أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سليم العربي - العدالة و حقوق الانسان















المزيد.....


العدالة و حقوق الانسان


سليم العربي

الحوار المتمدن-العدد: 4073 - 2013 / 4 / 25 - 09:09
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


العدالة و حقوق الإنسان
يعود بنا التأصيل الفلسفي لفكرة حقوق الإنسان إلى إشكالية العدالة في تاريخ الفلسفة الأخلاقية و السياسية و القانونية . فالعدالة باعتبارها موقفا أخلاقيا من ناحية ، يمكن أن تكون فضيلة من الفضائل ، لكنها من جانب آخر مبدأ عام و مقياس للحكم على معايير القانون .
في الفلسفة اليونانية ، اتخذ مفهوم العدالة شكل الخير الأعظم الذي يسعى له الفرد كما تسعى له الدولة . على هذا الأساس يعرفها أفلاطون في كتابه الجمهورية من ناحيتين اثنتين فهي تشير في الدولة إلى الانسجام بين طبقات المجتمع بحيث تلتزم كل طبقة بالمهام المنوطة بها ، بحيث لا تتعداها إلى مهمة خارجة عنها ؛ في المقابل ؛ تشير العدالة في الفرد إلى ذلك الانسجام الذي يحصل بين قوى النفس الثلاث :القوى العاقلة ،القوى الغضبية ، القوى الشهوانية . و الإنسان العادل هو الذي استطاع أن يوفق بين هذه القوى الثلاث .
أما أرسطو فيرى أن العدالة هي القيمة الأساسية للتعايش الإنساني التي تطالب الإنسان في سلوكه الفردي و كذلك في سلوكه تجاه المجتمع برمته ، و يشير أرسطو بقوله إلى أن " العدالة هي استعداد يتحدد تبعا له الإنسان العادل بوصفه ذلك الذي يستطيع أن يختار انجاز ما هو عادل " . و يميز أرسطو بين معنيين للعدالة : عدالة توزيعية و هي التي تهدف إلى توزيع خيرات المجتمع بشكل متساو على أفراده ، و يشير المعنى الثاني إلى العدالة التعويضية التي تتمثل في تنظيم المعاملات بين الأفراد وفقا للقانون .
كما أن العدالة في مفهومها الفلسفي الخاص تشير إلى الخصائص التالية : أنها معيار دقيق نزن به أعمالنا و نحكم به على أعمال الفرد ، و يفترض أن تكون هذه الأعمال فيها توسط بين الإفراط و التفريط . و تستلزم العدالة الإنصاف في العمل كما تستلزم النزاهة و التجرد على مستوى المواقف و الأحكام التي يتخذها الشخص العادل ، لهذا كانت النزاهة فضيلة شخصية تتعلق بالفاعل الأخلاقي أكثر مما تتعلق بالفعل الأخلاقي . و تتجلى العدالة في تطبيقاتها العملية و إلا ظلت مجرد فكرة أو عبارة عن حلم لن يتحقق أبدا .
ثمة علاقة وثيقة بين العدالة و بين مفاهيم أخرى مثل المساواة و الحق و الحرية . فإذا كان مفهوم العدالة يحتوي على معان متعددة كالفضيلة الأخلاقية و التصرف وفق القوانين و التشريعات مما يجعل العدالة ترتبط بالمؤسسات القانونية و التشريعية التي تنظم العلاقات بين الأفراد ، فإن مفهوم الحق الطبيعي يشير في المجال الأخلاقي إلى العدل و المساواة و الإنصاف. و السؤال المطروح ها هنا ما هي طبيعة العلاقة بين الحق و العدالة ؟ إن الحديث عن حقوق الإنسان يحيل على مفهوم ضمني هو مفهوم الحق الطبيعي . ولعل هذه العلاقة الجدلية هي التي تفسر إرجاع هذه المسألة إلى القرن السابع عشر الميلادي . فحينما نتحدث عن الحق الطبيعي ، فإننا نتحدث عن مجموع الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته كإنسان .
وقد كان رجوع فلاسفة الحق الطبيعي إلى حالة الطبيعة بهدف معرفة الطبيعة الإنسانية و تأسيس المجتمع انطلاقا منها حتى تكون الحقوق و التشريعات عادلة و مناسبة لأصل الطبيعة الإنسانية و غير متعارضة معها .


صحيح أن مجموعة من الفلاسفة اختلفوا في تصورهم لحالة الطبيعة ، إلا أنهم اشتركوا في مبدأ أساسي هو جعل الطبيعة المفترضة للإنسان أساسا لكل حقوقه في الحالة المدنية . من هنا فللإنسان حسب هذا التصور للحق الطبيعي حقوق لا يمكن المساس بها ، وهي حقوق مطلقة وكونية .
و إذا أخدنا نموذج هوبس مثلا ، فإننا نجده يعرف الحق الطبيعي بأنه الحرية التي تخول لكل إنسان في أن يسلك وفقا ما تمليه عليه طبيعته الخاصة و ما يراه نافعا له . أما حالة الطبيعة فهي عنده حالة حرب و عنف و فوضى .
كما تصور هوبس بأن الطبيعة الإنسانية شريرة ، و أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان ، انطلاقا من هذا التصور ارتأى هوبس ضرورة تأسيس الحق في حالة الاجتماع على القوة ، قوة الحاكم الذي سيفرض نفسه على الجميع و يتنازل له الأفراد عن حرياتهم الطبيعية . هكذا يتأسس الحق عند هوبس على القوة لان أساس الحق عنده نابع من تصوره لطبيعة الإنسان .
وينطلق سبينوزا من نفس التصور الذي بنى عليه هوبس أطروحته : " السمك الكبير يأكل السمك الصغير "؛ أي أن قانون القوة يسري على جميع الموجودات . وفي كتابه " رسالة في اللاهوت و السياسة " الذي درس فيه المجتمع المدني و أسسه وأشكال الأنظمة ، يرى أن الحق الطبيعي لا يخضع لأية ضوابط إلا ضوابط الذات ، و من ثمة يكون الحق بالنسبة للذات مطابقا لقدرتها . إن سبينوزا و إن كان يلتقي مع هوبس في نفس التصور لحالة الطبيعة ،إلا أنه يستبعد أن تكون هناك سلطة خارجية قادرة على وصف حالة الطبيعة إلا سلطة العقل . و للتخلي عن حالة العنف و الحرب يجب أن يتنازل الفرد عن حقوقه عن طريق تعاهد حاسم أي عن طريق التعاقد الذي تكون غايته الخروج من حالة العنف و القوة إلى حالة السلم و الأمن .
وحالة الإنسان الطبيعية عند جون لوك هي حالة من الحرية و المساواة ، حيث لا يوجد الخضوع بين الناس لكونهم ولدوا من غير تمييز و لديهم نفس الحقوق . لكن الحرية الطبيعية محددة عنده بالقانون الطبيعي ذاته . و حسب لوك من أجل وضع نهاية لهشاشة الحياة الطبيعية ، على الإنسان أن يوافق من أجل الارتباط بالآخرين، الجاهزين للارتباط معه أصلا لأجل الحماية المتبادلة للحياة و الحرية و الأملاك. في هذه الحالة سيكون الحق الطبيعي مكفولا للجماعة .
في كتابه " رسالة في التسامح " ، سعى لوك إلى الفصل بين الدين و السلطة المدنية ، بحيث لا يكون الدين مدخلا لاقتحام الحقوق المدنية و في هذا الصدد يقول : " انه ليس من حق أحد أن يقتحم ، اسم الدين ، الحقوق المدنية و الأمور الدنيوية " بمعنى أن السلطة السياسية لا يجب أن تستمد مشروعيتها من البعد الميتافيزيقي ( الدين ...) ، حيث يقول : " خلاص النفوس من عند الله وحده " .
ولكي يحقق الإنسان إنسانيته بعيدا عن التعصب ، أشار لوك إلى فكرتي التابو و الدوجما ،حيث يشير مفهوم التابو إلى أشياء و أشخاص قد عزلت عن العالم و أصبحت مقدسة أي أصبت غير قابلة للنقد و إلا فالتعذيب أو الموت لمن يجرؤ على النقد ، من هذه الوجهة ، فان التابو ينطوي على أمر مطلق بالمعنى السلبي ، مما يخلق التعصب . أما مفهوم الدوجما ، فيشير إلى العقيدة الراسخة التي لا تقبل النقاش و هو أمر مرفوض داخل الدولة المؤسسة على القانون الذي يسمح بهامش من الحرية المعقلنة في جميع المستويات .


و يحاول لوك أن يبين لنا ضرورة الفصل بين السلطة أو الحكم المدني و بين الدين ، لأننا بذلك سنغلق باب الشرور المنبعثة من العلاقة الملتبسة بينهما . كما يرفض لوك توريث الحقوق الدينية لأن لا أحد يختار دينه بهذا الشكل ، و إنما يجب على الإنسان أن يقتنع به اقتناعا أولا ، لأن هذا الاقتناع يأتي استحسانه من طرف العقل . و في نظر لوك ، فإن من قمة العقل و خصال الإنجيل ألا نضع معايير ضيقة للعدالة و المحبة والمساواة ، بل يجب أن نضيف أيضا السماحة .
و تأسيسا على ذلك ، فلا الأفراد و لا الكنائس و لا الدولة لديها أي مبرر للاعتداء على الحقوق المدنية و الخيرات الدنيوية بدعوى الدين . أما الذين لا يرون هذا الرأي ، فان عليهم أن يتأملوا أنفسهم و هي تزرع ، في البشرية ، بذور النزاع و الحرب ، وتثير الكراهية و النهب و السلب بلا حدود . فلا السلام و لا الأمان و لا الصداقة بين الناس ممكنة و مصانة طالما ساد الرأي القائل بأن الهيمنة مؤسسة على اللطف الإلهي و أن الدين لا ينتشر إلا بقوة السلاح . ولهذا ينبغي الامتناع عن استخدام القوة و القهر و الغطرسة ، و من هذه الزاوية ، لا يحق لأي إنسان أن يستسلم لطاعة أولئك الذين يلقون عليه الأوامر ، و لكن يستسلم لما هو مقتنع به .
و على هذا الأساس ، يرى بعض الدارسين أن لوك بمجهوده هذا ، ساهم في إرساء دعائم حقوق الإنسان في الفكر الغربي من خلال تأكيده على الحقوق الطبيعية ، أي حقه في الحياة و المساواة و الملكية ، و كذلك تأكيده على مبدأ الحرية ، إذ لم يحصر الحرية في الرأي و الفكر و التعبير فقط ، بل ضمنها كذلك حرية المعتقد و التعبد معتبرا أن الدين يقوم على الإيمان لا الإكراه .
وقد كان لأفكار لوك شديد الأثر في انجلترا ثم فرنسا و المستعمرات الانجليزية لأمريكا الشمالية ، حيث أسهمت بشكل كبير في بلورة حقوق الإنسان ، فتأثر بذلك الفيلسوف الفرنسي مونتسيكيو الذي واصل بحثه في هذا المجال ، و توصل إلى نظرية تقوم على إرساء النظم الإدارية و السياسية و القانونية التي تضمن الحقوق الطبيعية للإنسان و ذلك بترجمتها إلى حقوق وضعية تجسد دولة القانون و المؤسسات . فنظرة مونتسيكيو لحقوق الإنسان كانت شاملة ، إذ لم تنحصر في الإنسان الأوروبي فقط ، بل طالت حتى التنديد بالسياسة الاستعمارية المنافية للحقوق الطبيعية للإنسان و لحق الشعوب في تقرير مصيرها . ففي كتابه " روح القوانين " الذي عد من طرف دارسيه أعظم كتاب فرنسي في القرن الثامن عشر الميلادي لأنه يجمع بين فلسفة التشريع و حكمة التاريخ و الفقه الدستوري ، يشير مونتسيكيو إلى أن الأمة و تمتعها بقوانينها من فصلها للسلطات الثلاث : التشريعية ، القضائية و التنفيذية . ففصل السلطات الثلاث يجعل الاستبداد متعذرا و بالتالي تشيع الحرية السياسية و ينعم الإنسان بملكة العقل من حيث كونها تنظم له حياته ، فيها يحصل العدل و بها تتحقق الإنسانية . كما يذهب مونتسيكيو إلى ضرورة اختلاف القوانين باختلاف الأقاليم و العروق و المعتقدات و الوسائل و من قوله : " إن القانون على العموم هو الموجب البشري ما سيطر على أمم الأرض طرا ، و لا ينبغي للقوانين السياسية والمدنية في كل أمة أن تكون غير الأحوال الخاصة التي يطبق عليها الموجب البشري ... " . ويقتبس مونتسيكيو كلام هوبس بضرورة وجود قوانين زاجرة نظرا لأن الناس يعيشون في حالة هلع بحيث يقول : " إذا كان الناس في غير حال الحرب طبعا ، فلماذا يسيرون مسلحين دائما ؟ ولم يكون لديهم من المفاتيح ما يغلقون به منازلهم ؟ " . لهذا فوجود القانون يفقد الإنسان حس ضعفه .


فإذا كان مونتسيكيو من أنصار التسامح في مجال السياسة و الدين ، حيث دافع عن حرية الرأي والتعبير وكذلك حرية المعتقد و التعبد ، فإن مفهوم التسامح ورد بكيفية أكثر جرأة لدى الفيلسوف الفرنسي فولتير الذي ناهض التعصب في جميع وجوهه ، و ندد بالاضطهاد السياسي و الديني ، و دعا إلى حرية الفكر و المعتقد باعتبار أن التعصب مجلبة للتعسف و الظلم ، و بالتالي المس بكرامة الإنسان . و يقول في كتابه " رسالة في التسامح " : " إن المتعصبين هم الذين يقضون بإعدام الذين لا جرم لهم سوى أنهم يفكرون مثلهم و عندما يفسد التعصب العقول ، فإن المرض يكاد يكون غير قابل للشفاء " . هذه الأفكار كانت مسبوقة بتأثر فولتير بأوضاع المجتمع الانجليزي ، حيث التعايش فيما بين الطوائف الدينية . بهذه الطريقة الحكيمة في التعامل مع المسألة الدينية ، أمكن لإنجلترا أن تخمد لهيب المشاعر الدينية ، و هو ما كان يحلم بتحقيقه فولتير في بلده فرنسا .
و قد دعا فولتير في مؤلفه " كانديد " إلى نبذ الشر من خلال تصويره لمشاهد القتل المقرفة خاصة في الفصل الثامن . و مما يزيد من إعجاب فولتير للنظام السياسي الانجليزي ، هو أن هذا النظام يكفل حريات الإنسان ، فالسلطة السياسية مقننة بقوانين تسري على الجميع ، و الجميع يخضعون لها على قدم المساواة . بهذا حاول فولتير رسم ملامح برنامج إصلاحي دعا فيه إلى فصل ما هو ديني عما هو مدني ، ذلك من خلال تحويل القوانين الجزائية أكثر انسجاما مع الإنسان ، تستجيب لطبيعته الإنسانية ، و على نشر مبادئ حقوق الإنسان ، و حماية الأفراد ، و ضمان حقوقهم ، و إبطال أنواع التعذيب .
و حسب فولتير ، للتخلص من حكم الكنيسة ، و جور البرلمان و النبلاء ، لابد من الوقوف إلى جانب الملك لإنارته حتى يعمل على إصلاح البلاد ، و قد أبرز هذه الرؤية خاصة في كتابه " رسالة في الأخلاق " التي تعبر عن فلسفة تاريخية كونية و ليست فقط أوروبية .
أما إذا أخذنا نموذج روسو، صاحب " العقد الاجتماعي " ، فان التعاقد الاجتماعي عنده يجد ينابيعه الأولى في الحقوق الطبيعية للإنسان . من هنا ، فإن الحق يجد أساسه عند روسو فيما هو طبيعي ، أي ؛ في مجموع المواصفات التي تميز حياة الإنسان في الحالة الطبيعية الأولى . فحالة المجتمع أو حالة التمدن كما يسميها روسو تجعل الإنسان يضمر ما هو أعظم ، و هي الحرية الأخلاقية ، بالتالي يكون الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية ؛ انتقال من حق القوة إلى قوة الحق ، أي ؛ من الاحتكام إلى القوة الطبيعية الفيزيائية إلى القوة القانونية التشريعية و الأخلاقية . و القوة المشروعة في نظره هي قوة الحق ، لأن حالة التمدن التي يتحدث عنها روسو تضمن للإنسان نفس الحقوق و الواجبات ، فيتم إقرار العدالة عن طريق عقد القوانين و الاتفاقات التي تجمع بين شمولية و كونية الإرادة و بين شمولية و كونية الموضوع . فإذا كان العقد الاجتماعي قد أفقد الإنسان حريته الطبيعية غير المحدودة ، إلا أنه أكسبه ملكية جميع ما يقتنيه .
كل هذه الجهود الفكرية سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة ساهمت في قيام الثورة الفرنسية التي امتدت من 1789 إلى 1799 بسبب تأجيج الأوضاع في فرنسا مثل الاستبداد و الظلم و فساد نظام الدولة و اللامساواة مما أفرز تفاوتا طبقيا كبيرا بين فئات المجتمع . كل هذه العوامل أدخلت فرنسا في ثورة داخلية و النتيجة النهائية إلغاء امتيازات النبلاء و رجال الدين و توحيد اللغة الفرنسية بالإضافة إلى فصل الدين عن الدولة ...



تجاوز إشعاع الثورة الفرنسية رقعتها الجغرافية ، بحث شمل ردود فعل مختلفة في باقي أرجاء أوروبا ، و نشير هنا بالذكر إلى كانط . فمن خلال كتابه المبسوط تحت عنوان " نحو السلام الدائم " ، يحرص كانط على خلق فكرة إنسانية عالمية ، و ذلك من خلال التشريع لسلام دائم ، مؤكدا أن خلاص الجنس البشري يكمن في تحقيق الكمال الأخلاقي الأقصى للإنسانية ، و هو السلام الأبدي .
إننا نجد كانط من خلال كتابه " نحو السلام الدائم " يقف عند مفترق طريقين من أجل إيجاد طريق ثالث يعيد فيه الاعتبار لماهية السلام و آليات تحقيقه . فهو من جهة يتجاوز النظرة المغالية في المثالية (الطوباوية) التي يمثلها أفلاطون ، ذلك أن كانط كان أكثر جرأة من هذا الأخير ، فهو لم يعمل على تأجيل سعادة البشر إلى ما وراء العوالم كما فعل أفلاطون حين ربط سعادة الإنسان بعالم المثل ، و إنما حاول تجسيد سعادة البشر في عالمهم الواقعي ، و هي السعادة التي لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير بلوغ السلام الدائم ، و هو من جهة أخرى يتجاوز سخرية و تشاؤمية بعض الفلاسفة أمثال "لايبنتز" الذي أكد أن السلام ليس سوى تصنع و لهو غير مجد لحشد من السذج . و حسب كانط ، فإن تشريع السلام الدائم يقتضي الاحتكام إلى سلطان العقل ، و أن تعيين هذا السلام هدف إنساني نبيل يوجب – علاوة على ذلك – الإقرار بأخلاقيات التواصل بين الشعوب و الدول حتى في حالة الحرب . أن السلام الدائم هو الحافز الوحيد في بلوغ السياسة الكونية ، و يتبعها من مفاهيم إنسانية ( مواطنة كوسموسياسية ، قوانين سياسية ، تاريخ عالمي ، مجتمع عالمي أخلاقي ...) ، و الحقيقة أن السلام الدائم لا يتعلق بفكر يخص حضارة دون غيرها ، فلا يعني السلام الدائم ما تقره أطروحات الفكر الغربي من مواثيق و دساتير – و التي ينتهكها هو قبل أي كان – و إنما المقصود هنا بالسلام شكل من أشكال الحقيقة ، و هو لا يحيل لأي معنى عرقي أو جغرافي أو قومي .
إن السلام يجب أن يرتبط بالبعد الإنساني و بروح المواطنة ، من أجل تكريس القيم الديمقراطية السامية ، على اعتبار أن هذه الأخيرة كقيمة عالمية – كونية لا يمكن لها أن تقوم إلا في ظل سلام عالمي ، لأن القضاء على السلام يعني القضاء على الديمقراطية .
إننا ، إذن ، مطالبون للمشاركة في السلام الدائم ، بيد أن هذه المشاركة لن تتأتى إلا لمن يقول بفكر شمولي- كوني ، و يتعالى عن الاختلافات اللغوية و الفروق الحضارية و السياسية و الأيديولوجية . ففي كتابه " نحو السلام الدائم ، يبسط كانط مجموعة من القوانين التي من شأنها أن تدشن لعهد جديد يكون السلام فيه هو مبدأ م منتهى ، فعلى القائمين على المعاهدات و السلام ألا ينطلقوا من نية غير خالصة في طلب السلام بينهم ، كما أن الدولة من حيث رقعتها الجغرافية المستقلة لا تباع و لا تشترى و لا تبادل و لا تورث ولا توهب ، و أن دوام الجيوش على مر الزمان تهديد دائم للسلام العام ، لأن السلام الظاهري يخفي حربا ضروسا في النفوس ، لهذا يجب التقليل من تواجدها للحد الأدنى . و حسب كانط أيضا ، لا يجب على الدولة إقراض المساهمين في الحرب حتى و إن كانت تابعة لها . و يجب على الدولة ألا تتدخل بالقوة في شؤون دولة أخرى ، لأن ذلك تدخل في السيادة ، كما لا يسمح لأي دولة في حرب مع أخرى أن ترتكب أعمالا عدائية قد يكون من شأنها بعد الحرب ، فقدان الثقة المتبادلة بين الدولتين .



إن هذا الأمل الكبير في تخليص البشرية من عنائها – الحرب و الصراع – يجعل من كانط يقف في وجه أطروحات بعض الفلاسفة و المفكرين الذين أرادوا تكريس الفكر التراتبي ، و الرؤية المركزية و البعد الأيديولوجي ، بدءا من فلسفة " لايبنتز " و " نيتشه " التي أقرت بأن حالة السلم هي دائما خطوة نحو حرب آتية لا محالة .
لقد آن لنا الأوان لكي نميز بين فيلسوف الإنسانية قاطبة ، أو على حد وصف "كارل ياسبيرز" "فلاسفة إنسانيين " ، وفي هذا الصف يقف كانط ، و الذي يحمل هم الإنسان بما هو إنسان ، و بين المشرع السياسي – المؤدلج الذي يبرر الحرب و الغزو ...
إذا كان كانط قد تـأثر بشعارات الثورة الفرنسية لأنه وجد فيها تحقيقا للآراء التي نادى بها كالحرية ، و الإخاء ، والمساواة بين الناس ، و التسامح في المعتقدات و الأديان ، و حرية الرأي ...الخ ، فإن هيجل انتقد الثورة الفرنسية لأنها لم تجسد الحرية على أرض الواقع ، بل جسدت النزعة الفردية . كما عارض هيجل اتجاه الفلسفة الحديثة منذ هوبس و مرورا بلوك و روسو في بدء نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي بالفرد بناء على أن وعي الفرد بذاته باعتباره فردا لا يمكن أن يكون معطى أوليا مبدئيا ، بل هو نتيجة تمايز و اختلاف عن البيئة الأصلية للفرد . و لا ينظر هيجل إلى الحق على أنه طبيعي ، أي صادر من طبيعة بشرية ثابتة و أزلية وواحدة لدى جميع الشعوب في كل زمان و مكان ، بل على أنه تاريخي و نتيجة صراع تاريخي طويل . وقد رفض هيجل التعلق بأي شكل من أشكال العودة إلى الحالة الطبيعية ، و من جهة ثانية ، قام بالتنظير والدعوة إلى الدولة الحديثة . لهذا فهو قد نبه إلى أن مفهوم الحالة الطبيعية كان شعارا قصد به تصفية الحساب مع الوعي المسيحي الذي جعل الطبيعة مصدر الشر وذكرى الخطيئة . ويجعل هيجل المجتمع المدني السياسي هو المجتمع التاريخي على الحقيقة ، بل يذهب أبعد من ذلك حيث يربط التاريخ ربطا شرطيا بوجود الدولة . ومعلوم أن هذه الدولة التي جعلها هيجل محور تفكيره السياسي ، لم تكن تعرفها ألمانيا في عهده ، وقد أرجع هيجل انهزام ألماني أمام الجيش الفرنسي إلى غياب دولة موحدة ، وهنا يقول : " فقد ظهر جليا لألماني في حربها ضد الجموهرية الفرنسية أنها ليست دولة " . و الحرية عند هيجل ليست ذكرى فقدت في عصر ذهبي سالف كما يدعي ممجدو الحالة الطبيعية ، بل هي مرحلة تاريخية أدركتها دولة الحقوق الحديثة " فالدولة هي أسمى خليقة تقوم على الإرادة العامة العقلية و في الدولة يحقق الفرد حريته " .
و رغم النقد الذي وجه من طرف كانط و هيجل إلى مسألة الحالة الطبيعية ، فان مؤسسي الفكر الليبرالي سيعتمدون على فلسفة الحقوق الطبيعية في إقرار الحقوق السياسية للإنسان ، و ستصبح دستورية ابتداء من تصريح الاستقلال الأمريكي 1776 ، و كذا في إعلان الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان 1989 .
وقد جاء في ديباجة تصريح الاستقلال الذي أعلنته المستعمرات الأمريكية أنه " يعتبر كحقائق بديهة بذاتها كون البشر متساوين ، و أن الخالق حباهم بعدد من الحقوق التي لا يجوز تفويتها ، من بينها الحق في الحياة ، و في الحرية و طلب السعادة ، أن الحكومات إنما أسست لضمان هذه الحقوق " .
واستلهمت الثورة الفرنسية تصريحها " أن الهدف من كل مجتمع سياسي إنما هو المحافظة على الحقوق الطبيعية للإنسان و التي لا تفوت ، و هذه الحقوق هي الحرية و الملكية و الأمن و حق التصدي للجور " .





#سليم_العربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- نهشا المعدن بأنيابهما الحادة.. شاهد ما فعله كلبان طاردا قطة ...
- وسط موجة مقلقة من -كسر العظام-.. بورتوريكو تعلن وباء حمى الض ...
- بعد 62 عاما.. إقلاع آخر طائرة تحمل خطابات بريد محلي بألمانيا ...
- روديغر يدافع عن اتخاذه إجراء قانونيا ضد منتقدي منشوره
- للحد من الشذوذ.. معسكر أمريكي لتنمية -الرجولة- في 3 أيام! ف ...
- قرود البابون تكشف عن بلاد -بونت- المفقودة!
- مصر.. إقامة صلاة المغرب في كنيسة بالصعيد (فيديو)
- مصادر لـRT: الحكومة الفلسطينية ستؤدي اليمين الدستورية الأحد ...
- دراسة: العالم سيخسر -ثانية كبيسة- في غضون 5 سنوات بسبب دوران ...
- صورة مذهلة للثقب الأسود في قلب مجرتنا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سليم العربي - العدالة و حقوق الانسان