أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مزمل الباقر - بحر الحاصل















المزيد.....

بحر الحاصل


مزمل الباقر

الحوار المتمدن-العدد: 4064 - 2013 / 4 / 16 - 02:31
المحور: الادب والفن
    


بحر الحاصل




مثل إلتقاء النيلين في المقرن إلتقينا، كنت كالأزرق منفعل ومزعج، كنت كالأبيض وقورة وهادئة. بوجه (بوكيموني) صغير، له لون النسكافيه، حاجباه الأزجان يلتقيان خلسة عند مفترق طرق نحو أنف صغير، تنتبه لجماله من الوهلة الأولى. تشير أرنبته إلى فم صغير تتوارى بعض من شفته العليا أوقات الخجل والضيق. نمش يقبل عظمة الوجنة اليمنى تارة على اليمين وأخرى جهة اليسار وثالثة مفقود!. أقسم إنها المرة الأولى التي أرى فيها نمشاً يمنح الوجه بعداً جمالياَ كما يفعل خالك الذي يتوسد عظمة ترقوتك اليسرى.

كانت فكرة الذهاب إلى عمارة أبو العلا الجديدة – حيث مكاتب صحيفة الأيام – في ذلك النهار الساخن فكرة مجنونة، ولتنفيذها احتاج الأمر إلى رجل مجنون مثلي، وشيئاً من التوسل لإمرأة تسكنها الطيبة مثلك.

ترجلنا عن الحافلة عند مدخل ( مركز الثقافة الإنجيلي)، وكان شارع القصر مطيتنا لمكاتب الصحيفة. أمسكت بيدي طفلة صغيرة تسألني مالاً، قلت لها: ((صاحبتي دي عندها قروش كتيييييرة خلاص)). فأمسكت بطرف بلوزة صاحبتي، وتركتني غير آسفة. لو كنت مكان سيزيف وحملت تلك الصخرة اللعينة على كتفي، لبدأ الأمر أكثر سهولة من انتزاع يد الصبية المتشبتثة ببلوزتك. ليس لقوة أنامل الصبية ولكن استيائك من مزحتي تلك، عزز حزني القديم وعجزت عن انتزاع أنامل الصبية من الوهلة الأولى. ولم يفارق صاحبتي استيائها رغم بوحي لها بحبي ونحن نستقل الحافلة في طريق العودة.

عصر ذلك اليوم وددت لو وقفت بميدان سان جيمس، في منتصف الميدان تماماً، وصحت بعلو حسي:

أنا بدونك لن أكون سوى
غريق
يزداد غرقا كلما زج
الرمال
يزداد ... ضيق
أنا بدونك لكن أكون
سوى
حجراً قميئاً ,, ملقاً
بقارعة .. الطريق

غير أني تريثت لبعض الوقت، أرقب مغفرتك في صباح الغد مستجدياً. و ماغفرت لي البتة. شيئاً فشيئاً ملأت الدبرسة.. الفراغ الذي نجم عن عدم اكتراثك لي. وأمطر القنوط. ففشلت في أن أعيد علاقتي بك لسابق عهدها، رافضاً فكرة الصداقة التي اقترحتيها ذات نهار يائس. وفشلت في اللحاق بمعسكر الخدمة الوطنية، ومن ثم الحصول على عملٍ يجعلني جديراً بك. كما فشلت في ارتياد المحافل الثقافية ومتابعة فعالياتها فالتفكير في مصيري بدونك اقعدني. ولازمني الفشل كظلي تماماً حينما أردت ممارسة هواية التسكع في أزقة المدن الثلاث. وقد شلني حزني على فقد حب إمرأة تسكن بحري.

وتباغتني حلول ذكرى ميلادك في الغد، وما أعددت لها عدتي ولا هداياي، مما زاد بؤسي وضاعف من أحزاني وحسرتي. أحزاني أحزان العطبراويين على مدينتهم كانت .. ثم .. صارت. وكنت .. ثم .. صرت .. وحسرتي عليك حسرة أهل كوستي وأعشاب النيل تتبعهم أينما ثقفوا.

أمدرمان أراها فاتنة في الصباح الباكر، والخرطوم تبدو عند المساء فاتنة. أما بحري فتكون أكثر فتنة ساعة الأصيل.. وأنت – دائماً – تدهش فتنتك ساعات يومي.
( إيه القيافة دي! الليلة انت ماشة علي وين؟)
تجيبيني بسرعةٍ وكأني بك قد توقعت هذا السؤال، فأعددت إجابتك مسبقاً: ( أنا دايماً قيافة؟)
استدرك كما المعتذر: ( أنا عارف! ما الكلام علي الشماعة. بس جد الليلة انت قيافة!).

فتبسمين في امتعاض كإبتسامة زينب، وتردين علي بضحكٍ ساخرٍ كضحك زينب، فيصير الزمان زينب ويصير المكان زينب . والدنيا كلها اسمعها تنادي: زينب زينب زينب زينب ززززز....

وذكراك – ياويحي – أذرع أخطبوط تمسك بخناق أيامي شيئاً شيئاً، فأموت خنقاً وحنقاً أو أكاد. وممارستي للشهيق والزفير أضحت بقدرة قادر تندرج تحت بند الأماني. كل شيء يذكرني بك، الشبابيك القديمة لبيتي تواطأت معك أخشابها واتفقت على تشكيل الحرالأول من اسمك بالإنجليزية. أريد أن أطالع بريدي الإلكتروني فأجدني مرغماً على كتابة تاريخ ميلادك حتى أنفذ إليه. أتحاشى أحياناً قراءة رسائل الأصدقاء فبعضهم يسألونني عنك وآخرون وهم الغالبية تذكرني خطاباتهم بك، رغم أن فيهم من لا يعرفونك ولا تعرفينهم. ويطاردني عطر شعرك الجميل في الطرقات، ويزاحمني في غرف البيت، ويتوسد وسادتي التي تشتهيك مثلي. أغمض عيناي فتصر عيناك أن تبقيهما مفتوحتين بالكامل، وعلى نقطة كثب عيني لا أجدك. فأنا هنا من دونك ولست هناك معك.

أقلب قصاصات كتاباتي ضجراً، لقد صارت مملة مثل أفكاري، مبتورة أبداً، هائمة على وجهها دون هدف. وتطل مسودة مقالتك برأسها من بين أوراقي متحدية.اكيف – بربك – الهروب من ذكرياتك؟ وأنى لي أن أخلفها ورائي وأذهب – هكذا – وقد تقمصتني كما الروح تماماً.

أردت أن اتحدى عقلك بقلبي، وذكراتك المثقوبة بعطر ذكرياتنا الفواحة كيما أملأ ثقوبها. أردت أن اتحدى بحبك فتاة الأحلام التي رسمتها مخيلتي – منذ أيام المراهقة – قبل أن تراك. لقد تمنتك فتاة أمدرمانية ولم تكوني كذلك، أرادتك فارعة القوام ولست كذلك. كانت تريدك محترفة للسياسة، ومارستها من منازلهم!. رغبتك ناشرةً للشعر والقصة، واكتفيت بالمقال الصحفي. ورسمتك مخيلتي إمرأةً هادرة كالسيل، فباغتها برقة النسيم. وليت الرضا أصابك آخر الأمر. لكنك سخرت من فتاة أحلامي تلك، قبل أن تلقيها للنيل جاعلة منها طعاماً لتماسيحه .

تحديت بحبك فارق العمر بيننا، الذي ازعجك كثيراً ولم أحفل به، وإن القى بظلال الخوف القاتمة اللون، على رمل قلبي ناصع البياض. خفت أن يغلب ازعاجك حبي لك، فأجدني مجدداً في الشارع العام، احتسي القهوة وأدخن التبغ على طاولات مقاهي المدن الغريبة، بعد أن سكنت حجرات قلبك في غفلة من ترصد الزمن.

• ( عليك الله ما تزعل مني!!)
• ( أنا ما زعلان منك. أنا زعلان من روحي، عشان حاسي إنها بتتعابط فيك! حاسي إني زي.. ضيف ثقيل الظل!!)
• ( دا شنو الكلام البايخ البتقول فيهو دا؟!)
• ( ما دي الحقيقة!)
• ( لا حقيقة .. ولا حاجة!)
• ( طيب .. شنو؟؟)

تزمين شفتيك الصغيرتين قبل أن تردين في ضيق مكتوم: ( ما عارفة!!) وتمسحين شارع محمد نجيب عبر نافذة الحافلة بنظراتٍ حزينةٍ. أردتك حرزاً من غائلة الدنيا، فاستعديت أركانها الخمس علي مجدداً، ووقفت غير بعيد تنظرين باسمةً. لا أدري عن فرح شامت أم عن مجاملة ساذجةٍ. فيغريني سلك الكهرباء الذي تجرد عن ثيابه على حائط حجرتي وتعرى أمام عيني دون خجلٍ، أن اتحد معه حتى الموت. غير أنني اتراجع قبل كل محاولة ممسكاً بتلابيب حبك، لقد كنا نتقاسم كوب الشاي الأحمر وساندوتش الطعمية بالجبن، لا عن فقر ولكن عن حب. وتحاصرني ذكرياتك فاستعصم، ثم ارضخ مستسلماً بعد أن دكت سحنتي واحتلت مسامي وارخت سدولها على شبابيك عيون الشقية.

كنت تجلسين – ذلك المساء – خلفي، بين النافذة وصديقنا، همت باسمك وسألتك إن كنت مصغية
• ( أآي !! )
• ( إنتي اروع زولة في العالم!!!)
• ( دي منو دي؟!)
• ( إنتي ! )

أجبتك بيأس متحسر، فعقبتي بطول صمتٍ، ثم صمت كل ركاب الحافلة، حتى أدركنا المحطة. وصمت الليل من حولنا، حتى خلته قد نام خارج ردهات المدينة، أو على كتفك. لكن الليل كان يصغي لذاكرتي, وعلى ضوء مصابيح الحافلة، قرأت ما كتب على مؤخرة حافلة أخرى، كانت تسير أمامنا في شارع الحرية. فكدت أقسم أن عبارة: ( أنزف يا جرح مادام علاجك مافي ) المكتوبة في مؤخرة تلك الحافلة، إنما خطها ود حلال تعزية لي.

ترتفع ( دميرة ) حبك في ساعات مدك، فأراك أبدع ما صنع الله، وأتوجك سيدة نساء الدنيا. ويهبط ( محل ) تهاونك في حبي أيام جذرك، فأكتشف ذلك الفراغ الذي يملأ تلافيف دماغك. وأجدك تعيشين في أواخر قرون الدنيا، بعقلية أهل أول الزمان، أيام العصر الطباشيري. فأعجب لإمرأة مخضرمةٍ قدميها تلامس ثمالة القرن الحادي والعشرين، ورأسها يغيب في سلاف عصر إنساني سحيق. تتحدثين وسط رهط الأصدقاء والصديقات، فترقص أذناي طرباً، وتزداد روعتك كثيراً في بؤبؤ عيني، وانت في حديث العالم ببواطن الأمور. وتارة أخرى تجر ذيول الخيبة أذناي، وتبهت روعتك كثيراً في إنسان عيني، وانت في ثوب الجاهل لا ترين سوى رأس جبل جليد الأمر، غير آبه بحيثياته الغارقة في أعماق الحدث. وتعجزي فكري وانت في دين العظام أحياناً، وبسلوك أطفال يسيل لعابهم بلاهة تارة أحياناً أخر.

اتذكرين ذلك الخميس الذي دعاني فيه صديقنا المشترك، لمشاطرته طعام الإفطار، وكنت حينها تجالسينه محتسية الشاي. كان صدري ساعتئذ يغلي على مرجل. فربت على كتفه قائلاً: ( يا محمد أنا بآكل مع الصحبان بس!!). ومضيت عنه محلفاً العبره وقد توهطت حلقه، واندهاشك الذي أفضى بك إلى تفسير الحادثة على محمل الدعابة ليس إلا. وعندما وجدت الأمر على غير ما رغبت، أعدت لي – في صباح السبت التالي – كتبي والهدايا، فعجبت لإمرأة تقامربحبيبها في روليت صديقها، والخسارة مكتوبة على نردها.

أدركت ذلك اليوم أنك مفارقتي لا محاله، وقوافلك قد أزمعت الرحيل دون أوبه. لكنك ما علمت وأنت مفارقتي أنك ستخلفينني جثة بلا روح، لأنك كنت تلك الروح التي تسكنني. وبرحيلك عني ستغادرني كل نساء الأرض


( فاضلة ثواني.. وين تلقاهو .. تاني!!)

صدمتني كثيراً تلك الجملة التي كان ينادي بها – في آخر الليل – ذلك البائع الهرم على بضاعته الكاسدة امام احدى الحوانيت المغلقة بـبرندات السوق العربي. ظننته يجاهرني بحقيقة ما انتهت إليه حكايتي معك . وكنت قد فارقتك لأبد الآبدين .. قبل دقيقتين فقط بمحطة المواصلات التي تتراص الحافلات فيها غير بعيد من ضريح الشيخ أبو جنزير.

احتجت فور سماعي لتلك العبارة أن اضع منديلاً على عيني، بين اللحظة والأخرى علني اخفي بصمات حزني قبل أن تبدو واضحة للسابلة. وما أن اتخذت حيزاً لجسدي المكدود في آخر مقاعد البص الفارغ الذي يعود في أبويته الآخيرة لميدان البوستة حتى افردت المنديل بطول وجهي، وأطلقت لحزني العنان.

مزمل الباقر
أمدرمان في 19 أكتوبر 2001م



#مزمل_الباقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دمعتين
- زئبق
- سؤالين .. ليها
- الرواية عند أحلام مستغانمي .. ذاكرة الجسد وفوضى الحواس نموذج ...
- رحيل
- قصص قصيرة جداً
- عشاء
- كابتشينو
- قطارك فات
- مانفستو
- ايديولوجيا
- شماشية
- دوبيت
- الصورة
- أبو حازم من(الشعبية) إلى (تمبكتو)
- معلومة جديدة
- شريان
- يا فاطمة
- ناسك في محراب الغفوات
- أم در


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مزمل الباقر - بحر الحاصل