبارها تشمل كل مؤسسات الدولة وكل الإسلام السياسى وكل الليبرالية اليمينية مهما تمايزت أيديولوچيات هذه القوى السياسية التى تمثل قطاعات من الرأسمالية الكبيرة التابعة. والحقيقة أن الثورة المضادة هى هذه الطبقة الرأسمالية التابعة وهى هذه الدولة وهى مؤسسات هذه الدولة من پرلمان وحكومة وجيش وشرطة وقضاء، إلخ.. على أن كل واقع أن هذه الطبقة ودولتها وسلطتها ونظامها هى الثورة المضادة لا يمكن أن يُلغى تناقضات المصالح والأيديولوچيات بين قطاعاتها وتعبيراتها السياسية.
20: والحقيقة أن كل حياتنا السياسية تقوم على الأساطير قبل الحقائق والوقائع. وهنا نجد أنفسنا أمام أسطورة الدولة وأسطورة الوطن وأسطورة الشعب وأسطورة الاستقلال. فالوطن لا يتمثل فى النيل ووادى النيل ودلتا النيل والصحراء الغربية غرب النيل والصحراء الشرقية شرق النيل من حيث كون هذه الأشياء الغالية علينا جميعا جغرافيا طبيعية بل يتمثل الوطن فى الشعب الذى عاش ويعيش فيه وقام ويقوم بعمرانه وحوَّله ويحوِّله إلى بيئة ملائمة لحياة البشر، وإلى موطن ووطن للمصريِّين، والذى يزعم مستغلُّوه ومضطهدوه وقتلته أنهم وطنيون مصريون مع أنهم أعداء من الداخل. وللدولة مفهومان نتمسك بأحدهما ونتجاهل وجود الآخر. فهذا الإقليم الجغرافى الذى يعيش عليه المصريون دولة بمعنى القانون الدولى، ويتهم العسكر والإخوان حركات ثورية بأنها تريد هدم الدولة بهذا المعنى رغم أنه لا أحد من الثوريِّين والثوار والأناركيِّين فكَّر فى هدم مصر كدولة بهذا المعنى وكوطن وشعب. أما المفهوم الآخر للدولة فهو المفهوم السياسى الاجتماعى أىْ هذه المؤسسة السياسية الهيراركية الكبرى التى تدير البلاد أىْ الجيش والشرطة والقضاء والحكومة ورئاسة الدولة والدساتير والقوانين المتعاقبة التى تقوم عليها هذه الدولة التى تُنظم لصالح الطبقة المالكة/الحاكمة استغلالها وسيطرتها الاجتماعية والسياسية والفكرية، مع أن تدمير هذه الآلة الجهنمية دون أن يحل محلها البديل المتمثل فى المجتمع اللاطبقى من شأنه أن يحوِّل المجتمع إلى غابة حقيقية. وووفقا لهذه الميثولوچيا الضخمة من الأساطير فإن بلدنا مستقل ووطننا مستقل ودولتنا مستقلة ومصرنا مستقلة وكل هذا الاستقلال إنما هو بمعنى الاستقلال الدستورى وفقا للقانون الدولى بعيدا عن الاستقلال الحقيقى الذى لا يتفق مع واقع تبعيتنا الاقتصادية بكل مُتلازمتها من التبعية على كل المستويات مهما كان الحاكم كولونياليا أو قوميا أو ليبراليا أو عسكريا أو إسلاميا.
21: وقد قامت الشرعية الدستورية على جثة الشرعية الثورية التى لم تمارسها قوى الثورة إلا من خلال الفعل الثورى فى الميدان والشارع، ومن خلال الحرية التى انتزعتها الجماهير الشعبية، رغم تراجُع الحرية تشريعيا ورسميا من خلال الإعلانات الدستورية والقوانين والدستور وممارسات المؤسسات الپرلمانية والرئاسية لدولة الثورة المضادة. وصارت الشرعية الدستورية أسطورة أخطبوطية اعتبرها النظام العسكرى ثم الحكم الإخوانى البوابة الوحيدة للعبور إلى ما يسمى بالاستقرار. على أن الاستقرار كان بعيد المنال بل كان فى حكم المستحيل كما تبيَّن للجميع على مدى أكثر من سنتين. وبطبيعة الحال فإن الاستقرار نقيض مباشر للثورة التى هى التغيير بحكم التعريف وليس الاستقرار. وبالطبع فإن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واليومية لا تقوم ولا تصحّ إلا على أساس متين راسخ من الاستقرار، غير أنه ليس الاستقرار المتمثل فى العودة إلى النظام السابق، ولا الاستقرار الذى تُحاول قوى الإسلام السياسى الإخوانى السلفى فرضه لتمكين حكمها الدينى، بل الاستقرار الحقيقى الذى تحققه الثورة عن طريق التغيير والإسقاط الحقيقى للنظام بتحقيق أهداف الثورة. وقد تمثل المحتوى الحقيقى لأسطورة الاستقرار المنشود من جانب حكم المجلس العسكرى الأعلى فى استعادة النظام السابق مع تقديم مبارك وعصابته ككباش فداء بدلا من إسقاط ذلك النظام. إنه كان يتمثل فى وقف التغيير وتصفية الثورة حتى بالتعاون والتحالف مدفوعىْ الثمن مع خصم سياسى إلى الأمس القريب يتمثل فى الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى. وكان وما يزال المجلس العسكرى ممثلا حقيقيا للطبقة الرأسمالية التابعة بمختلف قطاعاتها ورأس حربة للثورة المضادة. وصارت استعادة الاستقرار صيحة الحرب ضد الثورة.
22: أما الإخوان المسلمون فقد تمثل الاستقرار المنشود من جانبهم فى محاولة محمومة لاستثمار تحالفهم مع النظام وتوظيفه فى القفز على السلطة والتقدم كممثل سياسى لنفس الطبقة الرأسمالية التابعة والأخونة الشاملة للدولة والطبقة فى صراع مرير فى سبيل السيطرة على الاقتصاد والسلطة لتصير الطبقة المالكة/الحاكمة إخوانية والدولة إخوانية والمجتمع إخوانيا. فالاستقرار المنشود إخوانيا إنما يتمثل فى تحقيق الاستقرار والتمكين بصورة راسخة لحكمهم الإسلامى مع التصفية السياسية والأمنية للثورة والتغيير الثورى بأسرع ما يمكن. ومثل هذا الاستقرار فى حكم المستحيل لأن الثورة مستمرة ولا يتحقق الاستقرار الذى تصل إليه فى النهاية إلا بتحقيق التغيير أىْ تحقيق أهداف الثورة أوَّلًا. ويزعم كلٌّ من الحكم العسكرى والحكم الإخوانى السلفى أن الثورة هى التى تقف حجر عثرة فى طريق الاستقرار وانتظام الحياة الطبيعية واستئناف الإنتاج الذى تَحُول دونه اضطرابات الثورة فى سبيل الانطلاق نحو التوزيع العادل الموعود لثمار الإنتاج. وهذه أسطورة أخرى فاضطرابات الثورة لا تنبع من الثورة من جانب واحد بل هى محصلة الصراع السياسى والأمنى بين الثورة والثورة المضادة. ورغم أن قوى الثورة المضادة تتغنى بالثورة وتزعم تمثيلها إلا أن حربها ضد الثورة وجماهيرها الشعبية هى التى تقف حجر عثرة فى طريق تحقيق الثورة لأهدافها لتحقيق الاستقرار على أساس "عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية".
23: وتتسلَّح أسطورة الشرعية الدستورية التى تقوم على اغتصاب الحق الطبيعى للشرعية الثورية فى الحكم والتغيير بأسطورة الانتخابات الحرة النزيهة: تأييد الشعب لممثليهم الپرلمانيِّين ورئيسهم للجمهورية "من خلال انتخابات حرة نزيهة". والحقيقة أن الشرعية الدستورية المزعومة تفتقر إلى الشرعية. فهى تستمد شرعيتها من إعلان 30 مارس 2011 الدستورى التأسيسى الذى كان بدوره قد استمد مواده من دستور 1971 الذى أسقطته الثورة مع إضافة التعديلات الدستورية التى كان قد أمر بها الرئيس المخلوع قٌبَيْلَ خلعه مباشرة. ومن هنا تفتقر الإعلانات الدستورية اللاحقة والدستور الجديد والقوانين والمؤسسات المنتخبة حتى إلى الشرعية الدستورية الحقيقية التى لا يمكن أن تُستمدّ من شرعية النظام المطلوب إسقاطه. والحقيقة أن المؤسسات الپرلمانية والرئاسية لدولة الثورة المضادة جاءت كمحصلة طبيعية لتزييف إرادة الشعب بالتزوير المباشر وبكل الوسائل الأخرى.
24: وهناك أسطورة أن الرئيس محمد مرسى هو "أول رئيس مدنى منتخب". وصحيح أن الرئيس محمد مرسى ليس عسكريا غير أنه ليس مدنيا أيضا فهو ليس امتدادا للقانون المدنى الذى يصنعه البشر بل هو امتداد لأيديولوچيا دينية سياسية وبالتالى فهو ممثل لحركة تسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية والحكم بها. أما انتخابه الذى يزعمون أنه كان حرا نزيها وتُسَلِّم له بذلك المعارضة المتخاذلة بكل أنواعها وقواها الليبرالية اليمينية والقومية واليسارية وحتى الثوار فكان أكبر تزييف لإرادة الشعب المصرى. وما قولك فى شعب يوضع أمام الاختيار بين كابوسين: مرسى و شفيق؟! وبأبسط مقارنة بين نتائج الجولة الأولى والجولة الثانية للانتخابات الرئاسية نجد أن مرسى حصل على ملايين الأصوات ممن لا يريدونه إلا هربا من شفيق، كما حصل هذا الأخير على ملايين الأصوات ممن لا يريدونه إلا هربا من مرسى، كالمستجير من الرمضاء بالنار، فى الحالتين. وليس هذا انتخابا حرا نزيها بل هو أفظع وأشنع تزييف لإرادة الشعب. بل إن هناك قصصا معروفة عن التزوير المباشر، بالإضافة إلى روايات متواترة عن تغيير النتيجة النهائية للانتخابات بأمر من المجلس العسكرى الأعلى فى اللحظة الأخيرة خضوعا لتهديدات إخوانية بحرق مصر، وبنصيحة أو مباركة أمريكية أو بضوء أخضر أمريكى.
25: ومنذ الثورة، جاءت "أسطورة روح الثمانية عشر يوما المجيدة" بأسطورة محورية أخرى هى أسطورة التوافق الوطنى التى سرعان ما صارت كلمة السر فى سياسة مختلف القوى السياسية. فالتوافق الوطنى الذى يشمل جميع القوى والحركات والطبقات والليبراليِّين والإسلاميِّين والقوميِّين واليسار هو، كما تزعم الأسطورة، مفتاح حلّ مختلف قضايا الثورة. والدستور التوافقى الذى تُعِدُّهُ جمعية تأسيسية توافقية تشتمل على كل أطياف الشعب هو، كما تزعم الأسطورة أيضا، الأساس الذى ينبغى بناء مؤسسات الدولة عليه. وهكذا نشأت عقيدة بناء مؤسسات الدولة على أساس توافقى. ومن أين يمكن أن يأتى التوافق بين قوى سياسية تمثل مصالح اجتماعية متناقضة ومتصارعة؟ من أين يمكن أن يأتى التوافق بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة؟ غير أن التوافقيِّين ينطلقون من أسطورة أن هذه القوى جميعا من عسكر وإسلاميِّين وليبراليِّين وقوميِّين ويسار هى قوى الثورة باعتبار أن الفلول والشرطة والطرف الثالث المجهول يمثلون وحدهم الثورة المضادة. وكان الثمن المدفوع نتيجة للأساطير التى شربناها باهظا للغاية فقد نجح العسكر باعتبارهم قيادة الثورة فى إخلاء الميدان من الثوار وحرموهم من ممارسة أىّ صورة من صور الشرعية الثورية وتحالفوا فى هذا مع الإخوان وسارت كل القوى السياسية والثورية الأخرى وراءهم غارقة فى مستنقعات ما سُمِّىَ ببناء مؤسسات الدولة وكأن هذه المؤسسات ليست مؤسسات دولة الثورة المضادة وكأن ما كان ما ينقصنا هو مجرد إحلال مؤسسات جديدة للدولة محل المؤسسات السابقة للدولة. وكانت التوافقية هى البوابة الواسعة إلى المحصلة المتمثلة فى مشاركة جميع القوى فى عملية قامت بترسيخ مؤسسات دولة الثورة المضادة على الأرض، وانطلاق الأسلمة والأخونة والسَّلْفَنَة بصورة شاملة. وما تزال هذه القوى تتطلع إلى استعادة تلك الروح واستئناف العملية السياسية المؤسسية التوافقية بشرط أن يسمح لها الإخوان المسلمون والسلفيون بذلك. وظلت هذه القوى تلهث وراء الحوار الوطنى التوافقى المزعوم مع المجلس الأعلى ثم مع الإخوان، مطالبين فى أحسن الأحوال بشروط وضمانات لا يلتفت إليها ولا يحترمها أولو الأمر.
26: ويمكن التمييز بوضوح بين فترتين من الحكم: الحكم المباشر للمجلس العسكرى الأعلى وقد استمرّ أقل قليلا من عام ونصف، ثم الحكم الإسلامى الإخوانى السلفى منذ تولِّى محمد مرسى رئاسة الجمهورية وقد استمرّ أكثر من عشرة شهور إلى الآن. ولا شك فى أن الحكم العسكرى كان حكما عسكريا إخوانيا من خلال تحالف جمعهما ضد الثورة رغم تناقضاتٍ وصراعاتٍ بينهما. ولا شك أيضا فى أن الإخوان المسلمين مسئولون مع المجلس الأعلى عن الممارسات السياسية والأمنية والتشريعية طوال قرابة عام ونصف. وقد لعب الإخوان الدور الرئيسى فى الجانب التشريعى، الذى تمثل هدفه الرئيسى فى تصفية الثورة وصرفها إلى الاستفتاءات والانتخابات بعيدا عن الفعل الثورى الجماهيرى والنضال الإضرابى، منذ إعداد التعديلات الدستورية على يد لجنة تغلب عليها انتماءات أو ولاءات أو ميول إخوانية ثم تأييد تلك التعديلات فى استفتاء 19 مارس 2011 وتأييد الإعلان الدستورى التأسيسى الصادر فى 30 من نفس الشهر، وتأييد أغلب الإعلانات الدستورية اللاحقة باستثناءات قليلة صادرة فى سياق صراع بينهم وبين العسكر منها الإعلان الدستورى الصادر فى 17 مايو 2012، خلال اليوم الثانى للانتخابات الرئاسية. وفى الجانب التشريعى أيضا كانت هناك انتخابات تمخضت عن وقوع الپرلمان بمجلسيْه فى أيديهم وكان مجلس الشعب بالذات مبشرا بإصدار قوانين تكون أساسا للحكم الدينى لولا إبطال المحكمة الدستورية العليا لقانون انتخابه والحكم بحلِّه بالتالى، كما كانت هناك بعض القوانين وكذلك تشكيل الجمعية التأسيسية الأولى والثانية للدستور والتحايُل للحصول على الأغلبية الساحقة فيها وذلك بالخروج على المعايير الدستورية والقانونية وعلى كل وعود أو تفاهمات. وكانت هذه الجمعية هى التى وضعت الدستور الإخوانى السلفى الذى تم إقراره فى عهد الرئيس مرسى. ولا شك كذلك فى مسئولية قوى الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المسلمين فى مجال تأييد سياسة التصفية التدريجية التى انتهجها المجلس الأعلى بكل أنواع الهجوم السياسى والإعلامى وحملات الافتراء والتشويه فقد شارك الإسلام السياسى بسهم راجح فى الهجوم والتضليل والافتراء والتشويه ضد الثورة الشعبية وقواها وقياداتها المتنوِّعة ونضالاتها واحتجاجاتها. وعلى الجانب الأمنى القمعى ظل الإخوان المسلمون والسلفيون يشكلون محرِّضًا وداعيةً وغطاءً سياسيا وفكريا للقمع على أيدى القوات المسلحة وقوات الأمن عند عودتها التدريجية، كما ظلوا مبرِّرين ل وحتى محرضين على المذابح البشعة فى محمد محمود وما حوله وفى ماسپيرو وپورسعيد وغيرهما، وقاموا بأنفسهم وبلطجيَّتهم وميليشياتهم بالهجوم الإرهابى على المظاهرات والاعتصامات السلمية. ونظموا حشودا جماهيرية ضخمة لممارسة الضغوط السياسية وإرهاب المجلس العسكرى وترويع قوى الثورة الشعبية.
27: وأمام رفض قوى الثورة بصورة عنيدة متواصلة للحكم العسكرى والمطالبة بإسقاطه وبتسليم السلطة لرئيس مدنى منتخب بأقصى سرعة ممكنة أجرى المجلس العسكرى انتخابات رئاسية وضعت الناخبين فى جولتها الثانية أما خيار بين كابوسين شفيق و مرسى كما سبق القول؛ وكان هذا الخيار هو الأداة الرئيسية التى استخدمها المجلس العسكرى لتزييف إرادة الشعب من خلال رئيس للجمهورية يأتى ليس بأصوات تتجه إليه كخيار حقيقى بل بملايين الأصوات التى تذهب إليه هربا من المرشح الآخر، وهناك حتى الرواية القوية التى تواترت حول تزوير النجاح من الكابوس الأول إلى الكابوس الثانى عندما ظهرت النتيجة النهائية محاصرةً بضغوط جماهيرية إخوانية سلفية ضخمة نجحت فى فرض إرادتها فى تلك اللحظة. وبدلا من المقاطعة اختارت القوى الثورية والسياسية المشارَكة الآثمة التى انتهت بتولية الرئيس الإخوانى الذى يحكمه المرشد ومكتب الإرشاد فلا يزيد عن أن يكون مسئولا فى مكتب الإرشاد عن ملف رئاسة الجمهورية. والحقيقة أن معارضة الحكم الإخوانى تمحورت حول سياسات ومواقف وإجراءات عديدة لهذا الحكم ولم يتبلور رفضه على أساس مبدئى حاسم كان من الجوهرى أن يتمثل قبل كل شيء فى رفض الحكم الدينى بوصفه كذلك بدلا من رفضه على أساس ممارساته وسلوكه السياسى والأمنى من تكويش أو تمكين أو إقصاء أو خروج صارخ على القانون فى العديد من المناسبات بالإضافة إلى قمع النضالات الثورية السلمية، وكانت وما تزال القوى السياسية رغم المطالبة بإسقاط الرئيس حينا تلهث فى أحيان أخرى وكخط أساسى وراء المشاركة والتوافق والعودة إلى أسطورة "روح الثمانية عشر يوما المجيدة"!
28: وبتولية الرئيس مرسى بدأ عهد جديد من العمل المباشر للحكم الإخوانى السلفى كنظام. وسار النظام الجديد على نفس الخطوط: تواصُل التصفية التدريجية للثورة على الخط التشريعى لبناء مؤسسات الدولة، والخط الأيديولوچى والإعلامى للتمكين للفكر الإسلامى الإخوانى السلفى فى مختلف المجالات، والخط السياسى الإدارى عن طريق الإحلال الإخوانى على أوسع نطاق، والخط الأمنى بالقمع المتواصل بلاهوادة لقوى الثورة بما فى ذلك تنظيم المذابح عند الضرورة. وعلى الخط التشريعى والقانونى، تم إقرار الدستور الجديد وقانون الانتخابات وعلى أساسهما تتم الدعوة إلى انتخابات لمجلس النواب كما يسميه الدستور الجديد، وذلك بعد فشل الرئيس فى فرض عودة مجلس الشعب السابق من خلال خروج صارخ على القانون. وعلى هذا الخط أيضا جرى على أساس الدستور الجديد مَنْح مجلس الشورى سلطة التشريع لحين انتخاب مجلس النواب مع التعيين الرئاسى فى عضويته لتسعين عضوا جديدا أغلبهم من الإخوان والسلفيِّين، وهكذا صار الرئيس "يُحْيِى العظام وهى رميم" عن طريق تحويل مجلس الشورى الذى وُلِدِ ميتا فى عهد السادات بلا سلطة تشريعية، عن طريق منحه سلطة التشريع، وتوسيع عضويته، والمزيد من أخونته وسَلْفَنَتِهِ. كما تم فى هذا المجال قيام الرئيس بتسليح نفسه وتحصين قراراته بإعلانات دستورية جديدة، ومن خلال بعضها تم تعيين النائب العام الجديد الإخوانى بصورة خارجة على القانون. وحالما يتم إقرار قانون الانتخابات ويتم إجراء انتخابات مجلس النواب حتى فى حالة مقاطعة أوسع لها ستكون حلقات السلطة التشريعية قد اكتملت ودانت لمسئول ملف الرياسة فى مكتب الإرشاد، أعنى الرئيس مرسى.
29: صار لدينا إذن دستور إخوانى سلفى قامت بإعداده جمعية تأسيسية إخوانية سلفية وتم إقراره من خلال استفتاء حصد فيه التصويت ب "لا" أكثر من ثلث أصوات الناخبين المشاركين وتباهت قوى الثورة والمعارضة بذلك متجاهلة حقيقة أنها بالمقابل منحت الشرعية واعترفت بالتالى بالتأسيسية والدستور والاستفتاء. وصار لدينا مجلس الشورى الذى مُنح سلطة التشريع وتم توسيعه وتأهيله وترميمه. وتم إعداد الدستور على أساس الشريعة والأيديولوچيا السياسية الإخوانية السلفية بعيدا تماما عن مبادئ القانون الدولى العام والقانون أو المعيار الملزم jus cogens فى وضع الدساتير والقوانين. وأحاطت بتشكيل التأسيسية أسطورة أنه ينبغى أن تضم عضويتها كل فئات وأطياف المجتمع؛ وصارت هذه الأسطورة حجة المطالبين بتحقيقها وحجة المدافعين بزعم أنها متحققة بالفعل. والحقيقة أن الامتثال للمبادئ الملزمة العالمية غير القابلة للانتقاص هو الذى يضمن دستورية الدستور. والحقيقة أن "هيراركية" الدستور تبدأ بهذه المبادئ الملزمة فوق الدستورية التى تفرض اختيار سياسيِّين ورجال قانون ملتزمين بها ومؤهلين لصياغتها، وتكتمل باستفتاء حر ونزيه. وعندئذ تأتى التشريعات والقوانين التى يَسُنُّها مجلس نيابى منتخب انتخابا حرا ونزيها على أساس مثل هذا الدستور وعلى أساس قانون انتخابات سليم. ولا يتحقق الدستور والقانون إلا عندما تلتزم بوضعه موضع التطبيق سلطتان من سلطات الدولة هما السلطة القضائية المستقلة التى تطبقها على الدعاوى القضائية، والسلطة التنفيذية التى تلتزم بها فى مجالات اختصاصها سياسيا وإداريا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا؛ إلخ.. وقد أُوكِلَ إلى مجلس الشورى بعد إعادة تأهيله أمر التشريع على أساس الدستور اللادستورى، وكانت الثمرة الأولى لإنتاجه التشريعى قانون الانتخابات الجديد الذى استدعى معارضة المعارضة وملاحظات المحكمة الدستورية العليا ضمن رقابتها السابقة الجديدة.
30: وما حدث هو أن السلطة القضائية تعرضت وتتعرض بصورة متواصلة على أيدى الإخوان المسلمين والسلفيِّين لمذبحة من مذابحها الكبرى. ولا شك فى أن القضاء لكىْ يكون مستقلا ونزيها وعادلا يشترط شروطا لا مناص من تحقيقها وهو لا يملك منها بصورة ذاتية نابعة من داخلها إلا ضمير ونزاهة وكرامة ومقاومة رجاله القضاء ونسائه. ذلك أنه يستحيل أن يكون القضاء عادلا إلا على أساس دستور ديمقراطى ملتزم بالمبادئ فوق الدستورية، ويلتزم به مجلس نيابى منتخب انتخابا حرا ونزيها يكون ولاؤه للدستور وليس للنظام القائم، فلا يكون مكتبا تشريعيا للسلطة التنفيذية يقوم بواجب وضْع بصمة الموافقة على مشاريع القوانين التى تأتى بمعظمها من هذه السلطة، بحيث يكون عدل القاضى نابعا من عدل القوانين التى يحكم بها وباجتهاده النزيه فى تطبيقها، ولا يكتمل العدل إلا بسلطة تنفيذية تلتزم بتقديم الأدلة بدلا من إخفائها أو تلفيقها وكذلك بتنفيذ القانون والحكم القضائى نصا وروحا ودون تمييز فى جميع مراحل التنفيذ بما فى ذلك التزام السجون بالقانون وبكل الحريات وكل الحقوق الصحية وغير الصحية لنزلائها. ويقتضى هذا بطبيعة الحال أن يكون النائب العام والنيابة كلها ملتزميْن بالقانون نصا وروحا بكل مقتضياته فى توجيه الاتهام ورفع الدعوى القضائية ومتابعة مرافعاتها والرقابة الفعالة على السجون وأماكن الاحتجاز أو إيداع الأحداث. غير أن الحكم الإخوانى الذى صار الدستور والقانون والنائب العام جميعا طوع يمينه وطوع شماله وطوع بنانه يواصل هجومه الشامل على القضاء على كل الجبهات فى سياق مذبحة من أبشع مذابح القضاء طوال العقود الطويلة السابقة منذ انقلاب 1952، ومن أدوات هذه المذبحة: الدستور الذى هبط بمكانة القضاء إلى حضيض، وقانون السلطة القضائية بما فى ذلك وضع حدٍّ أعلى لعمر القاضى لاستبعاد آلاف القضاة الذين يدافعون ببسالة عن استقلال القضاء، وواقع أن القضاء يحكم بقوانين تضعها السلطة التنفيذية عبر ملحقها التشريعى المسمَّى بالسلطة التشريعية، كما يحكم وفقا للأدلة التى تقدمها أو تحجبها أجهزة السلطة التنفيذية، كما أن السلطة التنفيذية هى التى تنفِّذ بطريقتها أو لا تنفِّذ أحكام القضاء.
31: وتنطلق الضربات الموجَّهة إلى السلطة القضائية من الدستور الإخوانى السلفى غير الملتزم بالقانون الدولى، والذى يفرض الحكم بالشريعة الإسلامية على القضاء، وينتقص بصورة فادحة من مكانة السلطة القضائية، ويوجه ضربة دستورية إلى المحكمة الدستورية العليا بتقليص عددها أعضائها، بعد حصارها الإخوانى السلفى بأساليب البلطجة التى لم يُسمع بمثلها، تحت سمع وبصر مسئول ملف رئاسة الجمهورية فى مكتب الإرشاد، لتفويت فرصة قيامها بحلّ مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية للدستور لكيلا يتعطل إصدار الدستور الإخوانى السلفى وتحجيم السلطة القضائية والمحكمة الدستورية العليا، ولم يتم فكّ الحصار إلا بعد التخلص من ذلك الاحتمال وتشكيل وتأهيل مجلس الشورى للانطلاق إلى طبخ الدستور وطبخ الاستفتاء عليه فصار بنعمة الله وتواطؤ المعارضة بالمشاركة: الدستور الذى وافق عليه الشعب بأغلبية كبيرة بلغت أقل من الثلثين. وكل هذ فى جو من تصعيد الخلاف مع رجال القضاء والقضاء الإدارى والنيابة العامة إلى أقصى الحدود وصولا إلى إضراب القضاء بمختلف فروعه، محاصَرًا بحملات التشويه والافتراء وبالاعتداءات المتكررة.
32: وجاءت الضربة الأخيرة ولن تكون آخر ضربة للقضاء بإبعاد النائب العام السابق، غير مأسوف عليه، على كل حال، والتعيين الرئاسى للنائب العام الجديد بصورة غير قانونية. وهكذا صار القضاء المصرى يئن ويلعق جراحه ملتزما بالدستور اللادستورى الذى أعدته تلك التأسيسية وأقرَّه ذلك المجلس، الذى من حقه أيضا أن يعدِّل الدستور متى شاء، ووافق عليه "الشعب" فى الاستفتاء "الحر النزيه"، ومحكوما بتطبيق القوانين القائمة وتلك التى سوف يصدرها مجلس الشورى الإخوانى السلفى الساهر على تطبيق الشريعة الإسلامية، كما صار على القضاء، بعد تعيين النائب الإخوانى الموالى للنظام والمرفوض من جانب قوى الثورة والمعارضة، أن يكون محكوما بما يقدمه أو يحجبه هذا النائب العام غير المهنى من الدعاوى القضائية وفقا لتكييفه لها. ولا شك فى أن عدالة القضاء لا تكفى لنجاحه فى تحقيق النزاهة الشخصية التى يتحلَّى بها القضاة بل تشترط النائب العام النزيه، وكذلك نزاهة مختلف أجهزة الأمن والبحث الجنائى والطب الشرعى، فهذه الأجهزة هى التى تقدم الأدلة أو تحجبها أو حتى تفرمها، وبالتالى تحُول هذه الحلقة الخبيثة من الأجهزة، والنيابة والنائب العام، والقانون غير العادل الذى ينتجه مجلس الشورى أو مجلس النواب فى المستقبل، والدستور إياه، دون العدالة القضائية الحقيقية التى تغدو بدون تحقيق تلك الشروط أضغاث أحلام، وهذا ما تُثبته أيضا الممارسة القضائية فى الدعاوى القضائية الكبرى بعد ثورة يناير، ولا يمكن فى الحقيقة أن نطالب بالاستقلال والعدل هذا القضاء الذى تقيده القوانين من فوق والأجهزة من تحت من حيث الأدلة ومن حيث تنفيذ الأحكام. أضفْ إلى كل هذا ممارسات وتدخلات السلطة التنفيذية ومؤسسة رئاسة الجمهورية والرئيس والحكومة فى عمل الأجهزة الأمنية والنيابة العامة والقضاء نفسه.
33: ولا تنتهى الأساطير والميثولوچيات السياسية ويعنى كل شعار نقيضه المباشر. وتحت سيْل من دعاوى التوافقية وحكومة الوحدة الوطنية والحرية والعدالة صارت الأخونة الشاملة للدولة والمجتمع هى الواقع الفعلى لأسطورة التوافق والوحدة الوطنية: الحكومة الإخوانية وفرض الخط السياسى الإدارى عن طريق الإحلال الإخوانى على أوسع نطاق على مستوى المحافظين وكافة المناصب العليا، فرض الخط الأيديولوچى والإعلامى الإخوانى فى الإعلام الرسمى، المسموع والمرئى، الإلكترونى والورقى، وفى نظام التعليم بمختلف مراحله ومستوياته، وفى التمييز إزاء المسيحيِّين، والنساء، وغير هؤلاء وأولئك، وفرض الخط الأمنى بالقمع المتواصل بلاهوادة لقوى الثورة بما فى ذلك تنظيم المذابح عند الضرورة فى سبيل التصفية التدريجية للثورة.
34: ورغم تحريم دستور 1971 والإعلان الدستورى قيام أحزاب دينية قامت أحزاب الإسلام السياسى تحت عباءة مرجعية الشريعة الإسلامية. والحقيقة أن هذه الأحزاب الدينية هى أدوات الحكم الدينى ولا سبيل إلى قبولها إلا بقبول الحكم الدينى. والسياق التاريخى مختلف تماما هنا عن السياق الأوروپى عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين فلا مجال إذن للاستشهاد بأقوال لينين وماركسية ذلك الزمن حيث لم تكن الأحزاب الأوروپية التى تصف نفسها بالمسيحية تعمل على العودة بمجتمعاتها إلى الحكم الدينى القروسطى. وتتجمَّل دعاوى الحكم بالشريعة الإسلامية بأسطورة مؤداها أن الحاكمية لله مع أن البشر هم الذين يحكمون "باسم الله". وينقلب محتوى تعبير "باسم الله" من إعلان خضوع لمشيئة الله فى ظاهر الأمر إلى عصا غليظة تفرض تسييس المقدَّس أو الدين وتقديس أو تديين السياسة؛ رغم أن الحاكمية الحقيقية الفعلية للبشر، وبهذا نكون إزاء إضفاء طابع المقدس الدينى والتقديس والتديين على حكم البشر. أما الحقيقة العارية فهى أن المجتمع البشرى تحكمه الأوضاع والشروط والقوانين التاريخية البشرية، فالمجتمع يسوده ليس فضائل القانون الإلهى بل الحقائق المادية للقانون البشرى. ولا جدوى من التَّحَلِّى بشعار "الإسلام دين الدولة". فالإسلام أو أىّ دين لا ينبغى أن يكون دين الدولة. ذلك أن شعار "الإسلام دين الدولة" شعارٌ مجنَّح فهو ينطوى على معنيين ممكنين؛ أحدهما أن يلتزم الإسلام بالدولة والثانى أن تلتزم الدولة بالإسلام. وحسب المعنى الأول يكون الإسلام فى خدمة الدولة أىْ فى خدمة الاستغلال والاستبداد والظلم والفساد، وحسب المعنى الثانى تتقيد الدولة التى هى الاستغلال والاستبداد والظلم والفساد بفضائل وأحكام الإسلام وهذا مجرد تجميل للدولة التى لا صلة تجمعها بالفضائل التى تتحلَّى بها الأديان والوثنيات بعيدا عن جوهره الحقيقى، ومعنى هذا التضليل للجماهير هو زعم أن الدولة يمكن أن تلتزم وتتقيد بهذه الفضائل فتكون بذلك دولة فاضلة! رغم أن الفهم الصحيح للمعنى اللصوصى للدولة يوضح أن نظرية "الإسلام دين الدولة" أشبه بالقول بأن "الإسلام دين اللصوص" بعيدا عن فضائل الإسلام والديانات والوثنيات الأخرى التى تنطوى جميعا على نفس الفضائل الحقيقية! وتعتمد هذه الأسطورة على تمويه وطمس معنى الدولة حيث يجرى الإيحاء بأنها الدولة بالمعنى الدستورى وفقا للقانون الدولى على حين أن الدولة التى يريد الدستور تحديد العلاقات بين سلطاتها دولة بالمعنى الاجتماعى السوسيولوچى فهى الدولة الطبقية الاستغلالية بعيدا عن الدولة بالمعنى المقصود فى القانون الدولى. وتُحَلِّق فوق هذه الأساطير أسطورة بناء الدولة أو المؤسسات أو مؤسسات الدولة. والمحتوى الحقيقى لأسطورة بناء مؤسسات الدولة ليست شيئا آخر سوى تقويض الثورة وتصفيتها؛ عن طريق الابتعاد بالجماهير الشعبية عن الفعل الثورى والانتقال بصفة نهائية إلى الطريق الپرلمانى.
35: ولا يقف السلوك السياسى للإسلام السياسى عند هذا الحد. ورغم أسطورة الأمن القومى المصرى حيث لا يوجد ما يمكن أن يسمَّى بالأمن القومى عند بلدان فقيرة وضعيفة ولا تملك من أمرها شيئا، يخضع الحكم الإخوانى لإملاءات شديدة الضرر على مصالح مصر. وقد وجدتْ الولايات المتحدة الأمريكية أن الحكم الإخوانى المزعزع فى مصر لا يمكن إلا أن يكون أكثر انقيادا وخضوعا من نظام مبارك الذى كان حليفا فعليا على حين أن الحكم الإخوانى يحتاج من أجل استقراره ونجاحه وتمكينه إلى التعاون والعون والتأييد من جانب أمريكا وإسرائيل والسعودية وقطر. وهكذا يتورط الحكم الإخوانى فى قبول ترتيبات إلكترونية عسكرية أمريكية فى سيناء لم يكن يقبلها نظام مبارك، ويتورط فى علاقات مريبة مع حركة حماس خلقت شكوكا وهواجس بشأن مستقبل سيناء، ويثير مشروع تطوير قناة السويس مخاوف كبرى ترتبط ببيع مصر لدولة قطر، ويطلق رئيس الجمهورية سيلا من التصريحات الاسترضائية لهذا الطرف أو ذاك مثل حديثه فى السودان عن حلايب وشلاتين، مع أن احترام الحدود الاستعمارية صار مبدأ تسوية النزاعات الحدودية فى المستعمرات السابقة مثل مصر والسودان.
36: وتدور شكوك مفزعة حول الرئيس محمد مرسى بشأن سبب اعتقاله فى الأيام الأولى للثورة حيث قيل إنه يتجسس لحساب جهات أجنبية، وبشأن طريقة خروجه من سجن النطرون على أيدى دولة قطر وقناة الجزيرة والإخوان المسلمين الفلسطينيِّين فى غزة أعنى حركة حماس، بالإضافة إلى روايات متواترة عن ترتيبات مع حماس ومع الجماعات الجهادية المصرية فى سيناء، وكل هذا فى ظل إدارة مكتب الإرشاد للبلاد حيث يجلس الآن على عرش مصر وصار على قمة السلطة والحكم وصار يوجِّه معركة الأخونة الشاملة. كما تتواتر روايات عن يمين الولاء الذى أقْسَمه محمد بديع و محمود عزت ل شكرى مصطفى زعيم التكفير والهجرة وإذا صحَّتْ رواية كهذه فإنها تعنى أننا وقعنا ليس فقط تحت حكم الإخوان المسلمين العاديِّين أو القطبيِّين أو التنظيم السرى الإخوانى والسلفيِّين بل تحت تطرُّف يصل إلى مستوى تطرُّف جماعة التكفير والهجرة؛ قتلة الشيخ الذهبى. وبدلا من المحاكمة العاجلة للرئيس وقيادات الإخوان المسلمين ما زلنا نتغنى بأسطورة "إيد واحدة" التى رفعنا شعارها مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية ومع الإخوان المسلمين وحلفائهم.
37: والآن نجد أنفسنا إزاء صدام قريب أو وشيك بين جناحين كبيرين للثورة المضادة فى مصر. ومثل هذا الصدام الحاسم بين الثورة المضادة الإسلامية الإخوانية التى تمثل قطاعا مهمًّا من الرأسمالية الكبيرة التابعة للإمبريالية، من ناحية، ومن ناحية أخرى الثورة المضادة القومية أو الوطنية لا فرق والتى تتألف من الأقسام الحاسمة من نفس الرأسمالية الكبيرة التابعة للإمبريالية ومعها القضاء والقوى السياسية المسماة بالمدنية والإعلام الخاص الذى توجد دلائل على محاولة لِحاق الإعلام العام الرسمى به فيما يتعلق بالحملة ضد الإخوان، والقضاء، وقيادات أغلب الأحزاب والنقابات، ... مثل هذا الصدام الحاسم أمٌّ مُنجبة لسيل من الأساطير السياسية الجديدة. ولا شك فى أن مثل هذا الصدام يمكن أن يقضى على مستقبل الإخوان المسلمين والسلفيِّين والإسلام السياسى فى مصر والمنطقة لعشرات السنين. وسيكون التحرر من الحكم الدينى والأحزاب التى قادت وتقود إليه تطورا إيجابيا كبيرا وأولوية من أوْلَى الأولويات. ومن هذا الجانب الإيجابى يمكن أن تنبع أسطورة تبشر بأن إسقاط حكم الإخوان المسلمين سيؤدى إلى نهايةٍ لآلام الشعب وإلى مرحلة زاهية من الديمقراطية. ولن يكون مثل هذه التفكير سوى صدًى أو سرابًا لأسطورة جديدة. ذلك أن القوة الفاعلة فى إسقاط الإخوان ستكون الثورة المضادة العسكرية التى لم نعرف فى مصر أو فى أىّ مكان آخر فى العالم نزوعا ديمقراطيا تتصف به، وستعمل الثورة المضادة العسكرية القومية على فرض منطقها، كما أن الإعلام الذى يبشر الآن بهذا التطور بأساليب شبه عسكرية سيكون السند الطبيعى والمنطقى والتاريخى للديكتاتورية العسكرية القومية القادمة. وبالطبع فإن الثورة مستمرة وسوف تقاوم وتتم فصولا وهذا بشرط أن تُدرك أنها ليست مرشحة للحكم الآن على الأقل وأن تتخلى عن أسطورة أنها ستتولى السلطة وعن أسطورة أنه توجد ديمقراطية فى صميم بنيان الدولة، وأن تركز على بناء مؤسسات الديمقراطية الشعبية من أسفل مهما كان الحكام الذين يحكموننا؛ بعيدا عن أسطورة بناء مؤسسات الدولة فهذه لن تكون سوى مؤسسات الثورة المضادة الإسلامية الإخوانية أو الثورة المضادة القومية العسكرية. ولا شك فى أن الديكتاتورية القومية العسكرية القادمة ستعود بنا إلى المربع الأول، ليس إلى مربع 25 يناير، بل إلى مربع 12 فبراير، لتبدأ مصيدة جديدة لمسيرة جديدة باسم بناء مؤسسات الدولة: دستور جديد، پرلمان جديد، رئيس جديد، وتحت هذا الشعار البراق ولكنْ الزائف سوف نقع فى مصيدة جديدة للثورة المضادة تتمثل فى الانخراط من جديد فى الشرعية الدستورية لصرف الجماهير الشعبية العاملة والقوى الحقيقية للثورة عن نضالاتها الثورية وفعلها الثورى للسير وراء سراب وأسطورة الطريق الپرلمانى فى زمن الثورة!



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكاية قروية قصة: روبرت ڤالزر
- البرلينية الصغيرة قصة: روبرت ڤالزر
- السلطة التنفيذية هى السلطة الحقيقية الوحيدة فى مصر
- توبة قصيدة للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
- قصة قاسية قصيدة للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
- جميل جميل قصيدة للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
- طائر السنونو قصيدة للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
- جَذَرَ جَذْرا وجذَّر تجذيرا وتجذَّر تجذُّرا (مناقشة على هامش ...
- نجمة الصباح
- النجمة
- الحيوان
- عريان
- السندباد (من أحلام النوم واليقظة)
- تعويذة
- تخفيف الحكم
- هل التظاهر أمام مكتب الإرشاد فى المقطم كُفْر؟!
- ببليوجرافيا خليل كلفت حسب دار النشر
- النظام القديم والثورة الفرنسية
- إلى كارولينا قصيدة (سوناتا): ماشادو ده أسيس، مهداة إلى زوجته ...
- فراو ڤيلكه قصة: روبرت ڤالزر ترجمة: خليل كلفت


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - أسطورة روح الثمانية عشرا يوما المجيدة