أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صبري المقدسي - الزرادشتية: المنشأ والجذور والعقائد الروحية















المزيد.....



الزرادشتية: المنشأ والجذور والعقائد الروحية


صبري المقدسي

الحوار المتمدن-العدد: 4083 - 2013 / 5 / 5 - 10:00
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الزرادشتية:
المنشأ والجذور والعقائد الروحية
الزّرادشتية، ديانة فارسية آرية قديمة، تنسب الى (سبيتاما زرادشت). وهي من الديانات التي تقدس الحق والصدق، وتتمحور حول الاله الواحد المطلق، الذي يخلق إلهين، يختار أحدهما الخير والنور واسمه (أهورامزدا) ويختار الثاني الشرّ والظلام واسمه (أهريمان). ولهذا تسمى هذه الديانة بالوحدانية الثنوية(الثنائية)، التي تقف في تعارض مع مفهوم التعددية ولكنها لا تلغي صفة الوحدانية. وتُقدم التفسيرات المنطقية لوجود الكون والعالم والخير والشر، اذ تُعلم بوجود الاله أهورمازدا، وهو إله واحد لا ثاني له في الألوهة، خالق كل ماهو جيّد وحسن في الوجود، والاله أهريمان، الذي هو مصدر كل شرّ وظلام في الوجود. والإلهين هما في صراع دائم الى نهاية العالم حيث ينتصر إله الخير على إله الشر، ويختفي الشرّ من العالم في الصراع الأخير بينهما(حسب التعاليم الزرادشتية).
لا يمكننا أن ننكر بأن الأمة الفارسية هي من الأمم الأولى في تاريخ البشرية التي آمنت بالله الواحد وبالقوة الثنائية وبمفهوم الصراع الأبدي بين القوّتين. والقصد من الثنائية هي ثنائية الخير والشرّ والصلاح والفساد والنور والظلمة والعالم الفوقاني والعالم التحتاني والقبح والجمال والجنة والنار.
وان كان التوحيد الجزء المهّم من الديانة الزرادشتية، إلا أنها ليست الديانة الاولى التي علمته وآمنت به، لأن الهندوس أيضا آمنوا بالتوحيد قبل الفرس، نقلا عن الديانات الآرية التي كانت تؤمن بالأله (فارونا).
وتؤمن الزرادشتية أيضا بالأرواح الخيّرة وأهمها الروح القدس(سبنتا مانيو) والأرواح الشريرة الكاذبة التي تقف بالمرصاد من الأرواح الخيّرة والتي تبقى الى الأبد في مواجهة القوة الخيّرة وتسمى(آنغرا ماينيو) وهو الروح الكبرى والمجرّب والمخرّب الذي يعيش مع الأرواح الشريرة الاخرى التي تساعده على التخريب وعلى نشر الظلام وكل أنواع الشرور الاخرى سواء الأدبية أو الطبيعة. والشىء المدهش حول الزرادشتية هو تعاليمها العظيمة حول التسامح والرحمة وتشجيعها على العلم واستعمال العقل والمنطق والقناعة والتفكير بالحياة ومصير الانسان والجنة والنار، بالاضافة الى ايمانها بوجود العناصر الأربعة(الماء والنار والهواء والتراب) التي تتحكم في الوجود والتي تعد من أقدس الأشياء المخلوقة.
عرفت الزرادشتية ازدهارا وانتشارا واسعا في العالم القديم ولها دور كبير في نشر الثقافة والحضارة في العالم والمساهمة في نشر بذور المحبة والرحمة والسلام. وبالرغم من أن عدد أتباعها لا يتجاوز عن 300,000 الف تابع في العالم بحسب تقديرات الأمم المتحدة ومنهم 100,000 ألف تابع يعيشون في الهند و50,000 تابع في(كراتشي) باكستان و 25,000 تابع في امريكا وكندا. والباقي يعيشون في جمهورية ايران الاسلامية، إذ بقي أقل من 100,000 تابع في عموم ايران. وتعترف الحكومة الاسلامية في ايران بديانتهم رسميّا ولهم عضو في البرلمان الايراني.
وجدير بالذكر أن الزرادشتية استقرّت في(بومباي) الهند في القرن الخامس عشر، وانقطعت العلاقة بين أتباعها هناك وبين الأقلية الباقية في(ايران) بعد اشتداد الأضهادات القاسيّة ضدها في ايران. إلا أن العلاقات الدينية بين الزرادشتيين داخل ايران وخارجها في الوقت الراهن هي علاقات لا بأس بها مع وجود الوسائل التكنولوجية الحديثة من الانترنيت والفضائيات التلفزيونية.
وتسمى الزرادشتية في بعض المصادر( دين آفستا ـ الآفستية)، أو (مزديسني)، أو (عبدة النار)، أو أتباع ( به ـ دينان)، أو (بارسي)، والاسم الأكثر شهرة هو (المزدية) وهو اللفظ الأخير من اسم الههم(أهورامزدا). والتي تؤكد على(الياسنا)، وهي عبادة الله الواحد.
النبي زرادشت
زرادشت هو من أهم الشخصيّات الدينية والاصلاحية والأخلاقية التي أثرت على مجرى الحياة الروحية والانسانية والحضارية في العالم. وقد أثرت تعاليمه تأثيرا كبيرا على الديانات العالمية اللاحقة التي جاءت من بعده من اليهودية والمسيحية والاسلامية. ويشتهر زرادوشت في العالم القديم كرجل الحكمة والمعرفة. ونظر اليه الفلاسفة الإغريق نظرة إجلال وإعجاب ولا يزال بعض الفلاسفة والمفكرين يحترمونه كرجل حكيم قدّم الكثير لخدمة الإنسانية والأخلاق الكريمة في العالم.
ولد النبي الايراني زرادشت، بين الفترة الزمنية من 1000 ق. م الى 650 ق. م، في المناطق الريفية من الجزء الشمالي الغربي من ايران (آذربايجان)، بالقرب من بحر قزوين. إلا أن المؤرخين يختلفون في الفترة التي عاش فيها. فبعضهم يدّعي بأنه عاش قبل الحملة التي قادها الأسكندر المقدوني بثلاثة قرون، وبعضهم الآخر يجعل ميلاده في أواسط الألف الثاني ق. م. وفريقاً ثالثا يجعل ميلاده في أوائل القرن السادس ق. م، أو في مطلع الألف الأول ق. م، أي حوالى عام 900 تقريباً.
ويُقال بحسب الأساطير العديدة ان الطبيعة احتفلت بميلاده، وحدثت معجزات كثيرة أثناء مولده، ومنها قهقهتة العالية أثناء الولادة والتي هزّت أركان البيت وأدت الى هلع الأرواح الشريرة وهروبها من المكان والى انغمار البيت العائلي من النور الآلهي. ومعجزات أخرى كثيرة، مثل حماية الحيوانات له دفاعا عن حياته ضد محاولات السحّرة والمشعوّذين الذين أرادوا التخلص منه ولكن من دون جدوى.
وعندما بلغ السابعة من عمره أرسله والده لكي يتعـلم على يد رجل يدعى (بورزين هـورس)، والمشهور بحكمته وعلمه الواسع وشعبيته المنقطعة النظير. واستمر يتعلم كل أنواع العلوم على يده ولمدة ثماني سنوات. وكان يتربى تربية دينية هندوسية عميقة حتى إنه أصبح كاهنا تقيا، إشتهر بسعّة علمه ومعرفته في الشؤون الروحية والزمنية.
كان زرادوشت يتأمل كثيرا في الجبال والصحاري في مرحلة بحثه عن الحقيقة، وعرف عنه ايضا بكونه دائم الإتصال بشعبه المسكين، حاضرا في الدفاع عنه ضد الأعداء، مُشاركا في تقديم العون للفقراء والمرضى والمساكين ولاسيّما في وقت الصعوبات والمجاعات والكوارث الطبيعية.
ظل زرادوشت كريما ومُحبّا لأهله وعائلته وللبشرية جمعاء. إذ كان ينشغل دوما في نشاطات اخلاقية واجتماعية بهمّة ومن دون تردّد. وقد بلغ قربه الشديد من الشعب حدا جعله يبحث عن الطرق الجديدة والحلول الجيّدة في كيفية خدمته روحيا وانسانيا. وعرف بإنعزاله الكثير عن عائلته وعن الناس للتأمل في الله والكون والحياة وفي معانات الانسانية المعذبة حتى تصفو روحه وتشرق نفسه. وأقسم مرة أن لا يرجع إلا إذا حصل على الجواب عن الأسئلة التي كانت تدور في مخيّلته عن الآم البشرية وعن مُعاناتها اليومية. فتوصل الى حقيقة مفادها: أن الله واحد وأن الكواكب والنجوم والظواهر الطبيعية لا يمكن أن تكون آلهة ولا يصح أن تعبد ولا بد لها من مُدبّر واحد أحد، هو الذي أظهرها الى الوجود أسمه أهورامزدا (إله النور). ولما بلغ هذه المرحلة من السموّ الروحاني، نزل عليه الوحي من السماء، إذ ظهر له كائن نوراني اسمه (فاهومانا) وهو كبير الملائكة، مُرسل من قبل أهورمزدا، وأخذ بيده وعرّج به الى السماء ومثل في حضرة الله، وتلقى الرسالة وأسرار الوحي والنبوءة التي عليه أن يُبشر بها الإنسانية جمعاء ولكي يقود البشرية باسم أهورامزدا ويخرج الناس من الظلام الى النور، ومن الشرّ الى الخير ومن الشقاء الى السعادة. فتعلم من الله الحقائق الكبرى وكيفية تحصين النفس وجعلها في أمان من الغواية الشيطانية في ساعات الحرج وبإتباع قانون التقوى والاستقامة في الحياة ومعرفة الاسرار المقدسة حول العناصر الاربعة والعناية بها في الحياة الارضية. وكان عليه أن يُبشر قومه وأهل بيته (الميديين) أولا، ولكنهم اتخذوا منه موقفا معاديا، فهاجر الى منطقة خوارزم بعد أن يَئس من موقف أهله وقومه فأعتنقت المملكة ديانته وساعد ملكها(كشتاسب) على نشر تعاليمه في المناطق المجاورة.
قضى زرادشت حياته في نشر رسالته والعمل على تعليم شعبه التعاليم الأخلاقية بحسب الكتاب الموحى اليه من قبل أهورامازدا(آفيستا)، والذي نزل عليه بلغة بيّنة قريبة الى عامة الناس. ولم تنته حياته إلا وقد دخل في دينه الغالبية المطلقة من شعوب الامبراطورية الفارسية والشعوب المجاورة لها. ويُقال أنه مات قتيلاً في بيت من بيوت النار في(بلخ) حوالي سنة 583 ق. م، عن عمر ناهز السابعة والسبعين، عندما أغار عليه الطورانيون، الذين كانوا من ألد الأعداء للفرس ولديانتهم الزرادشتية.
ويُلفظ أسم زرادشت في اللغة الفارسية القديمة(زاراثوشتراـ زراهوشترا)، وهو أسمه الحقيقي. والمركب من(زرا) ويعني(الذهب ـ الأصفر)، و(ثوستراـ أو هوشترا) ويعني(الجمل ـ أو النور). ولكن أتباع الزرادشتية يصرّون على ان الأسم يعني(النور الذهبي).
أهورامازدا وأهريمان
أبدعت الزرادشتية في تقديم الفلسفة الكاملة للحياة وعرف مؤسسها زرادشت بكونه الفيلسوف الذي لم يُفرّق بين الديانة والحياة. فإذا أخذنا اسم الله (أهورامزدا) وحللناه فسوف نجد أن الإسم مركب من (أهورا) وهو أسم مذكر في الفارسية القديمة ويعني (الحياة). والاسم الثاني(مازدا)، يعني الحكمة السامية أو العظيمة وهو أسم مؤنث. والمعنى الكامل للأسم (الواهب العظيم للحكمة والحياة) أو كما يترجمه معظم الباحثين (أهورامزدا ـ رب الحكمة والحياة). وهو اله واحد مطلق. وباستعمال الأسم المركب من المذكر والمؤنث معا يعني أن الله في الحقيقة، كائن مطلق، لا يُمكن تحديد جنسه أو حصره في جنس واحد. وإكراما لهذا المفهوم لأله النور الفارسي، يُقال بأن نوعا من المصابيح الكهربائية سُميّت(مازدا). وكذلك السيارات اليابانية التي تسمى (مازدا) فإن صانعها قصد بتسميّتها (السيارات الحكيمة). وأما أهريمان فهو الإله الباطل، رب الخراب والشرّ، واقف بالمرصاد لكل الأعمال الخيّرة التي يقوم بها أهورامازدا. وصراعه مع الخير والنور هو صراع الموت مع الحياة. والحكيم هو من يختار الأحسن، ولكن الأحمق يختار الأسوأ.
وتعتقد الزرادوشتية ان الله، إله الرحمة والحكمة والخالق لكل شىء حسن في العالم، ليس مسؤولا عن الشرّ الموجود في العالم. لأن الشرّ من صنع إله الشر أهريمان، ولا يعني هذا وجود أكثر من إله، لأن العالم مُنقسم الى عالم النور وعالم الظلمة، عالم الخير وعالم الشر، عالم الفوق وعالم التحت. ولذا تعتقد الزرادشتية بوجود صراع أبدي بينهما، ينتهي هذا الصراع بفوز النور على الظلمة، والخير على الشر، وفوز (أهورمازدا) وأعوانه وملائكته على(أهريمان) وأعوانه وشياطينه.
وتؤكد الزرادشتية في تعاليمها الكتابية بخلق الله (أهورمزدا)، أرواحا طيّبة تحت سيطرته يوجهها كيف ما يشاء نحو الخير، وينحصر عملها في نشر النور والرحمة والسلام في العالم وهو لا يقف وحيدا ليدبر أمور الكون، بل يستعين بهذه الأرواح التي تسمى الملائكة. وأما اله الشر (أهريمان) يخلق أرواحا تدور في فلكه وتخضع لسيطرته وينحصر عملها في نشر الظلمة والشرّ في العالم ويتحكمون في الجحيم تحت الأرض وتسمى هذه الكائنات (الأميشاسبندات).
وتؤمن الزرادشتية بأن أهورامزدا هو واحد مطلق وقديم وأزلي، لانهاية لحكمه ولا يمكن أن تدركه عين، موجود في كل مكان، عالم بالغيب وقدير على كل شىء، رحمان رحيم لا حد لعدله ورحمته ولا يقوى على تصوّره خيال إنسان ولا يمكن إدراك حقيقته. لم يلد ولم يولد ولا يمكن تحديد جنسه.
وتؤمن الزرادشتية بأن الشمس والنار هما رمزان مهمّان لأهورامزدا، فالشمس روحه وهي المبدأ الأول لأنها توزع الخير بالتساوي على الجميع. والنار هي القوة المُطهّرة التي لا يمكن أن تزول أو تفسد وفيها خير كثير للناس.
وتعلم الزرادشتية بأن النفس البشرية هي في صراع بين الخير والشر ولذلك توجد حرب داخلية في كل شخص لأختيار الخير ولنبذ الشر. ولكن الشيطان يوسوس دائما في أنفس البشر وعقولهم ويُحاول أن يُبعد الناس عن القرار الصحيح.
الخلق
تمّ الخلق في الزّرادشتية على ست مراحل زمنية، وفي المرحلة الزمنية الأولى يخلق الله السماء، ثم الماء والبحار، فالأرض والنباتات والأشجار، ثم الحيوانات وأخيرا، الأنسان الأول (ماشيا وماشيانة)، وأمرهما الله بفعل الخير والابتعاد عن الشرّ وعدم عبادة الشيطان وأوصاهم بالامتناع عن الطعام ولكنهما وقعا في اغواءات أهريمان ورضعا من لبن عنزة الممنوع عليهما شربه، فكانت سقطتهما الاولى. ويخلق الله الإنسان الأول، لكي يُساعده في الحرب الأخيرة بين إله الخير وإله الشر. وتكون الغلبة في الاخير على إله الشر(أهريمان)، ليعود كل شىء كاملا وجميلا كما أراده إله الخير والنور.
والمفهوم الزردشتي القديم لخلق الكون والحياة هو متأثر نوعا ما بالأفكار والتقاليد في المناطق المجاورة، ومجمل القصة هي أن الروح العظيمة (زورفان) ينجب ابنان وهما أهورامزدا(الرب الحكيم ـ الحكمة السامية)، مصدر النور والخير(سبنتا ماني ـ الروح القدس). والابن الثاني، أهريمان(الرب الخبيث أو الروح الشريرة)، مصدر كل أنواع الشر والظلام ويُسمى(أنغرا مانيوـ الروح الشريرة). ويخلق أهورامزدا بدوره الكون والحياة والعالم الفوقاني السعيد. ويخلق أهريمان، الشر والظلام والعالم التحتاني الذي كله شر وعذاب وخراب.
وفي التعاليم الدينية الاخرى للزرادشتية، مفهوم مشابه عن القصة الاولى في خلق العالم، والتغيير الوحيد في القصة هو ان الله (أهورامزدا)، هو الأول، الذي له الوجود التام والكامل والقائم بذاته والمكتفي بنفسه، يُقرّر يوما الخروج من صمته ووحدته ويبدأ بالخلق وإظهار الأشياء الى الوجود. أول ما يخلق هو روحان توأمان هما(سبينتا ماينو وأنجرا ماينو) ويمنحهما الحرية في الإختيار للطريقة التي تناسبهما في الوجود، فيختار سبينتا ماينو (الخير) ويُدعي بالروح القدس، ويختار أنجرا ماينو(الشر) ويُدعي بالروح الخبيث(الشيطان). وهما اثنان مختلفان في الفكر والعمل والصورة والشكل، لا بد لهما من التعارض والتصادم وخلق نوع من التوازن في الكون. ورغم أن الله(أهورامزدا) كان قادرا منذ البداية على خلق الخير فقط وسحق الشرّ وكل قواه الشيطانية إلا أنه فضل هذا النوع من الصراع وجعل عالم المادة بمثابة المسرح المناسب للصراع بين جند الحق وجند الباطل. وسوف يسحق الباطل في الحرب الأخيرة حينما يتم تخليص الكون الى الابد من شرّ هؤلاء الاشرار ويبقى اله الخير والنور يلمع نورا وبهاءً أكثر من الأول وليعود الكون حسنا وطيبا الى ما لانهاية.
وأما بالنسبة الى خلق الكون في المعتقد الزرادشتي فإن أهورامزدا بعد أن يخلق عالم الملائكة وعالم الشياطين، فإنه يخلق سبع سموات ويزيّنها بالشمس والقمر والكواكب والنجوم ويجعل من السماء السابعة عرشا له ويجعل غلافها درعا وسياجا للكون، ثم يخلق البحار والرياح الممطرة لكي لا تجف البحار، ثم يخلق الارض في كبد السماء، ثم النباتات والاشجار، فالحيوانات، فالانسان الاول(جيومرث).
وهذا مقطع من أناشيد الغاثا لزرادشت:
من هو منذ قديم الزمان؟....
من رسم المسار للشمس والقمر؟ ...
من أمسك الأرض ورفع السماء فلا تقع؟...
من أنبت الزرع وصنع المطر؟...
من خلق الأفكار الخيّرة؟....
من سخر الليل والصباح والظهيرة تذكرة للناس؟
من سخر البقر والانعام لرخاء الناس؟
من علم الناس الإحترام للوالدين؟...
من غير العقل الطيب،
ومن هو خالق كل شىء حسن وخيّر في الكون؟.
ويستريح أهورامزدا لمدة خمسة أيام بعد خلقه للكون ومن هنا يحتفل الزرادشتيين بهذه الايام الخمسة كل سنة ويسمونها(كهنبار) وهي في الحقيقة أيام زائدة في السنة الفارسية.
النصوص المقدسة
يُفضل بعض العلماء تقسيم النصوص المُقدسة الزرادشتية الى قسمين أو مجموعتين. تتكون المجموعة الأولى من الكتب الطقسيّة والثانية من الكتب الإرشادية العامة. وهذه هي التقسيمات المختلفة للكتب:
اليسنا: هي مجموعة من الكتب الطقسيّة وتتألف من 72 فصلا، وبعضها من تأليف زرادوشت نفسه ومعناها العبادة أو التسبيح وتشمل الأدعية والصلوات الطقسيّة. وفيه شرح للعقيدة ومبادئها الاولى.
الفيسبارات: هي مجموعة من الكتب التي تتعلق باليسنا وشروحاتها وتشتمل على الأدعية والصلوات وترتل في المناسبات والمراسيم الدينية الخاصة وتتكون من 24 فصلا.
اليشتات: هي مجموعة من الأناشيد والترانيم الروحيّة لمديح أهورامزدا والملائكة ولمدح النبي زرادوشت وهي احدى وعشرون ترنيمة منظومة لكل يوم من أيام الشهر.
الفينديداد: هو بحث مهم عن التاريخ القديم قبل زرادشت وفيه بحوث في الزراعة والعقود والتشريعات والعقوبات وكيفية مطاردة الأرواح الشريرة ومواجهتها بالأساليب الإيمانية وتنظيم الدرجات الكهنوتية والمفاهيم اللاهوتية والفقهية حول الموت والزواج. وفيه ايضا أبحاث عن خلق العالم وأصول الطب وقدرة المياه وكيفية التطهير من النجاسات والعناصر المقدسة الأربعة. ويتألف من 22 فصلا وهو بصورة حوار بين أهورامزدا وزرادشت.
السيروز: يتكون من الصلوات القصيرة والموشحات المرتبة لكي تكون قراءات لمدة 30 يوما.
والكتاب الأهم في الزرادشتية (آفيستا) وهو من الكتب التقليدية المقدسة. ويحتوي على الشعر والصلوات والقوانين والتشريعات والطقوس والأساطير والتقاليد القديمة للفترة ما قبل وما بعد الزرادشتية. والجزء الأهم منه هو ما يُسمى بالغاثا، وهو مجموعة من الأناشيد الموضوعة من قبل زرادشت نفسه لتمجيد الأله(أهورامزدا)، والتي كتبت باللغة الفارسية القديمة. وتعود بعض هذه النصوص المقدسة الى عهد شاهبور الثاني الذي حكم بين سنة 309 ـ 379 ميلادية.
ويُعتقد أن الأفيستا، كان يحفظ وينتقل بين المؤمنين الزرادشتيين شفهيا الى القرن التاسع الميلادي، حيث دوّن من قبل أناس مؤمنين وحريصين على محتوياته بدقة وقدسيّة لا مثيل لهما في الفترة بين القرن الثالث الميلادي والخامس الميلادي. والمدوّنات القديمة كانت قد أتلفت اثناء الحملة المقدونية في سنة 330 قبل الميلاد.
وأزداد عدد هذه الكتب المقدسة بمرور الزمن ودمّر وأتلف الكثير منها من قبل اليونانيين والعرب والمغول. مع ان أجزاء مهمّة منها فقدت أو اتلفت بعد سقوط الامبراطورية تحت الحكم الاسلامي في القرن السابع الميلادي. والنسخ الموجود منذ حوالي 1288 ميلادية، هي من أقدم المخطوطات التي لا تزال شاهدة على التراث الزرادشتي القديم. وبقيّت بعض هذه الكتب شاهدة لتاريخ هذه الديانة العظيمة. وتشمل معظمها على كيفية خلق الكون والكائنات الحيّة وتحتوي كذلك على الإيمان بالله وعلى السلوك الأخلاقي بالاضافة الى الثواب والقصاص الأبدي.
شىء من التاريخ
بدأت الشعوب الآرية بالهجرة الى ايران والهند من المناطق الأوروسيوية منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد واستقرّت في السهول الايرانية خلال أواسط الألف الثاني قبل الميلاد وذلك في المناطق الميدية والفارسة والبارثية. وبدأت هذه الشعوب تحكم المنطقة بالتناوب بإقامة تحالفات مع الشعوب السامية في بابل والجزيرة العربية ومناطق الشام وفلسطين واسرائيل ومصر والسيطرة عليها. وهذه بعض التواريخ المختصرة للديانة الزرادشتية ونشوءها وتطوّرها:
5000 ق.م، بدء الحضارة في الشرق الأدنى.
3000 ق.م، هجرة العيلاميين الى ايران وبناؤهم أول حضارة فيها.
1700 ق.م ـ 1500 ق.م، هجرة القبائل الآرية الى ايران، من نهر الفولغا شمال بحر القزوين واحتلالهم للمنطقة التي عرفت بإسمهم(ايران).
648 ق.م ـ 330 ق.م، تطوير الأخمينيون للديانة الزرادشتية باضافة الأفكار اللآهوتية الجديدة عليها مثل الجنة والجحيم والدينونة الفردية والعامة. والاستفادة من التقاويم البابلية والشرائع اليهودية والسومرية والأكدية الموجودة في العراق واستخدامها في الطقوس الزرادوشتية.
628 ق.م، تاريخ ميلاد زرادشت.
614 ـ 612 ق.م، تدمير آشور في عهد الميديين الذي دام قرابة قرن من الزمان وانتهاؤه بمجىء الملك الفارسي كوروش وتمرّده على حميه ملك ميديا.
551 ق.م، تاريخ وفاة زرادشت.
550 ق.م، تأسيس الامبراطورية الفارسية الكبيرة من قبل كوروش (سيروس) الثاني(الكبير).
549 ق.م ـ 529 ق.م، اخضاع الملك كوروش الكبير لكل المناطق الميدية والايرانية وتأسيسه حكم الاسرة الأخمينية وإلحاق بابل وسوريا والمناطق الليبية غربا وآسيا الوسطى والمناطق الباكستانية شرقا بالامبراطورية. والسماح لليهود الأسرى بالرجوع الى اسرائيل بعد سيطرته على بابل سنة 539 ق.م.
539 ق.م، استيلاء الملك كوروش الكبير على جميع النفوذ البابلية في بلاد الشام وآسيا الصغرى. وتشجيعه لنهضة تطوّرية عمرانية واقتصادية في ربوع الامبراطورية وتوفيره الحريّة الدينية والتجارية والتنقل الحرّ بين الأقاليم. ومحاولة توحيد العشائر الآفروـ آسيوية القاطنة في ما يُدعى(ايران) في أول امبراطورية قويّة من نوعها وتشجيعه لأنتماء الممالك الصغيرة سلميّا الى إمبراطوريته.
490 ق.م، إرسال القوات الفارسية بقيادة داريوس لمحاربة اليونان وفشلهم في ماراثون وتحوّل المذهب الزرادوشتي إلى دين رسمي لبلاد فارس في عهد الملك (داريوس الأول)، الذي اعتنق الزرادشتية والذي أثرت تعاليمها السمحة على اسلوبه في الحكم حيث كان متفتحا مع الآخر ومخلصا لديانته. ومن تبعه من الأباطرة الأخمينيين الذين اعترفوا بإيمانهم الزرادشتي وعُرفوا بتقواهم وعباداتهم لأهورامزدا.
480 ق.م، انتصار الفرس من قبل كساركس في الحرب على اليونانيين في معركة ضارية في (تارموبيلا) واحتلال الأراضي اليونانية.
479 ق.م، إنحطاط الدولة الأخمينية بعد فشلها في اليونان، إثر هزيمة تاريخية كبيرة.
460 ق.م، بدء عهد أرتاكسركس الأول وظهور التقويم الزرادشتي لأول مرة وبتأثيرات بابلية ويهودية.
384 ق.م ـ 322 ق.م، تقليد الفيلسوف آرسطو مبدأ الثنوية الزرادشتي.
331 ق.م، انتصار الكسندر المقدوني على الملك داريوس الثالث، واخضاعه للبلاد الايرانية بعد معركة(اربيل). وإنهائه لحكم السلالة الأخمينية وتدميره للعاصمة(بيرسيبوليس)، التي كانت العاصمة المهمّة للأمبراطورية منذ 550 ق.م. وحرق عدد كبير من الكتب المزدية والزرادشتية المقدسة. وألغاء تعاليم (آفيستا) وشرائعها القانونية، ومحاولة فرض الديانة الأغريقية على سكان المنطقة الذين بقوا ملتزمين خفية على دين اجدادهم.
1ـ 7 ميلادية، ظهور بعض الملوك المجوس في المغارة التي ولد فيها يسوع المسيح وتقديمهم الهدايا الثمينة له من البخور والذهب واللبان.
226 ميلادية، قيام المملكة الفارسية المستقلة بعد اعلان ثورة بابك ضد البارثيين واستلام أرداشير الأول وتأسيس السلسلة الملوكية الساسانية ولمدة أربعة قرون، والتي انتهت في عهد الملك الأخير خسرو أنوشروان (كسرى) سنة 531 ميلادية. وحدوث تغيير كبير بمجىء الساسانيين الى الحكم في تعاملهم مع المسيحية إذ بدأوا بحملة عنيفة من الاضطهادات ضد أتباعها. ومحاولتهم لنشر الزرادشتية في المناطق الرومانية التي إحتلوها بالقوة ودعمهم فصل الكنيسة الشرقية عن الكنائس الأم في الغرب وتم ذلك فعلا في القرن الخامس الميلادي.
224 ميلادية، حكم البارثيين للبلاد الفارسية واستيلائهم على الأراض الشاسعة في شرق آسيا الصغرى وجنوب غرب آسيا. وإمتداد الامبراطورية البارثية من حدود الهند شرقا الى نهر الفرات غربا وذلك من أواسط القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث الميلادي. وجمع النصوص المزدية المقدسة في عهد أرداشير الأول وابنه شاهبور الأول الذي أضاف التعليمات والقوانين الجديدة وتغيير القوانين في عهده وجعل عدد أيام السنة 365 يوما وذلك بسبب وجود خلل في توقيت الأعياد والاحتفالات الايرانية الدينية والقومية.
241 ميلادية، بدء تبشير النبي ماني بالمانوية (المسيحية ـ الزرادشتية)، والتي كانت مزيجا فلسفيا من الزرادشتية والمسيحية ومحاولة الساسانيين بتقويتها لغرض إضعاف دور المسيحية التي كانت تهدّد الديانة الزرادشتية في عقر دارها في القرن الثاني الميلادي.
276 ميلادية، بدء حكم بهرام الأول واستشهاد ماني في السجن.
451 ميلادية، انتصار الدولة الساسانية على أرمينيا المسيحية.
460 ميلادية، اضطهاد الملك الفارسي فيروز لليهود الذين هاجروا اثر ذلك الى الجزيرة العربية.
484 ميلادية، توقيع الوثيقة السلميّة بين المسيحية الأرمنية والزرادشتية الساسانية بالتعاون المتبادل وبعدم الإعتداء على بعضهم البعض وبإعطاء الحرية للأرمن في ممارسة ديانتهم المسيحية.
494 الى 524 ميلادية، حدوث ثورة الفقراء بقيادة (مازداك) والتي كانت ذات قيّم عادلة ولغرض خلق المساواة بين الناس.
600 ميلادية، جمع الكتب المقدسة وإيجاد قانون خاص يُحدّد عددها ومنع بعضها من التداول، وذلك بتنظيم وترتيب الكاهن (تانار) وبعض معاونيه.
614 ميلادية، استيلاء الساسانيين على أورشليم من البيزنطيين. وقيام البيزنطيين بتدمير المعابد الزرادشتية سنة 623 ميلادية، انتقاما لتدنيس الفرس لمعابدهم في اورشليم.
631 ميلادية، حكم يزدجرد الثالث الذي شهد معركة القادسية بعد هزيمته الشنيعة مع العرب المسلمين في معركة نهاوند وسيطرة العرب الكاملة على ايران سنة 652 ميلادية وبدء عهد جديد في ايران وذلك بفرض الاسلام على الشعوب الايرانية وهروب عدد كبير من الزرادشتيين الى كوجارات في الهند.
697 ميلادية، إجبار الفرس بترك حروفهم اللغوية وبإستعمال الحروف العربية في الكتابة.
900 ميلادية، هجرة مُعظم الزرادشتيين الفرس الى الهند.
1010 ميلادية، تأليف كتاب(الشاه نامة) من قبل الكاتب الفارسي المشهور (فردوسي).
1477 ميلادية، إعادة العلاقة الدينية والمراسلات بين الطائفة الزرادشتية الايرانية والطائفة الزرادشتية الهندية.
1258 ميلادية، اكتشاف مخطوطة مزدية مترجمة الى الفارسية والمنسوبة الى زرادشت نفسه.
انقطاع الأواصر الدينية والعلاقات التجارية بين الزرادشتيين في الهند واخوانهم في ايران بسبب الاضطهادات القاسية ضدهم في ايران في العهود الاسلامية المختلفة ورجوع هذه العلاقات الى طبيعتها في عهد الحكم البريطاني للهند.
1572 ميلادية، سيطرة الأمبراطور أكبر على منطقة كوجارات، والمعروف بتفتحه للأديان الأخرى وحكمته وحبه للمعرفة وأقامته مجلسا للحوار والنقاش مع أتباع جميع الديانات في ديوانه الخاص وإختيار الكاهن(ميهيرجي رانا) من قبل الطائفة الزرادشتية ليتكلم عنهم في حوار ديني شيّق وعميق أعجب الامبراطور بعلمه الواسع وحكمته العظيمة مما أدى بالامبراطور الى إعطائه منصبا حكوميا في مجلسه وجعله أحد الحكماء والمرشدين. ومكافأة لخدماته الجليلة في المحبة والعلم والسلام، قرر الامبراطور رفع الجزية عن كاهل أتباع الزرادشتيين والسماح بإشعال الشعلة الزرادشتية في ديوانه ليلا ونهارا.
نمو الطائفة الزرادشتية في كوجارات بتأثير التسامح الامبراطوري وبقاء شعلتها موقدة الى يومنا هذا. واستمرار الطائفة في ممارسة طقوسها الدينية بحرية ومن دون ازعاج، بالاضافة الى ممارسة رحلة الحج ورؤية النار المقدسة والتبرك برمادها لأعتقادهم بأن المكان القديم يحتوي على الشعلة الملكية الحقيقية التي بقيّت موقدة منذ أيام زرادشت والى اليوم.
1661 ميلادية، وقوع (بومباي) تحت السيطرة البريطانية وتطوّر ميناؤها ونمو طائفتها الزرادشتية، مع نمو اقتصادها وإزدياد عدد معابدها في كراتشي وكلكتا وعدد آخر من المدن الهندية.
وجدير بالاشارة، أن كل هذه التواريخ في الآداب العالمية هي مُستمدة من قبل المؤرخين الأغريق الذين كتبوا عن ايران والفرس وعن ديانتهم الزرادشتية المزدية وعن الشعوب التي كانت تحت حكمهم وعن فنونهم وملحماتهم الشعرية وحروبهم وذلك بعد الحملة العسكرية من قبل القائد التاريخي (أسكندر المقدوني).
العقائد
بدأت الزرادشتية ديانة عالمية تبشيرية، إذ كانت تحاول أن تخاطب الآخر بطريقة حوارية منطقية جميلة. وكان زرادشت يُدرّب المبشريين لكي يُرسلهم الى العالم الخارجي لإقناع الملوك والقبائل والأشخاص لغرض نشر عقيدته. وكان المبشرين يُعلنون للناس قائلين:"إسمعوا بشكل جيّد وفكروا بعقل نيّر كل واحد منكم من الرجال والنساء، ثم قرروا لأنفسكم".
وكانت الزرادشتية تسلك المسلك المثالي في إقناع الناس منطقيّا وتمارس الحرية في إعتناق الدين من دون جبر ولا إكراه. ولم تدعوا ابدا الى عبادة النار، كما هو شائع عنها، ولم تتخذ من النار إلها، ولكنها رأت فيه رمزا لقوّة الله الذي لا يمكن أن يراه أحدا. وكانت تصرّ على الإحتفاظ بشعلة النار الموقدة منذ أيام نبيّها. وتحاول ابقاء نارها مشتعلة كصورة حيّة من صور الله الواحد الأحد. وتدور مفاهيمها العقائدية حول مفهوم الوحدانية بالصيغة الثنوية(الثنائية). وتحاول أن تؤكد بأن الثنوية في الله، لا تلغي وحدانيته، ولأن مفهوم الثنوية الزرادشتي لا يقف في تعارض مع وحدانية الله، بل يقدم أكثر التفسيرات منطقية لوجود الشرّ في العالم.
وكانت تعدّ العقائد الأخلاقية الزرادشتية من أجمل وأنضج التعاليم في ذلك الوقت والتي كانت تدور حول المجتمع والعدالة الاجتماعية ومساعدة الآخر وتقديم النُصح والمشورة وعدم مقاومة الشر بالشر والدعوة الى السلم والرحمة بين الناس. وكان شعارها منذ اليوم الأول من نشوءها: الفكر الحسن، والقول الصالح، والفعل الخيّر. ولايُمكن أن يعرف المرء ما هو جيّد إلا من خلال العوّن الإلهي والالهام الروحي في الضمير(بحسب تعاليم آفستا). فالأفكار الجيّدة تؤدي بالمرء الى استعمال الكلمات الحسنة، وهذه تؤدي به الى الأفعال الجيدة والخيّرة والحسنة. ويعتبر زرادوشت هذه المبادىء الثلاثة تجديدا للعقائد القديمة وتحسينها على أحسن ما يكون بعيدا عن عبادات الأصنام والتماثيل التي تقرّب الإنسان من الشرك والشر والخطيئة.
وهناك ايضا أصول دينية لابد منها وهي مثل الأركان الستة للإيمان الزرادشتي: 1ـ التوحيد. 2 ـ الإيمان بنبّوة زرادشت. 3 ـ العمل الحسن والقول الجيّد والنية الصالحة. 4 ـ الروح. 5 ـ الثواب والعقاب. 6ـ المعاد والقيامة.
وهذه بعض العقائد المهّمة للزرادشتية:
• تفرض الزرادشتية على أتباعها شهادة الايمان أو عهد الايمان كما جاء في الآفيستا:"أقرّ أني عبد الأله الواحد" أهورامزدا"، وأني أعتنق دين زرادشت، وبالكفر بالشيطان. وأقرّ أني سألتزم التفكير في الخير والكلام الطيّب والعمل الصالح". وتعلم الزرادشتية في كتابها المقدس بأن زرادشت هو نبيّ أرسله الإله (أهورامزدا) بشيراً بالخير وهادياً ونذيراً، وبأنه نبيّ آخر الزمان، وهو يقول: "أيها الناس، إنني رسول الله إليكم، لهدايتكم، بعثني الإله في آخر الزمان، أراد أن يُرسلني اليكم لأبشركم بالخير والحق والرحمة، بشيراً ونذيراً، ولهذا يدفعني الله في حماسة إلى تأدية الرسالة والتضحية من أجلها".
• تدعو الزرادشتية الى عبادة الله الواحد، الخالق الأعظم (أهورامزدا)، الذي هو الخير المطلق والحكيم المُدّبر، خالق كل شيء جميل وحسن في الكون. وتدعو كذلك الى الابتعاد عن خالق الشر(أهريمان)، المسؤول الأول عن الشرّ والظلمة في العالم والذي تحيط به القوى الخبيثة والشريرة. فالعالم إذا تحكمه قوّتان، القوة الأولى التي تتحكم بالخير ولا تستطيع فعل الشر اسمها أهورامزدا. وتتحكم هذه القوة بالنور وكل الأفعال الخيّرة، وتدرك المستقبل، وتتوقع الغلبة على قوى الشر. والقوة الثانية، التي لا تستطيع فعل الخير وتتحكم في الظلمة، ولا علم لها بالماضي ولا بالمستقبل وهي القوة الشريرة.
• تعتقد الزرادشتية، أنه على الانسان أن يتبع الخير وأن يكثر من الأعمال الصالحة، النابعة من الأفكار الجيّدة والأقوال الحسنة وذلك في ممارسة الصدق الذي هو السبيل الوحيد في التقرّب من الإله الواحد الحق. وبالطهارة في الأعمال والأفكار والتراحم بين الناس والمجتمعات بل حتى مع الحيوانات.. وتؤكد على الابتعاد عن الشر وعدم الأخذ بالثأر وتمنع السلب والنهب والتخريب والتدمير.
• تعتقد الزرادشتية بالجهاد المعنوي والحرب الروحية وتدعو الى السلم والمحبة ومبدأ التراحم ونبذ الحرب وعدم ازهاق الأرواح البريئة جراء الجشع والطمع.
• تعتقد الزرادشتية، بأن الله(أهورا مازدا)، خلق الإنسان وسلمه المسؤولية شريطة أن يتبع القواعد الأخلاقية. وبأنه يُعاقب بعد موته على كل التجاوزات والخطايا التي يرتكبها في حياته: فإذا كانت أعماله وأفكاره وأقواله حسنة وخيّرة، فإنه يستحق الانتقال الى الجنة في السماء حيث السعادة الأبدية، وأما إذا كانت أفكاره شريرة وهو غارق في الشرور والخطايا والمظالم المختلفة فإنه يذهب الى الجحيم حيث العذاب الأبدي، وهذا ما يُسمى بيوم الدينونة الفوري بعد الموت مباشرة. وأما يوم الدينونة العام، فيكون عند نهاية النظام الحالي الذي يعيشه الإنسان في الكون، حيث يخضع كل فرد الى المحاكمة الفورية الأخيرة على أعماله.
• تؤمن الزرادشتية أن روح الميّت تجلس فوق رأسه ثلاثة أيام وهي تفكر في أفعالها السابقة لتزن خيرها وشرها الى أن تحضر الملائكة عند الروح فإذا كانت صالحة فهي تقودها الى النعيم وإذا كانت شريرة فتحضر الشياطين عندها لتقودها الى العقاب.
• تؤمن الزرادشتية بوجود ثلاث منازل للإنسان في الآخرة وهي الجنة: منزل السعداء الخيّرون الذين أطاعوا أهورامزدا وعملوا بالفكر الطيب والقول الجيد والعمل الحسن وتسمى بالفارسية(بهشت). والثانية هي النار: منزل الأشقياء الذين وقعوا في شرك أهريمان وشباك شياطينه. والثالثة هي (هامستكان): المكان بين الجنة والجحيم وهي بمثابة المطهر الذي تكفر فيه النفس عن خطاياها وذنوبها السابقة.
• تؤمن الزرادشتية بأن العلاقة بين الله والانسان هي علاقة أخلاقية بالدرجة الاولى وبأن الانسان هو شريك لله في المشروع الكوني الرامي الى مكافحة الشرّ واستعادة الحياة النظيفة والحسنة المليئة نورا وبهاءً وتقع هذه المسؤولية بالدرجة الاولى على عاتق الانسان.
• تعتقد الزرادشتية ان النار هي رمز من رموز قوّة الله (أهورامزدا)، ولهذا يجب تقديسها وإبقاءها مشتعلة وليس عبادتها كما يفعل بعض الزرادشتيون.
• تشجع الزرادشتية على تقويّة الأواصر الأسرية وتحاول أن تؤكد على الرباط العائلي عن طريق الزواج الذي يتقدس بوجود المرأة الصالحة والأولاد السعداء الصالحين وكذلك بوجود عدد كبير من الماشية الذي هو رمز البركة الإلهية.
• تؤمن الزرادشتية بأن زرادشت هو خاتم الانبياء وهو رسول آخر الزمان، لا تزال بذرته الخصبة حيّة في البحيرة المقدسة، وإذا ما حان الوقت ونزلت عذراء طاهرة الى البحيرة للإغتسال فتتعلق البذرة الخصبة بها وتحمل المخلص، الذي سوف يولد ميلادا إعجازيا، ويكون إنسانا حقيقيا كاملا، يأتي ليُخلص البشر من الشرّ والخطيئة.
• تعتقد الزرادشتية بالوضوء قبل الصلوات الفرضية الخمسة كل يوم سواء بإستعمال الماء أو الرمل في حالة عدم وجود الماء. وذلك بغسل الوجه والأيدي قبل الصلوات الطقسيّة لتنقية الجسّد والتطهّر قبل التقرّب من أهورامزدا.
• تؤمن الزرادشتية بالفضائل التي يجب على كل زرادشتي أن يلتزم بها في تعامله اليومي مع الآخرين ومن هذه الفضائل: التقوى والشرف والأمانة والفضائل الاخرى التي تنبثق منها وهي الكذب والوفاء بالعهد وحفظ كلمة الشرف واجتناب الاحتكاك بالموتى.
• تسمح الزرادشتية بالجهاد وتمجّده في سبيل نشر الإيمان والدفاع عن الوطن والجماعة. ولم تستعمل الزرادشتية القوّة في نشر الدين عمليّا، إلا مرة واحدة. إلا أنها تدعو الى الحرب ضد الشرّ وقواه المختلفة التي يدعونها القوة الخبيثة.
• تحترم الزرادشتية الأعراق والأجناس والأديان وكل الكائنات الحيّة، وتدين الظلم والذين يرتكبون الآثام والتجاوزات على حقوق الآخرين.
• تؤمن الزرادشتية بالطبيعة وتحترمها ولذلك نجد أن الإحتفالات الدينية تحدّد على هذه الأسس الطبيعية للتغيرات المناخية مثل عيد رأس السنة الذي يقع في بداية الربيع وعيد الماء الذي يقع في الصيف وعيد النار في وسط الشتاء.
كانت هذه بعض العقائد المهمّة للديانة الزرادشتية التي غايتها الأولى والأخيرة: خلق مجتمع عادل ومتسامح وبعيد عن الشر. وتختصر الأخلاقيات الزرادشتية في ستة وصايا تقوم عليها الديانة وهي: 1 ـ طهارة الفكر والكلمة والعمل. 2 ـ النظافة والإبتعاد عن النجاسات. 3 ـ ممارسة الرحمة والإحسانات المختلفة. 4 ـ الرفق بالحيوانات النافعة والأليفة. 5 ـ القيام بالأفعال الخيّرة والنافعة. 6 ـ نشر التعليم بين الناس من دون تمييز.
تعاني الزرادشتية اليوم من مشكلة تناقص عدد أتباعها لأنها لا تقبل الإهتداءات الجديدة ولا الزواجات المختلطة. وعلى المُنتمي إليها أن يكون من الجنس الفارسي. فلكي تكون زردشتيا جيّدا فيجب أن تكون فارسيا جيدا. ولا يمكن ايضا الزواج من خارج الديانة بالنسبة للجنسين. وهذا يدعو الى الأسف الشديد لديانة عالمية تبشيرية في أساسها وعقيدتها ونشوءها تتحول في مرور الزمن الى ديانة قوميّة عنصرية مما أثر على تعاليمها وفقدان سحرها ووهجها الروحي العظيم. ولكن الزرادوشتية لا تزال تملك الفرصة في إحياء عقائدها ومناهجها والخروج من انطوائها وتقوقعها.
الصلاة
تبدو فكرة الصلاة في الزرادشتية مُعقدة وغامضة نوعا ما، لأن النبي زرادشت نفسه لم ينوه عنها يوما في تعاليمه ولم يُعطي التوجيهات اللازمة الى ذلك، بالرغم من خلفيته الكهنوتية المعروفة بالتأمل العميق وقضاء الساعات الطويلة في العبادة.
وعلى أية حال، فإن الصلاة تنقسم الى الخاصة والعامة، ولكل منها طقوسها ومراسيمها كما هو في الديانات الأخرى. ويُتوقع من كل زرادوشتي أن يُردّد هذه الصلوات التي تسمى(كوستي)، خمس مرات في اليوم وذلك بعد الوضوء قبل كل منها. والواجبات الطقسيّة، هي نفسها للرجال والنساء من دون تفرقة. وهناك ايضا طقوس وصلوات تقام في المناسبات المختلفة في الهياكل والمعابد، مثل: الولادة والزواج والموت. بالاضافة الى ترانيم مأخوذة من آفيستا، وعلى جميع المؤمنين حفضها وترديدها. ويُقال أنها من وضع وتأليف زرادشت نفسه إلا أنه لا يوجد دليل قويّ يُثبت ذلك.
ويُصلي الزرادشتيون مُتجهين نحو الشمس حيث يستديرون نحوها وينحنون ثلاث مرات بإتجاهها أثناء الشروق والغروب لأنها بالنسبة لهم، روح الله القدوس وصورة تطهيرية لوجوده الحقيقي. وأما ليلا فإنهم يتجهون نحو النار لكونها قبس من نوره الالهي. وتقام الصلوات عند الفجر والظهيرة والعصر والمغرب ومنتصف الليل. وأهمها في وقت الظهيرة (منتصف النهار) حيث تكون الشمس في ذروّة سيطرتها على العالم. وتسبق كل صلاة عادة عملية الوضوء والتي تتم بغسل الوجه واليدين والقدمين. ويقف بعد ذلك المصلي منتصباً مسبل الذراعين في حضرة أهورا مزدا، ويتلو مقاطع خاصة من أناشيد (الغاثا) التي كان زرادشت يتلوها.
ومن الصلوات اليومية التي يُردّدها الزرادشتيين: "لنكن مع كل الذين يجعلون هذه الحياة جديدة. أنتم يا أرباب الحكمة، الذين يجلبون السعادة من خلال التقوى والبرارة، تعالوا، لنتوحد في الفكر والروح ولنهذب أنفسنا في الحياة". وهي دعوة لنشر السلام والمحبة بين الشعوب والأديان والثقافات. ومن الصلوات الأخرى التي تناجي الله: "إني أسألك، أيها الإله الحكيم، لأنشر معرفتك بين الأنام. فأنت العقل الطيّب والخالق لكل شيء جميل وحسن". وهناك صلاة غفرانية يرفعها المؤمنون ايضا طالبين الغفران من الله الواحد قائلين: "اغفر لي أيها الرب القدير كل ما ارتكبت من السيّئات من أقوال سيّئة وأفعال رديئة وأفكار شرّيرة. وأرجو منك يا رب أن تبعدني عن الخطايا، حتى أكون يوم الدين مع الأطهار والأخيار".
وتعتقد الزرادشتية بوجود الملائكة الروحانيّين الذين أوجدهم أهورامزدا وهم ستة ملائكة نورانيين ويُدعون الخالدون القديسّون وعملهم هو مساعدة الناس في محاربة الشر والظلام ومساعدتهم في التقرّب من الخير والنور وتشجيعهم للصلاة بغية الخير والصلاح للمصلي وللمجتمع.
الطقوس والمعابد
تمارس معظم الطقوس الزرادشتية في الهياكل الخاصة من قبل الكهنة الذين يلعبون دورا مركزيا مهما في هذه الديانة. وكان للذبائح الحيوانية دورا كبيرا في الزرادشتية ولكنها منعت الآن وعدّت طقوسا خارجة عنها. وأما طقوس النار والشعلة المقدسة فهي من الشعائر الجوهرية المهّمة في كل أنواع المراسيم الدينية والإحتفالات. وترمز النار الى الحقيقة أو الى روح القدس لأهورامازدا. وهي وسيلة مرئية تمثل الله الحق وقواه الخارقة في التطهير ونشر النور والخير في العالم.
ولعل المفهوم يوضح مكانة النار في الزرادشتية وقد يكون هذا جوابا شافيا للذين يحكمون على الزرادشتية بعبادة النار. ويؤكد هذا المفهوم ايضا على أن الزرادشتية تعبد الله الواحد قبل ظهور الديانات الإبراهيمية بقرون. وتأثيرها على الفلسفات الغربية والشرقية وعلى الديانات(اليهودية، المسيحية، الاسلام) واضح للدارسين والمختصين وضوحا كبيرا. ومن أهم المفاهيم التي انتقلت منها الى الثقافات والأديان الأخرى، مفهوم الشيطان(أهريمان)، وكذلك مفهوم الملائكة والدينونة والجنة والنار.
وكان زرادشت يمنع بناء المعابد والهياكل والأماكن الخاصة بالعبادة والصلاة. ويمنع كذلك الصور وتماثيل القديسين والملائكة خوفا من الوثنية والشرك. وكان الملك أرداشير (401 ق.م ـ 359 ق.م)، أول ملك بنى المعابد الضخمة تقليدا بالمعابد البابلية والسومرية والآشورية والأغريقية.
وسمى الزرادشتيون بيوت العبادة بمعابد النار أو أبواب ميثرا وهم يذهبون الى هذه الهياكل مرة في أسبوع أو كل يوم إذا كانوا من المتدينيين المتشدّدين الذين يجلبون أعوادا من الخشب معهم ليضيفوها على النار المقدّسة المتقدة دائما. وكلما كانت النار قديمة أكثر، أزدادت قيمتها وقداستها، ولذلك ينظر الزرادشتيون الى النار الموجودة في ايران بقدسيّة وطهارة أكثر من الموجودة في الهند وذلك لقدمها واستمرارية إيقادها منذ أيام النبي زرادشت والى اليوم. ويجب أن تحتل النار وسط الغرفة أو الهيكل على موقد حجري مُستقر على أربع قوائم. وتوقد نارها ليلا ونهارا من قبل الكهنة الذين يُمارسون التطهير بغسل الأماكن المكشوفة من أجسادهم وخلع أحذيتهم مع الشعب قبل أن يدخلوا عتبة الغرفة أو الهيكل ليدوروا حول الموقد. وغالبا ما تختم الصلاة بمسح الجبين أو الأجفان بحفنة من الرماد المُقدس من الموقد.
ولا يحرق الزرادشتيون الجثث بعد الموت لكونها نجسة، بعد أن تتركها الأرواح. ولا يمكن ايضا حرقها بالنار بسبب قدسية النار. ولا يمكن رميها بالأنهار والبحيرات كما تفعل بعض الشعوب بسبب قدسيّة الماء. ولا يمكن دفنها في الأرض لقدسية التراب، إذ لا يحسن بالأرض المقدسة أن تحوي في بطنها الجثث الملوّثة. ولكنهم يضعونها على الأبراج العالية لتأكلها الطيور. وإذا لمس أحدهم الجثة، فعليه التطهّر بالماء أو بول الماشية، ولذلك يتجنبون الطيور والحشرات التي تقتات باللحوم الميتة أو الوسخة.
ومن الطقوس الجميلة الأخرى، التوبة إذ يتوب كل زرادشتي من الأفكار الشريرة والكلمات البذيئة والأفعال الرديئة التي يرتكبها في حياته، سواء كانت الروحية منها أو المادية، وعليه ان يُذكر نفسه دائما بكلمات الحكمة من كتاب آفيستا لتقوية روحه في مقاومة الشر.
فالشعائر والطقوس وسيلة مهمّة في الزرادشتية لتقوية الروح ضد القوة الشريرة وتنقيتها من كل أنواع الشوائب. ولا يتم ذلك الا بتطبيق الوصايا الأخلاقية في الحياة اليومية. وللأنسان ايضا دور مهّم في إصلاح الخلل في العالم لأنه المساعد الأيمن لأهورامازدا وليس الخادم الذي لا حول له ولا قوة، كما في بعض الأساطير القديمة التي تجعل منه عبدا للآلهة أو خادما مسيّرا.
الجنة والجحيم
يتكلم زرادشت قليلا عن الجنة والجحيم ويتجنب التركيز على الماورائيّات. وكان يُحاول بقدر الإمكان الإبتعاد عن الأساطير والخرافات التي كانت تحتل الجزء الأكبر من الديانة الهندوسية الفيدية التي كان يخدمها ويُحاول إصلاحها وتنظيفها من الوثنيّات الصنمية والأفكار التجسّدية والتقشفية الكثيرة.
عبّر زرادوشت عن الجنة والجحيم بمصطلحات جميلة ورمزية إذ يقول بأنها المكان السامي جدا في حضرة الله أو هي الوجود العقلي والروحي أو الوجود الأبدي، وذلك بالنسبة الى الذين يعيشون حياة صالحة وخيّرة. وأما بالنسبة الى الذين يعيشون حياة سيئة وينشرون الشرّ والظلم ويُفضلون الظلمة على النور والرذيلة على الفضيلة، فإنهم يذهبون الى العالم التحتاني مع الشيطان وأعوانه حيث العذابات المختلفة.
ويُعلم زرادشت كذلك وجود جسر يربط بين العالمين وتفصل الأرض بينهما. وتبقى الأرواح الرديئة تسبح في الفضاء بين العالمين من دون جسد الى أن تتخلص من الشرّ العالق فيها ومن ثم تذهب الى الجنة أو السعادة الأبدية.
وهناك فكر جميل عن البعث والنشور في الزرادشتية التي تتكلم كتبها عن الخلاص والدينونة وعن البرزخ وهو المكان الذي تنتظر فيه الأرواح الى يوم الدينونة العامة حيث تقف أمام القاضي (ميترا) الذي يُدين الأرواح على كل صغيرة وكبيرة بوضع الحسنات والسيّئات في ميزان عادل. وتشغل طقوس الموت مكانا خاصا في كل المرسيم الدينية، لأن الأنسان مخلوق مقدس مهمّ بالنسبة الى أهورامزدا وأما جثته فهي نجسة تنتمي الى عالم أهريمان لنتانتها بعد الموت. ولذلك لا يمكن تدنيس الأرض بدفنها في باطنها ولا الى تدنيس النار بحرقها فيه. وعلى الناس الذين يتعاملون مع الجثة أن يتطهّروا جيّدا خوفا من الدنس.
فالنظافة في الزرادشتية هي من صفات الإله أهورمزدا وأما القذارة والنتانة فهي من صفات الروح الخبيثة لأهريمان. ولذلك نجد الزرادشتيون يستعملون الغسل الكثير قبل الصلاة والإبتعاد عن كل ما هو قذر وملوّث. وغيرها من الطرق والوسائل المهمّة في كيفية الطبخ النظيف وشرب الماء الصافي الطاهر وكيفية تحضير النار المقدسة من القش والعيدان.
الخير والشر
حاول الانسان منذ أن شعر بوجوده إيجاد أجوبة وحلولا لكل المشاكل التي تصادفه في حياته اليومية. وبسبب فكره الشرير الذي يدعو الى الحسد والغيرة والانتقام، وقسوة الحياة والآلام والأمراض والكوارث الطبيعية التي تصيبه، تطوّر فكره عن الشرّ، وعن أسبابه ونتائجه واختلاف مفهومه من دين الى آخر، ومن عقيدة الى أخرى. فمنه من قبله وقبل نتائجه، ومنه من تشائم منه، ومن الأمور المحيطة به والمتعلقة به. ولكن هناك ايضا من نكر وجوده في الواقع قائلا: أن الشرّ هو عدم الخير، والظلام هو عدم النور. أو من قال: أن المرء لا يستطيع محاربة الشر، فعليه ببساطة أن يطيعه. أو أن يتقاعد عن الحياة ويتهرّب منه ويترك الأمور الحياتية والمسؤوليّات والمشاعر والرغبات خلفه وينعزل في الأديرة والبراري. أو أن يختار مواجهته بفعل الخير والصلاة والتأمل وايجاد الحلول اللازمة لذلك.
وأما عن أصله، فهناك من يرى أن الشرّ والخير أزليان، وقد وجدا بوجود الحياة، ولا يُمكننا التهرّب منهما. ومنهم من يرى بوجود آلهة خيّرة، وأخرى شريرة مسؤولة عن الشرّ والخراب في العالم. ومنهم من يؤمن بأن الخير والشر موجودان معا ولابد منهما لخلق نوع من التوازن في العالم. ومنهم من يتصوّر بأن العالم غير كامل ويمرّ في حالة الطفولة، ويحتاج الى العمل يدا بيد لكي يكمل العمل الناقص لله الذي تم في ستة أيام وهو رقم ناقص، ويحتاج الى اليوم السابع (رقم الكمال) لكي يكون العمل كاملا، كما في الفكر التوراتي (اليهودي ـ المسيحي).
وأما بالنسبة الى الزرادشتية فإنها ترى ان الكون الجميل، وكل ما فيه مخلوقا من قبل أهورامازدا وأما الشرّ والخراب فإنه مخلوق من قبل أهريمان. والكون هو ساحة يدور عليها الصراع الدائم بين الخير والشر. وتتم الغلبة للخير على الشر في الحرب الأخيرة التي سوف تضع حدا لقوة أهريمان الشريرة.
وقد دعا الله (أهورامزدا) الإنسان إلى أن يعمل الخير دون أن ينتظر الجزاء، فالخير يحمل جزاؤه في نفسه. ولذلك على الانسان أن يستأصل عامل الشر من نفسه، ويُنمّي بذرة الخير فيه، لأن الخالق جعل له عقلاً وبيّن له طرق الشر، وأمره بمقاومته، بكل الوسائل ولا سيّما عن طريق العقل الذي أعطاه إياه أهورامزدا. وكذلك بالنسبة الى الضمير الذي أودعه فيه وطرق الهداية والصلاح في الكتاب(آفيستا)، الذي أنزله عليه.
الرموز الزرادشتية
يعتقد معظم الناس أن الزرادشتية، ديانة يعبد أفرادها النار كما أسلفنا، وهذه معلومات خاطئة انتشرت بسبب كثرة وجود النار في مراسيمها الدينية وهياكلها، وكذلك بسبب إحترام وتقدير الزرادشتيين للنار وجعلها المركز الذي تدور حوله معظم الطقوس والمراسيم الدينية. إذ يعتقد الزرادشتيون بأن النار هي صورة من صوّر الله (أهورامازدا) وهي روحه القدوس وقبس من نوره وتجسيدا لحضوره المقدس على الارض مثلما هي الشمس تجسيدا لحضوره في السماء. ولذلك نجدهم يدورون حول مذبح النار في الهياكل والمعابد أثناء الإحتفالات وفي جميع المناسبات الدينية والوطنية، علما انهم يحافظون على إشعالها وتأججها في الهياكل والبيوت. وتجد كل ذلك في الفصل السابع من كتاب(الغاثا)، حول النار وكيفية قبول توبة المؤمنين وتطهيرهم وتعميدهم من خلال طقوس النار، التي تعطي النفخة الجديدة في المؤمنين وتنقي صدورهم من الإثم والخطيئة. وهو العنصر(الذكر) بينما الماء هو العنصر(الأنثى). وهناك ايضا العناصر الاخرى مثل التراب والهواء وهي تشكل مع النار والماء العناصر المقدسة الاربعة، التي لها الاهمية الكبرى في الزرادشتية، ولها الاهمية نفسها في حياة كل إنسان.
والرمز المهم الآخر في الزرادشتية هو الشمس ويدل على النقاء والحياة المديدة وهم يقدسونها مثلما يقدس المسيحييون الصليب والمسلمون الهلال واليهود نجمة داود. ويُقدس الزردشتييون كذلك الأرض والطبيعة وهي من الرموز المهمّة أيضا في هذه الديانة.



#صبري_المقدسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزواج: واحد + واحد = واحد
- الهندوسية: المنشأ والجذور والعقائد الروحية
- الأمل نزعة فطرية تعلم التشبث بالحياة
- سعادتي في الايمان
- الثقافة الصحية ركن من اركان المجتمع المتمدن
- لا نظام من دون منظم ولا حركة من دون محرك
- هل وجد الكون بالصدفة، أم هو أزلي، أم هو مخلوق؟
- الكون في نظر العلم والاساطير الدينية
- العمل قانون الحياة
- لماذا نحتاج الى الصداقة والاصدقاء؟
- مفهوم الزمن وقيمته في العلم والحياة اليومية
- بدأ الكون من نقطة كان الزمن فيها صفرا
- التفاؤل: مفتاح النجاح في الحياة العملية
- الحضارة المعاصرة: وليدة الحضارات القديمة مجتمعة
- الحداثة: الضامن الرئيسي لتحرير العقل
- اللغة: اهم ركيزة لتحصين الثقافة والهوية
- معرفة الذات: الطريق الامثل لمعرفة الآخرين
- الحضارة المعاصرة بنت الحضارات القديمة مجتمعة
- الثقة بالنفس: الاساس المتين للنجاح في الحياة
- علم الفلك: أم العلوم واصل كل العلوم


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صبري المقدسي - الزرادشتية: المنشأ والجذور والعقائد الروحية