أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبدالوهاب حميد رشيد - التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني-ف3















المزيد.....


التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني-ف3


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 4058 - 2013 / 4 / 10 - 15:45
المحور: المجتمع المدني
    


ق2..المجتمع المدني..ف3
الفصل الثالث
المجتمع المدني في الوطن العربي
1- المراش و"غابة الحق" والمجتمع المدني
هناك اتفاق عام على أن النقاش حول الديمقراطية في الوطن العربي يرجع إلى بدء حركة النهضة العربية التي انبثقت منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث تأسست أول جمعية سرية في بيروت (1875).(167) ويعتبر الإصلاحي الاجتماعي عبدالرحمن الكواكبي (1849-1903)- الصحافي والأديب الملقب (أبو الضعفاء) والمولود في حلب- من أوائل من تصدى لمسألة الديمقراطية حين أشار في كتابه( طبائع الاستبداد) إلى أن الحكومة "من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها".(168)
وإذا كان الكواكبي هو أول من نبَّه لقضية الديمقراطية في جانبه السلبي بنفي الاستبداد ومهاجمته، فإن فرنسيس فتح الله مراش (1835- 1874)- المولود في حلب أيضاً- هو أول من تصدى لهذه القضية ولكن في جانبها الإيجابي: نظرته وتصوره لفحوى ومضمون المجتمع المدني والديمقراطية الذي تأمله في الوطن العربي، وذلك في روايته الرائعة "غابة الحق" المنشورة لأِول مرة عام 1865، والتي تُعتبر الرواية العربية الأوُلى المعروفة في العصر الحديث، وصدرت طبعتها الجديدة عن دار المدى بدمشق (2002).(169)
يذكر الدكتور جابر العصفور في تقديمه لهذا الكتاب "أن المراش كان واحداً من العقول الاستثنائية التي حَلُمَتْ بالنهضة العربية وسعت إلى تأسيس الحضور المحدث للمجتمع المدني الذي كان أملاً أكثر منه واقعاً". وينقل عن جمال باروت في كتابه:حركة التنوير العربية في القرن التاسع عشر: حلقة حلب، بِأن المراش "هو أول منور عربي يصوغ نظرية (العقد الاجتماعي) و (الحق الطبيعي) على نحو مترابط، إذ أن هذه الصياغة تكاد تكون غائبة في الميراث التنويري العربي الحديث". ويستمر العصفور نقلاً عن باروت، بِأن أهمية ذلك تبدو في أن المراش "أعاد صياغة أهم نظرية في الثورة الفرنسية وحولها إلى فلسفة سياسية".(170)
تُجسد رواية (غابة الحق) وعي المراش في التبشير بعالم جديد لبناء دولة التمدن وانتصارها السلمي على مملكة التوحش (البنية الاجتماعية التقليدية) في سياق تطور العلم- الفاعل الأعظم لتثقيف العقل.. "ولا نصحو مع المراش من (حلم الحرية) في (غابة الحق) إلا بعد أن تنطبع في أذهاننا تعارضاته الثنائية التي تقابل بين العلم والجهل، التقدم والتخلف، العقل (الأِصالة) والتقليد، التسامح والتعصب، الحرية والعبودية، النظام والفوضى، العدل والظلم، رجل الفكر ورجل السيف، وكلها ثنائيات ينحاز المراش إلى أوائلها... مؤكداً تطلعه صوب الأُفق الواعد الذي خايل الطليعة المستنيرة التي تولت تأسيس فكر مطلع النهضة العربية".(171)
سمو عقل الإنسان وترويض أخلاقه ودعة سجيته يقترن بمحبته للسلام ونفوره من الحرب والخصومات.(172) أما الثقافة "فإن الإنسان المثقف لا يدرك لذة أعظم من تلك اللذات التي يدركها عندما ينشر شراع التعقل لسفينة أفكاره ويطلقها في بحور الموجودات لدى مهب رياح الحوادث".(173) ويوجه نقده إلى مملكة الروح متمثلة في المؤسسة الدينية التقليدية لأِنها: لا تفتر عن بث التصورات الباطلة في عقول الناس لكي تُنهض بذلك تصديقات سخيفة تؤسس عليها أقيسة دعواها بالسياسة المطلقة.. ولم يكتفِ بالتسلط المطلق على الأنفس والأجساد حتى أخذت تمد سلاسل سطوتها إلى أعماق القلوب... ولا يكل أعوانها وأنصارها عن زرع الشقاق والفتن حتى أن أكثر الحروب التي جرت في الدنيا كانت متسببة عن أفعالهم كما قيل.(174) ويُعتبر المراش من أوائل مثقفي عصره، في تأكيده على ضرورة تطبيق منهج الاستقراء والاستنتاج التاريخي بدلاً من منهج القياس القديم المتخلف في التعامل مع قضايا المجتمع.(175)
يقوم التمدن في غابة الحق على خمس دعائم تالية:
الأوُلى: تهذيب السياسة- إن صون نظام العالم الإنساني لا يتحقق إلا بحسن سياسته. وهذا يتطلب بدوره توطيد الحق وتمهيد أسباب الراحة للهيأة الاجتماعية، وهما محوران رئيسان لتوطيد مدار السياسة العامة. وحتى يبقى هذا الأساس وطيداً، وجب توفر جملة شروط:(1) تربية حسنة وصالحة لمن يتعاطى السياسة.. (2) حالة الاستواء، فالسياسة الصحية تتطلب أن يكون مجرى شرائعها متساوياً على كل أبنائها بدون أدنى تميز.. (3) حالة المطابقة، وتعني علاقة ترابطية بين السياسة وبين الحاجة الاجتماعية.. (4) حالة المصلحة العامة، بالنظر إليها وتواصل السهر عليها. وهذا يقوم على خمسة أركان: تمهيد سبل العلوم، تسهيل طرائق التجارة، تقوية وسائط الصناعة والأشغال, مساعدة الزراعة والفلاحة، وقطع أسباب التعدي.(176)
الثانية: تثقيف الإنسان لعقله بالدراسة والتعليم في مجال العلوم والثقافة والمعارف تمكنه من الظفر بكل الصفات النقية وتبعده عن كل ما يشين جوهره الإنساني. "فبالإجمال نقول إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل، والمروض الأكبر جِماحَ الطبائع, والسبب الأهم لتشييد التمدن والعمار، إذ أنه يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية فلا يعود هاذياً بخزعبلات الأمور... فبدون تثقيف العقل إذن لا يتصف الإنسان إلا بصفة البهائم التي لا عقل لها...".(177)
الثالثة: تحسين العوائد والأخلاق- حاجة المجتمع السائر على طريق التمدن بذل الكثير من الاعتناء في تحسين عاداته وأخلاقه. تحسين العادات والأخلاق الشخصية منذ الصِغَرْ "فلا يوجد لتحسين العادات والأخلاق الشخصية أهم من إخضاع الاستعداد الإنساني منذ نعومة الأظفار إلى التطبع بالطبائع الحسنة والتخلق بالأخلاق الجيدة... (وأن) يكون الشخص... حسن الصفات كالاناسة واللطافة وعزة النفس...".. عادة التعاون وانتشار الأعمال الخيرية.. نبذ القيم والعادات القديمة المتخلفة كما في حفلات الزواج الصاخبة والمكلفة، واعتناق الخرافات ولأكاذيب والأباطيل وإشاعتها، والمعاملة المذلةَّ للمرأة "وهيهات أن يُحسبوا متمدنين كل أولئك الذين يشترعون إذلال النساء وتحقيرهن وإهانتهن وضربهن..." .(178)
الرابعة: صحة المدينة، وهي دليل على مدى تمدن أو توحش أهلها. وتتطلب: النظافة على مستوى الفرد والمنزل والسوق والطرقات، تلافياً للانبعاثات الفاسدة للأقذار والأوخام والأمراض. "وأننا إذا نظرنا إلى العمل البديهي الذي تصنعه الحيوانات بتنظيف ذواتها كان لنا منها أفضل معلم على ضرر القذارة ووجوب النظافة".(179)
الخامسة: المحبة- وهي ناموس ضبط النظام العام للخليقة. فهي التي تجمع أشتات البشر إلى هيئة واحدة متعاضدة. لقد "عَظُمَت دعوى المحبة لأِنها جعلت لنفسها ربط العالم بِأسره.. بالمحبة يحافظ الكل على أجزائه، وبدونها لا يمكن أداء النظام الاجتماعي لواجباته. فالمحبة هي القوة الوحيدة للتأليف بين الناس على وجه البسيطة، والضابط الأول لنظام عالم التمدن، "فلا يُخطئ من يُسمي المحبة إلهة الهيئة الاجتماعية...". بالمحبة تنبت شجرة السلام وتتبدد ظلمة الحقد، وينتشر أثير الصفح ويسطع ضياء الرضاء. بالمحبة تُدَك الجفاء وتتمهد سهول الوفاء. بالمحبة يفتر ثغر الابتسام ويضحك مُحَيّا الندى، ويفرع غرس التمني، ويثمر غرس الرجاء. "بالمحبة ينهد عرش العبودية وترفع الحرية أعلامها".(180)
2- إشكاليات المجتمع المدني في البلاد العربية
منذ نشوء الدولة الوطنية في البلدان العربية، تأثرت العملية السياسية والصراعات الاجتماعية فيها بمجموعتين من العوامل التي رافقتها: أولاهما خارجية دولية ارتبطت بتوجهات الدول الغربية المحتلة بناء أنظمة سياسية أهلية مركزية "موالية" مع بروز سلطة تنفيذية طاغية محتكرة للقوة ومتحالفة مع العسكر على حساب الحريات والديمقراطية. وبغض النظر عن مزاعم هذه الأنظمة وادعاءاتها التبريرية الليبرالية و/ أو الدينية، فهي كانت موجهة لمراقبة الناس لا لمراقبتها.. وثانيتهما داخلية بيئية رسمت أسلوب الكفاح في مرحلة التحرير والصراعات السياسية في المراحل التالية على أساس ممارسة العنف.(181)
وإذا قبلنا أن الديمقراطية ليست عسلاً جاهزاً بل جهود نوعية متواصلة على طريق: الحريات والحقوق المدنية، التعددية، المشاركة، التوفيق بين المصالح الخاصة من أجل الصالح العام بالطرق السلمية، تمكين الناس مراقبة ومحاسبة الحكومة.. عندئذ تظهر مهام إضافية تواجه الثقافة العربية المعاصرة، على الأقل، في مسألتين: أولاهما مواكبة تطور الفكر والمعرفة بمعناها الحضاري باتجاه استيعابها وهضمها وتمثيلها دون الاقتصار عند الاستهلاك المباشر والنقل والتكرار.. وثانيتهما تطوير ثقافة عربية إنسانية حضارية عصرية تقوم على أسس العلمانية، تتغذى على إيجابيات الإرث التاريخي والثقافة الحضارية المعاصرة، ولكن دون أن تقع في مطب السلفية بالنسبة للأولى أو الاستلاب للخارج (الغرب) في الثانية. مع ضرورة توظيف حصيلتها لتنوير المجتمع بدءاً بالقاعدة بهدف إعادة بناء البيئة الاجتماعية العربية باتجاه العلنية والتعامل السلمي والنسبية والتعددية.(182)
يذكر Imco Brouwer: إذا كانت هناك منطقة واحدة في العالم تتصف بضعف شديد للديمقراطية بحيث من الاستحالة أو الصعوبة البالغة أن تتحول نحو المسيرة الديمقراطية في المستقبل القريب، فإنها تنحصر في العالم العربي. فرغم دخول البشرية في القرن الحادي والعشرين، إلا أنه لا يمكن القول بِأن أياً من الأنظمة الواحد والعشرين الأعضاء في الجامعة العربية يتصف بنظام حكم ديمقراطي أو يتجه نحو التحول الديمقراطي. فقط سبعة بلدان (المغرب، تونس، اليمن، مصر، الأردن، الكويت، لبنان) دخلت تجربة محدودة للتحول الديمقراطي. وحتى الأنظمة الأكثر ليبرالية في هذه المجموعة فإنها أقدمت على شيء من الحرية والمنافسة السياسية لا بسبب قناعتها بالتغيير والتحول الديمقراطي، بل لأِنها استنتجت أن إصلاحاً سياسياً محدوداً هو أقل كلفة من استمرار الأزمة الاجتماعية المضغوطة والقابلة للانفجار. كما أنها غلّفت هذه المنافسة السياسية بالكثير من التزييف والتدخل لصالح احتكار السلطة أو أقامتها وفق أسس طائفية أو عشائرية متخلفة ومتضادة مع عملية التحول. كما أن ظاهرة ضعف الديمقراطية في البلاد العربية تدفع الكثير من المفكرين إلى القناعة بعدم وجود مجتمع مدني هناك أو أنه في أفضل الأحوال ضعيف جداً. ويرون أن الثقافة الإسلامية وسيادة الأنظمة الأوتوقراطية في هذه المنطقة تعمل على منع تنمية المجتمع المدني وأي شيء مشابه لما هو موجود في الغرب.(183)
ففي مصر مثلاً لا تتصف الانتخابات بالحرية والعدل. والحزب الحاكم يضع مختلف العراقيل والقيود والمعوقات أمام أحزاب المعارضة لينفرد بتحقيق فوز مستمر لا يقل عن ثلثي مقاعد البرلمان. وطالما يسود الحزب الحاكم بِأغلبية الثلثين فإن المرشح الوحيد للرئاسة- الذي يؤَكَد بالاستفتاء العام- ينبثق من هذا الحزب نفسه. ولا تعمل المؤسسات وفق الخط الديمقراطي، كما أن واحدة من نتائج الانتخابات غير الحرة التي لا تتصف بالعدل هي أن البرلمان المصري، رغم أنه أقدم برلمان في المنطقة، ذات وزن ضحل.. وهكذا يُغَلّف النظام الاوتوقراطي والأحكام الاستثنائية (العرفية) المستمرة بلباس الديمقراطية الليبرالية العاجزة عن ممارسة مسيرة التحول مهما كانت بطيئة، فتكون الحصيلة أن العملية السياسية تدور حول نفسها في دوامة سياسية تقوم على الاحتكار.(184)
وهكذا تتسم الأنظمة العربية، بعامة، بالسلطوية وتهميش الإرادة الشعبية وتمركز السلطة والاحتكار وضعف شديد في المشاركة وغياب أو ضعف سمات الدولة الحديثة القائمة على مبدأ سيادة القانون والتعددية والانتخابات النزيهة، مقابل استمرار حكم الطوارئ الذي تحول إلى ممارسة ممتدة، بل القاعدة والأصل في ممارسات الأنظمة الحاكمة حتى تلك التي تدعي الديمقراطية الليبرالية. كما أن محاولات الأنظمة العربية، بعامة، من شمولية وتقليدية وليبرالية، التخفيف الظاهري من الحكم الاستبدادي المطلق أو شبه المطلق،سواء عن طريق تطبيق بعض الأسس الدستورية- البرلمانية أو إقامة مجالس شورى أو استشارية, فإنها لم تزحزح الحكم الاستبدادي الفردي- النخبوي، ولم تؤثر هذه المناورات في إضعاف سلطاتها واستمرار مصالح الفئات الحاكمة فوق القانون وفوق الصالح العام.(185) وفي الأنظمة التي تزعم الديمقراطية الليبرالية، فإن يد الحاكم امتدت وتمتد باستمرار لأِية حركة سلمية واعية ترنو إلى الاستفادة من هامش الحركة الضئيل المتاح لتحقيق خطوة إصلاحية حقيقية مهما كانت صغيرة.(186) وهكذا تستمر اللجة والضجة والمراوحة في نفس المكان أو التراجع. وهذه هي النقطة الخطيرة القاتلة في حركة النهضة العربية. عليه، تتسم الأنظمة القائمة في البلاد العربية، سواء كانت دولة المؤسسة العشائرية (القبلية) أو دولة الفرد (النخبة) أو دولة الحزب الواحد أو تختفي وراء ديمقراطية ليبرالية شكلية مزيفة، فهي جميعاً تتصف بغياب الديمقراطية والافتقار إلى منظمات فعالة للمجتمع المدني. بل وفي ظل هذه الأنظمة والأوضاع السياسية تكون منظمات المجتمع المدني هي الذبيحة الأولى والأخيرة، لأِنها البوتقة الحقيقية لبناء مشاركة شعبية مستقلة وخلق قوة فعالة ومؤثرة تُزاحم المؤسسات الاستبدادية (العسكر، الحزب الواحد، القبيلة، الطائفة، الأحزاب المصطنعة).(187)
ترتب بالنتيجة على هذه الأوضاع السياسية المتخلفة، تخلف منظمات المجتمع المدني، فهي مضغوطة بين الإجراءات القانونية والإدارية ومواقف السلطات منها وبين غلبة الأفكار والجماعات التقليدية. كما أن علاقاتها مع السلطة الحكومية بدلاً من أن تقوم على الثقة والتعاون والاستقلال الذاتي، فهي تعاني من ممارسات أجهزة السلطة منذ نشوئها: صعوبة إجراءات التسجيل والإشهار في ظل آلية تشريع موجهة للهيمنة عليها.. قيود شديدة على مواردها المالية.. عقوبات صارمة تواجه أعضاء مجالس إداراتها عند المخالفة (المعارضة).. احتكار السلطة للإعلام والحد من حرية الصحافة.. حريات عامة وحقوق مدنية منقوصة ومشوهة.. وهذه الممارسات عكست آثاراً سلبية على مؤسسات المجتمع المدني، تتقدمها: ضعف المشاركة وانخفاض العضوية الفعالة والنشطة..جمود القيادات وضعف معدلات التغيير في عضوية مجالس الإدارات.. انفراد النخبة في قيادة المنظمة بِإصدار القرارات المحددة لسياساتها وأولوياتها.. وأخيراً ضعف مستوى المشاركة في حضور الجمعية العمومية للمنظمة. تؤكد الدراسات الميدانية عزوف الأعضاء عن حضور الجمعيات العمومية التي تُعقد بِِِأقلَّ من نصابها القانوني بعد تأجيلها أكثر من مرة. وبذلك تتحول هذه الاجتماعات- التي تشكل أهم مشاركة داخل المنظمة- إلى اجتماعات شكلية، مما يُضعف طابعها الديمقراطي وصفتها كمدرسة للتدريب على الممارسة الحضارية وتنشئة القادة الجدد.(188) وبذلك تتخذ هذه المنظمات- الاجتماعية منها والسياسية- نفس قالب الحكومة وتنطبع بنفس قيمها وممارساتها: الفردية، النخبوية، احتكار السلطة، ضعف المشاركة الجماعية، تدني إقبال الجمهور، وبالنتيجة ضعف تأثيرها في الناس.
يُضاف إلى ذلك تعرض هذه المنظمات عادة لضغط المؤسسات الحكومية من أجل استخدامها ووضعها تحت سيطرتها (نقابات العمال). وفي حالات أخرى تُبادر الحكومة إلى إنشاء منظمات مرتبطة بها (اتحاد الفلاحين)، أو احتكار هذه المنظمات من قبل السلطة الحكومية، كما في تأسيس لجان شعبية تشكل امتداداً لنظام الحكم (ليبيا) أو حصر وربط كافة المنظمات بالحزب الحاكم- الحكومة (العراق).
كذلك وفي مواجهة هذه المنظمات تشتد الصعوبات والإجراءات القانونية والإدارية والممارسات الحكومية. ففي مصر مثلاً يتواجد مجتمع مدني نشيط بمنظماته الكثيرة نسبياً، وتلعب فيها المجموعات الإسلامية دوراً هاماً. ويمكن القول أن الأكثرية الغالبة من هذه المنظمات لا تحمل تهديداً لليبرالية القائمة. ففي بعض المناسبات التي سُمِحَ لها بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية (1987) أو لتمارس دورها دون تدخل حكومي في بناء مجتمع مدني فعال، فإنها بقيت ملتزمة بالأنظمة والقوانين النافذة. ومع أن هناك مجموعات إسلامية صغيرة مارست العنف، إلا أن الأكثرية من العناصر الإسلامية المعاصرة عملت بطريقة سلمية ولم تكن تستحق خلطها مع تلك المتطرفة، كما فعلت السلطة، والتي استخدمت كذلك كافة الوسائل المتاحة لديها لتعويق بقية منظمات المجتمع المدني ووضعها تحت سيطرتها، مما خلقت صعوبات جدية أمامها للعمل بفعالية في سياق أهدافها.(189)
تواجه كذلك منظمات المجتمع المدني في البلاد العربية، خاصة تلك التي بدأت التجربة الليبرالية، مشكلات خارجية، كما في المواقف الأمريكية منح المعونات المالية لمنظمات المجتمع المدني خارج العالم الغربي بدعوى تنمية وتطوير هذه المنظمات في البلدان ذات "الأنظمة الموالية". نظراً لأِن هذه المواقف والادعاءات لا تقوم على أسس مبدئية بقدر ما تتصف بالازدواجية من أجل تحقيق أهداف سياستها الخارجية ومصالحها الاقتصادية. وهذه المواقف تؤثر سلبياً على حركة المجتمع المدني في المنطقة العربية عموماً لأِنها تقود إلى خلق شكوك جدية لدى الناس، ليس بِشأن هذه المساعدات، حسب، بل وكذلك تجاه المنظمات المعنية بهذه المساعدات أيضاً، وتعمق من العوامل المؤدية إلى امتناعهم المشاركة.(190) وبالنتيجة بقيت منظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية قليلة نسبياً. إذ لم يتجاوز عددها ألـ 20 ألفاً منتصف الستينات ولم يتعد ألـ 70 ألفاً منتصف الثمانينات، وذلك في ظروف معاناتها من القيود والعوامل المحبطة في ظل سلطات تنفيذية طاغية. من هنا اتجهت في أجزاء هامة منها حصر جهودها في العمل الخيري المرتبط بالوازع الديني.(191)
تزداد إشكالية التحضر صعوبة في ظروف الدولة الريعية القائمة في البلاد العربية بعامة: مجتمع زراعي متخلف عاجز عن خلق فائض وطني مناسب، بل وعاجز عن تحقيق الاكتفاء الذاتي.(192) في حين يمثل هذا القطاع أغلبية سكانية يكرس هيمنة الطابع البدوي الفردي لمجتمع مناقض في فكره ومؤسساته للمجتمع المدني.. وصناعة تحويلية ذات وزن اقتصادي ضئيل تقوم على التبعية للشركات الأم في الدول الصناعية، وكذلك ذات وزن اجتماعي ضعيف وبطيء الحركة في بناء طبقة عمالية واعية لمصالحها الطبقية.. علاوة على علاقات تجارية عربية- عربية لا تشكل 5% من التجارة الإجمالية العربية لصالح التجارة مع العالم الغربي, بخاصة، ومن ثم التبعية العربية للأسواق الرأسمالية.(193) وإلى جانب هذا المجتمع المتخلف بقطاعاته المختلفة العاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي، على الأقل، يتواجد قطاع أولي ريعي تعتمد عليه السلطة الحاكمة في مصروفاتها، بل وتمويل العملية الاقتصادية المجتمعية برمتها. وفي مجتمع غير منتج يتحقق دخل الحكومة من خارج الدورة الاقتصادية (الدخل الريعي) تزداد قوة السلطة ويتعاظم اعتماد الفرد والعملية الاقتصادية على معونات الحكومة. وهذه الظاهرة في صورتها العامة تعني عدم اكتمال مفهوم الدولة والمواطنة، والحصيلة أن الحديث عن قضية التحول الديمقراطي وبناء المجتمع المدني في مفهومه المعاصر يصبح حلماً مستقبلياً وحديثاً ثقافياً يستهدف التوعية.
ربما يكون الوصف الأكثر انطباقاً على الحالة القائمة بخصوص المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي عموما هو المراوحة أو التراجع في ظروف تراجع الأوضاع العربية. ذلك أن منظمات المجتمع المدني واقعة بين مطرقة أنظمة حكومية سلطوية- تَخًرَّجَ رجالاتها من مخاض الشوارع لا من حاضنات ومدارس المفكرين (سعد البزاز، مقدمة كتاب الوردي، في الطبيعة البشرية، ص13).. وبين سندان البيئة الاجتماعية التقليدية بِأعمدتها الأربعة: الوحدانية، المطلقات، الباطنية، العنف.. فتكون الحصيلة قاعدة مدنية تقليدية أيضاً تسودها العقلية والأفكار والممارسات وأكثرية منظمات تقليدية.. هذه المواصفات التي طبعت الفرد والمنظمة الاجتماعية والسياسية وعناصر الحكم، ناهيك عن التعامل المتدني لنصف المجتمع الممثل بالمرأة التي لا زالت تعتبر مواطنة من درجة ثانية في ظروف غياب حقوقها القانونية، كما سبقت الإشارة.
هناك اتفاق عام على أن مهمة بناء المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي هي عملية حضارية ممتدة طويلة الأمد تقترن بالتنمية المجتمعية الشاملة تتقدمها تنمية الإنسان- رأس المال الاجتماعي. لكن المشكلة العويصة والتي تتميز حتى عن محاولات العديد من دول العالم الثالث هي مشكلة المراوحة والتراجع وبالتالي كيفية الخروج من هذه الحلقة المفرغة حيث يدور الجميع داخل دوامتها دون تحقيق قدر من النجاح في شق الطريق المستقيم المتصاعد. وهنا يمكن المخاطرة بالقول أن المشكلة العربية التي تتقدم كافة المشكلات هي سياسية أولاً تتمثل في الاحتكار السياسي, وإذا لم يحصل اتفاق عام على حل هذه المشكلة مبدئياً وعملياً فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل تفعيل بقية الحلول الاجتماعية لدفع عملية التحول وإخراجها من دوامة التيار الدائري والتراجع. وتفسير ذلك ببساطة هو أن الاحتكار السياسي يخلق نظاماً سياسياً منغلقاً على ذاته يتجه نحو تركيز القيم التقليدية الرجعية، مهما كانت ادعاءاته التقدمية.. وهذا ما يُضيف أيضاً عنصراً آخر باتجاه المراوحة والتراجع (الانقلابات العنيفة).
الثقافة العلمية الوطنية لها دور متقدم في تحريك وبناء المواطنة الفعالة الواعية لممارسة العمل الجماعي في إطار منظمات المجتمع المدني، ونشر القيم الحضارية الموجهة لبناء إرادة الإنسان- الجمهور، والتسلح بشجاعة العلنية والتعامل السلمي باتجاه تطوير القيم التقليدية القائمة على الاتكال والغيبية نحو تأكيد ثقة الإنسان بقدرته في بناء نفسه والمساهمة في تقدم مجتمعه. والعمل على تهذيب هذه القيم من شرف وكرامة وما شابه، بما تحملها من معاني تقليدية، لتحمل مفاهيم حضارية جديدة تؤكد قيمة الحرية وحق المشاركة وأمانة العمل في سياق بناء الشخصية الفردية المستقلة بغض النظر عن الجنس.
إن الكفاح من أجل تحرير عقل الإنسان وبناء الفكر الحر بلا حدود ومحرمات وممنوعات ذات أهمية بالغة للتحرك نحو المجتمع الحضاري. وإذا اعتبر التعليم أساسياً في هذه العملية، فهذا يتطلب أن يقوم على أسس علمية تقبل بالتعددية سواء كانت فكرية دنيوية أم دينية. وبناء المواطن القادر على التفكير والتحليل لا مجرد الحفظ والتلقين والتكرار والجمود.. كما أن التعددية لا تقتصر على جانبها السياسي بل والأهم المسألة الثقافية، أي تشجيع عملية التثاقف بين التعددية اللغوية والطائفية وحتى الدينية. عليه ليس هناك ما يبرر مثلاً الاقتصار على تدريس تعاليم دين محدد, أي قيام كل طائفة بتدريس ديانتها فقط، أو فرض ديانة الأغلبية على المدارس، بل المطلوب دراسة دينية تعددية، لأِن الحالة الأولى تزيد الغربة والكراهية والتعصب بين الجماعات الدينية المختلفة، بينما الثانية تشعل شموع المعرفة والتقارب والتفاهم والمحبة والتعاون. ونفس الكلام يُقال عند معرفة وتعارف أهل الطوائف والمذاهب على بعضهم البعض. وإذا كان التعليم الحضاري يتطلب البدء من رياض الأطفال والصفوف الدراسية الأولى في إطار التعليم المستمر مدى الحياة، فهذه الآلية تبقى ناقصة وعاجزة في ظروف استمرار تخلف مربية الأجيال (المرأة) وتخلف التربية العائلية- البيئية. من هنا كان لا بد من التأكيد مرة أخرى على تحرير المرأة قانونياً واجتماعياً وبناء شخصيتها الاقتصادية المستقلة شرطاً محورياً حضارياً وهدفاً نبيلاً وليدخل في عمق مفاهيم الشرف والكرامة والشهامة، إضافة إلى كونها من واجبات وأهداف التحول الديمقراطي والمجتمع المدني. وأخيراً، تبقى هناك مسألة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن الأهداف التي نتبناها لا بد وأن تكون واقعية تستند إلى رغبات الناس وقدراتهم. وهذا ما دفع أكثر من مرة إلى الدعوة لبناء الخريطة الاجتماعية في سياق مشروع حضاري مستقبلي شامل للوطن العربي.(194)



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني-ف2
- التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني
- مليون طفل تأثروا من الألغام في العراق
- التحول الديمقراطي واامجتمع المدني
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-- الفصل السا ...
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-- الفصل السا ...
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة- الفصل الخامس
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة- الفصل الرابع
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-0الفصل الثال ...
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة--ف2/هدر الإم ...
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-
- نموذجكم الديمقراطي في العراق.. مقتل متظاهر غير مُسلّح وتسعة ...
- خمس وعشرون ساعة في بطن الحوت: أروقة الموت الطائفية في سجن ال ...
- نساء العالم.. ساعدن أخواتكن العراقيات
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- تلاستنتاج/ المصطلحات/ المراجع
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السابع عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الحادي عشر
- مأسسة عدم المساواة في أمريكا
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الخامس عشر


المزيد.....




- منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية تؤكد مسئولية المجتمع ال ...
- ارتفاع حصيلة عدد المعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ ...
- العفو الدولية: المقابر الجماعية بغزة تستدعي ضمان الحفاظ على ...
- إسرائيل تشن حربا على وكالة الأونروا
- العفو الدولية: الكشف عن مقابر جماعية في غزة يؤكد الحاجة لمحق ...
- -سين وجيم الجنسانية-.. كتاب يثير ضجة في تونس بسبب أسئلة عن ا ...
- المقررة الأممية لحقوق الإنسان تدعو إلى فرض عقوبات على إسرائي ...
- العفو الدولية: استمرار العنصرية الممنهجة والتمييز الديني بفر ...
- عائلات الأسرى المحتجزين لدى حماس تحتشد أمام مقر القيادة العس ...
- استئجار طائرات وتدريب مرافقين.. بريطانيا تستعد لطرد المهاجري ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبدالوهاب حميد رشيد - التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني-ف3