أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر خدام - الليبرالية وحذلقة المثقفين















المزيد.....


الليبرالية وحذلقة المثقفين


منذر خدام

الحوار المتمدن-العدد: 1166 - 2005 / 4 / 13 - 11:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تشدني الذاكرة، وأنا أراقب، مشهد الحياة السياسية، والثقافية في سورية اليوم، إلى مرحلة أواخر الستينات، وإلى السبعينات من القرن الماضي، حيث كان التمركس جار على قدم وساق في أوساط المثقفين والمشتغلين في الحقل السياسي. ما أشبه اليوم بالبارحة. بالأمس كانت الماركسية هي الحل، واليوم يتنافس حلان: الإسلام هو الحل، والليبرالية هي الحل أيضاَ. والحل يطرح هنا للخروج من مأزق القومية وفكرها، وسياسات أحزابها، واستبدادها..الخ. واللافت أن الكثيرين ممن يدافعون عن الليبرالية اليوم بيقينية عالية، كانوا بالأمس يدافعون عن الماركسية باليقينية ذاتها، وقبله دافعوا بذات اليقين عن الفكر القومي، وعن الفكر الديني، ورأوا في كل منهما الحل. إنه الخواء الذي يحاول أن يمتلئ بكل شيء، يبقيه خواء، فلا يجد أمامه سوى بعض المثقفين المتحذلقين.
مناسبات هذا الكلام ثلاث:
في الأسبوع الماضي دعيت إلى أمسية حوارية في بيت أحد الأصدقاء، وكان موضوع الأمسية يدور حول الليبرالية. لقد تحدث أغلب الحضور، وهو في غالبيته من مشارب يسارية ماركسية، عن الليبرالية بحماس وانفعال وجدانيين عاليين، أراد بذلك أن يعكس درجة عالية من اليقينية بالليبرالية. مع كل الأحاديث الشيقة التي استمتعت بالإنصات إليها، إلا أن الليبرالية بقيت خارج الأمسية. لقد تحدثوا عن كل شيء إلا عن الليبرالية. وعندما تدخلت قائلا أن الليبرالية غير، والحرية غير، والديمقراطية بدورها غير، وكذلك العلمانية غير..الخ. مع ذلك علي أن أعترف بأن القول الجامع فيها، بل قل ما هو فينا من رغبة فيها، قد عبر عنه أحد الحضور، مقاطعاً استرسالي في توضيح ما بدا للحضور ألغازاً أتكلم بها، >. هنا بالضبط مربط الفرس، نريد ما في أوربا، أن يكون عندناً. غير أن أوربا هي غير، ونحن غير، مجيبا محدثي، وقد عدت به إلى دائرة "الألغاز" من جديد.
المناسبة الثانية هي أنني، ومنذ بعض الوقت أحاول رصد ما ينمو على سطح الموات السياسي الراهن في سورية من تنظيمات أو أحزاب " ليبرالية "، مثل حركة الحرية والتضامن الوطني في سورية، وحزب الحداثة والديمقراطية السوري، وحزب النهضة الديمقراطي، والحزب الديمقراطي السوري، وحزب الحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية، وحزب الإصلاح السوري، والتجمع من أجل الديمقراطية والوحدة في سورية،، والتجمع من أجل العدالة والحرية في سورية، وتجمع الليبراليين السوريين، وأخيرا حزب التجمع القومي الموحد لصاحبه السيد رفعت الأسد. ولقد تبين لي من خلال مراجعة بعض برامج هذه الأحزاب، أو بعض بياناتها المعلنة عن تأسيسها، أنها باستثناء الحزب الديمقراطي السوري، ليس فيها ليبرالية زائدة عن أي حزب قومي أو ماركسي، بل حتى عن جماعة الإخوان المسلمين في سورية. ولقد استثنيت، جزئياً، الحزب الديمقراطي السوري، لأنه الوحيد من بينها قد عبر عن موقف واضح لا لبس فيه من الشأن الاقتصادي، يقترب من المواقف الليبرالية، مفاده أنه يريد خصخصة القطاع الحكومي بكامله، ولا يريد أي تدخل حكومي في الشأن الاقتصادي.
المناسبة الثالثة هي كثرة من يدّعون التحدث باسم الليبرالية في أوساط المثقفين، وخصوصا ممن كانوا ينتمون، حتى حين، إلى اليسار الماركسي، ومنهم السيد وائل سواح، الذي نشرت له جريدة الحياة بتاريخ 1.4.2005. مقالة يتحدث فيها عن ضرورة الليبرالية في سورية، محاولاً إثبات ذلك بلغة ماركسية، لا يزال على ما يبدو أمينا "مستقيما" على منهجها.
إذا، ثلاث مناسبات حفزتني للمساهمة في إلقاء الضوء عليها، أي الليبرالية، كنوع من الحوار مع دعاة الليبرالية في سورية، بغرض الكشف عن حقيقتها النظرية والتاريخية، ليصار في خطوة لاحقة إلى البحث في ممكناتها في الواقع السوري.
غير أنني أود منذ البداية أن أزيل وهما لدى بعض مثقفينا الليبراليين يتعلق بدور المثقفين في نقل الوعي الليبرالي إلى الطبقة البرجوازية، بحيث تتحول من طبقة بذاتها إلى طبقة لذاتها، تلك المقولة الشهيرة للينين، والتي لا يزال يقول بها السيد وائل سواح، وربما غيره من المثقفين الماركسيين السابقين، والذين تحولوا إلى العقيدة الليبرالية بصورتها الجديدة. لقد برهنت التجربة التاريخية في البلدان الاشتراكية السابقة، أن نقل الوعي بالاشتراكية إلى الطبقة العاملة لم ينجح، بل انقلبت هذه الطبقة ضد ما كان يسمى بأحزابها، أعني الأحزاب الشيوعية، وساهمت في تغيير أنظمتها. ولا يفيد في نكران ذلك تحميل ما جرى في تلك البلدان، على مشجب التدخلات الخارجية، والمؤامرات الإمبريالية. الوعي بالمصالح الطبقية لا يكون إلا من داخل الطبقات، وهو وعي تاريخي بالضرورة، وإن ما قال به لينين خاطئ بالبرهان التاريخي. ربما من الأصح الانحياز إلى غرامشي في هذه المسألة.
من جهة أخرى ثمة شك كبير لدي في مدى فهم مثقفينا الليبراليين الجدد للعقيدة الليبرالية ولتاريخها الواقعي، وبالتالي أخشى من نقلها غير صحيحة إلى وعي البرجوازية، هذا على افتراض أن وعي الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة بمصالحها، يمكن أن يأتي من الخارج.
يقول السيد وائل سواح في الجملة الأولى من مقالته المشار إليها >، وهو قول يجانب الصواب. الليبرالية هي عقيدة اقتصادية تنتمي إلى السياق التاريخي الأوربي الحديث، وبصفتها هذه فقد هيمنت طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر. تقوم هذه العقيدة على المبادئ التالية:
1- رأس المال هو أساس التمايزات الاجتماعية.
2- إن استقصاء الربح هو الدافع لصياغة العلاقات الاجتماعية، وليس النبالة أو ملكية الأرض.
3- وجود الطبقات الاجتماعية من طبيعة المجتمعات، ولا يمكن إلغاؤها.
4- الفرد كيان مستقل، بصفته مستهلكاً.
5- تعظيم قدرات الفرد على الاختيار، أيضا بصفته مستهلكاً.
6- من خلال تعظيم قدرات الفرد على الاختيار يحقق أكبر المنافع وأفضلها.
7- على الحكومة أن لا تتدخل في الشأن الاقتصادي.
8- شعار الليبرالية المعروف هو << دعه يعمل دعه يمر>>.
وحسب أحد كبار المختصين بالفلسفة السياسية، السيد بول كيلي، فان الليبرالية هي << عقيدة اقتصادية....، فهي لا تؤمن إلا بالسوق الحرة، والمبادرة الفردية، والتنافس الحر..>>.( بول كيلي، الليبرالية، الناشر: بلاك بوبليشير- نيويورك 2004). ويرى السيد كيلي أن الليبرالية الاقتصادية، تتميز بعدد من الميزات ، يذكر منها:
الميزة الأولى أنها تركز على<<حرية الأفراد بالقياس إلى سلطة الدولة>>،فالأفراد حسب رأيه أكثر نجاحا من الدولة في المجال الاقتصادي.
والميزة الثانية من ميزات الليبرالية الاقتصادية فهي <<قبولها التعددية الاجتماعية>>، وتشجيعها عليها باعتبارها ظاهرة طبيعية في المجتمعات.
والميزة الثالثة، أنها تتماشى مع الديمقراطية، وبالتالي فهي تقر بوجود المعارضة، والتناوب على السلطة، ومرجعية الشعب في انتخاب الحكام.
غير أن الليبرالية سرعان ما تم تحويلها إلى عقيدة سياسية وفلسفية من خلال دمجها بالديمقراطية، التي تعود إلى سياق تاريخي مختلف. ومن خلال دمج الديمقراطية بصفتها عقيدة سياسية، بالليبرالية بصفتها عقيدة اقتصادية، أصبح لدى الرأسمالية نوع من الفلسفة الاجتماعية الاقتصادية الشاملة، أخذت تعرف باسم الديمقراطية الليبرالية. لقد أخذت العقيدة الجديدة من الديمقراطية مفهوم <<الحق في الانتخاب>>، ومفهوم <<المساواة>>، ومفهوم<< مرجعية الشعب>>، وأخذت من الليبرالية الاقتصادية مفهوم <<الفردانية الاقتصادية>>، بعد نقلها من الحقل الاقتصادي الاستهلاكي، إلى المجتمع لتأخذ شكل <<فردانية اجتماعية>>، ومفهوم <<حق الاختيار>> ذي الطابع الاقتصادي الاستهلاكي، لتحوله إلى حق الاختيار السياسي، ومفهوم <<التعددية السلعية>> لتحوله إلى << تعددية سياسية>>. من الناحية التاريخية تحقق ذلك، حسب العديد من المصادر، لأول مرة على يد الفيلسوف الإنكليزي جون لوك، الذي كان يشدد على الملكية الخاصة، وعلى الفردية، وعلى ضرورة إبعاد الدين عن السياسة، وعلى تعظيم حرية الاختيار. ومن ثم تحولت الليبرالية على يد الفيلسوف ايمانويل كانت إلى فلسفة سياسية تنادي بالحداثة والحرية والسلام والتنوير. وفيما بعد وبالنظر إلى القرب الاشتقاقي بين لفظة الحرية في اللاتينية( Liberty )، ولفظة الليبرالية (Liberalism)، اعتبرت الليبرالية فلسفة للحرية. واستنادا إلى ذلك جرى تنسيب الكثير من فلاسفة التنوير، أو من الاقتصاديين البارزين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى هذه العقيدة الجديدة. وهكذا فقد أصبح كل من اسبينوزا، وديكارت، وزعماء الإصلاح الديني، وأدم سميث، ومالتوس، وريكاردو، وغيرهم كثير، هذا عداك عن الكثير من الفلاسفة المحدثين مثل الفرنسي ريمون أرون، والأمريكي جون رولس..الخ، فلاسفة واقتصاديين ليبراليين.
وكنوع من التبسيط، يجري تعريف الليبرالية في الغالب الأعم بضدها، أي بالماركسية التي جاءت بمعنى معين كرد عليها. فإذا كانت الماركسية( أي الشيوعية) تدعو إلى: الطبقة الواحدة، والحزب الواحد، والسلطة الواحدة، والإعلام الواحد، والاقتصاد الحكومي المخطط ، ولا تقيم وزنا لدور الفرد، بل للطبقة ..الخ، فإن العقيدة الليبرالية تقر: بتعدد الطبقات، والأحزاب، ومركزية الفرد بصفته فعالية اجتماعية مستقلة، وحرية الإعلام وتعدده، والتناوب على السلطة، وسيادة القطاع الخاص الاقتصادي..الخ، وتعتبرها حقوقا طبيعية.
من الناحية التاريخية، خصوصا بعد أن حسمت البرجوازية في الدول الأوربية موضوع السلطة السياسية خلال القرن التاسع عشر وما بعده، سرعان ما ارتدت على الليبرالية الاقتصادية، وأعادت تكييف الديمقراطية الليبرالية، لأنها ومنذ البداية لم تستطع حل مسألة المساواة، ومسألة العدالة، بل لم تستطع ضبط مسألة المنافسة، مما اقتضى تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، وجرى التنظير لذلك، على الضد من المنطق الليبرالي. في هذا الإطار جاءت الكنزية، والكنزية الجديدة، ويجيء أيضاً الفكر الاقتصادي الراهن بمجمله، الذي لا علاقة له بالليبرالية كما ظهرت تاريخياً. لذلك من الناحية الواقعية، تحولت الليبرالية، والديمقراطية الليبرالية إلى فلسفة النخبة. وبصفتها هذه، أي فلسفة سياسية للقلة، جرت تحت راياتها جميع الصراعات والحروب الإمبريالية، لفتح العالم، أمام رأس المال، ولإعادة توزيعه، منذ القرن التاسع عشر وحتى الوقت الراهن. وحتى أن الديمقراطية لم تصل إلى المستوى الذي هي عليه الآن، باعتبارها شكلا لإدارة علاقات السيطرة، إلا من خلال صيرورة طويلة ومعقدة. ومع أن الديمقراطية التمثيلية، كانت دائما تحتوي على عناصر غير ديمقراطية، تبرز في شكلها التنظيمي، وفي الممارسة العملية، فهي، في ظروف العولمة، تواجه عملية تحول معقدة أيضا، من شكلها التمثيلي، القائم على وجود الأحزاب السياسية وتعددها واختلافها، إلى شكل جديد نسميه الشكل الاستفتائي، الذي سوف يتجاوز التعددية الحزبية بصورتها الراهنة. ( راجع بهذا الخصوص كتابنا: أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة، من إصدارات وزارة الثقافة السورية).
وكما هو الحال في جميع النظريات والعقائد الكبرى، فإن الليبرالية قد لعبت دورا تقدميا في التاريخ، خصوصا لجهة هزيمة النظام الإقطاعي في أوربا، وتحييد الكنيسة عن الحياة السياسية. ولعبت الديمقراطية الليبرالية، فيما بعد، دورا إيجابيا كبيراً في التاريخ لجهة تنظيم الحياة السياسية، وضبط علاقات السيطرة، في الرأسمالية، بغض النظر عن كل الجرائم والحروب التي أرتكبت باسمها، أو تحت راياتها في حق الشعوب، وفي حق الإنسانية. وهل هناك من تقدم اجتماعي بلا ثمن؟. وأكثر من ذلك يمكن أن نسجل لليبرالية باعتبارها فلسفة الحرية، دورا هاما جدا في التغيرات التي حصلت على الصعيد العالمي، وكان من نتيجتها انهيار الأنظمة الشمولية، في البلدان الاشتراكية السابقة. بل لا نستطيع تجاهل دورها في الصراعات الاجتماعية الجارية في الوقت الراهن من اجل تغيير الأنظمة الاستبدادية في بلدان العالم الثالث، ومنها بلداننا العربية.
وبالعودة إلى النظر في ممكنات الليبرالية في عالمنا العربي، وفي سورية على وجه الخصوص، لا بد من تسجيل ما يلي:
1- الليبرالية باعتبارها عقيدة اقتصادية، كما ظهرت تاريخا، لم تعد قائمة لا في البلدان المتقدمة ولا في غيرها، في ظل هيمنة الشركات العملاقة، والشركات العابرة للقومية على الحياة الاقتصادية العالمية. بكلام آخر لم يعد من وجود، لما يسمى في الليبرالية، بالمنافسة الحرة الشاملة، بل ثمة منافسة ناقصة ( احتكار جزئي، أو احتكار شبه كامل)، سواء في المجالات الاقتصادية الوطنية، أو في المجال الاقتصادي العالمي.
2- لم يعد من الممكن التخلي عن دور الدولة الاقتصادي سواء في البلدان الرأسمالية المتقدمة أو في البلدان المتخلفة. في البلدان الرأسمالية المتقدمة تحولت الدولة إلى اكبر مولد للطلب الاجتماعي، أما في ظروف التخلف، فالمسألة أكثر تعقيداً. هنا لا يمكن الاستغناء عن دور الدولة الاقتصادي، سواء في مجال رسم السياسات الاقتصادية أو في مجال الرقابة، أو في مجال الاستثمار في البنية التحتية، أو في المشاريع الاستراتيجية، والحيوية، وحتى منافسة القطاع الخاص في بعض المجالات النموذية بالنسبة له.
3- في ظروف العولمة الجارية، لم يعد من الممكن حصول التقدم الاجتماعي بدون العدالة الاجتماعية، وهو السؤال المعضلة الذي تحار بشأنه الرأسمالية المعاصرة، خصوصا بعد أن وصل مفهوم << دولة الرفاهية>> الذي ساد خلال حقبة الحرب الباردة، إلى نهايته. وحسب العديد من المفكرين، من داخل الحقل الفكري البرجوازي ومن خارجه، أن الرأسمالية لن تستطيع الجواب عليه، وان الجواب عليه يكمن في تجاوزها، فهل تتحقق نبوءة ماركس.
4- من المعروف أن الليبرالية التاريخية كانت وطنية على طول الخط، وفي ظلها استطاعت شعوب البلدان المتقدمة، أن تنجز جملة الاستحقاقات المرتبطة بمفهوم الدولة الوطنية، من مفهوم المواطنة، إلي مفهوم السيادة، إلى مفهوم الاستقلال..الخ. في ظروف العولمة أصبح مفهوم الدولة الوطنية في البلدان المتقدمة، وما يرتبط به من مفاهيم أخرى في طريقها لإعادة التشكل في أشكال جديدة، من جراء تنامي دور الشركات العابرة للقوميات، وانسياب رؤوس الأموال العالمية، وما تنسجه من علاقات وروابط جديدة على الصعيد الدولي.
في ظروف التخلف، وخصوصا في ظروف البلدان العربية، ثمة مشكلة حقيقية، فالدولة الوطنية( عداك عن الدولة القومية) لم تأخذ أبعادها كاملة، سواء لأسباب تاريخية، أو لأسباب خارجية، وثيقة الصلة بالدور الإمبريالي في المنطقة، أو لأسباب تعود إلى طبيعة الأنظمة الاستبداية، وبالتالي لا تزال مفاهيم ما قبل الدولة الوطنية، حاضرة وبقوة في الوعي الاجتماعي، سرعان ما تعبر عن نفسها وبقوة بمجرد أن ينزاح الاستبداد على الطريقة الأمريكية.
5 - وبالعلاقة مع الطابع الوطني لليبرالية كما ظهرت تاريخيا، ثمة معضلة جديدة تواجه البلدان المتخلفة، ومنها شعوبنا العربية، تتعلق بإمكانية الاستفادة من الثروات الوطنية لصالح الدولة الوطنية وشعبها، وليس لصالح القوى الخارجية. من المعروف أن الرأسمالية بعد أن استعادت وحدتها الداخلية بهزيمة ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي، استعادت معها أيضا صراعاتها الداخلية التقليدية، ومنها، بل في مقدمتها، الصراع على الموارد، وعلى الأسواق، وإن بأشكال جديدة. ولا يخفى أن ذلك من الأسباب الرئيسة للصراعات الدولية الراهنة، على المنطقة، وخصوصا مسعى الولايات المتحدة الأمريكية، للتحكم بصنبور النفط، بعد أن كانت في السابق شبه متحكمة بالنفط، عبر آلية السوق الدولية، ودور شركاتها المهيمنة عليه.( انظر بهذا الخصوص كتاب مايكل كلير " الحروب على الموارد – الجغرافيا الجديدة للنزاعات العالمية "، ترجمة عدنان حسن، الناشر: دار الكتاب العربي- بيروت لبنان-2002)
6- ثم كيف سوف يكون الموقف من الدين، والحركات السياسية التي ترفع راية الأيديولوجية الدينية، وهي في الوقت الراهن مستنفرة أشد الاستنفار، ليس بسبب استبداد الأنظمة وحده، وهي في منطقها الداخلي لا تنقضه، بل تستبدله، بل بسبب الظلم والحيف ، إلى حد الإذلال، الذي تتعرض له الشعوب العربية، والإسلامية من قبل أمريكا وغيرها من البلدان الإمبريالية، سواء من جراء دعمها المديد لأنظمة الاستبداد المحلية، أو بسبب نهبها لثرواتها الوطنية، أو بسبب إنشائها للكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ودعمها اللامحدود لإسرائيل.
لقد وجدت الليبرالية التاريخية، أو الديمقراطية الليبرالية، أو الليبرالية بصفتها فلسفة للحرية، حلا لهذا الموضوع في أوربا عبر الصراع مع الكنيسة وسلطتها، ولعب الاقتصاد في ذلك دورا حاسماً. هل سوف يتم حل هذه المشكلة عبر الصراع؟، أم عبر إعادة تكيف الإسلام السياسي مع اللعبة الديمقراطية؟. ثم ما هو دور الاقتصاد في كل ذلك في ظروف الهيمنة الإمبريالية على المنطقة وسعيها المعلن لإعادة صوغها، وتشكيلها بما ينسجم مع مصالحها؟.
7 - يجب الاعتراف أنه رغم التقدم النسبي، لجملة من المفاهيم التي تلحق بالليبرالية عادة في الوقت الراهن، مثل مفاهيم الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان..الخ، إلا أن الليبرالية باعتبارها أيديولوجيا للتغيير تعتمدها أمريكا في المنطقة، ويروجها الناطقون المحليون باسمها، أو يروجها العديد من مثقفينا الوطنيين بوعي ناقص بها ، لا تزال في الوعي السائد ذات قيمة انفعالية سلبية، من جراء طريقة التدخل الأمريكي في المنطقة وازدواجية معاييرها، وكذلك من جراء طريقة عرضها من قبل الكثير من دعاة الليبرالية اليوم، وخصوصا عندما تستخدم ستارا لمحاولة تمرير الكثير من الرؤى والمواقف النخبوية المستفزة، أو الترويج للسياسات الخارجية، هذا عداك عن الموقف التقليدي للإسلام السياسي، بل غير السياسي أيضاً.
فلكي تكون ليبراليا سوريا اليوم عليك من جملة القضايا والمفردات التي لا بد لك من التمنطق بها، أن تغير موقفك من أمريكا وسياساتها في المنطقة، وأن تتبنى موقفا "مرنا" من التسوية مع إسرائيل، بما يعني عمليا التخلي عن بعض الحقوق الوطنية، وإدانة المقاومة الفلسطينية، والعربية، تحت راية نوع من الإنسانوية الكاذبة الرافضة لكل أشكال العنف، باستثناء العنف الأمريكي الذي يأخذ بعدا تحريريا في الذاكرة المستجدة لبعض ليبراليينا. وفوق هذا وذاك عليك أن تروج للتدخل الأمريكي لإسقاط النظام السوري، وللتخلي عن مفهوم العروبة، وما يرتبط به من فكر قومي وحدوي، والتركيز على مفهوم"سوري"أو"عراقي"..الخ. ويختلط لدى بعضهم مفهوم النظام السوري، أو السلطة السورية، بمفهوم سورية- الكيان السياسي، كنوع من التعمية السياسية للتفريط بحقوق الكيان السياسي، أو ببعض أجزائه تحت نوع من الأقليوية الإنسانوية..الخ.
في السابق كان ماركسيونا يحلون أية معضلة سياسية أو اقتصادية..الخ، تواجههم في بلدانهم، من خلال تكرار مبتذل لبعض مفاهيم الماركسية المعروفة، ومن خلال التمجيد المبتذل أيضا للاتحاد السوفييتي السابق، واستلهام الحلول من عنده..الخ. لم يحاولوا إجهاد أنفسهم في إنتاج معرفة علمية بواقعهم وبما يحتاجه، وفي حال بروز مفكر ماركسي في هذا القطر العربي أو ذاك، كحالة استثنائية، سرعان ما كان يحارب بصفته مهرطقاً.
واليوم أيضا يكرر أغلب مثقفينا الليبراليين، الاسطوانة ذاتها، فيكفي لديهم، لكي تنتصر الليبرالية في بلداننا أن نكثر من تردادها، ومن ترداد مفاهيم الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان..الخ، إلى جانب تبرير السياسات الأمريكية في المنطقة، أو الصمت المتواطئ معها، أو مع إسرائيل.أليست أمريكا رسول الحرية إلينا لتحريرنا من شرور أنفسنا الاستبدادية..الخ؟! والأخطر من ذلك لا يحاول ليبراليونا إجهاد أنفسهم في البحث والاستقصاء في واقعنا الموضوعي، بغرض إنتاج معرفة به وفي ممكناته لاستيعاب الليبرالية فيه، وبأية طرق ووسائل..الخ. ولما يتعبون أنفسهم؟، فزملاؤهم من القوميين، ومن الماركسيين كانوا قد سبقوهم في التبني التأملي لفكرهم القومي، ولفكرهم الماركسي المنتج في أوربا. وحتى زملاؤهم من الإسلام السياسي يجدون كل شيء جاهز لديهم في الماضي، في القرآن، وفي الحديث، وفي السير التاريخية، وفي الحضارة العربية الإسلامية..الخ. وبعد كل ذلك نتساءل لماذا نحن متخلفون، ولا نزال نتخلف، في حين الآخرون يتقدمون على طريق الحضارة والرفاهية الصاعد؟!!!
إن ما تحتاجه سورية اليوم هو ثقافة الحرية والتنوير، في مواجهة ثقافة الظلام والاستبداد، ثقافة العقلانية في مواجهة ثقافة الخرافة والأسطورة، ثقافة التعددية والاختلاف، والقبول بالآخر، في مواجهة الثقافة التكفيرية، والنفي لكل ما هو مختلف..الخ سورية بحاجة ماسة لثقافة حقوق الإنسان، و لثقافة القانون، إنها بحاجة إلى ثقافة الديمقراطية في مجال إدارة الحياة السياسية والاجتماعية..الخ. نحن بحاجة أيضاً إلى ثقافة الوطنية والمواطنة، في مواجهة ثقافة الاغتراب، والتغريب، والاقصاء..الخ. نحن بحاجة إلى كل ذلك وأكثر، إنما من خلال البحث المعمق في واقع مجتمعاتنا، وتاريخها، وصيرورتها، وسيرورتها، في إطار العصر الراهن واحتياجاته. من السهولة بمكان تبني، أو استلهام نظريات، وعقائد، وأفكار، من الخارج أو من ماضي الداخل، لكن لا نستطيع استيراد شعب، أو ناس، على سوية هذه العقائد والأفكار لكي تسهل عملية المخاطبة والتواصل، وبالتالي مساعي التغيير. في السابق قال إنجليز الفكرة الصحية نظرياً، قد تلعب دورا رجعيا في التاريخ، إذا ما طبقت في غير شروطها التاريخية، وأعمم فأقول ليس ثمة من فكر اجتماعي صحيح إلا في إطار واقع تاريخي مشخص، فالحقيقة دائما تاريخية. و حسب إنجليز<< ما نراه خاطئا اليوم كان صحيحا بالأمس، وما نراه صحيح اليوم سوف يصبح خاطئا غداً>>. كم نحن بحاجة اليوم لفهم مجتمعاتنا، من اجل تأصيل آليات التغيير فيها، لا من أجل تغييرها فقط. فهل يقوم مثقفونا بكل اتجاهاتهم الفكرية، والسياسية بهذه المهمة؟



#منذر_خدام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بحث في طبيعة السلطة في سورية واحتمالات انفتاحها على العصر
- حتى لا يخطئ أحد في قراءة التحركات الشعبية
- نحو حزب بلا تاريخ-ضروراته وهويته
- مبروك للشعب المصري
- حرية المرأة من حرية الرجل
- اغتيال الحريري:اغنيال لمشروع العلاقات المميزة
- حول محاضرة نائب رئيس الجمهورية العربية السورية السيد عبد الح ...
- كيف ستبدو سورية بعد الانسحاب من لبنان
- مستقبل العلاقات السورية اللبنانية
- ملاحظات على البرنامج السياسي للحزب الديمقراطي الاجتماعي السو ...
- ملاحظات حوا البرنامج السياسي للحزب الديمقراطي الاجتماعي 2
- ملاحظات على مشروع البرنامج السياسي للحزب الديمقراطي الاجتماع ...
- حول الإصلاح في سورية: رؤية من الداخل
- الديمقراطية ذات اللون الواحد
- هواجس لتطوير التعليم العالي والبحث العلمي في سورية
- القوانين الاستثنائية في سورية
- نحو وحدة وطنية قائمة على التنوع
- نحو رؤية وطنية ديمقراطية للإصلاح
- لجان إحياء المجتمع المدني في سورية والمسؤولية التاريخية
- سياسة كسب الأعداء


المزيد.....




- الناطق باسم نتنياهو يرد على تصريحات نائب قطري: لا تصدر عن وس ...
- تقرير: مصر تتعهد بالكف عن الاقتراض المباشر
- القضاء الفرنسي يصدر حكمه على رئيس حكومة سابق لتورطه في فضيحة ...
- بتكليف من بوتين.. مسؤولة روسية في الدوحة بعد حديث عن مفاوضات ...
- هروب خيول عسكرية في جميع أنحاء لندن
- العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يدخل المستشفى التخص ...
- شاهد: نائب وزير الدفاع الروسي يمثل أمام المحكمة بتهمة الرشوة ...
- مقتل عائلة أوكرانية ونجاة طفل في السادسة من عمره بأعجوبة في ...
- الرئيس الألماني يختتم زيارته لتركيا بلقاء أردوغان
- شويغو: هذا العام لدينا ثلاث عمليات إطلاق جديدة لصاروخ -أنغار ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر خدام - الليبرالية وحذلقة المثقفين