أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد العليمى - الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلارك - مراجعة ابراهيم فتحى - الفصل الثانى















المزيد.....



الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلارك - مراجعة ابراهيم فتحى - الفصل الثانى


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 4073 - 2013 / 4 / 25 - 09:08
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ترجمة سعيد العليمى
الفصل الثاني
أزمة الفلسفة الفرنسية فى الثلاثينات

1 - تكامل البنيوية والظاهرياتية :
تطورت البنيوية باعتبارها مقاربة نوعية للعلوم الإنسانية ببطء . ولد ليفي شتراوس عام 1908 . وقد درس القانون ثم الفلسفة في جامعة باريس بين عامي 1927 و 1931 كما درَّس الفلسفة في الليسية لمدة عامين . ثم واتته فرصة أن يصبح أنثروبولوجياً محترفاً حينما أوصى به عالم الاجتماع الدوركايمي سليستان بوجلي لمنصب تدريس كعالم إجتماع في البرازيل . وهناك قام ببحث ميداني ، وطبع تقريره الإثنوجرافي الأول في عام 1936 . وفي عام 1938 - 1939 قام برحلة بحث ميداني أكثر كثافة في البرازيل . وبعد أن أدى الخدمة العسكرية في فرنسا هرب ، بوصفه يهودياً ، إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1940 . وهناك درَّس في المدرسة الجديدة للبحث الإجتماعي ، وفي المدرسة الحرة للدراسات العليا وفي كلية بارنار . وعاد نهائياً إلى فرنسا في عام 1947 فقط ، بعد أن خدم لمدة عامين كملحق ثقافي فرنسي في الولايات المتحدة .
وعند عودته إلى فرنسا عين ليفي شتراوس مديراً مساعداً لمتحف الإنسان في باريس حتى عام 1950 وبعدها عين مديراً للدراسات وأستاذاً للدين المقارن عند الشعوب غير الكتابية ( الأمية ) في المدرسة العملية للدراسات العليا . وفي عام 1949 قام ليفي شتراوس برحلة بحث ميداني قصيرة إلى شيتاجونج في باكستان بتوجيه من اليونسكو ، وهي المنظمة التي كان شديد الفعالية فيها خلال الخمسينات . وأنتخب في عام 1959 لكرسي الأنثروبولوجيا الإجتماعية في كلية فرنسا التي يرعاها موريس ميرلوبونتي .وقد منح عام 1967 الميدالية الذهبية للمركز الوطنى للبحث العلمى (CNRS) ، وفي عام 1974 تلقى براءة الترشيح للأكاديمية الفرنسية .
وكان أول عمل كبير له ، البني الأولية للقرابة قد نشر متلقيا بعض الترحيب عام 1949 وقد أصبح ليفي شتراوس بعد نشر المدارات الحزينة عام 1955 ، والأنثروبولوجيا البنيوية عام 1958 والفكر الوحشى عام 1962 شخصية ثقافية عامة وظهرت البنيوية كحركة ثقافية كبرى .
وقد مست أعمال ليفي شتراوس وتراً في ثقافة الجناح اليساري الفرنسي في أوائل الستينات باعتبارها التعبير عن الفلسفة التي شاركت في الكثير من الهامات الفلسفتين السائدتين آنئذ من ظاهرياتية ووجودية ، متجنبة ما أعتبر مشاكل الأخيرة المستعصية . وقد كان كثير من رواد الحركة البنيوية ، مثل لاكان ، وفوكو ، وبولانتزاس قد أتوا إلى البنيوية من الظاهرياتية أو الوجودية وخلقوا تنويعات جديدة من البنيوية سعت لإدماج البنيوية مع الظاهرياتية . وحمل كثير من أتباع الحركة البنيوية للبنيوية التوهج والحماس التبشيري الذي أحتضن به الجيل السابق الظاهرياتية والوجودية ( وبالفعل فإن كثيراً ممن دخلوا الستينات مغرقين في الذاتية كانوا هم نفس الذين دخلوا السبعينات معلنين موت الذات ) .
ينبغي أن تحذرنا السهولة والسرعة التي قام بها كثير من المثقفين بالتحول من الظاهرياتية إلى البنيوية من الاعتقاد الشائع الذي يتبناه أنصار هذا المذهب أو ذاك ، بأن الحركتين متعارضتان كل منهما مع الأخرى ، وهو اعتقاد ساندته بوضوح المصطلحات المتعارضة التي أديرالجدال بينهما في إطارها .
ومما لاشك فيه أن هناك بين البنيوية والوجودية ، خاصة ، هوة لا يمكن إجتيازها يُعبرعنها بالمعايير القائمة بالمعارضة النموذجية للبنية بالتاريخ ، الموضوع بالذات ، اللاوعي بالوعي ، الحتمية بالإرادة الحرة ، المحايثة بالتعالي . وعلى أية حال ، فإن هذه الهوة التى لا تُعبر ليست هوة بين فلسفتين متعارضتين تعارضاً مطلقاً ، وإنما بين فلسفتين تقدمان حلولاً متتامة ، وان كانت مختلفة لمجموعة عامة من المشاكل.
وبالرغم من أن الحركة البنيوية قد ظهرت كرد فعل على الوجودية ، وبرزت بعد عقدين من ذروة الوجودية ، فإن للفلسفتين أصلاً مشتركا في أزمة ما بين الحربين الثقافية في فرنسا . لقد كان سارتر أكبر من شتراوس بثلاث سنوات فقط . وكانت سيمون دي بوفوار وميرلوبونتى من معاصريه بالضبط .
كما كان سارتر وميرلوبونتى الأكثر نضجاً ، حيث كانا طالبين في المدرسة النخبوية وذات المكانة Ecole Normale Superieur بينما تلقى شتراوس تعليماً أكثر تواضعا.كما سعى سارتر وميرلوبونتى لتجديد الفلسفة ، بينما كان ليفي شتراوس أكثر شكا بكثير بشأن دعاوى الفلسفة في تقديم أي نوع من المعرفة . لقد أصبح سارتر وميرلوبونتى وحدهما منخرطين جدياً من الناحية السياسية مع المقاومة ، بينما كانت فترة نشاط ليفي شتراوس السياسي هي بواكير الثلاثينات ، وبلغ الذروة في وقوفه كمرشح في الانتخابات الإقليمية حين كان يدرس في مونت دي مارسان عام 1932 - 33 .
وكان الإختلاف في درجة الانخراط السياسي في الثلاثينات مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإهتمامات الفلسفية المختلفة للثلاثة . وعلى حين كان لسارتر وميرلوبونتى اهتمام إستبطاني بمشكلة وعي الفرد في مجتمع بدت قيمة مفلسة ، يبدو أن ليفي شتراوس كان معنياً أكثر باستغلال وإضطهاد الفرد بإسم هذه القيم ، أى بالمسائل الاجتماعية الموضوعية أكثر من المعضلات الذاتية والأخلاقية.
من المحتمل أن الإختلاف يرتبط بدوره بخلفية ليفي شتراوس اليهودية ( رغم أن ليفي شتراوس لم يكن مؤمناً أبداً ) التي لابد وأنها مكنته من أن يبتعد أكثر عن الجدالات التي كانت شروطها توضع بشكل متعاظم بواسطة إنبعاث الصوفية الكلاسيكية وأزمة الضمير الأخلاقي التي سبب ذلك ظهورها بين الراديكاليين ذوى الخلفية المسيحية . وهكذا كان ليفي شتراوس محمياً من التساهل مع الذات ورد الفعل العدمي المبالغ فيه الذي يصاحب في غالب الأحوال الرفض المراهق لإيمان موروث ، بينما ارتباط إنبعاث معاداة السامية مع ظهور اليمين الكاثوليكي لابد أن يكون قد أعطاه وعيا سياسياً أكثر حدة .
وبالرغم من الاختلافات المزاجية والتجاربية بين ليفي شتراوس وهؤلاء الذين سوف يطورون الوجودية والظاهرياتية ، فقد تشاركوا في أكثر من مكان ومن تاريخ . فقد عاينوا جميعاً نفس نظام التعليم الفظ . وتشاركوا في رفض عام للمذاهب التي واجهتهم كدارسي فلسفة ، وقد كانت أسس الرفض متشابهة إلى حد ملحوظ في كل حالة . وبالرغم مــن أن رد فعلهم على الفلسفـات القائمة كان سلبياً ، فقد ظلت هذة المذاهب القائمة هي التي تضع شروط رد الفعل وتفرض على المثقفين الراديكاليين الشباب في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينيات مجموعة عامة من المشاكل . إنها هذه المشاكل العامة ، التي قدم لها سارتر وليفي شتراوس حلولاً متعارضة ، هى التي تقدم الأساس المشترك للبنيوية والوجودية ، وإن هذا الأصل المشترك هو الذي يفسر السهولة التي إستطاع بها جيل جديد من المثقفين بعد ثلاثين عاما تالية، أن ينتقل مـن الواحدة إلى الأخرى ، أو أن يستطيع اقتراح تركيبة من الاثنتين .
أريد أن أحاول في هذا الفصل كشف المشاكل الثقافية التي طور كل من ليفي شتراوس وسارتر فلسفتيهما المتناقضتين استجابة لها. ولست معنياً بتفسير لم تبنى سارتر وليفي شتراوس الحلول التي اختاراها ، ولكن بربط الحلول الواحد بالآخر باعتبارها إمكانات بديلة كتبت كرد فعل عام مشترك واسع النطاق على أزمة ثقافية حادة .
وسوف أركز في الفصول التالية على تطور بنيوية ليفي شتراوس ، ولكن الفكرة الرئيسية الوجودية سوف تستمر في تخلل الكتاب باعتبارها الشبح الذي يصر على التحويم فوق المشروع البنيوي ، ملحاً بصرامة على تأكيد مزاعم الذات الإنسانية التي قمعتها البنيوية ، والتي سوف تظل بالأحرى صامته بشأنها .
2 - الأرثوذكسية الثقافية للجمهورية الثالثة :
من الضروري حتى نفهم الإطار الذي ظهرت فيه البنيوية والوجودية أن نحدد التقاليد التي تطورتا فى مواجهتها ، فالعلاقة الوثيقة بين الحياة الأكاديمية والسياسية الفرنسية في ظل الجمهورية الثالثة يعنى أن هذه التقاليد ، ورد الفعل إزاءها ، يجب أن يتحددا سياسياً أيضاً .
كان قد سيطرعلى الجامعة في سنوات ما بين الحربين علم الاجتماع الدوركايمي والفلسفة البرجسونية ، وهما مدرستان للفكر ارتبطتا ارتباطا وثيقا بجمهورية ما قبل الحرب . وسوف أتناول كلا منهما بإيجاز ، على التوالي .
لقد كان نشوء علم الاجتماع الدوركايمي متصلاً إتصلا وثيقا بإعادة بناء فرنسا بعد الحرب الفرنسية - البروسية . ووقعت هذه المهمة على كاهل الجمهورية الثالثة التي كان الدوركايميون موالين لها بحماس . لقد عارض ، الجمهوريون والجمهورية ذاتها،من اليمين مجموعات متنوعة من قوميين ، وكاثوليك ذوى نزعة نضالية وملكيين ،ومجموعات خارج البرلمان. و عارضهم من اليسارالتنظيم النامي للطبقة العاملة ، الذى إتجه أيضاً إلى أن يتبنى شكلاً نقابياً متطرفاً خارج البرلمان . تلاحم الجمهوريون الذين كان أتباعهم من البورجوازية الصغيرة إلى حد بعيد ، من خلال معارضتهم للملكيين ، وعلى نحو متعاظم من خلال مناهضة الإكليركية التي تصدرت المقدمة خلال محاولاتهم علمنة نظام التعليم .
وقد مثلت الجمهورية للمثقفين الليبراليين الأرض الوسيطة بين قوى اليمين التي كرست نفسها للإطاحة بالجمهورية ، وقوى اليسار التي كرست نفسها للإطاحة بالمجتمع بكامله . وكانت الجمهورية خاصة بعد قضية دريفوس في وضع هجومي : لقد مثلت المجتمع الجديد في طور التكوين ، وكانت القوة التي ستخضع كل الطبقات لسلطة خير المجتمع ككل .
وكانت هذه القوى الإجتماعية الجماعية ترى كقوة أخلاقية ، ولذا كانت مهمة الجمهورية تطوير أخلاقية علمانية وصياغة المؤسسات التي سوف تفرض هذه الأخلاقية على المجتمع . وبهذه الطريقة فإن الإصلاحات السياسية للجمهورية ، وخاصة إصلاح نظام التعليم ، سوف تتغلب على الصراع الإجتماعي الذي كان نتاجاً لغياب َمَرضي لنظام معياري . والإنتصار الجمهوري في قضية دريفوس أعطى الجمهورية الفرصة لتطبيق هذا البرنامج ، وأخذ الدوركايميون على عاتقهم أن يلعبوا دوراً قيادياً في إصلاح التعليم وذلك بشغل مناصب أساسية داخل نطاق الحياة الأكاديمية والإدارة التعليمية .
وهذه هي الإهتمامات السياسية التي تهيمن على فلسفة دوركايم الاجتماعية . لأن المجتمع بالنسبة لدوركايم هو قوة أخلاقية جماعية تقف فوق الفرد . ويعتمد النظام الاجتماعي على الاندماج الملائم للفرد في هذا " العقل الجمعى ". ويعتمد هذا الاندماج في كتابات دوركايم الأولى على وجود شبكة إجتماعية متغلغلة من التفاعلات الاجتماعية حتى يكون كل فرد خاضعاً للنفوذ الأخلاقي لجيرانه أو لجيرانها .ويفرض هذا النفوذ الأخلاقي عادات على الفرد تثبت اندماج الشخصية ( التي يمكن أن تجد فقط التوجيه الأخلاقي من خلال (الإشتراك في الجماعة ) ومن ثم تثبت الطابع النظامى للمجتمع .

كما تَمَثَل علاج دوركايم للنزاع الاقتصادي في كتابه تقسيم العمل في المجتمع في اقتراح تشكيل جمعيات مهنية تسهم في خلق إتصال أكثر حميمية بين كل من المنتجين والمستهلكين ، والعمال وأصحاب العمل تدعم تلاحم المجتمع بتأسيس نظام معياري فــي المناطق التي إنكسر فيها الإتصال . ومن ثم ففي مؤلفه يرى المجتمع باعتباره شبكة أخلاقية للإتصال يفرض من خلالها العقل الجمعى ذاته على كل أعضاء المجتمع.
وفي مؤلفه التالي الأكثر شهرة ، الأشكال الأولية للحياة الدينية ، يتغير التأكيد وترى العلاقة بين الفرد والجماعة باعتبارها أكثر مباشرة . فالعقل الجمعى لا يحتوى فحسب على العادات الأخلاقية وإنما أيضاً على تمثيلات جماعية تحكم كل أشكال الفكر . والعقل الجمعى هو أساس الأخلاقية والعلوم ، منبع المفاهيم وكذلك العادات ، ومن ثم فهو مرتكز العقل . وهو يعد الاشتراك في العقل الجمعى الشرط الضروري لكل عقلانية : لأن الفرد المعزول عن العقل الجمعى غير قادر على النشاط العقلاني وتقوده عاطفة غريزية خالصة . وهكذا فإن الجماعة هي الدليل والحكم على كل من العقل والأخلاقية .
كما يفرض العقل الجمعي نفسه على الفرد ، من خلال اشتراك الفرد في الخبرة الجماعية . ويتخذ هذا شكل التجارب الدينية في المجتمعات " البدائية " التي يلتحم الأفراد فيها كجماعات ويعاينون إجتياح العاطفة الدينية وهو الشكل المتصوف الذي إتخذه رد فعلهم العاطفي إزاء السلطان الرهيب للعقل الجمعي .
إلا أن نزع دوركايم التصوف عن الدين في مجتمع أكثر تطوراً يجعل من الممكن استبدال السلطة العلمانية بالهل ويعترف بتجسد العقل الجمعى في تعبيره العلماني ، أي الدولة . وبالتوافق مع ذلك فإن العقل الجمعى لم يعد يحتاج إلى أن يعتمد على ردود أفعال عاطفية لاعقلانية نحو رمز ديني تصوفى ، وإنما يمكن أن يؤسس من خلال نظام علماني عقلي للتعليم في الدولة .
وهنا يمكن أن نلخص فلسفة دوركايم الاجتماعية فى كلمات قليلة . إنها جماعية ، تؤكد وجود المجتمع ( كوحدة ) كلية متميزة عن ، وتقف فوق الفرد . وهي سوسيولوجية لأن العقل والأخلاقية اللذين يميزان البشر عن الحيوانات يشتقان ليس من الفرد بل من المجتمع . وهي عقلانية ، لأن المجتمع هو مجال عقلاني تماماً ، والعاطفية خاصية للفرد البيولوجي يزيحها المجتمع . وهي علمانية ، لأن الدين نتاج رد فعل عاطفي لاعقلاني على المجتمع الذي يزاح على التعاقب بتطور المجتمع والتطور المتلازم للعقل . وأخيراً فهي وضعية ، لأن الحقائق الاجتماعية هي حقائق خارجية تثقل على الفرد ، وهي من ثم قابلة للدراسة بمناهج العلوم الوضعية . لقد كان الارتباط الشامل للدوركايمين بالعقلانية العلمانية للجمهورية هو الذي مكنهم من أن يحتفظوا بمثل هذا الاعتقاد الجازم بالواقع الموضوعي الملموس للعقل الجمعي .
أى لقد كان إرتباط الدوركايميين بالجمهورية تاما . وكانت ارتباطات الدوركايميين هي إرتباطات الجمهورية ، كان إنشغالهم بمسائل التعليم وبالأخلاقية العلمانية هو إنشغال الجمهورية . كما كانت الجمهورية بالنسبة لهم تجسيداً للعقل الجمعي ، إنتصار العقل على الغريزة الأنانية العمياء ، الوسيلة إلى مجتمع منتظم ، عقلاني ومن ثم تام الإنسانية .
لاينبغي أن يثير الدهشة أن مصير علم الاجتماع الدوركايمي في فرنسا كان مرتبطا إرتباطاً وثيقاً بمصير الجمهورية ، ولا أن يكون مدهشا أن يؤدى إنتصار النزعة الجمهورية وتزايد الدوركايميين في المؤسسة إلى توليد رد فعل . إن ليبرالية الحلم الجمهوري قد قوضتها على الفور القبضة الثقيلة للنزعة الشمولية التي واصلت بها الجمهورية حربها الصليبية في مناهضة الإكليركية . أضف إلى ذلك فــإن الإصلاحات الجمهورية التي كان مــن المفترض أن تكون واعدة في عصر العقل كانت مجردة من التأثير الذي كان متوقعاً منها . وبعيداً عن ظهور مجتمع متناغم ، كانت المعارضة ضد الجمهورية من اليمين واليسار تتنامي ، ولاح تهديد الحرب الأوروبية . ومن ناحية أخرى فقد تسنمت فلسفة برجسون في هذا السياق موضع السيادة في العقد السابق على الحرب العالمية الأولى .

لقد كان برجسون ناقداً معتدلاً للمثال الجمهوري حيث سعى في فلسفته لوفاق شامل حيث سيكون لكل شئ مكانه ،وستكون فيه دعاوى العقل محدودة بخضوعها للحقائق النهائية الروحية للتجربة . لقد سلم برجسون بالدعاوى العملية للعقل ، ولكنه جادل بأن العقل لا يمكن أن تكون له أكثر من قيمة عملية : حيث لا يستطيع أبداً أن يحيط بكلية ، وغنى ، الخاصية الروحية للتجربة . ومن ثم كانت فلسفته مؤسسة على التعارض الأساسي بين العقل العملي والتجربة الروحية .
يفرض العقل عند برجسون شبكة تحليلية على التجربة حيث تجبر مادة التجربة على الدخول في شبكة من المفاهيم ومن العلاقات المنطقية . والعقل ، من ثم يمكن أن يقدم فقط صورة سكونية للواقع ، حيث تفرض مفاهيم صارمة على تجربة متدفقة وهو يمكن أن يعطينا شكلاً من المعرفة ، ولكنها ليست معرفة مباشرة بالواقع ، وإنما جرى توسطها من خلال الإطار المفهومي الذي أُدرك الواقع في داخله ، وهذا الإطار يشوه الواقع بالضرورة . ومن ثم فإن المعرفة التي أحرزت هي معرفة نسبية فقط . فلها صلاحية عملية في مساعدتنا على تنظيم حياتنا اليومية ، حتى نكيف أنفسنا لعالم نرتبط به ذرائعياً ، ولكن هذه الصلاحية براجماتية تماماً . وعلى النقيض من ذلك فإن مهمة الفلسفة أن تقدم لنا سبيلاً مباشراً للواقع الحقيقي وهذا يمكن أن يتحقق فقط من خلال الإدراك الحدسي المباشر للواقع .
وبينما يشظي العقل التجربة حتى يجبر التجربة على أن تتقولب في مفاهيمه ، وبالتالى يقدم معرفة خارجية خالصة عن الواقع ، يخترق الحدس الواقع الداخلي لعالم التجربة . والحدس تجربة روحية ، يتمزق فيها خمار المفاهيم وتتحقق الوحدة الروحية للذات المجربة والموضوع المجرب . إنه ليس وعي الذات ، وإنما وعي يحل الذات المتفردة في الكلية .
وهذه التجربة هي تجربة ديمومة خالصة ، يعارضها برجسون بالمفهوم العلمي. فالعلم يمكن أن يقدم مفاهيم عن الزمان فقط بواسطة استخدام قياس زماني - مكاني مختزلاً الزمان إلى سلسلة غير متصلة من النقاط في المكان ، ومن ثم يفرض الثبات وعدم الاستمرار على تجربة جوهرها الديمومة والحركة . ويقدم لنا الحدس على النقيض من ذلك إدراكا مباشراً وفورياً عن طبيعة الواقع كديمومة حيث نصبح جزءاً من كل روحي هو دائماً في طور الصيرورة . وهكذا فإن التجربة المباشرة ليست تجربة حاضر ثابت ، وإنما ( تجربة ) ديمومة تعطي اللحظة معنى بواسطة علاقتها بالماضي وبإمكاناتها المستقبلية ، تجربة الاشتراك في العالم اللانهائي لروح متطورة غير معاقة : تجربة ليست عن الأشياء ، وإنما عن الحركة الخالصة ، ليست للذات وإنما للمطلق . إنه هذا المبدأ الروحي المطلق للصيرورة الخالصة نوعـياً ، المستمرة والتي لا يتنبأ بها وهو ما أسماه برجسون Elan Vital ، الوثبه الحيوية ، مبدأ الكون .
لذلك تتحدى فلسفة برجسون الصياغة العقلانية مادامت تسعى للذهاب ما وراء العقل . ومن ثم حتى يبلغ برجسون ما يريد أن يقول يستخدم بكثافة المجاز ، التخيلات ، والصياغات الضمنية للإشارة لتجربة تتحدى الوصف في المقولات المحصورة للغة . ولذا كانت فلسفة برجسون مفتوحة على مجال واسع من التفسيرات . وتكمن جاذبية فلسفة برجسون تحديداً في هذا الغموض . فإذا قبلنا التقسيم الأساسي بين العقل والروح ، عندئذ فإن كل شئ ، وأي شئ يمكن أن يوفق في جانب أو آخر : أي شئ يمكن أن يدرك بالعقل أو أن يفلت منه . أضف إلى ذلك ، إنه يضبط التوازن بين العقل والروح ، وبتفسير ذلك بطرق مختلفة ، فإن الفلسفة يمكن أن تستخدم لتدعم مجالاً واسعاً من التفسيرات ، مع سلسلة من التضمينات السياسية .
كانت فلسفة برجسون قد أصبحت مؤسسة داخل النظام الأكاديمي بوصفها بالأحرى محاولة إرضاء للتوفيق بين الدعاوى المؤقتة للنزعة الجمهورية والعلم الوضعي وبين القيم الروحية الخاصة بالحرية ، والتقدم ، والإبداعية المطلقة . وهكذا أدركت الفلسفة صلاحية العقلانية العلمانية باعتبارها نظاماً أخلاقياً وإدراكياً تكيف للاحتياجات اليومية للفرد والحياة الاجتماعية ، ولكن فقط كتكثيف للحظة واحدة في تطور الوثبة الحيوية ، مبدأ الكون .

إن انفصال العقل عن التجربة الروحية المباشرة أدخل فصلاً بين الدولة العلمانية والروح الأبدية ، ولأن الدولة العلمانية متطلب براجماتي لوجود اجتماعي منتظم ، فإن الروح هي التعبير عن المصير الأخلاقي للمجتمع . وتماماً مثلما اعتمدت جاذبية علم اجتماع دوركايم باعتباره علماً وضعياً للمجتمع على تطابق العقل الجمعى مع الدولة الجمهورية ، فإن الجاذبية الأولية للبرجسونية اعتمدت على مطابقة الدولة كلحظة مع
الوثبة الحيوية ، مبدأ الكون .
وعلى حين عنيت الدعاوى المطلقة للدوركايمية أن مصيرها قد ارتبط إرتباطا لا ينفصم بالجمهورية ، فإن فلسفة برجسون في فصلها النطاق الزمني عن الروحي ، يمكن أن توظف في لجم طموح الجمهورية . ومن ثم انفصلت البرجسونية بشكل متزايد عن أصولها الجمهورية حيث أن التحرر من وهم النزعة الجمهورية تنامي قبل وبعد الحرب العالمية الأولى . كما كان غموض الفلسفة يعنى أنها كانت مفتوحة على تنويعة من إعادة التفسير وطنية - قومية ، كاثوليكية ، أو فردية ، لتقدم الأساس لسلسلة من الانتقادات اللاعقلانية للعقلانية الجمهورية . وهكذا فإن البرجسونية وهي الفلسفة التي تشكلت أصلاً كرفض للميتافيزيقا تحت دعوى التجربة المباشرة ، أصبحت على نحو متزايد مذهباً ميتافيزيقياً ، ورغم نوايا مؤسسها ، أصبحت البرجسونية أكثر فأكثر مرتبطة بوثوق بمعارضة رجعية ولاعقلانية كاثوليكية متزايدة ضد الجمهورية .
وبالرغم من اختلافاتهما هناك شئ مشترك بين دوركايم وبرجسون . إنهما يتقاسمان بصفة خاصة الصياغة الثنائية للتعارض بين العقل والعاطفة من الفلسفة الكلاسيكية الفرنسية . وبالنسبة لدوركايم فإن التقسيم بين العقل والعاطفة يرتبط بالتقسيم بين الثقافة والطبيعة ، أو الإنسانية والحيوانية ، باعتبارهما نظامين مختلفين من الواقع . العقل هو نتاج وجود جماعي ، وهو موضوعي تماماً وخارجي بالنسبة للفرد ، وقابل للوصول إليه بمناهج العلم الوضعي . العاطفة ، أساس وهم الكائن الروحي ، هي التعبير عن مرتكز الحيوانية الغريزي ، ومن ثم ضمنياً ، للعمليات البيولوجية داخل نفسية الفرد .
العاطفة إذن اشتقاقية : إنها غامضة ومشوشة ومن ثم لا يمكن أن تسقط بواسطة الحدس ولا يمكن أن تقدم أساساً للمعرفة .

ولا ينتمي العقل والروح عند برجسون لنظامين مختلفين من الواقع ، وإنما لمظهرين مختلفين من الوعي : الخبرة المباشرة وغير المباشرة . العقل ، والعلم ، والثقافة هي مفترضات عقلية براجماتية تقوم بتفريد البشر ضمن الوثبة الحيوية ، قوة الحياة التي تتخلل كل الواقع .ويستعيد الحدس الوحدة الحقيقية للثقافة والطبيعة ،ويكشف الثقافة باعتبارها فرضاً إصطناعيا على تدفق الطبيعة ، خاصية طارئة للطبيعة ، مرتكز تطور الوثبة الحيوية . وهكذا فبالنسبة لبرجسون لا يمكن للمناهج الوضعية أن تقدم معرفة حقيقية ،لأنه الا تتقبل إلا المنهج ، الروحي ، الذاتي للحدس .
وهذه الثنائية العامة ، حيث الذاتية والموضوعية ، العقل والعاطفة ، في البداية منفصلان وبعد ذلك يخضع أحدهما للآخر مرتبطة عند كل من برجسون ودوركايم برفض الأنا الديكارتي .حيث يحل عند دوركايم العقل الجمعى محل الأنا الديكارتي .والأنا التجريبي هو نقطة التقاطع في الطبيعة ، منبع الغريزة والعاطفة ، والثقافة ، منبع العقل والأخلاقية .
أما الأنا الديكارتي عند برجسون فهو مفترض للعقل ، ُفرض على تدفق التجربة ، وهكذا فإن الأنا التجريبي هو نقطة تقاطع الوثبة الحيوية ، الروح الأبدية المنتشرة ، والمفترضات البراجماتية للعقل الذي يعطي الأنا وهم موضع ثابت في الزمان والمكان . وهكذا فبالنسبة لكل من برجسون ودوركايم يصير الأنا التجريبي وهميا بشكل أساسي ، نقطة التقاطع العرضية لنظامين مختلفين . وبالنسبة لبرجسون فان هذين النظامين روحيان ، الوثبة الحيوية ومفترضات العقل . وبالنسبة لدوركايم فإنهما موضوعيان ، العقل الجمعي والفرد البيولوجي . يخضع الوعي التجريبي في كل حالة لواقع روحي أعلى ( ذاتي ) أو علماني ( موضوعي ) منبع الأخلاقية التي تتعالى على الفرد . ان " موت الذات " الشعار الذي تتبجح به البنيوية كثيراً ، له جذوره التي تتغلغل في الفلسفة الفرنسية .
لم يمنع كلا من علم الاجتماع الدوركايمى والفلسفة البرجسونية أن يصبحا مذهبين ميتافيزيقيين بجلاء سوى تطابق الموضوعي المتعالي أو المبدأ الذاتي مع الجمهورية باعتبارها حارس العقل الجمعى أو الوثبة الحيوية . وإذ ينكسر وضوح هذا التطابق بسبب تحلل الجمهورية يصبح الطابع الميتافيزيقي للمذهبين واضحاً .

ولم يكن من الممكن أن يجري التمسك بالدعاوى العلمية للدوركايمين إلا من خلال نزعة عقائدية متزايدة أكدت وجود عقل جمعى منظم ، لم يستطيعوا التعرف عليه على الأقل في مجتمعهم ، الممزق بالصراع . وإنما بدراسة " المجتمعات البدائية " التي توجه إليها الدوركايميون بشكل متزايد أو بدراسة الوقائع الملموسة للقانون والدين ، حيث احتفظوا ببعض المصداقية ، وأمكن لإدعاء أن المجتمع منظم من خلال أخلاقية جماعية متناغمة أن يُستبقي بشكل معقول .

وقد إنتهت الصلاحية الفلسفية للثنائية البرجسونية إلى أن تعتمد على قبول الوثبة الحيوية كواقع روحي ميتافيزيقي وغير عقلاني. وإذا كان الانفصال بين العقل والروح ، على حساب العقل ، قد رُفض ، فإن كل الصرح البرجسوني أصبح ينظر إلية باعتباره أيديولوجية لاعقلانية ميتافيزيقية يمكن أن تخدم فقط جمهورية لا ثقة فيها أو قوى الرجعية الكاثولكية . وبينما كانت الدوركايمية محتضرة تماماً في أواخر العشرينات ، فقد كان للبرجسونية مظهر أكثر تهديداً .
3 - الأزمة الثقافية ما بين الحربين :
لقد تركت الحرب العالمية الأولى وما تلاها الجمهورية الثالثة فاقدة الثقة واختزلت دعاويها التاريخية إلى مستوى كوميديا هزلية منافقة . فالحرب المجيدة تركت فرنسا بإثنين مليون ونصف بين قتلي أو معاقين إلى الأبد ، وبدين ضخم نهض أساساً لأزمة مالية دائمة ، وبسلسلة من الحكومات العاجزة التي تعرضت لهجوم متزايد من القوى غير البرلمانية من اليسار واليمين . وسقطت المبادرة فى حسم في يد اتحادات الجناح اليميني التي كانت خطابتها النضالية ذات جاذبية خاصة للشباب والتي توصلت إلى الهيمنة على المثقفين الكاثوليكيين والكتاب في العشرينات والثلاثينات . وأيا ما كان صانع التاريخ ، فمما لاشك فيه أنه لم يعد الجمهورية .
لقد أفقد انحلال الجمهورية الثالثة الثقة في الفلسفات الليبرالية التي كانت قد ارتبطت بها . ومن ثم كانت هناك إعادة بناء أساسية للثقافة الليبرالية في فرنسا ما بين الحربين ، تمثلت فى مساءلة الأيديولوجية المقرة ، وتطور فلسفات جديدة على أساس رفض عام للميراث الفلسفي للجمهورية . وكان الرئيسي في هذا الرفض هو نقد الطابع الميتافيزيقي في فلسفات ما قبل الحرب الذي عرض هذه الفلسفات لتفسيرات محافظة أو رجعية متزايدة .
لم يكن هذا رفضاً فلسفياً ببساطة ، وإنما أيديولوجياً وسياسياً بصفة أساسية . والمبادئ التي كانت قد عُرضت باعتبارها حقائق أخلاقية خالدة ، ذروة تقدم لانهائي مستمر تطوري ،كان يُنظر إليها الآن بوصفها لاتعدو أن تكون ذريعة منافقة لطبقة اجتماعية مفلسة معنوياً . وهذه الطبقة الاجتماعية التي لا تزال إسمياً متعلقة بأخلاقيتها البورجوازية الغابرة ، قد تعهدت انحلال المُثل الجمهورية ، وهلاك ملايين من الحيوات الشابة في الحرب العالمية الأولى ، والتدهور الاقتصادي ما بعد الحرب ، الصراع الاجتماعي النامي ، وقد سعت الآن إلى التخلي عن مسئوليتها إزاء الانهيار الاقتصادي والسياسي والأخلاقي للمجتمع الذي خلقته بالتراجع إلى عالم الروح فاصلة أخلاقيتها العبثية عن الفوضى التي خلقتها .
أخلاقية لم يعد من الممكن الاحتفاظ بها بجلاء بدعوتها لأي اهتمام حقيقي بالعدالة ، والحرية والمساواة ، بعد أن تم الحفاظ عليها بدعوتها إلى التطور التاريخي للمقولات الأخلاقية الفارغة عن التطور الذاتي لعالم الروح المفصول ميتافيزيقيا .وهكذا فإن برونشفيج ، الذي عمل أستاذاً للفلسفة في السوربون بين الحربين ، كان مع برجسون الهدف الأول لرد الفعل . لقد كان برونشفيج مثالياً نقدياً حيث كانت الفلسفة بالنسبة له فلسفة المعرفة .ولقد كانت مهمة الفلسفـة أن تمسك العقل " في حركته الخاصة .... تأتى الفعالية الذهنية إلى الوعي من ذاتها ، وهذه هي الدراسة الكلية للمعرفة الكلية ، هذه هي الفلسفة ( 1 ) . هذه الفعالية لا تتوقف ، إنها متلاحقة ، مستمرة . لقد عبر ليفي شتراوس جيداً عن رد فعل عام تجاه هذه الفلسفة :
" كانت الفلسفة .... نوعاً من التأمل الجمالي للوعي بواسطة ذاته . لقد كان ينظر إليها وكأنها قد تطورت ، في مجرى القرون ، دائماً أعلى وأجسر تركيباً وكأنها قد حلت مشاكل التوازن والدعم وكأنها قد اخترعت تدقيقات منطقية ، وقد اعتبرت النتيجة صالحة قياساً إلى كمالها الفني أو ترابطها الداخلي .... ولم يرتبط الدال بأي مدلول ، لم يكن هناك أي مرجع . حل الخبير محل الحقيقة .... ( 2 ) .

وبالنسبة إلى المثقفين الراديكاليين الشباب من جيل ما بين الحربين ، لم تكن فلسفات أساتذتهم المطورة غير مُرضية فحسب ، وإنما غير مقبولة كلية . لقد انتمت الفلسفات المقرة إلى عصر آفل . كان رد الفعل بالنسبة لكثيرين عنيفاً ، رد فعل من التغير الكلي على الإفلاس الثقافي والأخلاقي ، على النفاق المطلق ، لدى الجيل الأقدم . وفى البداية كان رد الفعل ذا مضمون سياسي ضئيل ، ولم يكن الجيل الأقدم مواجهاً بكثير من الجدل الثقافي المدعم وإنما بالسخرية والإساءة . وشكلت السريالية رد الفعل في العشرينات . كان صلب السريالية نفي كل المذاهب المقرة ، وإنكار كل المطلقات ، وكان شعارها الصفحة البيضاء (TABULA RASA) وارتبطت عن قرب مع السرياليين مجموعة " فلسفات " التي ظهرت في عام 1924 وانضوى تحت لوائها هنري لوفيفر ، جورج بوليتزر وجورج فريدمان .
وكان رد الفعل في العشرينات سلبيا إلى حد بعيد ، فى أغلبه تأكيد فظ على الموضوعية ضد الخيالات الذاتية للفلسفة ، تأكيد لقيمة الفعل معارضاً بالتأمل ، مشتملاً على الانتهاك الفضائحي للتقاليد العزيزة على الجيل الأقدم في محاولة لمعارضة الواقع الفظ بأوهام الفلسفة المقرة. كانت الاستجابة في البداية شديدة التشوش واحتفظت على الأغلب بمركب روحي قوى أعطاها شيئاً مشتركاً لحد بعيد مع رد فعل الجناح اليمني على انحلال الجمهورية .
تبنت مجموعة فلسفات نحو نهاية العشرينات مثلها في ذلك مثل كثير من السرياليين ، الماركسية وانضموا إلى الحزب الشيوعي . ولكن حتى هذا لم يمد الحركة حقاً بأساس متين ، لأن جاذبية الشيوعية بالنسبة للمجموعة تمثلت في حقيقة أن رفضها للمجتمع الرأسمالي وكل ( أنواع ) المساومة مع ذلك المجتمع كانت شاملة ، حيث كانت هذه فترة " التطرف اليساري " في الكومنترن ، وكانت جاذبية الماركسية للمجموعة جاذبية تقويم ماركس الشاب للمجتمع الرأسمالي باعتباره نفياً خالصاً وللفلسفة باعتبارها ذروة تطور هذا النفي . ولم تقدم هذه الماركسية فلسفة جديدة ، وإنما أعلنت موت كل فلسفة .

لقد تصادف فقط في نهاية العقد أن بدأ في الظهور توجه أكثر إيجابية وقد وصفت سيمون دي بوفوار تجدد التفاؤل في نهاية العقد لأن أزمــة عام 1929 قـد بينت هشاشـة الـصرح الـرأسمالي ( 3 ). وقد ظهر من جيل الذين كانوا طلاباً في 1929 أكثر المثقفين الجدد أهمية : كلود ليفي شتراوس ، جان بول سارتر ، ريمون آرون ، موريس ميرلوبونتي ، سيمون دي بوفوار ، بول نيزان وكثير غيرهم .
نيزان ، وهو معاصر تماما لسارتر والرجل الذي أقترح على ليفي شتراوس أن يدرس الأنثروبولوجيا ، كان الرجل الذي ربط بين العقدين . وقد انجذب أولاً لليمين المتطرف ، ثم كان بعد ذلك على هوامش مجموعة فلسفات ، فمناضلاً شيوعياً ، وكان نيزان جاداً بطريقة لم يكن يضارعه فيها كثير من معاصريه . لقد كان كتاب عدن العربية ( 1931 ) خلاصة رحلته إلى عدن عامي 1926 - 27 وقد كان في آن معاً بمثابة هجوم عنيف على الإدعاءات المنافقة لأخلاقية البورجوازية وشجب لمختلف أشكال النزعة الهروبية التي كانت تقدم لشباب العشرينات ، وقد كشف برحلته إلى عدن عن الطابع الوهمي للهروب النهائي من خلال السفر ، الملاذ الأخير لجيله ( وهو أمر كان لايزال يمثل فكرة أساسية في الثقافة الطالعة للثلاثينات ) .
إن عدن العربية هو نتاج للعشرينات في جوانبه السلبية والمدمرة ، ولكنه أيضاً يسجل قطيعة مع الحلول المثالية للعشرينات ويقدم منفذاً للأمام بشكل مؤقت . وبالنسبة للأوهام التي انخرطت فيها البورجوازية مع الشباب المتمرد كان نيزان يعارضها بالتجربة الإنسانية للأفراد التجريبيين ، وخاصة تجربة المضطهدين ، أمدته بواقع متميز يشن هجومه منه. وفي جوانب كثيرة فـإن عدن العربية يستبق الفكرة الأساسية لتقويم ليفي شتراوس لإقامته فـي البرازيل في الثلاثينات فى كتابه ، المدارات الحزينة ( 1955 ) . وكتاب ليفي شتراوس هو أيضاً حول أوهام السفر ،واستحالة الهروب من ثقافة برجوازية تُطوق الكرة الأرضية وهو أيضاً يقدم الأمل الوحيد في الخلاص متمثلا فى التجربة الإنسانية للمضطَهَدين التي تتعارض مع ادعاءات المضطهِدين . حين كتب ليفي شتراوس عام 1955 ، أصبح هذا الأمل عقيماً ، وباتت البشرية محكوماعليها بالإنقراض ، بينما آمن نيزان خلال الثلاثينات أن المضطهدين يمكن أن يحرروا المجتمع وارتبط قلباً وقالباً بالحركة الشيوعية .

وفي كتابه كلاب الحراسة ( 1932 ) وجه نيزان مجادلاته على نحو أكثر مباشرة ضد كهنة الفلسفة الكبار ، وخاصة ضد برجسون ، برونشفيج ، والدوركايميين ، الذين شجبهم باعتبارهم الفلاسفة الرسميين لبورجوازية استبدادية ، الذين عارض كتاباتهم بتقارير عن الواقع الوحشي للإضطهاد والاستغلال الذي صادقت عليه الفلسفة الرسمية باسم أخلاقياتها المطلقة . ويشجب نيزان محاولات هذه الفلسفة لفرض التصوف على الجيل الجديد بجذبة إلى انحرافات ميتافيزيقية ، إلى عبادة العقل . عارض نيزان الفلسفة القائمة بالتجربة اليومية ، وعارض المفهوم الإنساني البورجوازي عن الإنسان بوجود الرجال الحقيقيين والنساء الذين يحتقرهم فلاسفة يعلنون أنهم انسانيون.
وكانت جدالات نيزان عاطفية ، ملتزمة ومتطرفة . وبينما كان كثيرون من جيله يرفضون نبرة نقد نيزان ، وكثيرون لم يكونوا يصادقون على قراره بالارتباط بالحزب الشيوعي ، فإن أعماله قد عبرت عن أحاسيس جيله . والأكثر أهمية انها عبرت عن التزام بالعودة إلى الواقع ، إلى واقع التجربة اليومية لأفراد البشر ، وقد كانت هذه المعارضة الخاصة للوجود الإنساني الأرضي بالإنشاءات الميتافيزيقية الرفيعة هـي التي قدمت كلا مـن نقد للفلسفة القائمة وطريق للأمام : إن دراسة مفهوم الإنسان سوف تحل محلها دراسة الرجال والنساء الواقعيين ( رغم أن دراسة النساء كانت قد تُركت تماماً لسيمون دي بوفوار ) . كما أن حدود المعرفة والمعنى والحقيقة سوف تكون حدود الوجود اليومي الواقعي . وهكذا فإن الجيل الجديد من المفكرين ، ومن ضمنهم ليفي شتراوس إمتلكوا إلهاماً إنسانياً عميقاً ، باحثين عن استعادة البشر الواقعيين من طابع تصوف الإنسانية البورجوازية . لقد كانوا مستغرقين في إمساك المعنى الحقيقي للوجود الإنساني باعتباره مسألة تجريبية قابلة للبحث الفلسفي العقلي أوالعلمي .
وبالمثل كانت هذه النزعة الإنسانية الجديدة أساساً لرفض الفلسفات المقرة ، والأساس الذي يمكن أن تنهض عليه مقاربة جديدة . أولاً ، لقد رفض الإهابة الميتافيزيقية بمطلقات الأخلاق باسم الوجود الإنساني العيني . وهكذا يتعين على أخلاقية جديدة أن تنغرس في التجربة لا أن تكون مفروضة على الفرد ( لذلك فإن الشعار الأساسي للوجودية وهو " الوجود يسبق الماهية " يمكن أن يؤخذ ، بتفسيرات مختلفة ، باعتباره شعار العصر.
ثانياً ، إن رفض الميتافيزيقا بإسم الفرد كان مرتبطاً برفض اللاعقلانية تحت إسم العقلانية . وهذه العقلانية لايمكن أن تكون مطلقة وواقعاً أبدياً ، ولكن عليها بالأحرى أن تنغرس في التجربة ، وعقلانية الوجود اليومي ، وأن تكتشف من خلال إستقصاء فلسفي أو إجتماعي للحياة اليومية .
ثالثاً ، استتبع رفض الميتافيزيقا رفض كل أشكال النزعة التاريخية ، رفض خضوع الفرد لقوانين تطور تاريخية مفروضة خارجياً ( بغض النظر عما إذا كانت مادية أو روحية ) ومن ثم رفض أى إعتقاد بالطابع التقدمي والمستمر للتاريخ بالضرورة . ومثل هذا الإعتقاد يتوافق بصعوبة مع تجربة فرنسا مابين الحرب حيث دللت الإستمرارية على التحلل والإنحلال حيث يمكن فقط لقطيعة جذرية أن توقف المنطق المستمر للتدهور . وهكذا " كان كل معلمينا مهووسين بالمقاربة التاريخية ، ومع ذلك ، كان معلمونا جاهلين بالتاريخ " ( 4 ) . التقدم المستمر للعقل والأخلاق عند برونشفيج ، تطور برجسون الخلاق ، مورفولوجيا نزعة التكوين الدوركايمية ، التى تطورت فيها البنى الإجتماعية بإنسجام من البسيط إلى المعقد ، كانت كلها مرفوضة على حد سواء وتناقضت كلها بحدة مع واقع التاريخ . لقد برزت " النزعة التاريخية " بوضوح بإعتبارها إيديولوجية قَنَّعت الإضطهاد والإستغلال . ومن ثم فإن رفض النزعة التاريخية أثار مشكلة المعنى الإنساني الحقيقي للتاريخ .
وربما لايبدو هذا التوجه نحو الفرد الإنساني التجريبي لمن له خلفية أنجلوساكسونية أو المانية شديد الترويع ، لأن رفض الميتافيزيقا على أساس الفردية الليبرالية كان شائعاً فى العالم الأنجلوساكسوني ، وكان مؤسساً جيداً حوالى نهاية القرن التاسع عشر في المانيا . ولكن في فرنسا ارتبطت الليبرالية تقليدياً ليس مع الفردية ، بل مع الجمهورية ، مع الدفاع عن الدولة العلمانية ضد الممارسة الشخصية للسلطة الملكية . ولم يستطع جيل الثلاثينات أن يتوجه نحو تقليد قائم للفردية الليبرالية ليجد حلولاً جاهزة . ومن ثم فإنه من المميز عند هذا الجيل انه كان عليه أن يجد الإلهام من الخارج . ذهب سارتر إلى المانيا ليجد هوسرل وهيدجر ، آرون ليجد فيبر ، ميرلوبونتي ليجد هوسرل ، لوكاتش ، وفيبر ، بينما اكتشف ليفي شتراوس أنثروبولوجيا أمريكا الشمالية .وفي فرنسا نفسها كان فرويد ، علم نفس الجشطالت وتفسير إنساني لهيجل وماركس يقدم آنذاك . ومع ذلك لم يأخذ هذا الجيل حلولاً جاهزة من الخارج . لقد كانوا ، بعد كل شئ ، ورثة التقليد الفلسفى الفرنسي الذى قدم نقطة إنطلاقهم الأولــى . وهكذا نجد حلولاً جديدة تـقدم ، حلولاً، خاصة في حالة سارتر وليفي شتراوس،تحتفظ بنواة ميتافيزيقية قوية وروابط مع التقليد الفلسفي الذى رفضه كلاهما .
ولم يكن التوجه نحو الفرد التجريبي غير إشكالي على النحو الذى قد يبدو به . وبينما تمثل فكرة الفرد التجريبي صورة جدالية تحارب بها ميتافيزيقا فات أوانها ، فإن الشئ الحقيقي يصعب النيل منه بالأحرى ، ما هو ، بعد كل شئ ، الفرد التجريبي . المدعم بكل المفاهيم المسبقة ؟ الفرد الديكارتي مختلف تماماً عن الفرد في النفعية الإنجليزية أو الفرد في السلوكية الأمريكية أو الفرد الكانطي .
وبالرغم من أن كلا من سارتر وليفي شتراوس يحاولان أن يتجاوزا مثل هذه المفترضات الميتافيزيقية ليجدا الفرد الإنسانـي الخالص المنغمس في واقع الحياة اليومية فإن الفرد الذى أتيا بــه ليس في غاية العيانية بعد كل شئ . يوجد الإنسان بالنسبة لسارتر في إختزال جذرى ظاهرياتي حيث تستبعد كل المفاهيم المسبقة ، وتلغي كل التجريدات ، ويوجد الفرد الإنساني الحقيقي ، حراً وغير مقيد ، في الطابع المباشر للوجود الخالص . وبالنسبة لليفي شتراوس ، على النقيض من ذلك ، فإن مقاربة سارتر للفرد مـن خلال الإستبطان يمكن أن تنتج فقط ميتافيزيقا أخرى هى بالأحرى مبتذلة . لانه بالنسبة إلى ليفي شتراوس العلم وحده هو الذى يمكن أن يكشف الفرد الإنساني الحقيقي ، عبر مقاربة موضوعية خالصة للأفراد في المجتمع ترفض على حد سواء كل التجريدات ماوراء الإنسانية وإنما التى تجد الفرد في الدراسة الموضوعية لتنويعات الوجود الإنساني .
لم يكن الإهتمام في الحالتين بالأفراد حقا كما يعيشون حياتهم اليومية ، لأن كليهما يبحث عن إيجاد نقد لتفاهة وأوهام الحياة اليومية . يبحث كلاهما عن نظرية أخلاقية بمقدورها أن تقدم نظرية عن حقيقة للإنسانية يمكن بها قياس تصورات الحياة اليومية . وهكذا يبحث كلاهما عن المعنى الأساسي للوجود الإنساني بقدر أكبر من واقعه الأرضي ، وهذا هو مايحدد مفاهيمهما الخاصة عن الفرد ، المفاهيم التى تسبق في كل حالة الواقع المضلل لتجربة الحياة اليومية . وهكذا فإن كلا من سارتر وليفي شتراوس يبحث عن واقع إنساني متميز في نظرية ميتافيزيقية جديدة عن الإنسانية .
وفى هذا الصدد يبقي سارتر وليفي شتراوس على نحو أكثر حسما ضمن التقليد الفلسفي الفرنسي ، أكثر من ، على سبيل المثال ، آرون وميرلوبونتي ، اللذين كانت إهتماماتهما أقل أخلاقية . وقد إنعكس هذا في حقيقة أنه لا سارتر ولا ليفي شتراوس يحدثان مثل هذه القطيعة الجذرية مع التقاليد التى رفضاها أكثر مما يبدو للوهلة الأولى ، ويبقى برجسون بالنسبة لكليهما مصدراً مرجعياً أساسياً ، وإن كان ذلك ضمنياً دائماً .
إن سارتر يتبنى الإطار البرجسوني كلية ، ويحتفظ بنقطة الإنطلاق البرجسونية في الإدراك المباشر للتجربة كإدراك لصيرورة كلية غير مقيدة ، مستعملاً هذا الإدراك كأساس لنقد الدعاوى الإطلاقية للعقل التحليلي . وتتمثل قطيعة سارتر مع برجسون فـي مفهوم التجربة بإعتبارها تجربـة الإشتراك في كل يتعالى على وجود الفرد . فبالنسبة لسارتر ليس هناك شئ وراء وجود الفرد ، ولاحقائق يمكن أن توجد في نطاق أعلى للروح . وهكذا ، فإن فلسفة سارتر ، إذا شخصناها بفجاجـة ، تسعى لتأسيـس الفلسفة البرجسونيـة على أسـاس دقيق بإلغاء التعالــى الصوفــي للوثبة الحيوية ، وبالعثور على المعنى في الوجود حصراً .
ويمكن أن ينظر إلى ليفي شتراوس في هذا السياق بإعتباره يقدم نقداً أكثر جذرية لبرجسون ، وإن كان بصفة أساسية دوركايمياً ووضعياً .وعند ليفي شتراوس يكون فقط العقل والذهن اللذين يمكن أن يقدما لنا مدخلاً لأى شئ جدير بأن يسمى حقيقة . إن " الوقائع " العاطفية والجمالية للتجربة المباشرة هي ببساطة صوفية ، أحاسيس غامضة ومضللة ليس لها وضع موضوعى . وهكذا فإن ليفي شتراوس يعكس العلاقة البرجسونية بين العقل والتجربة ليجد حقيقة الإنسانية فى ظهور الذهن ، والمعنى الحقيقي للوجود الإنساني في خضوع العاطفة للعقل . وهذا النقد الدوركايمي بصفة أساسية للبرجسونية معدل برفض البعد الميتافيزيقي للمطابقة الدوركايمية بين العقل والذهن ، ومن ثم الحقيقة الإنسانية ، مع الإجتماعي والإنفصال الذى يقدمه هذا بين الفرد وإنسانيته أو إنسانيتها .

يمكن لنا أن نكتشف وراء الإتصال المباشر مع البرجسونية إتصالاً أكثر أساسية مازال في عمل سارتر وليفي شتراوس ، ونراهما بإعتبارهما يعيدان تأكيد تقاليد الفلسفة الفرنسية الكلاسيكية ، بتقديمهما ، من ناحية نقداً ديكارتياً ومن ناحية أخرى نقداً للبرجسونية يستلهم روسو Rousseauean. إن تطوير هذه الفكرة سوف يأخذنا بعيداً عن المهمة التى في أيدينا ، وهي أن نعالج أصالة إسهامات سارتر وشتراوس . وأهم درس يستخلص هو أن سارتر وليفي شتراوس كليهما ينتجان نقداً للميتافيزيقا هو في ذاته من البداية ميتافيزيقي . وهذا في غاية الأهمية لفهم عمل ليفي شتراوس وللتطور اللاحق للبنيوية ، لأنه سوف تكون إحدى حججى الرئيسية في هذا الكتاب أن الميتافيزيقا تسيطر على عمل ليفي شتراوس ، وفي محاولة حفظ النظرية الميتافيزيقية عن الإنسانية فإن الإلهام الإنساني الأساسي يتآكل لأن الفرد التجريبي يخضع لمفهوم الإنسانية .
4 - رد فعل على الأزمة – فلسفة سارتر الوجودية :
كان أفراد الجيل الجديد نقاداً لمجتمعهم وللفلسفة التى كانت بالنسبة لهم قد أعطت هذا المجتمع دعماً إيديولوجياً . كانوا يبحثون عن الأساس العقلي الذى يتأسس عليه معنى وجود الفرد فى عالم لاعقلانى ، نقطة إنطلاق ينتقدون منها مجتمعهم الخاص بإعتباره تشويهاً لعـقلانية وجـود الفرد . وهكذا فقد كانوا مستغرقين في البحث عن أساس عقلاني للوجود الإنساني ، وعن شروط إقامة مجتمع عقلاني . ولم تستطع الفلسفة وعلم الإجتماع أن يمداهما بأية حلول ، وبالفعل فقد كانت الفلسفة وعلم الإجتماع هما المشكلة . قدم علم الإجتماع مجتمعاً تجاوز الفرد بإعتباره معيار العقلانية ، وقدمت الفلسفة خضوعاً لعالم ميتافيزيقي للروح . كما لم يستطع علم النفس القائم أن يقدم أية إجابات ، حيث كان مقسماً بين علم نفس حدسي ميتافيزيقي ، وتمثل وضعي من جانب علم النفس لعلم وظائف الأعضاء . ومن ثم فإن علم النفس القائم قد أعاد إنتاج قصور الفلسفة القائمة،كما برهن بوليتزرفي كتابه واسع النفوذ نقد أسس علم النفس(1928) .
لقد أصبحت هناك نظريتان متاحتان في فرنسا خلال العشرينات قدمتا ، بالنسبة للبعض ، حلاً جاهزاً للمشاكل الفلسفية التى واجهوها : الماركسية والتحليل النفسي . فقدمت كل من الماركسية والتحليل النفسي طريقاً لتكامل العقلاني واللاعقلاني في تركيبة واحدة . وقدم كلاهما الوسائل لإعطاء التاريخ معنى جديداً ، لم يكن بجلاء مؤسساً على التقدم المستمر لأحد المبادئ الميتافيزيقية المجردة .
كانت الماركسية ، خاصة في التفسيرات الإنسانية لأعمال ماركس الأولى التى صدرت في فرنسا في أوائل الثلاثينات قد أعادت المعنى للتاريخ بالنظر إلى لا عقلانية التاريخ كتعبير عن استلاب الوجود الإنساني في مجتمع طبقي ، عارضته بإستعادة الجوهر الإنساني ، وخلق مجتمع عقلاني ، عبر تحويل ثورى . ومن ثم أعتبر التاريخ تناقضياً ، ومع ذلك تقدمياً ، أعطى معنى من خلال اللحظة الإيجابية للديالكتيك حيث يتم تجاوز اللاعقلاني في التطور نحو الهدف النهائي .
أما الفرويدية فهى تستعيد المعنى للوجود الإنساني في عالم لاعقلاني ليس من خلال التاريخ ، وإنما من خلال اللاوعي . فالمفتاح للتشكيلات اللاعقلانية للحياة الواعية الواضحة ، مثل الأساطير العرقية الوهمية ، والصوفية الدينية ، والوطنية القومية العمياء ، يوجد في اللاوعي ، الذى يقدم تفسيراً ونقداً معاً لأوهام الوجود الواعي .
وقد تبنى البعض ماركس أو فرويد بحماس . ولكن كانت هناك حواجز فيما يتعلق بقبول أى من المفكرين حتى بالنسبة للمثقفين الشباب الأكثرراديكالية ، بغض النظر تماماً عن حقيقة أن أعمالهما لم تكن متوفرة على نطاق واسع ، ولامفهومة جيداً في فرنسا ذلك الوقت .
وكان الحزب الشيوعي قبل عام 1934 قد تبنى موقفاً "يسارياً متطرفاً " واصماً كل المنظمات السياسية الأخرى للطبقة العاملة بأنها عميلة للبورجوازية ، أو حتى بإعتبارها فاشية موضوعياً . لقد أعطى هذا جاذبية للماركسية لدى البعض ، إذ عبرت كما حدث عن فلسفة للنفى الشامل ، ولكن حتى هذه الجاذبية أضعفت مع طرد تروتسكى من الإتحاد السوفياتي عام 1929 ، وكان تروتسكى هو الذى جذب السرياليين بصفة خاصة . ومن ثم فلم يحدث قبل عام 1934 ، والعودة إلى سياسة الجبهة الشعبية ، أن أصبح الحزب الشيوعي مقبولاً أكثر بصفة عامة لدى المثقفين .

كما لم تكن الفرويدية أيضاً مقبولة بكاملها ، لأن اعتماد فرويد الأقصى على الآليات الغريزية لتوضيح أعمال اللاوعي تأثرت كثيراً باللاعقلانية التى وقف ضدها الجيل الجديد . لقد بدا اللاوعي الفرويدى لسارتر وكأنه يتذبذب بين آلية وظائف أعضاء ووعي آخر . ( 5 ) وهكذا بالرغم من أن الماركسية والتحليل النفسي قدماً إلهاماً غامضاً وبراقاً ، فقد جرى الإرتباط بهما بالفعل من جانب قلة .
وبالرغم من أن المثقفين الشباب الذين كبروا في نهاية العشرينات ، تشاركوا في رفض عام للفلسفات القائمة والمجتمع الذى عبرت عنه ، فـإن الإختيارات التى تبنوها قـد تباينت إلــى حــد بعيد . فبينما إتجه نيزان نحو الماركسية ليقدم نقداً ثورياً لمجتمعه . إتجه آرون نحو فيبر من أجل نقد ليبرالي . كماعبرت فلسفتا شتراوس وسارتر ، على النقيض من ذلك ، عن رفض أكثر جذرية .
فقد طور كل من سارتر وليفي شتراوس نقداً موجهاً للمجتمع وإلى الفلسفة بذاتها (PER SE) . تضمن هذا النقد بالنسبة لكليهما تبنى الفرد بإعتباره أساساً للمعنى والأخلاقية ، ومن ثم لنقد المجتمع ولإدعاءاته . ولكن هذا الفرد لم يكن فرداً متموضعاً تاريخياً ، يحيا في مجتمع معين ، كما كان الحال بالنسبة لنيزان أو آرون ( أو بصدد هذا الأمر ، لميرلوبونتي ) . المجتمع بالنسبة لسارتر وليفي شتراوس مع البلاغة التى تصاحبة ، مواجه بفرد غير مجتمعي ، وكلاهما يبحثان أساس المجتمع في طبيعة وجود الفرد ، ومن ثم في الفرد التكويني . وعلى ذلك ، فكلاهما يبحثان عن حلول فلسفية ، أكثر منها إجتماعية ، مؤسسة على التقسيم الجذرى للذات والموضوع ، أو لذاته وفى ذاته ، بتمثيل المجتمع في قطب ، ونقده بلغة الفرد في (قطب) آخر .
ويختلف سارتر وليفي شتراوس جوهرياً في مفهومهما عن الفرد ، وهذا الإختلاف يؤسس كلا من تمايز وتكامل فلسفتيهما .وبالنسبة لسارتر فإن الفرد ديكارتي ، بمعنى أنه هو أو هي محددان بنقاء وحرية وعيهما .إنه العقل الواعي الذى يفرض معنى على التجربة . بدمج التجربة في كل ذى معنى . وهذا الوعي متعال ، غير مقيد بأى مطلقات طبيعية أو أخلاقية ، قادر على رفض أى قسر من الطبيعة أو المجتمع.وليست التجربة البرجسونية للحرية والإبداع التجربة الإيجابية لوثبة حيوية خارجية ، إنها الوعي المباشر للذات. فالأنا السارترى من ثم هو ذاتية خالصة غير مقيدة . وبالنسبة لسارتر فإن المجتمع بجهازه الهائل من القيود الأخلاقية ، متمثل في قطب الموضوع ومنتقد من قطب الذات المتعالية .
أما بالنسبة إلى ليفي شتراوس فإن الفرد فرويدى ، وان كان مطهراً من كل اللاعقلانية باختزال اللاوعي إلى محض طاقة متشكلة بنيويا محددة باللاوعي الكوني ، موضوع مطلق منقوش فيه المدى الكامل للإمكانات الإنسانية . اللاوعي هو الأساس الحقيقي للوجود الإنساني والأساس الضروري لأى حياة إنسانيـة إجتماعيـة منتظمـة . الوعـي ، وخاصـة وعـي الذات ، هـو مـن ثم أمر وهمي ، متعارض مع موضوعية اللاوعي بإعتباره ذاتية وهمية عقيمة . إن إدعاءات المجتمع ، التى عبرت عنها أيديولوجيتة الإنسانية السائدة ، جرى تمثلها في الذات كإسقاط للأوهام التافهة لإنسانية خيالية .
عُرضت فلسفة سارتر في الوجود والعدم ، وهو مؤلف أكُمل عام 1942 . وبالرغم من أن سارتر قد عدله لاحقا ، فإن الأساسيات تظل فيه بلا تغيير . ويبقى سارتر في إطار التقليد الديكارتي للفلسفة الفرنسية ، معيداً تفسير الكوجيتو الديكارتي وفق خطوط إقترحها هوسرل . وتتضمن إعادة تفسير هذه رفضاً للفصل الثنائي البرجسوني بين العقل المحكوم بمقولات أبدية ثابته تتكشف بشكل متعاقب في التقدم المستمر للعلم والفلسفة ، والتجربة ، المحكومة بالوثبة الحيوية اللاعقلانية والمراوغة. وهذا الفصل البرجسوني يقترح كبدائل وحيدة ، خضوعاً براجماتياً ، وأن كان لاعقلانياً ، من الفرد لإملاءات العقل ، أو خضوعاً صوفياً ، مساو في لا عقلانيته ، من الفرد للروح الأبدية للإبداع . سعى سارتر لإزالة هذه الثنائية بإعادة إدماج عقل برجسون والتجربة ليس في الروح الأبدية ، وإنما بالأحرى في وجود الفرد .
لقد سعى سارتر إلى أن يستبعد كل مرق التوابل الميتافيزيقية في عودة إلى الواقع الفظ للوجود ، التجربة التى هي تجربة الحرية . تكشف التجربة المباشرة العالم لنا ليس بإعتباره واقعة موضوعية فظة ، وإنما بإعتباره عالمنا ، هدف رغباتنا ، وطموحاتنا ،وأشواقنا. وليست علاقتنا بهذا العالم ، من ثم ، محددة بالعالم ، وإنما بإختيارنا للطريقة التى بها نرتبط بالعالم بإعتبارنا كائنات واعية .

وليست التجربة مفروضة من العالم ، ولا من أى وثبة برجسونية لا عقلانية أو لاوعي فرويدي . لقد خلقت بوعي من جانبنا كجزء من المشروع الذى يحدد كينونتنا في العالم .ولكن أن نعتقد في أمر آخر ، أن نرفض إدراك مسئوليتنا الخاصة عن أعمالنا الخاصة ، هو ببساطة "سوء طوية" . العالم ذاته عبثي وبلا معنى : ان تجربة تعالي الوجود الذاتى هي الأساس الوحيد للمعنى ، ومن ثم الأساس الوحيد للأخلاقية . الواجب الأخلاقي للفرد هو ببساطة أن يؤكد وجوده أو وجودها كفرد إنساني في مواجهة العالم ، أن يـرفض الخضوع لأى حتم خارجي أخلاقي أو طبيعي . لقد تم تقويض كل إستمرارية للمعنى والتاريخ ، ودوام القيم الثقافية . فالحياة بهذة اللحظة والوعى بهذة اللحظة ، غير مقيدين وغير قابلين للتنبؤ .
إن سارتر يقدم فلسفة للتحدى ، فلسفة تضع المجتمع على مبعدة ، رافضاً الإقرار بخضوع الفرد لمجتمع مسود بالنفاق ، وإنعدام الشرف ، والمراوغة . وتصبح العلاقات الإجتماعية صراعاً بين أفراد عراة يحاول كل واحد فيه أن يؤكد حريته أو حريتها الخاصة . وتتضمن الحرية المطلقة للفرد الحرية في أن يعامل الآخر كموضوع ، ولكنها تتضمن أيضاً التزاماً مطلقاً على الفرد ألا يسمح لنفسه أو لنفسها بأن تختزل الى موضوع من قبل الآخر ، وبذلك تصبح العلاقات الإجتماعية صراعاً لإختزال الآخرين إلى موضوعات في عالم المرء الخاص كما تتفادى اختزال نفسه إلى موضوع في عالمهم . ليست الحياة شيئا سوى صراع لأجل الأصالة (الصميمية) ، صراع ضد " سوء الطوية " حيث يتصارع الأفراد بلا توقف الواحد ضد الآخر . ليس هناك مبدأ أخلاقي آخر ، فليس للحياة معنى نهائي ، وفي التحليل الأخير فإنها بلا معنى وعبثية . وإذ لم تكن هناك ركائز عقلانية للدفاع عن مسار واحد للفعل بدلا من مسار آخر ، فإن المسار المتبنى هو في النهاية إعتباطي ، والإلتزام الوحيد هو أن نختار .
لقد أدين المجتمع بإختزاله إلى سراب ، إلى تعبير عن التنازل عن الأصالة (الصميمية) ، عن سوء الطوية الذى يتخلل المجتمع . فليست التقاليد والقيم هي التى تدفع الناس إلى الفعل ، ولكنهم بالأحرى ينسبون مسارات الفعل التى أختاروها بحرية ، ولم يأخذوا على عاتقهم مسئوليتها إلى التقاليد والقيم . ومن ثم فإن هذة التقاليد والقيم بمثابة أسطورة ، ذريعة قد أخترعت لتبرر مالا يبرر . يوجد بالتأكيد الإستغلال والسيطرة ، لكنهما لايجبران الناس على التصرف بطرق معينة ، لأنه حتى المستغل والمسيطر عليه يستمر في أن يكون إنساناً ، له القدرة على أن يقول لا ، وأن يرفض الخضوع للآخر .
وهذه الفلسفة تعطى للتاريخ معنى ، ولكن ذلك المعنى معزو للتاريخ من قبل الفرد الذى يحيا هذا التاريخ ،ولا يوجد وراء الفرد . ليس معنى التاريخ معطى إلى الحاضر بواسطـة الماضى الذى أتى منه ، ولكن بواسطة المستقبل الذى يتوجه نحوه الفرد في خياله أو خيالها . والتاريخ من ثم ليس ، متصلاً وتقدميا ، ولايملك أى معنى مطلق . فمعناه مستنفذ من خلال مجموعة المعاني التى له عند الأفراد المشاركين ، وهذا المعنى غير متصل بصفة أساسية ، لأنه خاضع للشك في كل لحظة من مساره .
كما تقدم فلسفة سارتر الإنسانية الباكرة عقلنة دقيقة ومتماسكة عن وضع المثقف الليبرالي الراديكالي في الثلاثينات ، معبرة عن عزلته عن المجتمع الذى يمكن له أن يدينه ، لا أن يغيره ومقدمة الأساس الذى يمكن عليه أن يواصل حياته منعزلا بإغراق ذاته في خلاصة الشخصي ، معطياً قيمة أخلاقية رفيعة لأكثر الأفعال خلوا من المعنى، لأكثر الاحتجاجات عمقا ، وصولاً لتضحية بالذات لا معنى لها . لقد عبرت وجودية سارتر كفلسفة إنسانية عن مأساة الكثيرين من جيله ، ولكن لهذا السبب بالذات لم تستطع أن تقدم أساساً لفهم المجتمع . إن المجتمع ببساطة هو بمثابة غياب في مخطط سارتر . تعبير عن كل ما لا تكونه الانسانية . إنه ميثاق ضمنى بين الناس لينكروا إنسانيتهم ويعزوا قدراتهم الإنسانية لقوة غريبة عنهم . فالناس تدخل هذا الميثاق بسبب إخفاقاتهم الفردية الأخلاقية ، بسبب المسؤلية الرهيبه التى تمنحها لهم إنسانيتهم والذين هم أضعف من أن يحملوها . والمسألة ليست في فهم المجتمع ، وإنما في الغائه من خلال فعل فردى يتسم بالبطولة الأخلاقية ، وهو ذاته إعتباطي تماماً وبلا دوافع ، الذى ينكر ماهو كائن لصالح ما ينبغى أن يكون .
وبالنسبة للمثقف ذى الموارد المالية المستقلة ، يمكن لهذه النظرة للمجتمع أن تبدو معقولة ، ولكنها تتجاهل الواقع الذى يبدية المجتمع لهؤلاء الذين هم أقل قدره على تخيل أنفسهم كجواهر مفردة ، لهؤلاء الذين يعتمدون على الآخرين ، بطريقة أو بأخرى ، من أجل وجودهم اليومي ، وخاصة لهؤلاء الذين لايستطيعون أن يتحملوا تجاهل وقائع الإستغلال والسيطرة . من الواضح لهؤلاء الناس أن المجتمع هو أكثر من سراب ، أكثر من ذريعة جماعية ، فهو يقيدهم بالفعل وله نسق بالفعل .
أضف إلى ذلك أنه بالنسبة لهؤلاء الناس تكون المقاومة الفردية للمجتمع ، حتى إن دٌعمت بالتحليل النفسي الوجودى ، عقيمة، بينما توجد بالفعل إمكانات للعمل المشترك لتغيير المجتمع .
وقد حاول سارتر في عمله التالى ، أن يوفق بين فلسفته الباكرة ، وخاصة إصراره على الطابع المطلق للحرية الإنسانية، وكثافة التنظيم النقى للمجتمع و إمكانات العمل المشترك الذى يمكن أن يتحدى بفعالية التنظيم القائم للمجتمع . ويعتقد القليل من النقاد أن هذا التوفيق كان ناجحا ، لأن أى إعتراف بقوة العقبة الخارجية أو بصلاحية الخضوع لما هو جمعى يعرض للخطر الحرية المطلقة التى أُسست عليها الفلسفة بكاملها .
5 - رفض ليفي شتراوس للظاهرياتية :
دُرب ليفي شتراوس ، مثله في ذلك مثل سارتر ، كفيلسوف . على أية حال ، لقد مضى أبعد من سارتر في رفضه لفلسفة معلميه الأرثوذكسية ، هاجراً الفلسفة إلى الأنثروبولوجيا ، على أساس أنه يمكن للمرء إستناداً إليها أن يعرف الإنسانية . مع ذلك
" لقد نشأت كــفيلسوف ، ومثل الكثيرين في فرنسا ، أتيت إلى علم الإجتماع والإثنولوجيا من الفلسفة ، وقد وقر في ذهنى أن أجيب على أسئلة فلسفية " . ( 8 )
كان ليفي شتراوس مثل سارتر ، يبحث عن قاعدة يبنى عليها فلسفة عقلانية إنسانية ، ولكنه رفض الظاهرياتية والوجودية معتقداً أن إنغماسهما في مشاكل الفرد منعتهما من إمتلاك أية إمكانية لإكتشاف الحقائق عن الإنسانية .و لم يكن ليفي شتراوس معنياً بالإنغماس في تجربة فرد معين في مجتمع معين وفي زمن معين ، ليعلن بعدئذ نتائج مثل هذا الإنغماس الذاتي كحقائق أبدية .بل كان ليفي شتراوس معنياً بأكثر خصائص الوجود الإنساني عمومية ، تلك التى يعبر عنها في كل مجتمع . لقد بحث عن تلك الملامح المميزة ، " التى لها معنى لدى كل البشر " أكثر من تلك التى تعنى فقط مجتمعاً واحداً ، وقد كانت الأنثروبولوجيا هي التى بإمكانها أن تكشف له ذلك :
" قذفت نفسي في الإثنولوجيا كفيلسوف بالمهنة لأكتشف طبيعة لم تمس بعد بواسطة الإنسان "
" ليست الإثنولوجيا شيئا أقل من مجهود لتفسير الإنسان الكامل بواسطة دراسة كل التجربة الإجتماعية للإنسان .... والهدف هو أن نعزل من جملة العادات ، والإعتقادات والمؤسسات راسبا غالبا ما يكون متناهيا فى الصغر ولكنه يحتوى فى ذاته المعنى المطلق للإنسان " . ( 9 )
وهكذا ، بينما حلل الظاهرياتيون المعنى بالرجوع إلى قصدية الذات ، بحث ليفي شتراوس عن المعنى من خلال تحليل علمي يفسر فيه المعنى الواعي بالرجوع إلى معنى موضوعي ، أكثر أساسية :
" حتى نصل إلى الواقع علينا أولاً أن نرفض التجربة ثم نعيد دمجها لاحقا في تركيبة موضوعية مجردة من أى نزعة عاطفية " . ( 10 )
فإعتراض ليفي شتراوس الأساسي على الوجودية والظاهرياتية هو انهما حلتا مشكلة الفصل الثنائي البرجسوني بين التجربة الذاتية والواقع الموضوعي بإختزال الواقع إلى تجربة ذاتية . وعنده لايمكن للمعرفة أبداً أن تُؤسس على التجربة الذاتية ، ولابد أن يكون لها أساس موضوعي ، ومن ثم فقد سعى ليفي شتراوس إلى أن يحقق تركيبة " موضوعية " من التجربة والواقع .وكان طموحه أن يوفق بين التعارض البرجسوني بين العقلاني واللاعقلاني ، الذهني والعاطفي ، المنطقي وما قبل المنطقي ضمن تركيبة موضوعية أعلى لن يكون أساسها الوعي وإنما اللاوعي .

كما يشير ليفي شتراوس إذ يفسر توجهه العلمي ، إلى كل من التأثير الشخصي والثقافي : تفضيل لنوع من "الواحدية العقلانية "، إهتمام مبكر بالجيولوجيا ، التى تقدم له " أكثر المعاني مهابة " ، للمناظر الطبيعية ،التى تسبق وتهيمن وتشرح بقدر كبير المعانى الأخرى ، وصلة بالماركسية فى صباه ، وهى التى بحثت أيضا عن واقع أعمق تحت مستوى المظاهر . وهذه التأثيرات الباكرة بدورها هيأت ليفي شتراوس لتأثير التحليل النفسي ولونت تفسيره له . وكـل هـذه التأثيرات قـد إجتمعت لتكشف لليفي شتراوس أن :
" يتألف الفهم من إحالة نمط من الواقع إلى آخر ، لأن الواقع الحقيقي ليس أبداً هو الأكثر وضوحاً ، وأن طبيعة الحقيقة قد أشير إليها سلفا بالعناية التى تتخذها لتبقى مراوغة . وبالنسبة لكل الحالات ، تنشأ نفس المشكلة ، مشكلة العلاقة بين الشعور والعقل ، والهدف واحد : تحقيق نوع مــن العقلانية الفائقة ، التى سوف تدمج الأول فـي الثانـى ، دون أن تضحى بأى من خصائصها " . ( 11)
فقد جذب التحليل النفسي على الفور ليفي شتراوس بإعتباره سلاحاً نقدياً . فهو يستعيد المعنى للكائن الإنساني من خلال اللاوعي ، مقدماً ، مثل الجيولوجيا ، نظاماً في عدم الإتساق الظاهر بإرجاع الأخير إلى ملامح أساسية معينة مميزة للكون الفيزيقي أو العقلي ، ومن ثم " مفسراً كل فعل بإعتباره تكشفاً في الزمان لحقائق أبدية معينة " ( 12 ) وهكذا تغلب التحليل النفسي على النقائض السكونية للبرجسونية من خلال كشف معنى أعمق ، معنى اللاوعي ، حيث تندمج كل مظاهر الحياة العقلية في تركيبة مفردة يمكن أن تحيط بكل الوجود الإنساني .
وبالنسبة إلى ليفي شتراوس فإن معرفة الإنسانية ممكنــة ، ليس بسبب إشتراك الإنسانـيـة فــى " حالة التخثر " ( 13 ) البرجسونية الروحية ولابسبب بعض الإشتراك التقمصى أو الحدسي في وعي الآخرين ، وإنما بسبب شمول الطبيعة الإنسانية المعبرعنه في لاوعى الجنس البشرى . وهذا اللاوعي هو من ثم أساس إمكان المعرفة الموضوعية للطبيعة الإنسانية ، فالمقاربة العملية للإنسانية وحدها هي التى يمكن أن تكشف الأساس الحقيقي والموضوعي للوجود الإنساني .
لقد كانت المهمة التى سعى ليفي شتراوس لإنجازها ، هي تحديداً مهمة معاصريه الظاهرياتيين والوجوديين. لقد كانت بمعنى مامهمة محافظة للغاية ، لأن كلا منهم سعى لإعادة تأكيد القيم العقلانية للفلسفة الإنسانية الكلاسكية الفرنسية ، وحفظ مبادئ التنوير في وجه إنقضاض اللاعقلانية . لقد سعوا من ثم لإدماج كل التجربة الإنسانية في تركيبة عقلية متجذرة في عقل الفرد : لإستعادة وحدة العقل والعاطفة ، الذهن والتجربة كأساس للوجود الإنساني .
وهذه التركيبة العقلية هي التى تقدم المعنى الموضوعي الحقيقي الوحيد للوجود الإنساني ، لأن العقل فقط هو القادرعلى تقديم معنى لايعتمد على سلطة الميتافيزيقا . وبينما تنجز الظاهرياتية هذه التركيبة في الوعي ، وتحاول أن تجد أساساً عقلانياً معيناً للوجود الإنساني في التقصي الفلسفي عن الوعي ، ينجز ليفي شتراوس هذه التركيبة في اللاوعي ، ويحاول أن يجد هذا الأساس العقلاني خلال الدراسة العلمية للإنسانية .



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- سلطة الشعب أو - ثورة إدسا - بين التوظيف الليبرالى ومرض الشيخ ...
- الواقع السياسى بين النص القانونى والصراع الطبقى
- السياسة والمضمون الطبقى
- أزمة الثورة ومأزقها
- حزب العمال الشيوعى المصرى - إنتفاضة يناير ( كانون الثانى ) 1 ...
- الماركسية والتفكيكية : الغرب ضد الآخر - بعض الأفكار حول كتاب ...
- من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى - ممهدات وحدود حرب اكتوب ...
- من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى -- ممهدات وحدود حرب أكتو ...
- من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى 1972 -- 1973 - القسم الث ...
- من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى 1971 -- 1973 القسم الأول
- الوثائق التاريخية الأساسية لحزب العمال الشيوعى المصرى - القس ...
- الوثائق التاريخية الأساسية لحزب العمال الشيوعى المصرى -- الق ...
- الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو -- الحواش ...
- الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل ا ...
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل ا ...
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل ا ...
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر -- بيير بورديو -- الفصل ...
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر -- بيير بورديو -- الفصل ...
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو -- الفصل ...


المزيد.....




- ماذا قالت المصادر لـCNN عن كواليس الضربة الإسرائيلية داخل إي ...
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل
- CNN نقلا عن مسؤول أمريكي: إسرائيل لن تهاجم مفاعلات إيران
- إعلان إيراني بشأن المنشآت النووية بعد الهجوم الإسرائيلي
- -تسنيم- تنفي وقوع أي انفجار في أصفهان
- هجوم إسرائيلي على أهداف في العمق الإيراني - لحظة بلحظة
- دوي انفجارات بأصفهان .. إيران تفعل دفاعاتها الجوية وتؤكد -سل ...
- وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجار شمال غرب أصفهان
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل وأنباء عن هجوم بالمسيرات ...
- انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول أمر ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد العليمى - الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلارك - مراجعة ابراهيم فتحى - الفصل الثانى