|
الماركسية و الأخلاق / 2
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4083 - 2013 / 5 / 5 - 22:22
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أولاً / القاعدة الإجتماعية للأخلاق : النظريتان الأساسيتان في تعليل الأخلاق كل نظرية للأخلاق لا بد لها أن تتأسس على تصور محدد و واضح حول الطبيعة البشرية ، لكي تبني عليه تصوراتها حول أفضلية النمط الإقتصادي – الإجتماعي - السياسي هذا على ذاك في تحقيقه للتواؤم مع طبيعة البشر . و بخصوص طبيعة البشر ، توجد هناك نظريتان لا ثالث لهما بهذا الشأن : النظرية الأولى تزعم بأن طبيعة البشر هي تناحرية ، تنافسية ، أنوية ؛ و بالتالي فإن فرض أخلاق الواجب و الفضيلة على كل أفراد المجموعة الإجتماعية هي ضرورة لازبة لكبح جماح هذه الطبيعة الإحترابية . أما النظرية الثانية ، فهي النظرية المضادة التي تؤكد بأن البشر هم كائنات إجتماعية متعاونة و متضامنة بالضرورة ، و أن الأخلاق معطى تاريخي–إجتماعي متبدل و قابل للتغيير وفقاً لمرحلة التطور التاريخي التي تمر بها المجموعة البشرية ، و أن أهم فضيلة في كل العصور هي مدى مقدرة النظام الإقتصادي - الإجتماعي - السياسي القائم على تلبية حاجات الإنسان و مقتضيات الإرتقاء بطاقاته في المناحي كافة . النظرية الأولى يعود تاريخها إلى حوالي عشرة آلاف سنة مضت ؛ و التي نشأت مع تبلور السلطة السياسية لأول مرة في التاريخ في دويلات المدن في العراق القديم ( الهلال الخصيب الذي يشمل حالياً العراق و بلاد الشام و أجزاء من جنوب تركيا و غرب إيران و الخليج لغاية جزيرة البحرين ) ؛ و التي صاغها السومريون الذين كانوا أول من إدعى بأن الأخلاق الفاضلة هي واجب مفروض على كل البشر تنزيلاً من السماء ، و الذين ابتكروا فكرة الثواب على الإعمال الصالحة و العقاب على الأفعال غير الصالحة . هنا يبرز السؤال : لماذا يجب على البشر التحلي بالأخلاق الفاضلة المنزلة من السماء للأرض ؟ الجواب واضح من مندرجات أسطورة الخليقة السومرية و التي تشرح الإثم المتأصل في بني البشر الذين خلقهم الإله إنليل من دماء الإله "النجس" كنـگو . نفس هذه الفكرة إستعارَتها بعدئذٍ التوراة (مثلها مثل كل قصص العهد القديم المكتوبة في العراق و التي تكتفي بقلب وقائع أساطير وادي الرافدين ) في قصة خلق آدم وحواء – و كيفية نزولهما للأرض بسبب إثمهما الأول – و من ثم مقتل أبن آدم قابيل بيد هابيل ، و تكاثر أبناء الإثم البشر من صلب القاتل هابيل ، و الوصايا العشرة .. إلخ . في المسيحية ، تجلت هذه الفكرة بخلق إبن الله المسيح المخلص الذي يعتلي الصليب إفتداءً لخطايا البشر . أما الإسلام ، فقد كرس نظرية غواية الشيطان للإنسان ، و جزاء الثواب و العقاب للبشر على أعمال الخير و الشر في الدنيا و الآخرة : فمن يعمل مقدار ذرة خيراً يره ؛ و من يعمل مقدار ذرة شراً يره . في القرنين السابع عشر و الثامن عشر ، جاءت نظريتا توماس هوبز و عمانوئيل كانط المثاليتين في الأخلاق لتؤكدان نفس هذا المفهوم ، و لتؤدلجانه فلسفياً بعكسه على السلم الإجتماعي عبر ترويج فكرة : "أن ضرورة إلتزام البشر بالأخلاق تتأسس على علة كون البشر هم – بطبيعتهم – كائنات خطّاءة ؛ و أن الحفاظ على العدل و السلم الإجتماعيين يتطلب دوماً لجم غرائزهم و رغباتهم الجامحة عبر غرس الوازع الأخلاقي في نفوسهم ، و بعكسه تدخل سلطة الدولة (القانون) ." مفهوم المثالي هوبز و كانط لطبيعة البشر لا يختلف عن مفهومه في قرآن القرون الوسطى : الإنسان كنود ، كفور ، ظلوم ، عجول ، يئوس ، خسور . يلخص لنا المتنبي ذلك بالقول : و الظلـم من شـيم النفــوس **** فإن تجد ذا عـــفّةٍ ، فَلِعِلّة لا يَظْــلِم . ما علّة عفّة الإنسان عن الظلم ، و الإنسلاخ عن هذه الشيمة المنغرسة في النفوس ؟ الجواب ، حسب المتنبي و هوبز و كانط ، هو : الوازع الأخلاقي ؛ إما لمبدأ ( دين ، منظومة مُثُل ) أو لسيفٍ ( الخوف من العقاب السماوي أو الأرضي ) . و بموجب هذا الفهم غير الصحيح لطبيعة البشر ، فأن المجتمع الإنساني يتألف من أفراد متصارعين لا يتبعون غير أهوائهم و مصالحهم الأنانية ؛ و لذلك فأنهم – بغية الاستئثار بالأموال و بالملذات و بالسلطة دوماً و ذلك على حساب ظلم و هضم حقوق الآخرين – لا يتورعون عن خوض الحروب التي يطحن الجميع فيها الجميع إذا ما تُركوا لأهوائهم الشخصية . بموجب هذا التصور ، فإن الحكمة من الدعوة للمُثل الأخلاقية العليا و الإلتزام بها تكمن في خلق الوازع الإجتماعي الذي من شأنه إبعاد شبح الحروب بغية الحفاظ على وحدة المجتمع بدلاً من تخريبه . و لما كانت كل نظرية إجتماعية لا بد لها أن تنادي بأفضلية أحد أنماط النظم الإجتماعي ، لذا فأن الفكر الليبرالي المعاصر يذهب إلى كون النظام الرأسمالي هو الإنعكاس الحقيقي لـ "واقع" الإنسان كمخلوق أناني يبغي تعظيم منافعه ؛ مخلوق متنافس ، لا يشبع من الإستهلاك ، و بحاجة للجم المتواصل للحيلولة دون تجاوزه على الحدود المرسومة لـ "حريته" بالإعتداء على حريات الآخرين . أما المنظرون للفكر المحافظ – و هم الطرف الآخر للمؤدلجين للرأسمالية – فأنهم – مثل هوبز و كانط – ينظرون للبشر كمخلوقات متهورة ، قطيعية ، مثيرة للشفقة ، إلخ . و الحرية الوحيدة المقدسة في الفكرين اللبرالي و المحافظ هي : "الحرية في إمتلاك كل شيء". هنا يجري تعريف الحرية سلبياً عبر تصوير حرية الفرد كنقيض لحرية المجتمع . أما المجتمع ، فهو مجموعة من الأفراد الأحرار الذين يرتبطون مع بعضهم بعلاقات التبادل لممتلكات كل منهم في السوق ؛ و المجتمع السياسي هو الآلية المحسوبة لحماية هذه الممتلكات و إدامة العلاقات التبادلية بينهم . و بكلمة أخرى ، فإن جوهر الطبيعة البشرية في النظرية اللبرالية قائم على الافتراضات المشتقة من علاقات السوق غير البشرية للمجتمع البرجوازي . فبالنسبة إلى "ملتن فريمن" و مدرسة شيكاغو – مثلاً – فأن " الاقتصاد التبادلي الحر للمشروع الخاص" ، أو ما يسميه بـ"الرأسمالية التنافسية" هو "المكون المباشر للحرية ، علاوة على كونه الشرط الضروري للحرية السياسية" التي يعرفها بكونها "غياب تهديد الإنسان من طرف الآخرين" . و بالضد من هذه النظرية الكهنوتية - الهوبزية - الكانطية – اللبرالية ، تأتي النظرية الماركسية في الأخلاق التي تتأسس على فهم مغاير تماماً لطبيعة البشر ، و التي ترفض كل الإدعاءات الكاذبة بخصوص طبيعة النظام الرأسمالي الذي يجري تسويقه بإعتباره "الوضع الطبيعي للمجتمع" مثلما يروج له المؤدلجون البرجوازيون . أصول هذه النظرية تعود لسقراط الذي كان أول من نقل الفلسفة من دراسة السماء إلى دراسة الإنسان على الأرض ، و إلى الكيفية التي يستطيع بها الإنسان أن يحيى أفضل الحياة على هذه الأرض . نفس هذا الهمّ كان هو الهمّ الأول و الأخير لكل الفكر الماركسي . لقد أدرك ماركس أن البشر ليسوا مخلوقات متنافسة و لا متحاربة بالفطرة ؛ بل أن طبيعتهم هي على العكس من ذلك تماماً : البشر هم – أصلاً و فعلاً – مخلوقات إجتماعية لا يمكنهما البقاء إلا بالتعاون مع بعضها البعض . ماذا تقول نتائج أبحاث علم الأنثروبولوجيا ( أي : علم الإنسان ) المعاصر بخصوص الطبيعة البشرية ؟ الجواب هو أن أبحاث هذا العلم قد أكدت صحة المفهوم الماركسي أعلاه عن طبيعة البشر الذين لم ينشأوا كمجاميع من الأفراد المنفصلين و المتحاربين باستمرار مع غيرهم المجاميع ؛ بل أنهم نشأوا ضمن وحدات إجتماعية قائمة على التآزر و التعاون بين جميع أفراد المجموعة . فطبقاً لعالم الإنثروبولوجيا ، "ريتشارد لي" : " فأن البشر – قبل نشوء الدولة و تكريس عدم المساواة الإجتماعية (قبل حوالي 10- 5 آلاف سنة) – عاشوا على مدى آلاف السنين في مجاميع صغيرة قائمة على أساس علاقات القربى ، و التي كان لب مؤسساتها الإقتصادية يشتمل على الملكية المشتركة للأرض و للثروة ، و التوزيع الجماعي للغذاء ، و المساواة النسبية في الحقوق السياسية ." أين نمط الإنتاج الرأسمالي – القائم على تقسيم المجتمع إلى من يمتلكون و سائل الإنتاج و لا يعملون ، و الذين يعملون و لا يمتلكون شيئاً مما يعملون عليه – من الطبيعة المتأصلة للبشر كمخلوقات تعاونية متساوية الحقوق مثلما يثبته لنا علم الإنثروبولوجيا ؟ رآى ماركس أن النمط الرأسمالي للإنتاج يمثل الإغتراب الذاتي لكل من طبقتي أرباب العمل و العمال ؛ و الفرق يكمن في أن رب العمل يشعر بالطمأنة و التعزيز من خلال هذا الإغتراب لكونه يعيش هذا الإغتراب كعلامة دالّة على القوة الذاتية و يمتلكه كمظهر للوجود البشري . أما العامل ، فإنه يشعر بكونه محطماً في هذا الإغتراب ، و يرى فيه عجزه ، و الواقع المكرس لوجوده غير الإنساني ... هذه الطبقة - في حرماناتها – هي الإدانة ضد هذا الحرمان ، الإدانة النابعة من التضاد بين طبيعتها البشرية و بين وضعها البشري الذي يتنكّر تماماً و كلياً لطبيعتها نفسها ". الإغتراب هنا – القائم بسبب التقسيم الرأسمالي للعمل – يجعل غالبية أفراد المجتمع معاقين بفعل كبح طاقاتهم و قدراتهم الإنتاجية العقلية و البدنية عبر جعلهم تابعين للآلة و تحويلهم إلى مجرد شذرة من إنسان . إذن هذا النظام غير أخلاقي لكونه منافياً للطبيعة البشرية ، و لكونه عائقاً أمام تطوير الإمكانيات القائمة فيها و تلبية كل إحتياجاتها . و لما كان العمل الغائي – الذي يميز البشر عن غيرهم من المخلوقات – هو فعل إجتماعي و ليس فردياً لأنه محكوم بعلاقات الإنتاج و بالتوزيع عبر التداول ، لذا وجب أن تصبح الغاية منه ليس فقط إشباع حاجات الإنسان و تغيير الطبيعة ، بل و كذلك تغيير الإنسان نفسه و مجتمعه عبر تشريك وسائل الإنتاج ، وصولاً إلى المجتمع الشيوعي المتطور الذي يتيح للإنسان التعبير عن كامل القدرات التي تتيحها له طبيعته البشرية . هذا المفهوم هو مفهوم أخلاقي يستوعب الحاجات المادية العامة لكل البشر ، و كذلك إمكانية التطور الحر للإحتياجات و القدرات الفكرية و الإبداعية للمجتمع ككل نظراً لكون تلبية هذه الإحتياجات الضرورية تشكل الحدود التي يتوقف عندها نمط الإنتاج الرأسمالي عن الفعل ؛ أي الحدود التي يمنع الإستغلال الرأسمالي تجاوزها لتحقيق هذه التلبية المطلوبة . و لكن هذه الإحتياجات نفسها تؤلف قوة الدفع الكامنة للإنتقال للنمط الإشتراكي للإنتاج لكونها تمثل ثمار التحرر من نمط الإنتاج الرأسمالي . يشكل هذا المفهوم للطبيعة البشرية المبدأ الذي يستند عليه كل النقد الماركسي للرأسمالية ، و هو المبدأ القائم على التبشير بنمط إجتماعي يبنيه الإنسان بنفسه و لنفسه كي يعكس بالفعل الطبيعة الحقة للبشر ، و الذي يستطيع تجاوز الحدود التي يرسمها إستغلال الإنسان لأخيه الإنسان و التي تشكل عوائق تمنع تلبية الإحتياجات المطلوبة من جانب كل البشرية . فعلى العكس من هوبز و كانط ، أدرك ماركس "مقدرة البشر على الإدراك العقلاني (لوجودهم) ، و حيازتهم لملكة الحكم و للفعل الأخلاقي ، و للإبداع الفني أو التأمل ، و للأنشطة العاطفية للصداقة و الحب " . كل هذه القدرات و الملكات و الأنشطة يعتبرها ماركس هي الهدف بحد ذاته ، و ليست مجرد وسيلة لتملك السلع . ماركس يفهم الإنسان ليس كحزمة من الشهوات الباحثة عن الإشباع ، بل كحزمة من الطاقات الواعية الباحثة عن التحقق . هكذا يتجلى العمق الإنساني للنظرية الماركسية . يتبع
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثلاثيات عتيقة
-
معالي الوزير السيادي الخطير
-
أحلام زنزانة الإعدام
-
العبقريون الثلاثة
-
الماركسية و الأخلاق
-
قصة حبيبين
-
الغربان و الحمير
-
قطاع الخدمات في النظام الرأسمالي من وجهة نظر ماركس
-
القرد و الجنّية و الغول
-
رد على د. مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة
...
-
أبا الصّفا / مرثاة للشهيد الشيوعي الدكتور صفاء هاشم شبر ، أس
...
-
الإمتحان
-
الفيل و الضبع و البغل
-
طرزان و ذريته
-
رد على د. مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة
...
-
رد على د . مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة
-
شيخ المتقين و الخنازير
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 3-3
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 2-3
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 1-3
المزيد.....
-
الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح
...
-
تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه
...
-
الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
-
حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
-
استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا
...
-
الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ
...
-
بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
-
صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
-
انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
-
باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة
...
المزيد.....
-
مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا
...
/ جيلاني الهمامي
-
كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع
...
/ شادي الشماوي
-
حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين
/ مالك ابوعليا
-
بيان الأممية الشيوعية الثورية
/ التيار الماركسي الأممي
-
بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا)
/ مرتضى العبيدي
-
من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا
...
/ غازي الصوراني
-
لينين، الشيوعية وتحرر النساء
/ ماري فريدريكسن
-
تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية
/ تشي-تشي شي
-
مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب
...
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|