تفاصيل إنسانية

باسم الخندقجي

الحوار المتمدن-العدد: 4047 - 2013 / 3 / 30 - 22:11
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    

عندما تكون وحدك في البعيد .. حيث الغربة الحديدية ومُقحماً بأكثر من ظلام وصدأ وبرد عندما تلمح من منفاك الذين تحبهم وهم يكبرون ويترعرعون على الشوق لك .. ماذا تفعل ؟

يأتون الأحبة لرؤيتك أنت الذي لا تكبر بل تعود طفلاً جميلاً خائفاً تبحث عن أبيك الذي يكبر على حين فراقٍ عنك أنت المُلقى في مصيرك الذي تُحبّذ تسميته بالمؤقت وهو الرجل الطفل الملقى في جُبِّ فراقك ومغبّة الحاجة إليك وحاجتك له .

تراه .. تكبح جماح اللهفة .. تحاصر الدمع .. ترسم على وجهك ما كنت قد تدربت عليه جيداً من مُحيّاً باسمٍ وفي داخلك إعصار الحزن يبعثرك ويُرديكَ بُحّةَ صوتٍ على هيئة إنسان ولكنك تبتسم في سبيل أُمك وأبيك ..

أبوك الحاج العابر في عمرٍ سريع .. تجاوز الستين ولكنه لم يتجاوزك في ترقبه لك ولفهفته وحبه ومتابعته لأدنى تفاصيلك .. فهل كان يقظاً لعينيْكَ الهائمتيْن بهدوء وحذر في وجهه تمسحان جبينه .. حلجبيْه .. عينيْه .. وجنتيْه .. أنفه .. شاربه .. شفتيْه .. وتبتسم لأنك لم ترى اليأس .. رأيتَ الحزن ولكنك لم ترَ تغضّن الأسى والضعف والإنكسار .. بل رأيت رجُلك الطفل يانعاً تماماً .. يمازحك .. يُحدثك عن أمك قديستك .. يشكوها لك بكلام لا يخصّ سوى الزوجيْن بعد هذا العمر .. ثم يفاجئك : إحتفلنا بالأمس يا ولدي بعيد أُمك الخمسين أمك التي لا تكبر .. ذات الوجه والشعر والصوت منذ أن كانت ولم تزل طفلة .. كبُرَتْ يا أيها الولد الذي رسخت لديه معجزة أمٍ لا تكبر بل نُزهر في كل يوم أكثر .. هل ستكون مستعداً لإستقبالها بالخمسين من عمرٍ مفاجئ ؟

عندما تكون وحدك .. تتذكر كل تفاصيل أحبتك اليومية .. نوم أبيك .. صحوه .. سيجارته .. فنجان قهوته .. عطره الذكي النفاذ الذي كنت تختلس منه بضع قطرات .. معطفه الشتائي الأنيق .. صوته في ترتيل القرآن وقت الصلاة وقدرته على التدبير وتوفير العالم كله لك ولأخوتك .. تتذكر أحاديثه معك .. ثقافته الواسعة .. شغفه بالسينما .. أحلامه التي تكسرت على عتبى الإستقرار والزمن .. أجوائه الصاخبة في المطبخ عندما يعنّ في باله طهو الطعام .. طعام لا هو شرقي ولا غربي لكي تقع المصيبة على رأس أمك في إكمال ” الطبخة ” ..

هذا هو أبوك الطفل الصاخب الباكي الباحث عنك .. ها هو أمامك .. إذن ماذا تفعل عندما يجتاحك هذا الإعصار الهائل من التفاصيل الإنسانية ؟

لا شيء .. لا شيء سوى الكتابة والأمل وبعض التبغ والقهوة والشوكولاته ..

#باسم_الخندقجي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات