أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسين يونس - زواج زهرة (الجزء الاول)















المزيد.....



زواج زهرة (الجزء الاول)


محمد حسين يونس

الحوار المتمدن-العدد: 4064 - 2013 / 4 / 16 - 22:56
المحور: الادب والفن
    


سلمت حقائبنا للمسئول عن الميزان اتممت إجراءات السفر .وقفت على بداية السير المتحرك باتجاه صالة انتظار الطائرة – أمسك بيدى باسبورتى الاجنبى وتتعلق بذراعى زوجة بيضاء صفراء الشعر ويحيط بنا عدد من طلابى يضحكون بمرح – اعتقد أنهم – يبالغون فيه .
تفصد العرق غزيراً من جبهتى واضطربت دقات قلبى وبردت أطرافى كما لو كنت عاشقاً مراهقاً يستعد لموعد مع فتاته لأول مرة ، كنت فى طريقى للقاهرة – بعد غياب طال لربع قرن – القاهرة .. وطنى الاصلى .. مسقط رأسى .. مدينتى (انا) التى لم تزاحمها – لدى – أى مدينة أخرى .. مبعث فخرى فى غربتى بحضارتها الممتدة عبر ستة آلاف عاماً .. ملجأ أحلامى حين أصبوا الى حب طازج وبراءة البشر وخصوصية التكوين وصفاء الطبيعة وذكريات الطفولة والصبا ، كان السير يتقدم بنا .. بينما كنت أبحر بالعكس فى ضباب الماضى كالموحل الوجل .. يؤرقنى ما تقذفه لنا وكالات الانباء من أخبار عنها وتتنازعنى عواطفى وافكارى .. احاول السيطرة على مشاعرى والتغلب على حزن عميق انبثق فجأة داخلى منذ أن قررنا الزيارة ،لقد كان اقتراحها ( هى ) ان نحتفل بإتمام مرور ربع قرن علي زواجنا تحت الأشعة الفضية لبدر شرقى يطل من فوق قمة الهرم الأكبر .. " سننصب خيمتنا فى الصحراء " .. نشرب الشمبانيا .. وبعد أول كأسين نغيب فى قبلة طويلة نسترجع بها قبلات الغابة السوداء عندما كنا طالبين بالجامعة كانت هذه الفكرة الرومانسية تؤجج من مشاعرها فتطيح بعشرين عاماً من عمرها لترجعها شابة شديدة الحماس .. دائمة الحركة .. مرهفة الحس .. ثرثارة .كانت لا تمل الحديث عن مغامرتها المرتقبة حتى اصبح أحد واجباتى اليومية لأيام وليالى أن أجلس أمامها تستجوبنى كى تحدد بدقة .. الاماكن التى سنزورها وما يناسب هذه الاماكن من ملابس واكسسوارات – كى تبدو محتشمة فلا تستفز أهلى -.. وما يمكننا آكله من الاطعمة الشعبية بحيث لا تمثل وجبات الطعام عبئاً على ميزانية الرحلة .. وأذواق أقاربى وأصدقائى وعاداتهم كى نشترى لكل منهم هدية رمزية تلقى قبوله ،كانت حريصة على أن نمضى أجازة ممتعة نستعذب كل لحظة فيها لذلك اتخذت قراراً – من جانب واحد – بوقف جميع المناقشات الطويلة التى اعتدنا على إدارتها حول أمور حياتنا المختلفة لأتمتع أثناء تواجدى فى بلدى بمزايا الرجل الشرقى الآمر الناهى .. بل لقد تعلمت بعض الكلمات العربية الودودة وبعض النكات والقفشات – لا اريد ان أقول أنها تدربت عدة مرات على الرقص الشرقى – لتبدو مرحة خفيفة الظل .. فتكسب رضا اسرتى ،كانت مجنونة بالفكرة .. حتى أنها استطاعت أن تنقل حماسها هذا لعدد – لا بأس به – من طلابى وتقنعهم بمدى الفائدة التى سيجنونها من مصاحبتهم إياى حيث سيتعرفون – عملياً – على ما أدرسه لهم فى الجامعة . وبذلك .. أصبح بوسعها ان تتفق مع شركة طيران فتؤجر منها طائرة خاصة " شارتر" توفر بها نصف تكاليف تذاكر السفر .. وأن تستغل الكم الهائل من المعلومات المتاحة فى بلدها عن كل صغيرة أو كبيرة فى العالم لتتصل بعدد كبير من الفنادق والمطاعم وشركات النقل والسياحة لتحصل منها على أفضل العروض والاسعار .. ثم ..وضعت خطوطاً أساسية لبرنامج الرحلة – الأنشطة والتكاليف – وأرفقت به خريطة توضيحية وعدداً من البرقيات والفاكسات المتبادلة وناقشت كل هذا مع المشتركين لتوفق بين الرغبات المختلفة حتى لا تترك شيئاً ولو طفيفاً للصدف ،وهكذا غداً فى يدها برنامج تفصيلى يرضى جميع الاطراف .. لقد كانت تريد لرحلتها ان تحقق أكثر من هدف .. وبأقل التكاليف فقامت بعمل توازنات غريبة ليذهب كل قرش فى مكانه جالباً بدلاً منه متعة لكل لحظة . ثم دبرت نصيبنا من النفقات – دون أن ترهق ميزانيتنا- من خلال حصيلة تخفيضات الضرائب التى خصصتها الحكومة لتشجيع السياحة الخارجية ومن منحة الجامعة للرحلات العلمية بالاضافة لما كانت مخططة أن تنفقه فعلاً لو لم تسافر ،يالهؤلاء الأوربيون .. إنهم لا يعيشون حياتهم إنما يمثلونها طبقاً لسيناريوهات مسبقة كما لو كانوا فى مواجهة دائمة لكاميرات الفيديو .. لقد أصبحوا كأجهزة الكمبيوتر المركب عليها برنامج " للمسار الحرج " يحسبون عن طريقه كل شىء ويفاضلون بين عدد ضخم من المرادفات قبل اتخاذ القرار ، أما أنا .. فبالرغم من أننى غادرت الوطن صغيراً – كنت لم أتجاوز العشرين إلا بسنوات قليلة – إلا اننى كنت مريضاً – مثل باقى عشيرتى – بشرقيتى .. نضنى القلب بالاحلام والآمال التى نعجز عن تحقيقها فنترك الأيام تمضى بنا تتحرك ببطء .. تعدل من ملامحنا ورؤانا وافكارنا وفى بعض الأحيان من هويتنا ونحن مستغرقون داخل دوامة الصراع نجاهد كى ننجو – فقط – من مخاطر اليوم . أو نستنفذ طاقتنا فى تأمل حلم بغد أفضل قد لا يأتى أبداً فنستسلم لعبث واقع غريب يجعلنا ندمر لحظات عمرنا المحدود تدميراً حتى تأتى لحظة الحساب عندما يطل علينا الماضى من بين غلالات الضباب يسأل ماذا حققنا من أحلام وآمال الصبا والشباب فنندهش لما أصبحنا عليه كما لوكانت التغييرات التى حدثت فينا وحولنا قد تمت فجأة ولم نعشها لحظة بلحظة .
امسكت بيدى لتتوفى النقلة بين السير المتحرك والارض الثابتة . كان كفى ينضح عرقا.. فضغطت عليه ثم قالت : أخيراً ستأخذنا الى عالمك ،كم حدثتها عن هذا العالم .. ونحن نتحرك لساعات فى مماشى حدائق الجامعة أو بين أشجار الغابة السوداء .. أو أثناء تجهيزى لرسالة الدكتوراه .. أو ونحن متمددان على سريرنا بعد ارتواء .. كنت أقص عليها تفاصيل التفاصيل .. منزلنا ذو الحجرات الخمس الكبيرة والاسقف المرتفعة والابواب والشبابيك الرشيقة المزخرفة والصالة الواسعة المربعة التى تتوسطه ، والتى كنا نلعب فيها الكرة عندما تخرج والدتى وتتركنا منفردين فنكسر زجاج " الشراعات " .. و" الفراندة " الممتدة خارج واجهة المنزل ، تطل على شارعين ضيقين مزروع على جانبيهما أشجار لها زهور حمراء وصفراء تظهر مع الربيع والصيف ، وترطب الهواء فنجلس فيها لليالى طويلة نستمتع بالنسمات الرقيقة ونتناول على ضوء بدر واضح تماماً فى سماء تكتظ بالنجوم اللامعة البطيخ الأحمر " المرمل" والجبنة البيضاء المخلوطة بلسعة فلفل والعيش البلدى الشهى "المفقع" أو "المحمص" ، ونستمع من خلال راديو ضخم لا يعمل إلا إذا ضربته أختى " بالشبشب " الى غناء " الست"،كانت تعرف تفاصيل تفاصيل هذا العالم .. وكيف لا تعرف وقد كنت أجد دائماً فى كل مكان ما يذكرنى به،فى فيينا .. وقفت أتأمل بحنان أعمدة الاضاءة الكلاسيكية المصبوبة من حديد زهر مزركش – والتى يعلوها فوانيس زجاجية ضخمة على هيئة هرم مقلوب مغلفة بالحديد المشغول .. والتى كانت مثيلاتها تعمل فى بلدى بالغاز .. ويمر "عفريت الليل " ليشعلها مساء .. فتضفى على المنطقة جواً شاعرياً رقيقاً مازالت شوارع فيينا تحتفظ به ،وفى روما .. صممت على ركوب الترام الابيض الذى يحاكى أخاه المار فى الشارع الكبير المتفرع منه شارعنا .. والمؤدى للميدان الدائرى الواسع الذى يتوسطه قصر من عصر الركوكو بنى فى بداية القرن التاسع عشر ويعتبر تحفه معمارية نادرة فريدة بواجهته التى تمتلىء بتماثيل صغيره لملائكة مجنحة ونقوش مرعبة .. والذى كانت تسكنه "الخواجاية " العجوز وتحميه بكلاب ضخمة تعقر كل من يقترب من اسواره ،وفى أثينا .. حيث شوارع وسط المدينة الضيقة .. حدثتها عن مميزاتها وكيف تكسر اشعة الشمس فترمى ظلالاً واسعه تمنح المكان رطوبة محببة خصوصاً فى شهور صيف بلدنا الحارة ،وفى باريس .. استدعى حواة وموسيقى سان ميشيل ذكريات حاوى حينا وفرقة موسيقى " حسب الله " . وزفة الذبيحة عندما كانوا يسوقون الماشية وينادى المنادى مشيراً إليها " من ده بكره" فيرد المجتمعون حوله " بقرشين " ،زوجتى كانت مهووسة بعالمى دائمة السؤال عنه تستفزنى لأزيد من وصفى له .. وكانت فى بعض الاحيان تذكرنى بما بهت منه " الزار" " الندابة " " الذكر " ردح الحوارى " " الملاية اللف " " المنديل أبو قويـة " " القبقاب " .. القرداتى الـذى يجبر قرده على عمل " عجين الفلاحة" و" نوم العازب" " المواويل" الاغانى الشعبية ، السيرة وبائعى الفاكهة والخضروات والجاز والسبرتو واللبن وهم ينادون على بضائعهم بأنغام مميزة .. ومؤذن المسجد جميل الصوت الذى تنساب نغمات أذانه مع الفجر كنسمة ندية تغسل النفوس .. "والعوالم" اللائى يرقصن الغناء ويصببن كل النغمات فى نغمة واحدة رتيبة مميزة ..وعبده "الجعار" الذى اكتسب اسمه بسبب " تجعيره" أثناء مشاكساته الدائمة مع كلبه الاعور الأعرج الذى لا يصادق فى الوجود غيره .. وزهرة "الكمريرة" التى تنازلت لها "الخوجاية " العجوز عن القصر ففتحته لنا لنلعب ونتعلم فى حدائقه وحجراته ونألف نقوشه وتماثيله فلا ترعبنا .. وساكن سطح المنزل المواجه لنا سعدون " المجنون" – الذى كانت لا تمل من سماع نوادره – وكيف حاول يوماً أن يربط بيتنا بحبل ويجره خارج الحى لأننى كنت أسخر منه .. أو كيف كان يتشاجر كل ليلة مع زوجته السمينة ذات الشعر الاحمر المحنى يتبادلان الشتائم – على الملأ – ويكشفان أدق أسرار حجرة النوم عندما يفشل فى إرضائها أو فى الانفاق عليها ،أما ماكانت تعتبره زوجتى فلسفة شرقية خلابة لا تتوفر إلا فى قصص ألف ليلة وليلة وحواديت كليلة ودمنة فقد كان تصرف – هذا السعدون – ليلة وفاة زوجته .. فهو عندما تأكد من رحيلها قسم السطح الى نصفين متساويين بواسطة قطع من قماش " الصواوين " أقام فى نصف منه مأتمه وأحضر قارئاً للقرآن يرتل .. وفى النصف الآخر نصب فرحاً واحضر فرقة موسيقية و "عالمة" .. وظل طول الليل يتنقل بين النصفين يبكى زوجته العزيزة ويعدد فضائلها فى النصف الحزين .. ثم يرقص ويغنى سعيداً لتخلصه منها فى الجانب الآخر .
التف الجمع الصاخب حولها يستفسر عن تفاصيل البرنامج بالرغم من مشاركتهم إياها فى إعداده .. عندما سأل أحدهم عن قصر "زهرة" ابتسمت بمكر طفولى .. ثم نظرت تجاهى وقالت : على البروفيسير أن يجيب ،آه زهرة .. معشوقة صباى .. نموذج الجمال الذى جاء كمزيج من مزايا الاجناس المختلفة التى سكنت حينا .. طويلة .. سمراء خمرية ، ذات شعر اسود كثيف مجعد لامع ، وعينين مشرقتين واسعتين يغمرها حنان بالغ ، وذكاء فطرى معجز ،كانت تعرف ما تمثله زهرة بالنسبة لى .. لقد كانت نوارة حينا التى فاضت ببهائها وعطرها الطبيعى علينا فربطتنا بها عاطفة تشبه الوجد الصوفى الذى يتوحد فيه الانسان بمعشوقه ليصبحا طاقة من نور صاف يضىء الداخل والخارج ويشع فى كل مكان .
ضحكت لاول مرة منذ وصولنا الى المطار، ثم تغلبت على طبيعة المحاضر فبدأت أشرح بإسهاب أسباب اختيارنا لهذا القصر ." هناك أماكن تعتز بها الشعوب لان تاريخها صنع بها .. أكروبول أثينا ، بانثيون روما ، البيت الابيض فى واشنطن ، مجلس العموم البريطانى ، الكرملين الروسى وقلعة الباسيتيل فى باريس .. قصر زهرة بالنسبة لنا يماثل قلعة الباسيتيل للفرنسيين .. فهو الرمز لما يستطيعه الشعب – أى شعب – فى مواجهة الطغيان ". ثم أكملت " لا أدرى بالضبط متى رأيت هذا المكان لأول مرة .. ولكننى تنبهت على الحياه لأجده قابعاً هناك وسط الميدان الواسع الدائرى الذى يتفرع منه ثمانية شوارع فيما يشبه الشمس " الآتونيه" واشعتها .. قصر ضخم تحيطه حديقة مزدهرة يحفها سور حديدى عال خلفه كلاب متوحشة وبشر أكثر توحشاً وشراسة .. وكعادة الشعوب إزاء ما تجهل ، اختلطت الاساطير بالحقائق فيما يخص هذا القصر فقيل أنه بنى مع بداية القرن التاسع عشر ، والبعض كان يقسم بان ساحرة شريرة تسكنه لديها القدرة على مخاطبة كلابها واستعدائها على الغرباء ، والبعض يزيد بأنها تخطف الاطفال فتذبحهم وتستخدم دماءهم فى اقامة حفلات سحر ماجنة يقف لها شعر الرأس ، كذلك كان يقال أن الديك المعدنى الواقف فوق نهاية قضيب حديدى يعلو القبة المخروطية الضخمة يصيح منبها الحراس كلما اقترب غرباء او متطفلون من أسواره .كان للقصر رهبة خاصة جعلت كل من يسير فى الميدان يحرص على تجنب الاقتراب من أسواره حتى تكون تلقائياً حرم واسع حوله لا نتحرك فوقه" ."فى البداية زاد فضولى تجاه القصر فكنت ارنو اليه من بعيد أرقب ما يحدث داخله ولكن عندما كبرت قليلاً ، عرفت أن الساحرة الشريرة التى تسكنه ما هى إلا عجوز أجنبية ، تمثل آخر سلالة العائلة التى امتلكته منذ زمن طويل ، وأنها تتحصن خلف أسواره بعيداً عن أهالى الحى . تحيط نفسها بحرس من الفتوات والبلطجية تجزل لهم العطاء ليحموها ، وتصدر عن طريقهم الخوف والارهاب حولها ، بمرور الوقت لم أعد أهتم بالقصر أو ما يحدث فيه حتى ذلك اليوم الذى خرج سكان حينا عن بكرة أبيهم فالتفوا حول أسواره يملأون كل شبر من الميدان والشوارع المحيطة يصيحون ، يهددون ، يحاولون اقتحامه والفتك بساكنته .. فى ذلك اليوم انكشف المستور وعرفنا الخبايا والاسرار فالعجوز كانت لها شريكة فى امتلاك القصر .. كان لها اخت تقتسم معها الميراث لقد كانت قصة غريبة من المفيد ذكرها لأنها تظهر بوضوح نمطاً من انماط سلوك أباطرة العالم الثالث .""فى يوم ما منذ حوالى نصف قرن – وقد يزيد – انتهى ميراث هذا القصر لأحد أفراد العائلة الاجنبية المالكة له .. وكان هذا الشخص متزوجاً من سيدة من ملته لا تلد له إلا الاناث .. أنجب منها سبع فتيات توفين جميعاً إلا واحدة – هى عجوز القصر الاجنبية – كان الرجل حزيناً لأنه– لن يخلف من بعده ولداً .. ولم يكن يجرؤ على تغيير أو فراق زوجته .. ولكنها هى التى فارقته .. لقد ماتت صغيرة بعد ان أنهكها الحمل والولادة . عندها تفتق ذهنه الشرير عن حيله غريبة .. لقد قرر أن يتزوج النساء سراً بشرط أن من لا تنجب له ولداً يطلقها ويئد ما أنجبته .. وهكذا لم يكن يرضى بالزواج منه إلا أفقر فقيرات حينا على امل أن تستطيع واحدة منهن إنجاب الذكر فيعترف بها وبإبنها وتفوز بالعز والجاه والمجد والسؤدد .. لم يتخل هذا المعتوه أبداً عن شرطه فأطاح بعشر منهن إلا أن آخر زوجاته قدر لها أن تلد فتاه ولا توأد ..فلقد مات قبل ان تولد .. عندما ذهبوا بها لأختها بعد أن بلغت العاشرة لم تذكرها وإن عاملتها معاملة الخدم حتى أنها إمعاناً فى إزلالها جعلت منها خادمتها الشخصية أو كما يحلو لها أن تسميها "الكمريرة" .. كانت الصغيرة – مثلها فى ذلك مثل سندريلا وسنو هوايت – تتمتع برقة مدهشة ودماثة خلق وقدرة على تحمل المكاره مما حبب فيها الجميع ، وكان أخوالها عندما تشتكى يصبرونها ويشجعونها على الاستمرار .. حتى حاولت الحيزبون – اختها – مراودتها عن نفسها .. عندما أبت ورفضت محاولاتها المتكررة أطلقت عليها أحد زبانيتها فاغتصبها ،لجأت السيدة الصغيرة لأقاربها فى الحى الذين هاجوا وماجوا وجمعوا كل القادرين من ابناء الحى مصرين على القصاص .. فخافت العجوز وتنازلت للفتاة عن القصر وهاجرت مكتفية بما تكنزه فى الخارج ،هذه الفتاه المعذبة " زهرة " عندما استقر بها المقام كحاكمة فى قصرها خلصته من الفتوات والكلاب .. وفتحت لنا الابواب فالتففنا حولها نمنحها حباً وأمناً وحماية حقيقية .. وتغيرت حياتنا تغيراً جذرياً .. لقد أصبح القصر ملجأنا نلعب فى حديقته وبين جنبات أروقته وفى حجراته نقطف الثمار بحرية نتعلم ، نسمر ، نمثل ، نتبارى ، نبدع ونتطور تحت رعايتها ،لقد كانت الملاك الحارس لكل منا تهتم بكل ما يخصنا صحتنا ، طعامنا ، ملابسنا ، سلوكنا ، ثقافتنا ، تعليمنا . وكنا نرد لها الجميل نجاحاً وتفوقاً وحباً .. نسرع متلهفين نحمل لها تقارير تقدمنا الدراسى أو جوائز أنشطتنا نقف امامها منتظرين ابتسامتها التى تبدأ من أسفل وجهها ثم تتحرك حول انفها وتزغرد فى النهاية من عينيها لتنفجر فى حماس شديد فتقبل من يواجهها وتقول هذا ما كنت اتوقعه (منكم) ،وهكذا تغيرت البنية التعليمية لأبناء حينا فأصبح منا المهندس والمعلم والطبيب والصيدلى والعالم والاستاذ والمحامى والفنان بعد أن كان هذا حلماً بعيد المنال . إن ما حدث ليلة الهجوم على قصر زهرة – بغض النظر عن عواطفى الشخصية – يمكننا ان نضعه فى نفس المكانة التاريخية للهجوم على الباسيتيل بل هو حدث لا يقل عنه تأثيراً على مقدرات إنسان حينا ،عندما هبطت الطائرة فى مطار القاهرة الدولى ، كان الوقت ليلاً ، فلم نشاهد من أعلى إلا كتلة مظلمة مبرقشة بحبات نور تمتد على مدى البصر .. فصفق طلبتى مرحاً وسعادة .. أو هكذا كان يجب عليهم أن يفعلوا .استقبلنا مندوب شركة السياحة – التى اتفقت معها زوجتى – فجمع جوازات سفرنا وانهى الاجراءات بسرعة .
فى الخارج .. كانوا بانتظارنا .. العائلة بأكملها .. الوالد والوالدة – رغم كبر سنيهما – أخى – الذى أصبح رجلاً ضخماً ذا كرش – وابنه الشاب – الذى يرتدى قميصاً مشجراً وبنطلون جينز وحذاء رياضى – وابنته المحجبة التى ظلت تنظر لنا من بعد بعينى فأر صغير مذعور – وأختى الصغيرة التى لم تتغير ملامحها او شكلها او حتى اسلوب ارتدائها لملابسها منذ أن تركتها .. عندما احتضنتها هاتفاً باسمها قالت ضاحكة : لا ياخالى .. ماما هناك " أهى " !! قالت أختى التى اصبحت سيدة ناضجة : ايه مش عارف زهرة " يا دكتور " ؟ دا انت اللى سميتها .. فملأت الدموع مآقى .. كنا نبكى جميعاً .. حتى زوجتى تأثرت بما تراه فبكت رغم أن هذا لم يكن فى مخططها .
ركب طلابى اتوبيسا ً مخصصاً لهم فى طريقهم للفندق .. وركبت وزوجتى سيارة أخى التى يقودها ابنه ،كم تغيرت المدينة .. شوارع واسعة ذات إضاءة فسفورية لعينة – رغم ندرة الضباب – إعلانات ملونة تخطف بحركة نورها الابصار .. كبارى حديثة تسهل من انسياب المرور .. مساحات من الخضرة متناثرة تظهر وتختفى على ضوء كشافات السيارات التى تتسابق بسرعة رهيبة .قال الفتى محاولا الترحيب بى : إيه رأيك هل تغيرت القاهرة يا عمى ؟ عندما لم ارد اعاد السؤال ولكن بلغة زوجتى ثم اضاف هل كنت تتصورينها هكذا ؟ وبالرغم من ان برنامجها كان يحتم عليها الاندهاش والضحك والمرح إلا أنها ردت بضجر : مثل أى مدينة متروبوليتانية مزدحمة !! ثم أكملت بصوت منخفض : أنا أكره هذا ونظرت لى بتساءل .. فاحتضنتها .
فى المنزل الجديد الذى انتقلت إليه الاسرة – حيث كانوا يشغلون شقتين متجاورتين فى عمارة خرسانية ذات عشرة طوابق – كانت المفاجأة ، لقد انتقلنا بعد طول عناء الى مكان ما فى اوروبا .. غرف ضيقة ذات اسقف منخفضة .. أبواب وشبابيك من الالومنيوم يغطيها حصير معدنى ملون .. ورق حائط منقوش عليه منمنمات هندسية دقيقة .. عفش كثيف كثير التفاصيل .. صور لرسومات اصولها فى باريس وروما .. أجهزة كهربائية عديدة .. تليفزيون ملون له شاشة ضخمة لا يمكن مشاهدتها فى الاماكن الضيقة دون ان تسبب صداعاً.. فيديو ، كاسيت ، كوميبوترات، مسجلات كم هائل من المعدات المصنوعة جميعها بالخارج ، جاءت زوجة اخى المحجبة فرفضت ان تلمس كفى وهى تسلم وظلت تتفحص زوجتى ثم قالت لابنتها : " شوفى الولية القرشانة عاملة فى نفسها ايه " فنهرها زوجها فغضبت واختفت متحصنة بشقتها مقاطعة إيانا حتى يوم الرحيل .
تناولنا العشاء .. جبنات مستوردة لحوم محفوظة أيضاً مستوردة عيش فرنسى بيض إسرائيلى وفى النهاية " نيس كافيه " ،فى منزلنا الجديد لم نجد من كل ما توقعناه إلا حرارة لقاء الأم وترحيبها وعطفها .. لقد انمحت الشخصية المتميزة التى عرفتها لمنزلنا .. وتبخر عالمى .
كانت زوجتى قد خططت أن نمضى هذه الليلة فى احاديث عائلية وكانت تتصور أن شوقهم لى سيؤدى – حتماً- الى الكلام عن إنجازاتى – شهادة الدكتوراه – ولذلك احضرت معها البوم صور هذه المناسبة – المكان المرموق الذى احتله فى الجامعة – احضرت شريط فيديو لحفل تنصيبى أستاذاً للتاريخ الحديث والمصريات وطلابى الذين يحترموننى – جهزت قصص كثيرة لاثبات ذلك بعضها سيكون مفاجأة لى ،وخططت أن تلتصق بى طول السهرة ولا مانع من ان أقبلها عدة مرات أمامهم وهى ستدللنى لتطمئن امى أننى أجد الرعاية الكافية فى الغربة .
ولقد حدث ما توقعت ولكن باختلاف بسيط إذ أن الحديث أخذ منحى آخر لقد تكلموا عن انجازاتهم هم .. البطالة والازمة الاقتصادية – من وجهة نظر ابن أخى – وغلاء الاسعار – كما يراه كل من والدى ووالدتى – ونضوب مصادر الدخل – عند اختى – والديون المتراكمة وأهمية أن تمد لهم الدولة القادرة يد المساعدة بعيداً عن تسلط الاجهزة البيروقراطية – فى رأى أخى – واستبداد الجماعات الدينية وتدهور التعليم والصحة والمرافق والخدمات التى تعانى منها زهرة الصغيرة ،وهكذا بدلاً من ان ينظروا لى – كما خططت زوجتى – على اساس اننى بطل حملت نظراتهم وعباراتهم اتهاماً صريحاً لى بالخيانة .. قالوا مازحين أننى " نفذت بجلدى " من الكابوس وأننى أنعم هناك بينما أتركهم هنا يعانون..أو بالحرف "أخويا هايص وأنا لايص ".
أنا .. أنا استاذ المصريات بأكبر جامعات العالم الذى لا يمل من الحديث عن وطنه .. الحجة الذى يرجع إليه دائما عند الإختلاف " خائن" ،انا . العاشق للقاهرة والذى خصص رسالة الدكتوراه للتعريف بها "هارب بجلده " و "هايص" لقد أخذت عنى عبارة " القاهرة هى التاريخ المجسد للحضارة الانسانية " ومع ذلك يقال عنى خائن وهارب وهايص ولايص . كم تغيروا هم أيضا !! .
عندما احمرت عيونهم وبدأوا فى التثاؤب كنا قد أصبحنا جميعاً محبطين .. هم بعد أن أصيبوا بخيبة الأمل فى القادم البعيد وفى الهدايا الرمزية .. التى انتقتها زوجتى لكل منهم بعناية – خصوصاً ثوب السباحة " البكينى " الذى اختارته لابنه أخى الشابة.. ونحن محبطان لتبدد العالم الذى انتظرنا أن نراه سويا ، فى الغرفة التى اعدوها لنومنا احتضنتنى بقوة لمواساتى او تشجيعى .. فوضعت رأسى بين ثدييها أحاول التوحد معها – فلم يعد لى غيرها زميلة كفاحى ورفيقة حياتى – وسقطت دمعة ساخنة على اللحم الابيض .. فربتت على رأسى ولم نتكلم .
لم تمضى ساعات إلا وانفجر السكون .. عشرات من مكبرات الصوت تزعق بأعلى ما فى قوتها بأذان الفجر .. أصوات قبيحة منفرة فجة تنطق بنغمات نشاز موترة تحملناها بصبر حتى عاد السكون .. فجاءنا من الغرفة المجاورة صوت ترتيل رتيب للقرآن .. ثم وبالتدريج أصبح من الصعب استكمال النوم مع اغانى الصباح والمشاجرات التى يحاول اطرافها ان تكون بصوت منخفض ففزعنا من سريرنا .
على مائدة الافطار قالت امى : لم تناما جيداً .
فقالت زوجتى مجاملة : لأننا غيرنا مكان نومنا .
وقالت زهرة الصغيرة : ما خطة البروفيسير اليوم ؟
فقلت معاتباً : اسمى خالى يا بنت يا شقية .
قالت : ولكنك اليوم ستكون أستاذ علم المصريات العظيم القادم من بلاد العلم والنور وانا طالبة ماجستير متواضعة ترجو أن تتعلم من النبع الفياض .
قلت ضاحكاً : فولة وانقسمت نصين انت وامك وما موضوع رسالة الطالبة المتواضعة ؟ .
قالت بخجل : تطورات " قصر زهرة " عبر نصف قرن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم .
قالت زوجتى : رائع .. فلتكن أول زيارة لنا لقصر زهرة .
فقال أخى : ليه بس " يا خواجات " م هنا أحسن .
انتهت الشوارع الواسعة ..انحرفنا الى شارع ضيق .
قال اخى : هذا هو الشارع الذى كان يمر به الترام .
نظرت لى زوجتى بدهشة .
قلت ضاحكاً :لقد أصبح ضيقاً صغيراً .
قال أخى مازحاً :بل أنت الذى كبرت عليه يادكتور .
أزالوا الترام .. هدموا المنازل التى تنتمى لطراز عصر النهضة لتحل محلها عمارات بشعة ذات ألوان متنافرة و مرتفعة ارتفاعا زاد من الاحساس بضيق الشارع . على الجانبين ورش صغيرة لأصلاح السيارات يصدر عنها ضجة مرعبة هى خليط من أصوات السمكرة وتجريب الشكمانات وصراخ الأسطوات .. روائح عفنة وأطفال فى غاية القذارة يعملون بلا مبالاة فى الدكاكين الضيقة ،توقف أخى عن قيادة سيارته ..ركنها..ثم قال أنه يصعب التوغل بها لأكثر من هذا .. كان الطريق محفوراً.. وملقى بناتج الحفر على جانبيه بإهمال .. ويافطة صغيرة حمراء مكتوب عليها "منطقة عمل نأسف للازعاج ..شركة حسن علام " تحركنا مشياً على الأقدام .. أخى يسبقنا يقفز فوق حجارة مرصوصة وسط مياه المجارى الطافحة ..وأنا خلفه أحاول أن أقلده بجسارة ..ثم زوجتى تعاونها الصغيرة زهرة ،تحول شارعنا إلى حارة صغيرة ترتفع المياه القذرة فيها حتى منسوب السلمة الأولى للمنازل.
قلت ساخرا : تذكرنى بفينيسيا .
قال أخى مستفزا ً:
كنا نلعب هنا سويا....ثم أشار لنفسه ولى.

قالت الصغيرة زهرة : لقد كان هذا الحى من أجمل أحياء القاهرة .وصلنا أسفل منزلنا القديم ..لم أتعرف على المكان ..فلقد تم هدم بيت سعدون المواجه لبيتنا وارتفع مكانه ثلاثة منازل عالية مكتظة بالبشر والغسيل وعشش الدواجن..وأزيلت أعمدة الاضاءة وحل محلها أخرى بلاستيكية رفيعة ذات جلوبات مكسورة .." الفراندة " التى كانت نافرة من واجهة المنزل كسرت فأصبح بيتنا يشبه الوجه الذى أزيل أنفه.. معظم المنازل حل محلها صناديق خرسانية عالية تتنافر ألوانها ،تحلق حولنا أطفـال يرتدون أثمالاً ويخوضون فى الميـاه القذرة بأقدام ويصيحون " خواجات خواجات" .. عندمـا رفعت الكاميرا لتصوير المكان لكزنى أحدهم فى كتفى وقال " نو..نو بيكتشر" فاشتبك معه أخى فى شجار حاد.
أسرعنا نهرب من المكان الكابوس .. عندما وصلنا حيث تركنا السيارة كان هناك مجموعة أخرى من الأطفال تطارد عجوزاً وهى تسبهم وتقذفهم بالطوب وكان هناك قهوجى يلعن الجميع ويسلط عليهم مياهـا خارجـة من خرطوم أسود طويل عندما صاح فيه أخى منبهاً إياه قال : " آسف يا باشوات ..لا مؤاخذة يا خواجات ..صورى "،أحجار العجوز تصيب زجاج عربة أخى ..العجوز تقترب منا أخى ينهرها " كدة برضه يا زهرة حتكسرى القزاز"ثم أكمل " الحق مش عليكى الحق على جنان الخواجات بتوعنا " ،فأسلمت ساقيها للريح هاربة منه .
أكاد أن أتوقف عن التنفس ..لقد زادت طولاً-لا أعرف كيف -،قذرة شعرها منفوش منكوش أبيض و عيناها حمراوان ..تملأ الأخاديد و جنتيها وكفيها والشقوق كعبيها ،كانت " تدعك " عينها و تحك جلد رأسها وتتجشأ بصوت عال فتفوح رائحة البصل و الثوم .قلت برعب :زهرة !! ساكنة ..ولم أكمل جملتى . فقد أومأ أخى برأسه موافقاً.
أمسكت زوجتى بذراعى تهزه وهى تقول "زهرة..زهرة"،ولأول مرة منذ ربع قرن أفقد أعصابى - معها - فأصيح "أيوة ..هى هبابة ".
مرت بجوارنا سيارة مرسيدس بيضاء مسرعة ..خاضت فى المياه الراكدة فتناثرت منها موجة قوية غطتنا بالقذارة ..تبعها ثانية وثالثة تسيران بنفس السرعة فتعرضنا لموجتين أخريين .. ثم رابعة تتهادى خلفها .. كان يجلس داخلها شخص له ملامح معروفة لدى له لحية طويلة بيضاء ..يرتدى ملابس بلدية فاخرة ..حيانا ملوحاً بساعده فصاح أخى وهو ينظف ما علق بملابسه من قاذورات " الله يلعنك يا أخى ويلعن اليوم اللى شفنا و شك فيه"!!.
تحركنا فى اتجاه القصر نتوقى الوقوع فى الحفر أو الخوض فى نتاج الحفر.. هنا أيضا لافتة صغيرة عن الأسف للازعاج ولكن التوقيع لشركة بتروجاس .
كان يحيطه من كل جانب أكشاك خشبية فظة بالاضافة لشادر لحم معلق داخله عشرات من الذبائح التى يغطيها الذباب ,أعلى الشادر لافتة قماش مكتوب عليها
"بشرى لأهالى الحى كيلو البتلو بعشرة جنيه ...تحت رعاية نواب حزبالحرية والعدالة ".المشترون يتحركون بصعوبة كالبهلوانات فوق قطع الحجارة الملقاة وسط طفح المجارى .السور تحطم والأشجار أزيلت و المبنى يتداعى ..التماثيل أصبحت بلا ملامح وأمام البوابة يقف عدد من الفتوات والبلطجية .. يضربون أحد الاشخاص بقسوة .اللافتات القماش التى تملأ فراغ الميدان _والشوارع المحيطة _ بكثافة غير طبيعية تتصارع ..انتخبوا فلان لأ فلان وفلان وفلان ..البقال يذكى والميكانيكى بعد أن استخار اختار ..والقهوجى ورواد مقهاه بربطة المعلم يدعون الله أن يدعم بنصره ابن الدائرة..وإبن الدائرة- هذا - يدعى أنه خير من يمثلهم ... ثلوث بصرى فظيع .. يخالطـه تلوث سمعى أفظع صادر عن الميكروفونات التى تتبارى فى ارتفاع الصوت.. شعائر الصلاة..عبارات التأييد الانتخابية ..دعوة للشراء من محل جديد..ألو ..ألو..ألو واحد اثنين ثلاثة ..أصوات آلات التنبيه ..بيب.. بيب.. بيب .. وجنازة شاب مات فى عز شبابه ..يا " دهوتى ".. يا " لهوى " يا " سايبنا للهم والغم" .. يا " خراب بيتك " يا "خرابى "تضع زوجتى كفيها فوق أذنيها .. ويضحك أخى بصوت عال .. فترتبك زهرة الصغيرة وتنحبس الكلمات فى حلقى .
كان يتحرك مسرعاً – وهو يزوم – يقودنا عبر شوارع وحوارى ضيقة وقذرة مبتعداً عن ميدان " المعركة" .. كما لو كان يهرب من قوى خفية يحاول تجنبها .. وعيناه علينا كما لو كان يحمينا من أشياء مجهولة – يعتقد أننا – لن نستطيع التعامل معها .عندما وصلنا لسيارته هدأ قليلاً .. وعندما خرج بنا الى نهر الطريق الرئيسى خفت علامات التوتر التى كست ملامحه ثم ضحك بسخرية موجهاً الكلام الى زهرة الصغيرة : - كله من وش المصايب دى وشورتها . ثم موجها كلامه لى : لقد حذرتك .
قلت : مما تخاف .. لقد كنت متوتراً جداً ؟
قال منكراً : أنا لا أخاف .. ولكننى أعرف مالا تعرفون !! .
صمتنا جميعاً .. كل منا يتأمل ما بداخله .. وكان اخى دائم الصياح يسب كل من يسبقه أو يجاوره أو يتبعه .. من يسير .. ومن يقف .. سائقى العربات والموتوسيكلات والعجلات .. والسائرين على الاقدام .. حتى عساكر المرور لم يسلموا من شتائمه وسبابه.،قلت : ما هذا ؟ .. ماذا حدث لكم ؟
قال : اللى إيده فى الميه مش زى اللى ايده فى النار .
قلت : أنا كنت اعرف ان الموقف قد ساء وانكم تعانون بعض المتاعب ولكن .. ثم صمت بعد أن أصابنى اليأس .
كنا فى طريقنا الى الفندق الذى ينزل فيه طلبتى .. وكانت زوجتى تراجع برامجها مع زهرة الصغيرة بعد ان عرفت انها خريجة كلية السياحة والفنادق .
عندما قال اخى : لو م كانتش اتجوزته م كانش حصل اللى حصل
قلت : مين اتجوزت مين ؟
قال : زهرة وسعدون انت م تعرفش .
قلت : سعدون مين .. ! المجنون .. ايه اللى لمَ الشامى على المغربى !!
قال : لقد كان من ابناء خئولتها .
التفت لزوجتى قائلاً : شوفى بيقول إيه .. زهرة اتجوزت سعدون .
علقت زهرة الصغيرة : انت ماشفتهوش يا خالى .. م هو اللى كان راكب المرسيدس اللى طرطشت علينا .
قلت مندهشاً : يعنى زهرة لما تختار جوزها تسيب الدنيا دى كلها وتاخذ واحد مجنون .
فقال اخى : إنها واجهت معارضة شديدة من الكبار والصغار ولكنها أصرت عليه . وقالت انه فيلسوف وذكى وغير مفهوم لنا .. وأن حالته التى عرفناه عليها كانت بسبب زوجته السمينة ذات الشعر الأحمر المحنى .. ويكفيه انه أحد أبناء حينا ليكون طيباً وتقياً وانساناً .. فى النهاية رضخنا لارادتها وباركنا الزواج وشاركنا فى الافراح التى دامت لأسابيع وأظهر كل منا أقصى ما يستطيع من سرور وسعادة وحسن نيه .... حتى أننى ومعظم شباب الحى رقصنا فى زفتيهما .. فلقد ارتضت به وهى سعيدة و ما يسعدها لابد وأن يسعدنا إذا كنا نحبها حباً حقيقيا ..قالت زوجتى محاولة أن تجد تبريراً عملياً: قد يكون السبب فى اختيارها له هو شعورها بالانكسار بعد ان اغتصبها فتوات القصر القديم .. فارتضت بهذا الفيلسوف المجنون الذى تغاضى عن عيبها ورغب فى الزواج منها .
قال اخى : " يا ريت لكن اللى حصل عكس هذا تماماً " ثم أكمل بأنهم عندما ذهبوا لتهنئتها حاملين الهدايا والزهور كما يقضى الواجب قابلهم ببرود وشراسة لا يخفيان على طفل غرير .. بعد ذلك حجبها عنهم .. فلم تعد تساعد أياً منهم أو تجاملهم بحضور حفل عيد ميلاد أو نجاح أو زفاف وانقطعت محبوسة فى قصرها .. بل لقد منعهم أيضاً من دخول الحديقة والقصر وكان يقول لهم " انت يا واد انت وهو مش " بلغتم " الواحد منكم زى الشحط وطلعله شنب ودقن ولسه فاكر نفسه عيل عايز " البزة " .وبالتدريج بدأ يحتل البلطجية والفتوات والكلاب الضخمة السابق طردهم حدائق القصر .. ومنعوا من التواجد فى الميدان الكبير كما كان الحال ايام العجوز الخوجاية .
يتبع الجزء الثاني.



#محمد_حسين_يونس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشاعل الدكتور طارق حجي.
- من أقنع الموالي بأنهم أشراف.
- حفيدتي تمردى لتُبدعي.
- البوابة الشرقية جلابة البلاء.
- الارتداد الي أسفل سافلين
- الاحتفال بواسطة اللا إحتفال .
- ماعت، كارما ومفهوم العدالة.
- تهافت القداسة أم استقالة البابا
- التوحد والزهايمر في القمة الاسلامية.
- تلويث الميدان بسلوكيات الاخوان
- د.جمال حمدان وشخصية مصر
- نكبة،نكسة ،وكسة وهزيمة
- كلمات القدرة ولغة الضاد
- ايش تعمل الماشطة في الوش العكر
- هل سنزرع الأفيون في 2013
- وضاع كفاح قرنين..يا مصر.
- تأملات في مفهموم الجمال
- محمد حسين يونس - كاتب وروائي مصري - في حوار مفتوح مع القارئا ...
- يا شباب إسلامهم غيرإسلامنا
- قوانين سيدى مرسي علية السلام .


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسين يونس - زواج زهرة (الجزء الاول)